بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

البرتغال 74-1975: ثورة اشتراكية كادت أن تنتصر

في عاميّ 1974 و1975، كانت البرتغال أقرب إلى انتصار الثورة الاشتراكية من أيٍّ من بلدان أوروبا الغربية طيلة سنوات عديدة. نمت الحركات والمجموعات الثورية واتسع نفوذها بصورةٍ هائلة بعد انقلاب عسكري أطاح بالفاشية في أبريل 1974، فيما كان الحزب الشيوعي -الذي نهض من سنواتٍ طويلة من العمل السري في ظلِّ الحكم الفاشي- هو الذي تصدَّر قيادة نضالات الطبقة العاملة.

وَضَعَ الحزب الشيوعي آنذاك ثقته في المؤامرات التي يحيكها الضباط اليساريون داخل الجيش، لكسب المزيد من الحصص داخل مؤسسات الحكم، بدلًا من الاستناد إلى قوة الطبقة العاملة في توجيه دفة الثورة إلى الاشتراكية. كان ذلك هو ما أتاح الطريق أمام القوى اليمينية الرجعية لتنظيم صفوفها وإطلاق العنان لحملةٍ قمعية قضت على الثورة دون مقاومة مُنظَّمة. وفي يوم 25 نوفمبر 1975، أعلنت قيادة الجيش حالة الطوارئ واستعانت بفِرَق القوات الخاصة لحصار ثكنات الجنود الثوريين وتدشين موجة من قمع الحركة العمالية.

أهم ما تخبره إيانا هذه الثورة هو أن الاستناد إلى طاقة وإمكانياتها الجماهير هو أول ضمان النصر.
(المُحرِّر)

كانت البرتغال ترزح تحت حكمٍ فاشيٍّ كامل الأركان لفترةٍ تصل إلى نصف قرن، أي أكثر من أيِّ بلدٍ أوروبي آخر. كانت أحزاب المعارضة محظورةً، والنقابات الوحيدة المسموح بوجودها كانت اتحاداتٍ ضئيلة تقبع تحت سيطرة الدولة. اعتادت السلطة استخدام القوات المُسلَّحة لفضِّ الإضرابات العمالية، فيما كان العمال يُزَجُّ بهم في سجون الشرطة السرية لعشرة أو عشرين عامًا.

لم تكن الدولة الفاشية تحكم البرتغال وحدها، بل أيضًا إمبراطوريةً واسعة الأرجاء في إفريقيا، حيث أمدَّت مُستعمَرات أنجولا وغينيا بيساو وموزمبيق الأرباح للاحتكارات البرتغالية العملاقة، ووفَّرَت الوظائف لطبقتها الوسطى.

في صباح الخامس والعشرين من أبريل 1974، استيقظ مواطنو لشبونة ليُفاجأوا بالدبابات تجول الشوارع ومحطات الراديو تبث المارشات العسكرية. هل كان ذلك انقلابًا من اليمين أم اليسار؟ جاءت الإجابة حين أذاع الراديو أغنيةً شعبيةً مُناهِضةً للفاشية.

انقلاب وانقسامات
هَرَعَ الناس في الشوارع لتحية الجنود، مُوزِّعين أزهار القرنفل الحمراء عليهم. انطلقوا في الشوارع يُمزِّقون شعارات ورموز النظام الفاشي، وفتحوا السجون لتحرير السجناء السياسيين، بينما ألقوا القبض على المُخبِرين المعروفين لدى الشرطة.

تأسَّسَت الحكومة الجديدة برئاسة الجنرال أنطونيو دي سيبنولا، الضابط الرجعي الذي قاتَلَ كمُتطوِّعٍ في جيوش هتلر خلال الحرب العالمية الثانية. لكن حكومته تألَّفَت من أعضاءٍ من الأحزاب السرية المُناهِضة للفاشية، بمن فيهم الشيوعيين.

سرعان ما صار واضحًا أن السلطة في القوات المُسلَّحة لا تقبع بين يديه، بل بين أيدي مجموعةٍ من 400 ضابط صغير كانوا هم المُنظِّمين الحقيقيين للانقلاب -ما عُرِف بـ”حركة القوات المُسلَّحة”. انقلب الجيش على الفاشية لسببٍ واحد بسيط، وهو أن هذا الجيش كان يخسر معارك الحرب الاستعمارية في إفريقيا. لكن كانت هناك اختلافاتٌ كبرى في التعاطي مع هذا السبب.

عبَّرَ سبينولا عن مصالح الاحتكارات البرتغالية الكبيرة. كان هدفهم هو استبدال الحكم البرتغالي المباشر، وإحلال حكمٍ غير مباشر قائم على الحركات “المعتدلة” المُمَوَّلة من المخابرات الأمريكية بدلًا منه، حتى وإن كان ذلك يعني استكمال الحرب لفترةٍ من الوقت آنذاك.

أما الضباط الصغار، فقد أرادوا إنهاء الحرب مهما كلَّف الأمر، وأدركوا أن هناك طريقًا واحدًا لتحقيق ذلك؛ وهو تسليم السلطة لحركات التحرُّر الحقيقية، مثل الحركة الشعبية لتحرير أنجولا، وجبهة تحرير موزمبيق.

سرعان ما تفاقمت الانقسامات لسببٍ آخر أيضًا. خاضت البرتغال عمليةً من التصنيع الواسع في العقد الأخير من الحقبة الفاشية، ولأن رجال الأعمال الكبار أرادوا تفادي حركة العمال، ضمَّ سبينولا وزراءً من الشيوعيين، الذين كانوا يُمثِّلون أكبر حزب سري في ذلك الوقت، لحكومته.

أوصى هؤلاء الشيوعيون العمالَ بالوثوق في سبينولا، وأقرَّ وزير العمل الشيوعي قانونًا جديدًا يحظر الإضرابات العمالية. لكن ذلك لم يؤتِ ثمارًا في توقيف حركة العمال.

الثورة تتجذَّر
بدأ عمال بناء السفن بمدينة ليسناف موجةً من الإضرابات التي اجتاحت البلاد في مطلع صيف 1974. واجه هؤلاء العمال معارضةً من كافة الأحزاب المُشارِكة في الحكومة، إلا أنهم نجحوا في فرض إصلاحاتٍ ضخمة في الأجور وظروف العمل، وفَرَضوا “حملةً تطهير” من المدراء والرؤساء الرجعيين في الصناعة والإعلام.

كان ذلك كثيرًا للغاية على سبينولا وكبار رجال الأعمال واليمين البرتغالي بصورةٍ عامة. حاول سبينولا توقيف الثورة في سبتمبر، بمسيرةٍ على النُسُق الفاشي، لكن التعبئة الجماهيرية للعمال منعت انطلاق المسيرة من الأصل، وأُجبِرَ الجنرال على الاستقالة في نهاية المطاف.

حاوَلَ سبينولا مواجهة حركة العمال مُجدَّدًا؛ هذه المرة بتدشين انقلاب عسكري في مارس 1975. لكن العمال سرعان ما اختلطوا بالجنود المُتجِّهين للاستيلاء على الضواحي المحيطة بلشبونة، وأقنعوهم بأن يرفضوا أوامر ضباطهم الرجعيين.

لم تسفر تحرُّكات اليمين عن عرقلة الثورة في تلك المرحلة، بل دفعتها إلى الأمام. أغلقت نقابات العاملين بالقطاع المصرفي البنوك حتى وافقت الحكومة على تأميم القطاع بأكمله -بالإضافة إلى ما يقرب من 60% من الصناعة البرتغالية. وعلاوة على ذلك، احتلَّ العمال أكثر من 300 مصنع.

فَقَدَ الجنرالات القدامى سيطرتهم على القوات المُسلَّحة، وفي المقابل سَحَبَ الضباط الصغار في حركة القوات المُسلَّحة البساط من تحت أقدامهم. صار هناك اتجاهٌ متنامٍ لدى الجنود لتنظيم أنفسهم سياسيًا، والمشاركة في المظاهرات اليسارية، والاصطفاف إلى جانب العمال في الصراعات الدائرة في مواقع العمل.

الكثير من الاشتراكيين الأجانب، الذين زاروا لشبونة في صيف 1975، شهدوا بأعينهم تجربةً لا تُنسى، إذ كانت تلك مدينةً أغلبية الطبقة العاملة فيها أرادت الاشتراكية، بينما كانت العقبات التقليدية -حيث الشرطة والجيش، وحتى الطبقة الرأسمالية المُنظَّمة جيدًا- في حالةٍ من البعثرة الكاملة.

الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي
لكن عقباتٍ أخرى ظلَّت موجودةً بالفعل. كان الحزبان الرئيسيان داخل الطبقة العاملة آنذاك هما الحزب الشيوعي، والحزب الاشتراكي الذي أُعيد تشكيله حديثًا بزعامة ماريو سواريس.

وَقَفَ الحزب الاشتراكي مع التحرُّكات الشعبية الأولى ضد اليمين، لكن قياداته انتابهم الخوف من مواصلة مسار تطوُّر الثورة، وسرعان ما أخذوا يُهيِّئون أجواءً عدائيةً ضد اليسار. في شمالي البرتغال، أخذوا يُشجِّعون مثيري الشغب اليمينيين الذين حرقوا مكاتب النقابات والأحزاب اليسارية. وفي داخل القوات المُسلَّحة، بدأوا يتآمرون مع جنرالٍ يميني من أجل إطاحة الضباط الصغار الذين أسقطوا الفاشية.

لكن الحزب الاشتراكي لم يكن بمقدوره وحده إنقاذ الرأسمالية البرتغالية، إذ لم يكن له تأييدٌ إلا من أقليةٍ من العمال في المُجمَّعات الصناعية الرئيسية المحيطة بلشبونة وفي النقابات، في حين كان الحزب الذي يُمثِّل أغلبية العمال وقت إسقاط الفاشية هو الحزب الشيوعي. وإذا كان هذا الحزب قد كافَحَ من أجل ثورةٍ اشتراكية أثناء قيادته موجة الإضرابات والاعتصامات التي بدأت مطلع صيف 1974، لكان من المستحيل إيقافه.

بيد أن الحزب الشيوعي قد اتَّخَذَ مسارًا مختلفًا. أدان الحزب موجة الإضرابات، بينما حاوَلَ إرساء هيمنته على الدولة القائمة بالمؤامرات السرية مع بعض ضباط الجيش والساسة الانتهازيين. اعتَقَدَ قادة الحزب الشيوعي أن هذا المسعى سيُمكِّنهم من تأسيس مجتمعٍ على غرار الكتلة الشرقية التابعة للاتحاد السوفييتي.

وصل الحزب إلى ذروة نجاحاته في صيف 1975، حين شكَّل ضابطٌ متعاطفٌ مع الحزب، وهو فاسكو جونكالفيس، الحكومة. لكن هذه الحكومة أثبتت أنها غير قادرةٍ على حكم البلاد، إذ رفضت حينها إطلاق الطاقة الثورية للعمال، وعجزت عن التعاطي مع موجةٍ من التخريب والاضطرابات في المناطق الريفية في الشمال. بعد وقتٍ قصيرٍ في السلطة، تنازَلَ جونكالفيس بهدوءٍ عن السلطة لأولئك الواقفين على يمينه.

تحوَّلَت أقليةٌ مهمة من العمال إلى الأفكار الثورية، وتنامَت الأحزاب الثورية الصغيرة بصورةٍ هائلة حتى صار لهم تأثيرٌ كبير في الساحة السياسية.

ثورةٌ مضادة من اليمين وشللٌ تام من اليسار
عانت فصائل اليسار الثوري من خللٍ جسيم، فرغم أن أفكارهم تمحورت بالفعل حول الطبقة العاملة، كانت هذه الفصائل تتعاطى مع الساحة السياسية وكأن ثمة قوةً اجتماعية لابد أن تأتي لاستبدال الطبقة العاملة. صبوا الكثير من تركيزهم على مغازلة ضباط الجيش اليساريين، تمامًا كما عملوا بكل جهدهم لكسب عمال المصانع بعيدًا عن الحزب الشيوعي (1).

كان الوقت ينفذ من أيدي الضباط اليساريين. كانوا بالفعل يهيمنون على السياسة البرتغالية حين كانت الطبقة الحاكمة القديمة في حالةٍ من التشرذم والخمود، لكن بمجرد أن بدأت هذه الطبقة في حشد قواها -بمساعداتٍ كبيرةٍ من الحكومة الغربية ومن الحزب الاشتراكي- صار هؤلاء الضباط أضعف وأكثر عجزًا.

بحلول نوفمبر 1975، لم يكن هناك سوى خيارين لا ثالث لهما: إما أن تقبض الطبقة العاملة على مقاليد الأمور بين أيديها، وإما أن تعود الطبقة الحاكمة القديمة إلى سدة الحكم من جديد.

سدَّد اليمين ضربةً جديدة في 25 نوفمبر، وكانت ذريعتهم هي احتلال مجموعةٍ من الجنود اليساريين محطات التلفزيون آنذاك. حرَّكَ الضباط اليمينيين قواتهم سريعًا لتجريد الجنود اليساريين من أسلحتهم في لشبونة ولاستعادة السلطة إلى الجنرالات القدامى. لم يواجهوا إلا القليل من المقاومة، إذ لم يتطلَّب الأمر سوى ألفيّ جندي لمحاصرة ونزع سلاح أكبر القوات العسكرية الواقعة تحت تأثير اليسار في لشبونة.

يكمن السبب وراء ذلك في أن اليسار وَضَعَ ثقته الرئيسية في مناورات ضباط الجيش لا في الحركة الجماهيرية للعمال (2). رَفَضَ الحزب الشيوعي، الذي كان في اليوم السابق فقط قد نَظَمَ إضرابًا عامًا ناجحًا لمدة ساعتين، أن يتدخَّل ضد تقدُّم اليمين. يبدو أن الحزب اعتقد أن بإمكانه شقَّ طريقه إلى السلطة بصرف النظر عمَّا كان يحدث.

لم يكن الضباط اليساريون مستعدين لشنِّ ما كان يمكن أن يكون مواجهةً عسكريةً ضد زملائهم اليمينيين، وبالتالي لم يتخذوا أي خطوة، فيما لم يكن لدى اليسار الثوري لا الإرادة ولا النفوذ الكافي لدفع القواعد العمالية في وجه معارضة الحزب الشيوعي، أو جنود الجيش في وجه معارضة الضباط اليساريين. أما اليمين، فقد كان حريصًا على عدم استخدام هيمنته الجديدة على الجيش والشرطة لمهاجمة العمال على الفور، فلقد أدرك أن ذلك قد يشعل الثورة من جديد.

خلال السنوات اللاحقة، استعادت الطبقات المالكة المزيد والمزيد من المكتسبات التي كانت ثورة عاميّ 1974 و1975 قد انتزعتها. ووجود الحزب الاشتراكي على رأس السلطة خلال الكثير من تلك السنوات لم يكن يُشكِّل أيَّ فارق.

بعد عقدٍ كامل من هذه الثورة، انخفضت الأجور بنسبة 10% عمَّا كانت عليه في 1973 -العام الأخير لحكم الفاشية. صار على مئات الآلاف من العمال أن ينتظروا لستة أشهر أو أكثر لتقاضي أجورهم. وأضحت لشبونة مُجدَّدًا واحدةً من المدن التي تُذكَر بالأعداد الكبيرة من المُتسوِّلين في شوارعها.

أبرَزَت البرتغال في 1974 و1975 أمارةً واعدة على مستقبلٍ من نوعٍ مختلف تمامًا. لم يتجسَّد هذا المستقبل في الواقع، لأنه لم يكن ثمة حزبٌ اشتراكيٌّ ثوري بمقدوره أن يتحدَّى قبضة الحزبين الاشتراكي والشيوعي. كانت تلك مأساةً جديرةً بالتعلُّم منها.

هوامش:
(1) على سبيل المثال، كانت “حركة إعادة تنظيم حزب البروليتاريا”، أكبر الحركات الماوية في ذلك الوقت، تعتبِر أعضاء الحزب الشيوعي “فاشيين اجتماعيين”. وحين هبَّ الرجعيون يحرقون مكاتب الحزب الشيوعي في صيف 1975، وصفت الحركة ذلك بـ”انتفاضة فلاحية ضد الفاشية الاجتماعية”.
(المترجم).

(2) الطبقة العاملة البرتغالية في عام 1974 شكَّلَت 40% من السكان.
(المترجم).

– هذا المقال مترجم عن موقع العامل الاشتراكي الأمريكي