سلسلة تاريخ الثورات:
1919: بريطانيا على طريق الثورة العمالية

• نُشر هذا المقال لأول مرة باللغة الإنجليزية في 12 مايو 2012 بجريدة العامل الاشتراكي، يصدرها حزب العمال الاشتراكي البريطاني
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، اقترب العمال في بريطانيا من إسقاط الحكومة. لم يجد الجنود البريطانيون، بعد عودتهم من الحرب عام 1918، سوى الفقر بانتظارهم وليس “أرضاً لائقة لمعيشة الأبطال” كما سبق وأن وعدهم رئيس الوزراء “ديفيد لويد جورج” قبل خوضهم تلك الحرب. لكنهم لم يقبلوا بوضع كهذا.
أثبتت ثورة 1917 البلشفية في روسيا أن بإمكان العمال تغيير العالم. في ذلك الوقت، توالى اندلاع الثورات العمالية من ألمانيا إلى الصين. وفي بريطانيا، ارتفعت نسبة المشاركين في الإضرابات من حوالي ستة ملايين عامل عام 1918، إلى حوالي خمسة وثلاثون مليون عامل في عام 1919؛ حيث انخرط الجميع في موجة قوية من الإضرابات من المهندسين، إلى عمال النقل والسكك الحديدية، وحتى عمال المناجم وعمال النسيج.
كان الثوري الروسي “فلاديمير لينين” قد تحدث عن أن الثورة العمالية تصبح ممكنة عندما يرفض العمال أن يعيشوا على ذات النمط القديم، وتعجز الطبقات العليا عن حماية واستمرارية نمطها القديم. وهذا هو ما حدث في بريطانيا عام 1919، حيث توافرت تلك الشروط.
وبحلول نهاية شهر يناير، بدأ العمال في كل من “جلاسجو” و”بلفاست” إضراباً عن العمل، احتجاجاً على البطالة التي واجهها عمال صناعة الذخائر والعتاد الحربية بعد نهاية الحرب. وكان من بين أسباب الإضراب ظروف العمل اللاإنسانية حيث كان يُجبر المهندسون على العمل لمدة 54 ساعة أسبوعياً. قادت لجان الإضراب أكثر من مائة ألف عامل، ونظمت اللجان لقاءات يومية جماعية حاشدة، كما تم تشكيل لجان من بين العمال للحراسة والتأمين.
حظت جلاسجو في ذلك الحين بالكثير من الإضرابات القوية والعفوية التي سمحت بتراكم الكثير من الخبرة النضالية. تلك كانت الإضرابات التي أفرزت “لجنة عمال كلايد” والتي مثلت كياناً عمالياً قاعدياً منتخباً، ومنظماً.
ولكن، هذه المرة طالبت لجنة الإضراب بأن يتوقف عمل “الترام” لمدة يوماً واحداً. وعندما رفضت السلطات الاستجابة لمطلبهم، قام المضربون بقطع الكابلات الكهربائية التي تربط بين الترام والكابلات الهوائية، وتوقفت الخدمة بشكل كامل. وما كان إلا أن سدت عربات الترام الطرق في كل أنحاء المدينة.
عُــراة
قام العمال بطرد رجال الشرطة عندما حاولوا التدخل. ويقول “هاري ماكشين”، الذي أصبح فيما بعد مهندساً بورشة صيانة وترميم للسفن، واصفاً أنه عندما حاول بعض ضباط الشرطة عرقلة عمل العمال حين كانوا بصدد قطع كابلات الترام، أن “ما كان من العمال إلا أن هجموا عليهم وجردوهم من ثيابهم، وأجبروهم على الفرار وهم عراة كي ينجو بحياتهم”. إن ما أظهره العمال من إصرار وأبداع كان أمراً يصعب تصديقه.
ولكن تمكن الموظفون النقابيون من التسلل كالديدان إلى داخل لجان الإضراب لافتعال الأزمات. كانت أكبر نقابة في هذا الوقت، وهي نقابة المهندسين الموحدة، تقف ضد الإضراب. وبرغم ذلك، وافق مسئولوها على مضض على الجلوس مع لجنة الإضراب، في محاولة للحفاظ على قدر من السيطرة على الوضع، خاصة وأن الحكومة كانت تروّج لمعركتهم من أجل وقف الإضراب على أنها صراع سياسي، مما أتاح للحكومة فرصة عزلها تماماً.
في آخر يوم من شهر يناير، هاجمت قوات الشرطة العمال المحتشدين في ميدان “جورج”. دافع العمال عن أنفسهم بضراوة، وقاتلوا قوات الشرطة وأجبروهم على التوقف، فيما أصبح يُعرف بـ “الجمعة الدامية”. وبحلول صباح اليوم التالي، استيقظ سكان “جلاسجو” ليجدوا الحكومة وقد أرسلت إلى المدينة قوات حربية مدعومة بالدبابات والمدافع الميدانية قدمت إليهم عبر الحدود البريطانية.
ثكنة عسكرية
قال شاهد عيان :”جاءت إلى المدينة قطارات محملة بالجنود من الشباب، لقد كانوا فتياناً صغاراً بالكاد أتموا عامهم التاسع عشر أو ما إلى ذلك، لم يكن لديهم أدنى فكرة عن المكان الذي جُلبوا إليه، أو حتى لماذا هم هنا”. وواصل قائلاً: “لم تجرؤ السلطات على الاستعانة بالجنود المحليين المرابطين في ثكنات “ماري هيل”، خوفاً من دعمهم للإضراب”.
ولكن مع ذلك، سيعود نحو مائة ألف عامل إلى الشوارع مرة أخرى في الأول من مايو. وكان عمال المناجم والنقل والسكك الحديدية – الذين شكلوا تحالفاً ثلاثياً في عام 1912 – جميعهم طالبوا برفع الأجور الحكومية في نفس الوقت.
كانت الحكومة بحاجة ماسة لاستراتيجية تعرقل إمكانية تنظيم إضراب عام. خاصة وأنه لم يكن إضراباً دفاعياً، بل كان للمطالبة بزيادة الأجور. فلجأوا إلى الإصلاحيين من رؤوساء النقابات، تحديداً “روبرت سميلي” رئيس نقابة عمال المناجم.
تم تشكيل لجنة خاصة كي تنظر في قضية الأجور، وظروف وساعات العمل، تلك اللجنة التي عرفت بأسم “لجنة سانكي”. وهكذا طاف نقابيو المناجم أرجاء البلاد وهم يكيلون المديح للجنة، وفي النهاية تمكنوا من إقناع العمال بقبول الإصلاحات. هكذا تمكنت الحكومة من تجنب مطلب التأميم، كما تهربت أيضاً من مناقشة ظروف العمل المروعة والنظر في أسباب ارتفاع معدلات الوفاة أثناء العمل.
قاد عمال السكك الحديدية اليميني “جيمي توماس”، وهو من خطط لوقف الإضراب المطالب بوضع معايير ضامنة لزيادة الأجور. نجح “توماس” في إلغاء الإضراب الذي كان من المقرر عقده في 27 مارس، لكنه لم يصمد أمام الغضب العمالي الذي تفجر عندما حاولت الحكومة تخفيض الأجور. وفي 27 سبتمبر، نظم حوالي 100 ألف عامل إضراباً ناجحاً، استطاعوا أن يتصدوا به للهجمة الحكومية، كما تمكنوا من الفوز برواتب إضافية للدرجات الوظيفية الأدنى.
طوال عام 1919، أهدر القادة النقابيون، في جميع المعارك، كل الفرص التي كانت متاحة أمام تعميم النضال. ولكن رغم هذا، تمكن العمال من إحراز الفوز في بعض المعارك، وأرغموهم على تقديم تنازلات كبيرة. لقد كان عام 1919 عام العمال بلا شك، حتى أن الشرطة البريطانية ذاتها قد أضربت في هذا العام.
في أغسطس 1918، نظم حوالي 12 ألف من إجمالي 19 ألف شرطياً إضراباً عن العمل من أجل المطالبة برفع الأجور، ولفضح استغلال أحد الأعضاء النقابين، وأيضاً للمطالبة بالاعتراف الرسمي بنقابتهم. وصف رئيس الوزراء “لويد جورج” تلك الفترة قائلاً: “هذا البلد كان أقرب للبلشفية في هذه الفترة أكثر من أي وقت منذ ذلك الحين”. رضخت الحكومة أمام مطالب الشرطة، ووعدتهم منحهم الاعتراف بعد انتهاء الحرب، على الرغم من أنها لم يكن لديها نية القيام بذلك.
الشرطة
دفع رجال الشرطة الذين أضربوا في يوليو 1919 الثمن غالياً. تم عزل وإنهاء خدمة كل من شارك في الإضراب، كما سحقت النقابة تماماً. لقد تعلمت الدولة درساً هاماً: أهمية أن تضمن ولاء رجال الشرطة، واستحالة السماح بأن يجمعهم تشكيل نقابي بأي حال من الأحوال. كان هذا الإضراب تعبيراً مذهلاً عن حدة التقلبات التي شهدتها تلك الفترة، كان انعاكساً للحظة الثورية المتأججة في ذلك الوقت.
في نفس ذلك الوقت، عانت الإمبريالية البريطانية من ضربة موجعة أصابتها بعد انفصال أيرلندا. بالطبع لم يعنِ ذلك نهاية الإمبراطورية، لكنها كانت نقطة تحول في مكانة بريطانيا في العالم.
لقد أعد القادة النقابيون عدتهم لانتزاع هزيمة من بين فكي الانتصار العمالي، لم يكن الأمر وليد الظروف أو من قبيل الصدفة. في ربيع عام 1919، أخبر “لويد جورج” قادة التحالف الثلاثي أن الحكومة الآن تحت رحمتهم. وقال “لويد”: “إذا نفذتم الإضراب الذي تهددون به، فسوف تهزموننا بكل تأكيد.. ولكن، هل فكرتم في العواقب؟” وأضاف قائلاً: “لو ظهرت قوة داخل الدولة أقوى من الدولة نفسها، فيجب أن تكون مستعدة للقيام بمهام الدولة، وإلا أن تعلن انسحابها وقبولها لسطة الدولة. أيها السادة، هل أنتم مستعدون لهذا؟”.
فيما بعد، اعترف “روبرت سيملي” وهو قائد نقابي من عمال المناجم، قائلاً: “منذ تلك اللحظة بدأت هزيمتنا، وكنا نعرف إننا سنهزم”. نعم، لقد انتصر العمال على الحكومة وكانوا يعرفون تماماً ما هي خطوتهم التالية بناءاً على استيعابهم التام لدروس الثورة الروسية. وبرغم ذلك، انحاز القادة النقابيون للدولة الرأسمالية. ربما لو أن الحزب الشيوعي البريطاني كان قد أُنشئ أثناء تلك الصراعات، لتمكن من تطوير وتعزيز تلك النضالات من خلال التجربة. وبالطبع، كان سيتمكن من تنظيم وإدارة الإضرابات.
في عام 1919، تبلورت وترسخت الثورات العمالية في جميع أنحاء العالم، وكان المزاج العام للجنود في تلك الفترة يتسم بالمقاومة، ولهذا كان ممكناً اندلاع ثورة في بريطانيا – تماماً مثل التي اندلعت في روسيا في العام 1917.
قادة وجيش يتفكك
في ذلك الوقت استمات وزير الحرب آنذاك “وينستون تشرشل” من أجل توسيع رقعة التجنيد الإلزامي للجيش، بحيث يتكمن من إرساله لمحاربة البلشفية في روسيا. ومثل أية حكومة رأسمالية أخرى، أرادت الدولة البريطانية وأد الثورة في مهدها قبل أن تنتشر في مختلف أرجاء أوروبا. ولكن الجنود البريطانيون كانوا قد تأثروا بالثورة البلشفية بالفعل، ولذلك تمردوا على قادتهم.
في أوائل يناير عام 1919، امتنع حوالي ألفي جندي في “فولكيستون” المدينة الرئيسية في مقاطعة “كنت”، عن ركوب السفن لأداء الخدمة العسكرية في الخارج. طاف المتظاهرون أرجاء البلدة، وأخذت أعدادهم في الازدياد، حيث انضم لهم الجنود العائدون الذين كانوا قد رست سفنهم للتو. بالطبع، ألقي القبض على المتمردين، ولكن بعد أن كان انتشر التمرد بين الجنود انتشار النار في الهشيم، حيث وصل عدد البؤر المتمردة إلى خمسين وحدة في مختلف أنحاء بريطانيا.
وكان أن انضم البحارة العاملون على متن السفينة الحربية “إتش أم أس كليبريد” للثورة، وقاموا برفع علماً أحمر اللون، كما رفضوا الإبحار وتمردوا على الأوامر. وأشملت مطالب المتمردين على: وقف إرسال الجنود إلى روسيا، تسريح سريع للجنود، زيادة الأجور، ووضع حداً رادعاً لتسلط ووحشية الضباط. في نفس الوقت عبر القناة وعلى الجانب الآخر في فرنسا، تمرد الجنود البريطانيين في “كاليه”، ونظموا أنفسهم في مجالس للجنود، كما دعوا إلى إضراباً عن الخدمة.
وحتى هذا الحين، كان قد وصل عدد المشاركين في التمرد إلى نحو 20 ألف جندي. وساعدهم في تمردهم عمال السكك الحديدة الفرنسية حيث أعاقوا الحركة المرورية للقوات العسكرية البريطانية. كما انحازت للثورة كتيبة المشاة البريطانية “يوركشاير” المتمركزة آنذاك في بلدة “آركانجليسك”، شمال روسيا، وشكلوا مجلس الجنود الخاص بهم. لقد أجبر هذا القدر غير العادي من التمرد والاضطراب داخل الجيش الحكومة البريطانية على تقديم تنازلات.
حتى أن “تشرشل” صرح بأنه ضد تنفيذ عقوبة الإعدام المعمول بها بحق المتمردين. وفي مذكرة محمومة، كشف “تشرشل” عن مدى الذعر الذي اعترى مجلس وزراء حيال هذا التمرد، حيث كتب يقول: “ترى هل ستستجيب القوات العسكرية في مختلف المناطق من أجل المساعدة في الحفاظ على السلم العام؟ هل سيعاونوننا في وقف الإضراب؟ أم سينساقوا خلف التيار العاتي القادم من الخارج، ولاسيما من روسيا؟ وخلٌص تشرشل إلى أن الجيش يتفكك بسرعة شديدة”.
في عام 1919، كان جانبنا هو الأقوى، بينما كان جانبهم هشاً هشاشة قشر البيض. وكانوا يدركون ذلك جيداً.