25 عاماً على انتفاضة 1977
تحل علينا في تلك الأيام الذكرى الخامسة والعشرين لانتفاضة 18/19 يناير المجيدة، عندما خرجت جموع العمال والطلاب والفقراء إلى شوارع المدن المصرية منتفضين ضد نظام السادات. وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر والعالم، يصبح من المهم على الثوريين استقراء تاريخ الحركة الجماهيرية، والتعلم من ايجابياتها وسلبياتها.. من أجل التدخل بصورة أقوى في الانتفاضة المصرية القادمة..
لقد مثلت أحداث 77 ذروة لعمليتي التثوير والتجذير التي كان المجتمع المصري يمر بهما ابتداء من عام 1968. فقد كان هذا العام ميلاد الحركة الطلابية والعمالية بعد ركود دام أكثر من عقد من الزمان. انتفض عمال حلوان وطلاب الجامعات ضد الهزيمة، وضد الفساد المستشري في النظام الناصري.
وتواكب ذلك مع حالة من التردي الاقتصادي الذي أعقب فشل الخطة الخمسية الأولى (1961 – 1965)، ثم الهزيمة العسكرية التي أصابت الاقتصاد المصري في مقتل.
وقد زاد من لهيب الأحداث المتغيرات الراديكالية التي كانت تعصف بالعالم ومنطقة الشرق الأوسط، فلعبت عدة “عوامل تثويرية” دورًا حيويًا في إذكاء لهيب الحركة. أهمها فيتنام، الحركة الطلابية في دول الغرب، الثورة الثقافية الصينية، والثورة الفلسطينية.
وبرحيل عبد الناصر المفاجئ عام 1970، وقع انقسام في صفوف الطبقة الحاكمة المصرية حول المنهج الذي يجب إتباعه إزاء قضايا الاقتصاد، وإسرائيل، والغرب (أمريكا)… فرأي قطاع من البيروقراطية ضرورة التمسك بالنهج الناصري القديم، في حين رأي قطاع آخر بزعامة السادات ضرورة التقرب إلى الغرب، وإسراع خطى تحرير الاقتصاد. واستمر الانقسام قائمًا حتى بعد خروج منتصرًا في “ثورته التصحيحية” في 15 مايو 1971. وساهم هذا الارتباك – في صفوف النخبة الحاكمة – في إعطاء الفرصة للحركة الجماهيرية كي تتصاعد وتنضج.. فاشتعلت الحركة الطلابية ابتداء من عام 72 لتصبح كابوسًا يجثم على صدر السادات وطبقته الحاكمة.. ثم دخلت الطبقة العاملة إلى ساحة النضال بحلول عام 1975 بإضرابات ضخمة في أهم المناطق الصناعية بحلوان والمحلة وشبرا الخيمة والإسكندرية.
وبتواكب هذا الزخم الثوري مع عواصف راديكالية في العالم والمنطقة، فقد شهد عقد السبعينات العديد من الانفجاريات الثورية في البرتغال، وأسبانيا، وأيرلندا، والولايات المتحدة، وأمريكا اللاتينية، وألمانيا.. وفي المنطقة اشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية، واندلعت انتفاضات في تونس والمغرب وإيران.
لم يكن عام 1976 سوى “بروفة ثورية” للانتفاضة، فازدادت عدد المظاهرات الطلابية، واقتحامات مراكز الشرطة، وإضرابات عمالية ضخمة في المحلة وحلوان، ثم إضراب النقل العام بعد أقل من 24 ساعة على استفتاء مبايعة السادات.
لا توجد مساحة كافية في هذا المقال لسرد كل تفاصيل الأحداث التي وقعت إبان يومي الثامن عشر والتاسع عشر من يناير 1977، ولكن يمكن القول بوضوح أن ما حدث لم يكن “أعمال شغب” أو كما أسماه السادات “انتفاضة حرامية”، فقد تحركت القطاعات العمالية والطلابية بطريقة عفوية ولكن منضبطة. فلم ينخرط، ولكنهم نزلوا إلى الشوارع في مظاهرات قوية، وبشعارات ثورية تتعلق بالحريات السياسية والعدالة الاجتماعية، وتدخلوا أكثر من مرة (بشهادة تقارير المباحث) لوقف أعمال التخريب، ولم تتعرض الجامعات والغالبية العظمى من المصانع لأعمال تخريب.
لقد بدأ العنف الجماهيري عندما أطلقت الحكومة وسائل قمعها ضد المظاهرات السلمية، فاستخدمت قوات الأمن الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز، والركل والسحل ضد المتظاهرين معًا أدى سقوط ما يقرب من 80 شخص وأثبتت التحقيقات والدراسات أن من قاموا بأعمال التخريب والنهب كانوا بالأساس عناصر من فقراء المدن والأحداث، وليس العمال أو الطلبة وحتى هؤلاء لم يستهدفوا مصالح عشوائية، بل وجهوا تخريبهم وعنفهم لرموز السلطة والفساد مثل مراكز الشرطة، مقر الحزب الحاكم، الكازينوهات الليلية الخ..
لم تخمد نار الانتفاضة بسبب القمع الحكومي والتراجع عن قرارات زيادة الأسعار فقط، ولكن بسبب غياب حزب ثوري يستطيع قيادة تلك الانتفاضة. لقد فشلت تنظيمات اليسار الشيوعي آنذاك (رغم نضالية كوادرها) في خلق جذور عميقة في صفوف العمال والكادحين بالإضافة إلى خطهم السياسي الستاليني الذي منعهم من اتخاذ مواقف متماسكة تجاه النظام.
كان تواجد حزب ثوري جماهيري في تلك الفترة قادرًا على أن يخلق بديلاً واضحًا أمام المنتفضين في الشوارع، ويركز قوى الحركة بطريقة مركزية في مواجهة النظام، ويطور الحركة بالدعوة إلى العودة إلى المصانع واحتلالها، وتكوين لجان إضراب جماهيرية تكون النواة لمجالس العمال، ويبعث بمحرضيه إلى الريف لاستثارة الفلاحين، وينسق التحرك بين القطاعات العمالية المختلفة وباقي القوى في الحركة مثل الطلاب وفقراء المدن، وينشر دعاوي العصيان في صفوف الجيش وقوات الأمن. ولم ينجح اليسار آنذاك في خلق هذا الحزب.. فكانت الهزيمة.
ما أشبه اليوم بالبارجة، فالظروف الموضوعية لاشتعال انتفاضة ثورية في شوارع مصر موجودة الآن بصورة أقوى من السبعينات. فالأزمة الاقتصادية تنهش دعائم النظام وتدفعه إلى الهجوم بشراسة على حقوق ومكتسبات الجماهير. ويعم الارتباك صفوف الطبقة الحاكمة المصرية إزاء التصرف حيال تلك الأزمة، وقد سقطت شرعية مرتكزات برنامج النظام في التسعينيات، والمعتمدة على “الإصلاح الاقتصادي” في الداخل، ومشروع “السلام” في المنطقة وتلعب الانتفاضة الفلسطينية الآن دورًا تثويريا قويًا في الساحة السياسية العربية والمصرية، كاشفة بوضوح عمالية الأنظمة العربية، بالإضافة إلى مشاعر السخط العنيفة التي تعم الشارع المصري إزاء الامبريالية الأمريكية وهمجيتها تجاه دول المنطقة. وإزاء الخنوع المذل الذي يظهره نظام مبارك وباقي الأنظمة تجاهها.
وقد تكون الحركة الجماهيرية الآن ليست بقوة وتنظيم حركة السبعينيات، ولكن الصعود التدريجي في عدد الإضرابات العمالية في السنوات القليلة الماضية (بالرغم من اتسامها بالعفوية) والانفجاريات التظاهرية الطلابية في أحداث ضرب العراق، ثم التضامن مع الانتفاضة، يوضح جليًا حالة الغليان الشعبي ضد النظام، ووجود فرص جيدة لبث الدعاية الثورية الاشتراكية في ساحة سياسية، تسودها فراغات ضخمة، نظرًا للتراجع النسبي للمد الإسلامي.
أن نمو التيار الاشتراكي الثوري وكسبه لأرضية تأييد أوسع في الشارع المصري ضروري، وأمر حياة أو موت لنجاح الانتفاضة القادمة. ويجب أن يكون تجنيد الشباب إلى حزب جماهيري على قائمة أولويات كل اشتراكي ثوري. فكل فرد يتم تجنيده وتزويده بالسلاح النظري، والتجربة العمالية في ساحة النضال ما هو إلا “قائد” مستقبلي لمظاهرات الشوارع وإضرابات المصانع في الانتفاضة القادم.