بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فلسطين قبل النكبة: لم يبع الشعب أرضه

ثورة البراق في فلسطين - 1929
ثورة البراق في فلسطين - 1929

الطبيعة السكانية
مع بداية الانتداب البريطاني، كانت الغالبية العظمى من سكان فلسطين تشتغل بالزراعة، فقد قُدر عددهم في 1922 بحوالي 478 ألف نسمة، وقد شكل الفلاحون قاعدة الهرم السكني منهم بنسبة 80%، كان 65% فقط منهم يمتلكون بعض الرقع الزراعية الصغيرة، فكان متوسط ما تملكه العائلة الفلاحية 0,46 دونم فقط (الدونم هو ربع فدان). على الجانب الآخر، نجد سيطرة عدد قليل جداً من العائلات على مساحة شاسعة من الأراضي، فقد امتلكت 144 عائلة فقط حوالى مع 3.1 مليون دونم، ومنها من كان يمتلك مئات الآلاف من الدونمات، بل وبلغ مجموع ما ملكته 250 عائلة من أراضي مساوياً لما في حيازة الفلاحين أجمع.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد خلق الاستعمار البريطاني قطاعاً صناعياً حديثاً استلزم إعادة توزيع القطاع السكاني بزيادة عدد سكان المدن لمواكبة تطور الاقتصاد النقدي، فنظراً لتراجع الزراعة التقليدية أمام الزراعة المُمَيكنة تعرض آلاف الفلسطينيين لفقدان أعمالهم حيث تم تحويل قطاعات من صغار الملاك إلى عمال بالأجر، وكثيراً منهم إلى البطالة والنزوح إلى المدن بحثاً عن فرصة عمل. أما بالنسبة للحرفيين فالمهرة منهم، فقد التحق بالصناعات الأكثر تطوراً والأغلبية سقطوا في مستنقع البطالة.

من الناحية الأخرى، استفادت من هذا التوزيع الجديد طبقتين؛ الأولى هي البرجوازية العربية التي امتلكت معظم الأراضي، فتحكمت بتجارة المحاصيل من خلال القروض التي تمنحها للفلاحين الصغار ومتوسطي الملكية مقابل الالتزام بتوريد المحاصيل لهم، مما أدى إلى تحكمهم في الصناعات المرتبطة بالزراعة كالزيوت والصابون. أما الطبقة الثانية فهي التي نشأت نتيجة هذا التوزيع، فقد نشأت طبقة وسطى حديثة من المهنيين (أطباء وموظفين ومدرسين ومحامين، إلخ)، وذلك للمشاركة في الأعمال الإدارية والخدمية والحكومية، مع العلم أن هذه الطبقة تكونت في الأساس من أسر كبار ملاك الأراضي الذين تمكنوا من توفير فرص تعليم لأبنائهم.

كبار الملاك والانتفاضات
كان لطبقة ملاك الأراضي السيطرة المطلقة على الحياة السياسية الفلسطينية، ولعبت هذه العائلات دوراً رجعياً في حركة المقاومة، إذ حاولت دائماً توجيه مشاعر غضب الجماهير تجاه اليهود فقط، وتفادت الصراع مع قوات الاحتلال البريطاني. اقتصرت أساليبها على المذكرات والعرائض والاحتجاجات المكتوبة، ودائماً وقت الثورات ما حاولت كبح حركة الجماهير خوفاً من خروج الأمر من أيديهم وانقلاب الفلاحين عليهم بسبب الأوضاع المزرية التي يعيش فيها الفلاحون نتيجة القهر والاستغلال. لم تكتف بذلك بل عملت على توجيه الانتفاضات الغاضبة لمصالحها في ظل الصراعات بينهم، وذلك محاولة للتقرب من البريطانيين ونيل رضاهم، وبالطبع استفاد البريطانيون من هذه المنافسة وعملوا على تعميقها لإضعاف وتفريق صفوف أي حركة وطنية تقوم.

لم تمنع سيطرة هذه العائلات على الحياة السياسية الانتفاضات والثورات العفوية للشعب الفلسطيني، فقد شهدت الفترة من 1919 – 1921 اشتباكات عنيفة بين العرب والصهاينة، وهجوم عنيف على المستوطنات الصهيونية وأهداف بريطانية أيضاً، وتعد انتفاضة القدس 1920، ويافا 1921، من أشهرهم. وكان موقف العائلات منها هو “المتفرج”.

في عام 1929، انفجرت الجماهير الفلسطينية بثورة عنيفة عُرفت بـ”ثورة البراق”، اندلعت الشارة الأولى عندما نظم الصهاينة مظاهرة حاشدة في 14 أغسطس بتل أبيب، في ذكري تدمير معبد سليمان، وفي اليوم التالي نظموا مظاهرة أكبر في شوارع القدس واتجهوا إلى حائط البراق (المبكى)، مرددين نشيدهم القومي وقاموا باستفزاز الفلسطينيين، فاندلعت الاشتباكات العنيفة لتستمر لمدة أسبوع. فتحت القوات البريطانية النار على العرب واقتحمت القدس بالمصفحات مما أدى إلى انتشار الانتفاضة في باقي المدن الفلسطينية. ففي الخليل هجم العرب على حارة اليهود وقتلوا 60 صهيونياً، وفي نابلس هجموا على مركزٍ للشرطة لانتزاع الأسلحة، وفي بيسان ويافا وحيفا اشتعلت المواجهات في الشوارع بين العرب من جهة والصهاينة والبريطانيين من جهة أخرى، وفي صفد احتمى الصهاينة بالقوات البريطانية التي فتحت النار على العرب، كما تعرضت المستوطنات الصهيونية لعمليات فدائية أدت إلى تدمير 6 منها.

أدى القهر البريطاني الوحشي وتخاذل العائلات إلى فشل الثورة وقمعها، وكانت حصيلة الأحداث 133 قتيلاً صهيونياً و239 جريحاً، ومن العرب 116 وجرح 232. عقب ذلك قامت سلطات الانتداب البريطاني بتقديم ما يزيد عن ألف شخص للمحاكمة، منهم أكثر من 900 عربي، وصدر الحكم بإعدام 25 عربياً وصهيونياً واحداً.

اشتدت حركة الكفاح المسلح التي أطلقها القساميون (إخوان القسام – منظمة عسكرية تأسست عام 1931)، واتخذت بحلول عام 1935 شكل عمليات فدائية مسلحة على نطاق واسع. اشتدت كذلك سخونة الأحداث مع زيادة معدل الهجرة اليهودية بسبب صعود الفاشية للحكم في أوروبا. وشهدت الفترة من 15 إلى 19 أبريل 1936 اشتباكات وحوادث عنف فردي بين العرب والصهاينة، ويأتي 20 أبريل لتدخل يافا في إضراب عام أغلق الأسواق والميناء، أعقبها اندلاع اشتباكات عنيفة في شوارع المدينة. قوبلت تحركات الفلسطينيين على الفور بالقمع الوحشي من القوات البريطانية، فما كان من زعماء الأحزاب السياسية -حديثة النشأة- إلا أن توجهوا لمقابلة المندوب السامي معبرين له عن أسفهم على أحداث العنف التي وقعت! وفي غضون أيام قليلة ظهرت إلى الوجود “لجان قومية”، مكونة من الشباب ومواطنين عاديين في نابلس، انضمت إلى الإضراب العام وعمتها مظاهرات حاشدة في 24 أبريل. واستمر الإضراب في الانتشار والتصاعد، وبدأت اللجان القومية في الظهور بالمدن والقرى في باقي أنحاء فلسطين. وانضم الطلبة وأعضاء النقابات إلى الحركة، فأضرب المحامون عن العمل بالمحاكم، وقرر الأطباء معالجة الجرحى والفقراء الذين يحملون توصيات من لجان الإسعاف مجاناً.

تصاعدت الأحداث بحلول شهر مايو، فأُعلن العصيان المدني عن دفع الضرائب، وقوبلت المظاهرات الفلسطينية برصاص قوات الاحتلال، وانتشر العصيان في صفوف الشرطة العربية التي انضمت للمتظاهرين، وتم تعطيل الطرق وأسلاك التليفون وخطوط البرق، ونسف أنابيب البترول، وقلب القطارات، ومهاجمة المستوطنات الصهيونية والدوريات البريطانية. فأعلنت سلطات الانتداب الأحكام العرفية، واستخدمت العنف العسكري لقمع الثورة، فاستقدمت إمدادات قوامها 30 ألف جندي بريطاني. وشنت القوات الجوية البريطانية هجمات على القرى والمناطق الجبلية حيث كانت تحارب مجموعات فلسطينية مسلحة. ولكن الثورة استمرت بفضل تنظيم ميليشيات مسلحة بعيداً عن سيطرة الملاك وزعماء الأحزاب السياسية. وزاد الزخم الثوري للحد الذي دفع بالمندوب السامي لأن يصف الأحداث بأنها “بداية ثورة”. وفي شمال فلسطين دخلت قوات فدائية من المتطوعين السوريين والعراقيين للقتال في صفوف الثورة. وجاء رد الفعل البريطاني عنيفاً، فمورست عمليات إبادة كاملة لبعض المدن، وعمليات عقاب جماعي واعتُقِلَ الآلاف. ولكن لم تتوقف الثورة رغم شدة القمع.

تحت وطأة الأحداث اضطرت العائلات للتحرك وتشكيل “اللجنة العربية العليا”، التي أيدت الإضراب وموَّلته جزئياً، ورغم القمع الشديد للبريطانيين لم يجدوا مخرجاً إلا عن طريق هذه اللجنة التي دب الرعب في أوصال قيادتها بسبب نضال الشعب الفلسطيني وخوفهم من فقدان أرباحهم الاقتصادية، وخشيتهم أيضاً من أن يتحول الكفاح المسلح ضدهم، فما لها إلا أن امتنعت عن تمويل الإضراب في سبتمبر كمقدمة للقضاء عليه، كما اقترحت على حكام الدول العربية المجاورة مطالبة الجماهير الفلسطينية بإنهاء الإضراب. وبالفعل أصدر الملوك العرب نداءاً إلى الجماهير الفلسطينية بإنهاء الإضراب في أكتوبر 1936 لإعطاء “الفرصة للجهود الدبلوماسية”، فهرولت اللجنة العربية العليا لإصدار دعوة لإنهاء الإضراب “امتثالاً لإرادة أصحاب الجلالة والسمو”. وتوقف الإضراب أخيراً في 13 أكتوبر بعدما استمر لمدة 176 يوماً.

بعد فض الإضراب وتوقف الثورة تقدمت بريطانيا بمشروع في يوليو 1937 لتقسيم فلسطين بين العرب والصهاينة، وقامت بنفي بعض قيادات اللجنة العربية العليا، وهرب البعض الآخر خارج فلسطين، فاندلعت الثورة مرة أخرى، وهبت تنظيمات مسلحة من الفلاحين، وأضرب العمال في المدن. أدت الإضرابات والاشتباكات المسلحة إلى إغلاق مدن رام الله وبيت لحم ونابلس، وقاتل البريطانيون 5 أيام لاستعادة السيطرة على المدينة القديمة بالقدس. وقام الفلاحون المسلحون بتهديد ملاك الأراضي واغتيال بعض الشخصيات الفلسطينية المرتبطة بالصهاينة والبريطانيين. ونجح النضال الثوري للجماهير الفلسطينية في هز دعائم سلطة الانتداب للحد الذي دفع بأحد الجنرالات البريطانيين للاعتراف بأن “الإدارة المدنية والسيطرة على البلاد … أصبحت معدومة”. استمرت الثورة لمدة 3 سنوات ـبالرغم من القمع البريطاني/الصهيوني الوحشي، وغياب القيادة الثورية، وضعف التسليح- مخلفةً وراءها ما بين 3 إلى 5 آلاف شهيد وآلاف أخرى من الجرحى.

لم يملك الشعب الفلسطيني يوماً أراضيه لبيعها، فقد كانت تسيطر على الأراضي قلة قليلة من العائلات التي كانت تسعى دائماً لمصالحها الاقتصادية سواء كانت مع احتلال بريطاني أو صهيوني، وعلى الرغم من ذلك ناضل الشعب الفلسطيني بكل قوته وإمكانياته الضعيفة ضد الاحتلال البريطاني والعصابات اليهودية والعائلات العربية الخونة لهم. بطولات الشعب الفلسطيني ممتدة طول الصراع، نراها جلية لم تضعف قط حتى الآن.