بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

يصدر قريبًا عن حركة الاشتراكيين الثوريين | “تشيلي 73 – 1972: العمال والعسكر والثورة”

بعد سنواتٍ من انطلاق الثورة المصرية، نجد أنفسنا نتساءل كيف انتهت الثورة بعودةٍ أبشع وأكثر وحشية للنظام القديم؟ للإجابة يتحتم علينا دراسة التجارب السابقة للثورات المشابهة، بكبواتها قبل انتصاراتها، حتى نستلهم الدروس التي تمكننا من فهم علاقات القوى في المجتمع، وطبيعة الصراعات القائمة، والاتجاهات التي تتطور فيها هذه القوى والصراعات، من أجل الاستعداد للثورة المصرية الثانية وتحقيق التغيير الثوري بفعالية ونجاح.

في هذا السياق، تصدر حركة الاشتراكيين الثوريين سلسلة من الكراسات المُترجَمة التي تتناول خبرات ودروس بعض التجارب الثورية الهامة في التاريخ، تحت عنوان “بروفات ثورية”. وفي الحلقة الأولى من السلسلة تصدر الحركة قريبًا كراسًا بعنوان “بروفات ثورية 1 | تشيلي 73 – 1972: العمال والعسكر والثورة”.

ولعل التجربة التشيلية من أقرب النماذج الثورية إلينا في مصر. يستعرض الكراس كيف استطاعت الطبقة العاملة التشيلية أن تأتي في الحُكم بأحد أعضاء الحزب الاشتراكي التشيلي “سالفادور آيندي” في الانتخابات الرئاسية عام 1970، وما أحدثه ذلك من صدمة للبرجوازية دفعتها لحالة من الفوضى لاستعادة السيطرة على الدولة مرة أخرى، عن طريق سحب الاستثمارات وتصدير رؤوس الأموال إلى الخارج وتعطيل الإنتاج بالمصانع، بجانب التخزين الممنهج لإنقاص السلع ونمو السوق السوداء، لافتعال أزمة اقتصادية. حتى إذا ما حلّت الفوضى حشدت البرجوازية أنصارها في حركات احتجاجية خرجت للشوارع لإثارة سخط الجماهير على الحكومة الجديدة.

ما لبثت جهود الحكومة لإنعاش الاقتصاد خلال الأشهر الأولى من حكمها أن تلاشت. وأصبحت الحكومة في مواجهة أنصارها من الفقراء الذين انتخبوها. وكيف أثّر تعامُل “آيندي” والحكومة مع الأزمة المتفاقمة بتقديم التنازلات لطمأنة البرجوازية. فتخلت عن برنامجها الثوري وشرعت تستكمل برنامج الحكومة القديمة غير المنجز، دون أي تحدٍ لسيطرة رأس المال الخاص. في الوقت الذي ناشدت فيه الطبقة العاملة بكبح جماحها وترك زمام المبادرة للقيادة السياسية. كان من المرجو أن يؤدي ذلك بالبرجوازية إلى تقدير تنازلات الحكومة تلك، إلا أن هذا كله لم يكفِ لتبديد شكوك البرجوازية.

وعلى ذلك، لم يكن من الغريب أن يرد العمال بإعادة تنشيط منظمات نضالهم التقليدية، للحيلولة دون تقويض البرجوازية للمكاسب التي حققوها عام 1972، فدعوا لاحتلال المصانع والسيطرة على الإنتاج، وكثفت تنظيمات الفلاحين مصادراتها للأراضي المملوكة للبرجوازية، وانضم العمال للفلاحين وكانت ثمرة ذلك النضال المشترك تنظيم من نوع خاص، عُرف بـ”الكوردون”، حينها طالب العمال والفلاحون باستبدال البرلمان بالمجالس العمالية.

في الوقت الذي كان فيه كلٌ من الطبقة العاملة والبرجوازية يناقشون تكتيكات غير برلمانية، كانت الحكومة مازالت غارقة في وحل التغيير البرلماني، فأمر الحزب الحاكم أعضاءه بمقاطعة الكوردونات، ووصفوا مطالبها بالفئوية، أو أبعد من ذلك باتهام أعضائها بالخيانة ودفع البلاد لحربٍ أهلية. فاستدعت الحكومة حالة الطوارئ، ووضعت المناطق الصناعية تحت السيطرة العسكرية، كرسالة تحذير للجماهير الذين بدأوا يعملون خارج الإطار الدستوري.

ولما أصبح جلياً أن “آيندي” مستعدٌ لاستخدام أجهزة الدولة ضد أنصاره، انتهزت البرجوازية الفرصة بتنظيم حملة معارضة سياسية علنية، فأصدر الإعلام دعوات للعمل العسكري ضد الحكومة، وأُطلقت موجة إضرابات لشلّ الاقتصاد تماماً، كانت خطة البرجوازية هي استخدام قوتهم الاقتصادية لخلق ذعر جماهيري، والذي بدوره إما سيجبر الرئيس والحكومة على الاستقالة، أو سيتركه في السلطة ليفرض إجراءات التقشف، ومن ثم يغترب تمامًا عن القاعدة الجماهيرية، ما ينعكس على شعبيته في الانتخابات التالية.

وكانت مؤامرة البرجوازية لتنجح لولا تولي الطبقة العاملة زمام المبادرة السياسية، فسيطرت على الشوارع والمصانع، وأعادت تملك كل وسيلة إنتاج متاحة وتشغيلها من قِبل متطوعين. وشُكلت لجان أمنية لصد هجمات العصابات التابعة للأحزاب اليمينية على المناطق الصناعية. كانت الطبقة العاملة مستعدة للمرحلة النهائية من الصراع الطبقي، لكن قادتها لم يكونوا كذلك. وبدون قيادة ثورية واعية ظلت ممارسات العمال اليومية في الحكم الذاتي دون وعي سياسي يؤهلهم لفرضية الاستيلاء على السلطة. في تلك اللحظة الحرجة، أثبت اليسار التشيلي أنه يعاني حالة من الفوضى النظرية والسياسية أصابته بالعجز.

وبعد أن أظهرت الطبقة العاملة قدرتها على التحكم بزمام الأمور وهزيمة البرجوازية، بدا أن خوف “آيندي” من النشاط المنظم للطبقة العاملة فاق قلقه بصدد المعارضة اليمينية، فدعا العمال لإعادة المصانع لمالكيها، لكن لم يكن من السهل تقويض الثقة التي اكتسبها العمال، فرفضوا التفريط في المكاسب الاجتماعية التي حققوها، وأعادوا احتلال المصانع. فأعلن “آيندي” عن تشكيل وزارة جديدة بالاشتراك مع الجيش لتلك المهمة. وتم إجلاء العمال باستخدام شرطة مكافحة الشغب الذي تعهد “آيندي” حين تولى المنصب بتفكيكها.

ولما منحت حالة الطوارئ السيطرة الفعلية للعسكر، تحركت الدبابات إلى شوارع العاصمة، بأمر من “أوجستو بينوشيه” الذي كان آنذاك عضوًا في وزارة “آيندي” العسكرية، وحاصرت القصر الجمهوري، وفُرض حظر التجوال. وقبل أن يُقتل، طلب “أيندي” من الطبقة العاملة حمل السلاح والدفاع عن الحكومة، ودعا جنود الجيش للانشقاق من منطلق التضامن الطبقي مع أهاليهم من العمال والفلاحين. وقوبل الانقلاب بمقاومة جماهيرية منظمة لكن عزلاء، التي سرعان ما قضت عليها الآلة العسكرية، فاعتُقل وعُذّب وقُتِل الآلاف. أما طليعة الطبقة العاملة فقد مُزقت أجسادهم إربًا وتُركت لتطفو في مجاري المياه كإنذار بياني بأن النظام الجديد لن يرحم من يقترب من تهديد وجود المجتمع البرجوازي.

تبدد التجربة التشيلية أوهام الإصلاحيين الذين كانوا في هذه الحالة الأكثر التزامًا بالدفاع عن الدولة البرجوازية، وحاولو إلقاء اللائمة على “مؤامرة خارجية” في الواقع كانت من نسج خيالهم، لتشن الثورة المضادة بقيادة “بينوشيه” هجمتها الكاسحة التي سحقت الجميع.