18 و19 يناير 1977.. دروس الانتفاضة

في مساء يوم 17 يناير 1977 وقف عبد المنعم القيسوني – نائب الوزراء ورئيس المجموعة الاقتصادية – أمام مجلس الشعب، ليعلن عن قيام الحكومة باتخاذ مجموعة من القرارات الاقتصادية “الحاسمة والضرورية” التي تهدف إلى خفض العجز في ميزان المدفوعات، وذلك تحت ضغط الصندوق والبنك الدوليين، ومن أجل توقيع إتفاق معهما. كانت المحصلة الرئيسية لهذه القرارات هي تحميل الفقراء من المصريين أعباء مالية تقترب من 500 مليون جنيه سنويًا، تدفع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، على شكل زيادة في أسعار جميع السلع الضرورية. باختصار حدثت زيادة مباشرة في أسعار الخبز والسجائر البنزين والبوتاجاز والسكر والدقيق الفاخر والذرة والسمسم والحلاوة الطحينية والفاصوليا واللحوم المذبوحة والشاي والأرز والمنسوجات والملبوسات بنسب تتراوح ما بين 30% إلى 50%.
وكما تسري النار في أعواد الحطب، اشتعل الغضب الجماهيري في كل اتجاه على مدار يومين كاملين وبامتداد جميع المدن الرئيسية في مصر. مسببًا ذعرًا هائلاً داخل السلطة الساداتية، اضطرها إلى التراجع السريع عن جميع قراراتها، واتخاذ مجموعة من التدابير القمعية. فقامت بفرض حظر التجول، وإنزال الجيش إلى المدن لقمع المظاهرات بعد أن عجزت قوات الشرطة عن ذلك، وتم اعتقال المئات من الكوادر السياسية والآلاف من المتظاهرين.
كانت الانتفاضة ومضة برق مجيدة، كشفت في لحظة توهجها عن الطاقة الثورية الكامنة داخل الجماهير العمالية. وطرحت لبرهة قصيرة عاصفة تحد عمالي، صريح ومباشر، لسلطة رأس المال وكهنوت الحكم على أرصفة الشوارع. لكنها انطفأت سريعًا، فعفوية الحركة وغياب طليعة سياسية ناظمة من قلب صفوف العمال، أضعف من قدرتها القتالية ودفع الأحداث إلى نهايتها السريعة.
جدير بنا اليوم بعد مرور عشرين عامًا على الانتفاضة أن نرسل بالتحية إلى عمال حرير حلوان والترسانة البحرية بالإسكندرية وطلاب هندسة عين شمس، ومئات الألوف غيرهم من العمال والطلبة، الذين رفضوا بجسارة الرضوخ للاستغلال المفروض عليهم، وخاضوا بشرف لعدة ساعات حاسمة في يومي 18 و19 يناير نضالاً دمويًا ضد مستغليهم وكلاب حراستهم.
لكن الأهم من إرسال التحية هو استلهام خبرات الانتفاضة، والاستفادة بها في فهم ممكنات الحاضر ومهماته. فما به الليلة بالبارحة، صحيح أن شروطًا كثيرة قد اختلفت، وأن تعيرًا كبيرًا قد حدث في طبيعة الحكم وطبيعة الحركة العمالية ومنظماتها، وأن مياها ودماءًا كثيرة. قد جرت في النهر. إلا أن المهمة التي حاول القيسوني – الصراف السابق والمستشار الاقتصادي لدولة رأس المال – أن يبدأها، أي التهادن مع الامبريالية والاندماج في السوق العالمي، يقوم الآن الجنزوري – المخطط الفاشل والمستشار الفني لأصحاب الأعمال – بتنفيذها. وأيضًا فأننا سنجد الساحة العمالية اليوم تنبئنا بقرب حقبة جديدة من الصعود في النضال الطبقي، بعد سنوات الركود والعجز.
كانت مهمة الاندماج في السوق العالمي حيوية للغاية بالنسبة للبرجوازية المصرية لإخراجها من أزمتها. وبعد أكتوبر 1973 حدث اندفاع كبير في هذا الاتجاه، ففي عام 1974 صدر 124 قانونًا لتنشيط الاستثمار الأجنبية في مجالات الاقتصاد والصناعة والتعدين والبنوك وإعادة التأمين والاستيراد. وصاحب ذلك تدهور سريع في الأحوال المعيشية لغالبية المصرين، ففي الفترة من 1973 إلى 1976 ارتفعت تكلفة المعيشة بنسبة 42 %، وخلال عام 1976 وحده ارتفعت تكاليف المعيشة بنسبة 11،2 %، وتشير دراسة لهيئة العمل الدولية جرت عشية الانتفاضة أن 44 % من المصريين كانوا يعيشون تحت خط الفقر.
صاحب ذلك التدهور في الأحوال المعيشية صعود في الاحتجاجات العمالية الكبيرة خلال عامي 1975 و1976 ففي مطلع يناير 1975 خرج عمال المصانع الحربية في حلوان في مظاهرات واسعة، وفي مارس حدث إضراب كبير في المحلة الكبرى، وخلال نفس العام حدث إضرابين مهمين بين عمال النسيج في الإسكندرية وعمال شركة الكابلات في شبرا الخيمة. وشهد عام 1976 إضراب عمال النقل البري كما شهد إضراب عمالي واسع في مدينة كفر الدوار. وأيضًا اندلعت صدامات عنيفة بين الأهالي وقوات الأمن في كلا من مدينتي المنزلة وبيلا في نفس العام. ولم تستطع الوعود البراقة التي قطعتها الحكومة على نفسها في مطلع يناير 1977 بتحسين الأحوال المعيشية – كما يظهر في عناوين صحف ذلك الوقت -، أن تكبح جماح الغضب المتراكم في نفوس الجماهير العمالية على مدار السنوات السابقة. وبمجرد إلقاء القيسوني لبيانه اندلعت وسط هذه الجماهير شرارات الانتفاضة.
أن أكثر الأسئلة حيوية بالنسبة للثورين بصدد انتفاضة يناير، هو عن أسباب نهايتها السريعة. أي لماذا لم تستمر الانتفاضة؟ لماذا لم تطرح جماهير العمال في لحظة الذروة، عندما أصبحت في تحد صريح من السلطة، مبادرات ثورية أعلى؟ هناك إجابة سريعة على هذا السؤال، هي أن السبب في ذلك كان غياب طليعة عمالية ثورية منظمة من جانب، ومن جانب آخر القمع الوحشي الذي مارسته سلطة السادات ضد الانتفاضة. وعلى الرغم من أن الإجابة السابقة صحيحة إلى درجة كبيرة، إلا أنها ليست كافية في استلهام خبرة الانتفاضة. فتاريخ الطبقة العاملة في العالم شهد المرات عديدة – في ظل قمع سافر وغياب حزب عمالي ثوري – انتفاضات عمالية تحولت إلى مشاريع ثورية، أجهضت وفشلت بالضرورة نتيجة لغياب الحزب الثوري، لكن ذلك لم يمنع العمال من تشكيل مجالسهم ومحاولة الاستيلاء على السلطة. والأكثر شهرة في هذا المضمار، أحداث المجر في 1956 التي ظهرت داخلها مجالس عمالية ثورية، على الرغم من العنف المضاد الذي لا يقارن، وأن اليسار هناك وقتها لم يكن أكثر من حلقات مثقفين معزولة.
لنتساءل أولاً، فيما يتعلق بانتفاضة يناير، لماذا افتقدت إلى يسار عمالي ثوري قادر على التفاعل الإيجابي معها على الرغم من المنظمات اليسارية العديدة التي كانت قائمة وقتها؟ وأيضًا ما هي الدوافع التي أدت إلى كل هذا القمع من قبل النظام للانتفاضة.
لم يكن من الطبيعي بأية حال لاثنتان أو ثلاثة من المنظمات الشيوعية، أشدها عودًا – حسب أفضل التقديرات – لم يتعد حجمه عدة مئات من الكوادر وكان أكثر من تسعة أعشار أعضائه من خارج الطبقة العاملة، أن تكون قادرة على قيادة توجيه انتفاضة ضمت عدة مئات الألوف من العمال، إن كل ما كانت تستطيعه المنظمات الشيوعية لحظة الانتفاضة – نتيجة لشروطها الذاتية – هو التفاعل الإيجابي معها بغرض توسيع نفوذها السياسي داخل الطبقة العاملة. لكن ذلك لم يحدث، بل على العكس حدث ما هو أسوأ، فاليسار لم يفاجئ فقط بالانتفاضة ولم يغب بالتالي عنها لكنه أنهار في دراما مأساوية بعدها وبسببها. صحيح أن تلك التنظيمات كانت تحمل رؤية وطنية راديكالية حصرت مشروعها السياسي في إطار مجموعة من الإصلاحات التي تتم في ظل النظام الرأسمالي تحت راية التنمية المستقلة، إلا أن ذلك لم يكن ليمنعها من ركوب موجة الانتفاضة بهدف تحقيق ذلك المشروع. أي إننا لا يكفي أن نقتصر على القول بأن المنظمات الشيوعية في السبعينات كانت ستالينية لكي نفسر غيابها عن الانتفاضة.
بالطبع تكمن مشكلة يسار السبعينات الرئيسية في رؤيته الاستبدالية لمشروع الثورة، فعلى الرغم من أنه كان يتمتع بثقل نسبي داخل الحركة الطلابية وله علاقات وثيقة بكل الاحتجاجات العمالية التي شهدتها سنوات السبعينات الأولى، إلا أ، الهيكل التنظيمي للمنظمات اليسارية وقتها كان منفصل تمامًا عن الصراع الطبقي ولم يكن وجودها داخل الأحداث الطلابية أو العمالية يعبر عن أي نفوذ سياسي، لم يكن إلا وجود لأفراد يساريين لا أكثر. إن ذلك يعود في الجوهر إلى الرؤية العصبوية اللالينينية لبناء الحزب الثوري. أي أن تتصور حفنة من اليساريين أنها الطليعة الثورية والقيادة الطبيعية للطبقة العاملة لمجرد أنها تتبنى – حسب تصوراتها – الأفكار الثورية الصحيحة، هذا بصرف النظر عن حجمها ووجودها السياسي والتنظيمي داخل الجماهير العمالية. ومن الطبيعي إذن – من وجهة النظر هذه – أن تتحرك الجماهير في لحظات المد الثوري باتجاه تلك الحفنة لترفعها فوق الأعناق وتقدم لها زمام القيادة!! لكن “للأسف” عندما انفجرت الانتفاضة في يناير لم تتحرك الجماهير في اتجاه المنظمات الشيوعية بل لم تشعر بوجودها أصلاً. وبدلاً من أن تدفع انتفاضة الجماهير تلك التنظيمات إلى الأمام لتنمو حجمًا وتزداد القشة التي قصمت ظهر يسار السبعينات وأحدثت به جراحًا لا تزول، حيث كشفت أمام الكوادر الأكثر إخلاصًا مدى ما هم عليه من ضعف وعزلة، وأدى ذلك إلى سيرورة انتهت بالانحطاط الكامل لمنظمات السبعينات الشيوعية.
وخلال السنوات القليلة السابقة على الانتفاضة، في المرحلة التي شهدت صعود واشتعال العديد من المواقع العمالية، كان اليسار وقتها غير واثقًا من قدرة الطبقة العاملة على تصعيد نضالاتها وممارسة تحديات عنيفة ومباشرة في الشارع ضد النظام الحاكم. وعندما تحول الاحتجاجات العمالي العفوي الذي بدأ في صباح 18 يناير إلى عصيان جماعي لسلطة الرأسمالية في مساء ذلك اليوم وعلى امتداد اليوم التالي، كان من الطبيعي ألا يجد يسار ثوري يحاول التفاعل الإيجابي معه في اتجاه وعي أكثر ثورية داخل الانتفاضة.
أما عن القمع السافر، فالحقيقة كانت الممارسات الأكثر قمعية في مواجهة انتفاضة يناير، رد فعل على عنف الانتفاضة ذاتها. الجسارة التي واجهت بها الانتفاضة سلطة الرأسمالية، دفعت نظام السادات إلى الحد الأقصى في استخدام القمع. ومن الأمور الملفتة أن كافة القوى الطبقية والسياسية حاولت أن تبرئ الجماهير من المسئولية عن أحداث العنف، هي دائمًا بفعل فاعل خارجي ما ليس هو “الجماهير” بالقطع!!
وباستعراض بعض المقتطفات التي نشرها الكاتب الماركسي أحمد صادق سعد في مقالته عن انتفاضة يناير المنشورة في مجلة “الراية العربية” – عدد سبتمبر 1988 – سنجد: بيان رئاسة الجمهورية الصادر في 24 يناير يتهم “.. العناصر التخريبية التي يهمها عدم خروج البلاد من أزمتها الاقتصادية..” بالمسئولية عن أحداث العنف. وأمام مجلس الشعب يتهم ممدوح سالم رئيس الوزراء “.. العناصر الشيوعية المنظمة، وبعض قيادات حزب التجمع.. تشاركهما بعض العناصر من مدعي الناصرية..” بتدبير مؤامرة هدفها الاستيلاء على الحكم عن طريق العنف. وبالطبع عزفت صحف الحكومة وكتابها نفس اللحن عن المؤامرة الشيوعية وعناصر التخريب. أما مجلة تايم الأمريكية فقد اتهمت الإخوان بتدبير أحداث العنف، ومجلة لوفيجار الفرنسية اتهمت المخابرات الليبية.. الخ. من الطبيعي أن تحاول البرجوازية وعملاؤها اتهام عناصر ما خارج “الجماهير” بتدبير أحداث العنف، ف “الجماهير” بالضرورة متضامنة مع البرجوازية وراضية عنها لكن الغريب – بعض الشيء – أن يكون هذا نفسه هو موقف اليسار، أي تبرئة “الجماهير” من تهمة العنف!!
ورد في بيان أصدره حزب التجمع في 24 يناير أن عمليات التخريب قامت بها عناصر من عملاء المخابرات الأمريكية والرأسمالية الطفيلية طبقًا لمخطط هدفه إلصاق التهمة بالقوى الوطنية والتقدمية من أجل تصفية هذه القوى، وإجهاد حزب التجمع حتى يشلوا قدرته على الدفاع عن مصالح الوطن!! وهكذا أصبح العصيان العمالي الذي شهدته مصر في 18 و19 يناير، من وجهة نظر التجمع، مجرد مؤامرة قام بها عملاء المخابرات الأمريكية بهدف إجهاد حزب التجمع!!! أما مجموعة “روز اليوسف” اليسارية فكانت ترى – كما ورد في عدد 24/1/1977 – أن المسئولين عن أحداث العنف كانوا المشردين والصبية وقطاع الطرق ومحترفي الجريمة. واختلفت مجموعة “الطليعة” جزئيًا إذ دافعت، في عدد فبراير 1977 عن “مشروعية الهبة الجماهيرية” وعن قيام المتظاهرين بقذف الأحجار ضد قوات الأمن المسلحة، لكنها أدانت أعمال الحرق والإتلاف والتخريب واعتبرت أن من قاموا بها هم مجموعة من الأحداث والصبية. وكان رأي أحد قيادتي الحزب الشيوعي المصري تعليقًا على أحداث يناير في حوار أجرته معه مجلة “أوراق ديمقراطية” التي كانت تصدر بالخارج – نشره حسين عبد الرازق في كتابه عن 18 و19 يناير – أن المسئولين عن أعمال التخريب والعنف كانوا أما عناصر متخلفة الوعي أو جماعات مدسوسة من قبل السلطة!!
الواقع أن حركة اليسار الستاليني ضمت إعدادا كبيرة من الانتهازيين والإصلاحيين المبتذلين ورجالات النظام. لكنها ضمت ثوريين رومانسيين، الثورة في مخيلتهم لا تعدو أن تكون مجرد تظاهرة جماهيرية واسعة تردد فيها الأغنيات الشعبية وترفع من قلبها الرايات الحمراء على صيادي المدينة. أما العصيان المسلح والعنف الجماهيري وما يؤديان إليه بالضرورة من قتل وحرق وتخريب، فهي خروج عن النص وإجهاض للحركة يقوم به بالتأكيد عناصر داخلية على “الجماهير”. وفي اللحظات الثورية عندما يتحرك العمال للاستيلاء على السلاح، ويقع الشارع تحت سيطرة “مثيري الشغب”، سيتضامن هؤلاء اليساريون، البرجوازيون الصغار ذوي الأفق الليبرالي إلى المبتذل، مع البرجوازية داعمين لها في قمعها الوحشي، مطالبين بعودة النظام والهدوء أولاً وبعد ذلك فليتحاور الجميع في سلام!!
من المؤكد أن انتفاضة يناير 1977 في مصر، لم تكن ولا حتى مقدمة لثورة عمالية. لكنها بالتأكيد أيضًا كانت تحمل في رحمها جنينًا ثوريًا حقيقيًا، كشف عن نفسه فقط في اللحظة التي تحولت فيها الجماهير الفقيرة والمحتشدة إلى ممارسة العنف ضد الرأسمالية وسلطتها ورموزها. وعلينا رصد كيفية حدوث هذا التحول، حتى نتلمس عن قرب نبض هذا الجنين الثوري.
الواقع أن العنف كان مصاحبها للتحركات الجماهيرية منذ اللحظة الأولى في صباح 18 يناير، لكنه لم يأخذ شكله الأكثر حدة إلا بدءا من مساء ذلك اليوم. في الصباح وعدد من المدن الرئيسية (السويس، المنصورة، المنيا، قنا، أسوان). بدأت المظاهرات بطريقة عفوية في القاهرة بين عمال شركة حرير حلوان وطلاب هندسة عين شمس. وبسرعة بدأت تجمع حولها عمال حلوان وطلاب جامعة عين شمس، ثم سعت للتحرك باتجاه قلب المدينة، حيث تصدت لها قوات الأمن فتفرقت إلى مجموعات أصغر واتجهت اتجاهات مختلفة في الطريق إلى ميدان التحرير. وفي الطريق شدت تلك المجموعات إلى صفوفها العديد من سكان الأحياء الشعبية. وبينما اتجهت الكتل الرئيسية، المنقادة بواسطة عناصر طلابية أو عمالية أكثر تنظيمًا، إلى مجلس الشعب لتقديم احتجاج، كانت المجموعات الأصغر الأقل تنظيمًا تجمع حولها عشرات من العاطلين والأحداث والحرفيين وحديثي الهجرة من الريف – عناصر من فقراء الأحياء الشعبية من خارج الإنتاج الصناعي الكبير – وبدءًا من فترة الظهيرة تحركت هذه المجموعات لتهاجم أقسام الشرطة في الأزبكية والموسكي والسيدة زينب والدرب الأحمر والساحل وغيرها، كما جرت محاولة لاقتحام مديرية أمن القاهرة في باب الخلق.
وبالتدريج مع دخول المساء، بدأ عشرات الألوف من فقراء المدينة في الاندفاع إلى المظاهرات، واختفى تمامًا الطابع الاحتجاجي السلمي الذي ظهر في الصباح، بينما اجتاحت موجات من العنف جميع أرجاء العاصمة. ساعد على ذلك إصرار الحكومة على عدم التراجع عن قراراتها حتى ذلك الوقت، وأيضًا عجز قوات الأمن عن مواجهة المظاهرات العنيفة. (يروى حسين عبد الرازق في كتابة أنه شاهد أحدى عربات الأمن المركزي في بولاق تحاول الهرب، وفوقها يقف أحد الضباط رافعًا العلم الأبيض بينما مئات المتظاهرين يلاحقونها بالأحجار). أصبحت الأحجار تلقي في جميع الاتجاهات، العربات، الأتوبيسات، واجهات المحلات الفاخرة، الملاهي الليلية، مكاتب البريد، مبنى الجامعة الأمريكية، فندق شيراتون، الإعلانات النيون… الخ.
وفي الإسكندرية بدأت المظاهرات في الصباح بعمال الترسانة البحرية، الذين جمعوا حولهم أعدادًا واسعة من العمال والطلبة، متجهين إلى مقر الاتحاد الاشتراكي. وبمعدل أسرع مما جرت عليه الأحداث الاشتراكي. وبمعدل أسرع مما جرت عليه الأحداث في القاهرة تطور الأمر إلى استخدام العنف وإلقاء الأحجار وإشعال الحرائق، في وقت أقصر نسبيًا. كما انتهجت المظاهرات في باقي المدن الرئيسية نفس السيناريو تقريبًا. كانت مراكز الشرطة والمباني الحكومية وواجهات المحلات الفاخرة، هي الهدف الرئيسي للعنف.
في صباح 19 يناير انطلقت المظاهرات مرة أخرى من حلوان. وخلال وقت قصير كان عشرات الألوف من المتظاهرين يجوبون كافة أحياء القاهرة والجيزة، في حلوان وحدائق القبة ووسط المدينة وروض الفرج والعتبة والسيدة زينب والدرب الأحمر والأزهر وإمبابة والجيزة والهرم وبولاق الدكرور والدقي. وأيضًا اندلعت المظاهرات في الإسكندرية والسويس والمنصورة ومعظم المدن الأخرى. كانت المظاهرات في 19 يناير أشد عنفًا، استمر إلقاء الأحجار وإشعال الحرائق. وحاول المتظاهرون في ذلك اليوم الاستيلاء على السلاح بالهجوم على أقسام الشرطة، كما حاولوا قطع الطرق والسكك الحديدية. وعند الظهر أعلنت الحكومة قرار إلغاء رفع الأسعار مع فرض حظر التجول بدءًا من الرابعة عصرًا. ومع بدء حظر التجول نزلت قوات من الجيش – المشاة الميكانيكية والصاعقة والشرطة العسكرية – إلى شوارع المدن لقمع المظاهرات التي بدأت تهدأ تدريجيًا، مع استمرار بعض الصدامات حتى فجر 20 يناير.
هناك عدد من السمات البارزة التي يمكن رصدها بصدد مسألة العنف في 18 و19 يناير. أن العنف خرج بشكل تلقائي وبقوة من قلب الأشكال الاحتجاجية الأولى، وبدون تطور تدريجي لحالة الصدام. وأيضًا كان العنف عفويًا وفوضويًا وغير منظم، اتجه بالأساس إلى ضرب رموز الاستبداد – أقسام الشرطة والمباني الحكومية – ورموز الثراء الترفي – العربات والمحلات الفاخرة والملاهي والفنادق – وكان القمع الذي مارسه النظام بنزول الجيش رد فعل مباشر على اشتداد حالة العنف الجماهيري.
حسنا لنعود مرة أخرى إلى سؤالنا الحيوي، هل كان من الحتمي أن تنتهي انتفاضة يناير بهذه السرعة فقط بسبب القمع الساداتي وغياب حزب عمالي ثوري؟
من المؤكد أن انتفاضة يناير لم تستمر ولم يخرج من قلبها مجالس عمالية ثورية، وباستعراض جميع الوقائع لن نجد ما يؤشر على أي محاولة جرت في هذا الشأن. وأعتقد أنه بالإضافة إلى القمع وغياب الحزب العمالي فهناك عاملان جوهريان لعبًا دورًا مؤثرًا في ذلك الأمر. وهما الضعف السياسي للطبقة العاملة الصناعية من جانب، وضعف / قوة البرجوازية المصرية من جانب آخر.
من الثابت أن وقائع الانتفاضة بدأت بالاحتجاجات العمالية في المواقع الكبيرة للطبقة العاملة. لكن سرعان ما طغي عليها عشرات الألوف من العاطلين وأشابه العمال والمهشين. الذين فرضوا هيمنتهم على الحركة، واستطاعوا تفكيك القدر اليسير من الانتظام العمالي، وجذب العمال في اتجاه العنف غير المنظم. والحقيقة أن السبب الرئيسي وراء ذلك هو الضعف السياسي الشديد للطبقة العاملة المصرية حينها، فهي لم تكن تملك أي استقلالية اقتصادية أو سياسية، تنظيمها النقابي مؤمم ومدجن منذ سنوات بعيدة، وتراث نضالاتها شهد فترة انقطاع طويلة. بالإضافة إلى أن التغيرات الاقتصادية لسنوات السبعينات أفرزت عناصر برجوازية صغيرة عديدة داخل صفوف العمال. نتج عن ذلك كله عدم قدرة الطبقة العاملة الصناعية من فرض هيمنتها على الحركة، وبالتالي عجزها في لحظة التجذير الثوري عن تطوير عنف جماعي سياسي منظم، مما أدى إلى الاندفاع الفجاني الفوضوي للانتفاضة الذي انطفأ سريعًا. أن ذلك لا يعني بأية درجة أن الحركة كان يمكن لها أن تتحول إلى ثورة عمالية منتصرة، فقط لمجرد قوة النفوذ السياسي للطبقة العاملة داخل المجتمع، فالحزب العمالي الثوري الذي يعمل كقيادة ثورية من قلب صفوف العمال هو شرط انتصار الثورة. لكن هيمنة الطبقة العاملة الصناعية على الحركة كان سيسمح لها بدفع مبادرات ثورية مختلفة إلى الأمام، يمكنها أن تفرز مجالس عمالية ثورية تحاول توجيه العنف باتجاه الاستيلاء على السلطة.
العامل الأخر الذي ساعد على النهاية السريعة للانتفاضة في رأيي هو ضعف / قوة البرجوازية. بمعنى ضعفها عن مواجهة الانتفاضة، في ذات الوقت، قدراتها الاقتصادية التي سمحت لها بالتراجع السريع وانتهاج تكتيك مختلف في الهجوم. فبعد أ، بدأ المتظاهرون يوم 19 يناير محاولات الاستيلاء على السلاح وقطع الطرق داخل العاصمة، لم يكن هناك من مفر أمام البرجوازية المصرية إلا التراجع عن قراراتها، على الرغم من قرارها باستخدام الجيش في قمع المظاهرات. فالبرجوازية لم يكن لها أي وجود سياسي داخل الجماهير الشعبية، يجعلها تحاول استيعاب حالة التمرد وتدجينها. كذلك لا يمكنها الرهان على استمرار ولاء جنود الجيش لها إذا استمر المظاهرات. وكان من الضروري تهدئة الجماهير بالتراجع الفوري عن القرارات الاقتصادية. ولعب ذلك دورًا حاسمًا في إنهاء الحركة نتيجة لطبيعتها العفوية.
حسنًا.. ماذا لو انطلقت اليوم انتفاضة عفوية شبيهة بانتفاضة يناير؟ هل سيكتب لها أي قدر من النجاح والاستمرار؟
قطعًا لن يتردد النظام في ممارسة أقصى درجات القمع. البرجوازية المصرية اليوم ليست أقوى – بأية حال – مما كانت عليه في مساء يوم 17 يناير 1977، لكن ما يجعل هناك فارق جوهري، هو أنها هذه المرة لن يمكنها التراجع عن قراراتها. لقد تأخرت كثيرًا في مهمة الاندماج في السوق العالمي، ولم يعد أمامها من مفر. كالعادة ستحاول أن تدس السم في العسل، بترويج أحلام وردية عن الرخاء المقبل والتحسن المنتظر في الأحوال المعيشية. لكن ذلك لن يمنع الانتفاضة من الاشتعال تحت ضغط الحقائق الملموسة عند جماهير العمال – والفقراء عمومًا – بتدهور أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية. وفي لحظة كهذه، لن يكون أمام البرجوازية المصرية، الواقعة ما بين مطرقة الامبريالية وسندان الطبقة العالمة، إلا استخدام أقصى درجات العنف المضاد. وساعتها لن تتراجع بعد سقوط عدة عشرات من القتلى – كما حدث في يناير 1977 – لكنها ستستمر في قمعها حتى تحصد عدة عشرات الألوف من الأرواح. والحقيقة أن الشروط الوحيدة التي يمكن الرهان عليها لمنع حدوث مثل تلك المذبحة من جانب، ومن جانب آخر لتجذير الانتفاضة العفوية في اتجاهات أكثر ثورية، هي وجود حزب عمالي ثوري له نفوذ سياسي مؤثر داخل الطبقة العاملة، ووجود حركة عمالية قوية مستقلة.
لقد خاضت الجماهير المصرية الفقيرة من العمال والطلبة والمهمشين، نضالاً مجيدًا خلال يومي 18 و19 يناير 1977 ضد استبداد البرجوازية المصرية واستغلالها. واستطاعت أن تركع نظام السادات وتجبره على التراجع عن قرارات التجويع. وحققت بذلك انتصارًا مشهودًأ ستبقي ذكراه وخبراته الملموسة مرشدًا للعمل أمام جميع الثوريين في مصر، حتى لا يفقد أحد منهم الثقة – مرة أخرى – في القدرات النضالية والثورية لجماهير العمال.
عاشت انتفاضة يناير… وعاش كفاح الطبقة العاملة