بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

إسبانيا 1936: من الحرب إلى الثورة

الثورة الإسبانية

في 17 يوليو 1936 انقلبت مجموعةٌ من ضباط الجيش على الحكومة الإسبانية. كان لزامًا على العمال أن يقرِّروا كيف سيكون رد فعلهم حيال ذلك. كانت تلك الأحداث بمثابة لحظة سياسية مفصلية في ثلاثينيات القرن الماضي ودرسًا مهمًا للاشتراكيين حتى اليوم.

بالنسبة للثوريين، لا تزال أصداء الثورة الإسبانية تتردَّد بعد عقود من الزمان. إذ تقدِّم الثورة نموذجًا مُلهِمًا للبطولة والإبداع والتنظيم الذاتي للعمال. كان كلُّ شيءٍ ممكنًا. حين وصل الروائي الإنجليزي الشهير جورج أورويل إلى برشلونة في ديسمبر 1936، كتب: “كانت تلك هي المرة الأولى التي أجد نفسي فيها في بلدةٍ حيث الطبقة العاملة في موقع القيادة. سيطر العمال فعليًا على كلِّ مبنى من أيِّ حجم وغطوها بالأعلام الحمراء أو الأعلام الحمراء والسوداء للأناركيين، رُسِمَ شعار المنجل والمطرقة على كلِّ حائطٍ مصحوبًا بالأحرف الأولى للأحزاب الثورية”.

عادةً ما تُصوَّر الحرب الأهلية الإسبانية على أنها معركةٌ بين الفاشية في جانب والديمقراطية في الجانب الآخر. ولكنها كانت في حقيقة الأمر ثورةً عمالية، وقد تسبَّب سحق تلك الثورة في هزيمةٍ للجمهورية تلتها عقودٌ من الفاشية. ولكن بعد ثمان عقود لا تزال هناك أسئلة ضرورية ولَّدَتها تلك الحركة ولا تزال موضعًا للنقاش: ما هي أفضل الطرق لمحاربة الفاشية؟ وكيف يجب على الثوريين تنظيم أنفسهم في النضال من أجل الاشتراكية؟ وما البرامج التي يتبنوها؟ ومن أفضل الحلفاء؟ وما موقفنا تجاه الدولة؟

ضمت القوى المعادية للفاشية في صفوفها جمهوريين ليبراليين، وقوميين، واشتراكيين ديمقراطيين، وشيوعيين، واشتراكيين ثوريين، وأناركيين، وتنافَسَ كلُّ منهم لتوسيع نفوذه السياسي والأيديولوجي والعسكري. ولكن أي نوع من الديمقراطية كانت الجماهير تناضل من أجله؟ أي نوع من التحالف السياسي كان الأفضل لقيادة الجمهورية؟ وأي نوع من الجيوش كان أكثر فاعلية لخوض تلك الحرب؟

تسبَّب الكساد الكبير الذي تلى سقوط سوق الأوراق المالية الأمريكية في 1929 في حالةٍ من الاستقطاب السياسي. اتجه قطاعٌ كبير من الطبقة العاملة العالمية نحو اليسار، متأثِّرين بنموذج الثورة البلشفية. في المقابل، استماتت الطبقات الحاكمة في الدفاع عن مصالحها واعتمدت في أغلب الأحيان على القمع الوحشي.

من الواضح أن الفاشية كانت في صعودٍ متزايد. في ألمانيا، فشلت الطبقة العاملة الأكثر تنظيمًا في أوروبا في الاختبار الأهم على الإطلاق. فبدلًا من الدعوة إلى وحدة الطبقة العاملة في مواجهة الفاشية، كما جادل الثوري الروسي ليون تروتسكي، اتَّهم الحزب الشيوعي الألماني الاشتراكيين الديمقراطيين بأنهم “فاشيون اجتماعيون” لدعمهم للرأسمالية. انقسمت الطبقة العاملة، وهو الأمر الذي كانت له عواقب وخيمة.

تحالفات
بحلول منتصف الثلاثينيات، ومع قرع طبول الحرب العالمية الثانية، قلبت الأحزاب الشيوعية، بقيادة موسكو، تلك السياسة رأسًا على عقب. فهم الآن يطمحون إلى التحالف مع “الرأسماليين التقدميين” من أجل تكوين جبهة منيعة للتصدي لخطر الغزو الألماني. بذل الزعيم الروسي ستالين قصارى جهده من أجل التحالف مع القوى الرأسمالية الإمبريالية، وخاصةً بريطانيا وفرنسا. تشجَّعَت الأحزاب الشيوعية على الدخول في تحالفات لم تقتصر على الاشتراكيين الديمقراطيين فحسب، بل امتدت لتشمل الأحزاب البرجوازية المناهضة للفاشية، بغرض إظهار أن الشيوعيين يمكن الوثوق في أنهم لا يمثِّلون تهديدًا لرأس المال. بالنسبة للكثيرين، بدت فكرة الجبهة الشعبية منطقيةً إلى حدٍّ كبير، ولكن على أرض الواقع كان الحفاظ على هذا التحالف يعني أن مصالح الطبقة العاملة ستصبح أمرًا ثانويًا.

في عام 1936، كان عمر الجمهورية الإسبانية خمس سنوات فقط، ومنذ تخلي الملك عن الحكم، تأرجحت السلطة بين اليمين واليسار. كانت إسبانيا متأخرة اقتصاديًا -تطورت الرأسمالية الصناعية في بعض المدن الرئيسية فقط- وكانت ركائز الثورة الديمقراطية البرجوازية ضعيفة. نَظَرَ كبار رجال الأعمال والكنيسة والجيش وملاك الأراضي تجاه الحقوق والإصلاحات الاجتماعية التي طالب بها العمال بخوفٍ واحتقار.

بعد عامين حافلين بالقمع، انتُخِبَت حكومة جبهة شعبية في فبراير. كان الحزب الاشتراكي الإصلاحي مُكوِّنًا رئيسيًا في تلك الحكومة. استمد الحزب قاعدته من الاتحاد النقابي الذي أسَّسَه، الاتحاد العام للعمال، والذي ضمَّ في عضويته قرابة المليون ونصف المليون عامل. عُرِفَ أحد قادة الاتحاد، لارجو كاباليرو، بـ”لينين الإسباني”.

لا يخفي هذا الأمر حقيقة أن الجبهة الشعبية قد هيمنت عليها أحزاب الطبقة الوسطى الجمهورية. أقرَّت الحكومات الجمهورية السابقة بعض الإصلاحات الوسطية على امتلاك الأراضي، وقدَّمَت بعض الامتيازات تجاه طموحات الاستقلال لإقليم كاتالونيا -لكن ليس لإقليم الباسك. كان هدفهم في نهاية المطاف هو توطيد الرأسمالية الإسبانية.

على الرغم من ذلك، احتفل العمال بانتصار الجبهة الشعبية، ورفعوا على الفور مطالبهم للإصلاح ونظَّموا الإضرابات. وبعد أشهرٍ من التخطيط، أخذت قطاعاتٌ من الطبقة الحاكمة زمام الحسم. حين تمرَّد الجيش، توقع قادته نصرًا سريعًا ضد خصمٍ ضعيف. تمرَّدَت الحاميات في أغلب المدن الرئيسية، وأعلن قادة الفاشية أن مهمتهم الأولى هي قمع الحركة العمالية وهزيمتها، وهدَّدوا بإعدام المضربين. كانت أساليبهم وحشية، إذ استخدموا الاغتصاب كسلاحٍ في الحرب.

كان الرجل الذي جاء لقيادة الفاشيين هو الجنرال فرانشيسكو فرانكو، الذي كان قائدًا للجيش الإسباني في إفريقيا الذي تمركز في المغرب. خلال الأيام الأولى من الحرب، ومع حالة الشلل التي أصابت الحكومة، أقنع فرانكو كلًّا من هتلر وموسوليني بمنحه طائرات لنقل قواته جوًا إلى إسبانيا.

سيطرة
ما لم يتوقَّعه فرانكو كان اندلاع انتفاضة ثورية عفوية ضد الفاشية. حين رفضت الحكومة توزيع الأسلحة، دعت النقابات للإضراب العام، وهاجم العمال الثكنات العسكرية من أجل تسليح أنفسهم. شكَّل العمال لجانًا وميليشياتٍ مُناهِضة للفاشية، وتمكَّنوا من التصدي للجيش وسيطروا على العديد من المدن الرئيسية.

استولت وحدات ميليشيات المتطوِّعين، التي تشكَّلَت على عجالة، على الشاحنات، وتركت المدن لمنع تقدُّم قوات فرانكو. قُدِّرَت أعداد المقاتلين في الميليشيات، في أوج قوتها، بـ 25 ألفًا على جبهة الأراجون، بينما قُدِّر إجمالي المقاتلين بـ 150 ألف مقاتل.

وفي خضم الفراغ السياسي، نظَّمت اللجان العمالية في الأحياء الرعاية الصحية، وإمدادات الغذاء، ووسائل المواصلات، والأمن العام. وفي المناطق التي سيطروا عليها، استحوذ العمال على المصانع وغالبية الأراضي. في برشلونة على سبيل المثال، صودِرَ ما يقرب من 80% من الصناعات وأُديرَت جماعيًا، وفي شرق أراجون تكوَّنَت أكثر من 400 تعاونية زراعية.

في دولة هيمنت عليها الكنيسة الكاثوليكية القمعية في السابق، حصلت النساء على حرياتٍ جديدة. في كثيرٍ من المناطق، كانت تلك هي المرة الأولى التي تدخل فيها النساء إلى مواقع العمل، على الرغم من حصولهن على مقابل أقل من نظرائهن من الرجال. أصبحت النساء تشاركن بنشاطٍ في السياسة عن طريق الانضمام للتعاونيات في مواقع العمل، واللجان المعادية للفاشية، والميليشيات المسلحة. قاتلت النساء جنبًا إلى جنب مع رفاقهن من الرجال على الجبهة. شملت بعض المكاسب الأخرى تنظيم النسل والتقنين المحدود للإجهاض، وعقد الزواج في مقرات قيادة الميليشيات، وحصول الأزواج المتشاركون في السكن على الحقوق القانونية.

كانت المنظمة الرئيسية التي تدفع الثورة للأمام هي الاتحاد الوطني للعمال (CNT). كان ذلك الاتحاد النقابي-الأناركي متجذِّرًا بعمقٍ في صفوف الطبقة العاملة منذ القرن التاسع عشر، خاصةً في برشلونة حيث سادت السياسات اليسارية. وحين اندلعت الحرب، بلغ عدد أعضاء الاتحاد قرابة المليون.

رفض الأناركيون بثبات الأحزاب السياسية والانتخابات. بالنسبة لهم، فإن الثورة تعني السيطرة على الشوارع والمصانع والأراضي، وليس المؤسسات السياسية. غير أنهم دعموا حكومة الجبهة الشعبية، وقد عُيِّنَ أحد الأناركيين وزيرًا للصحة والرعاية في نوفمبر اللاحق. كان لهذا الأمر تأثيرٌ أربك جمهور الأعضاء بين اتخاذ طريق الثورة أم الاستقرار.

في برشلونة، قابل لويس كومبانيز، رئيس الحكومة الإقليمية في كاتالونيا، قادة الاتحاد الوطني للعمال بعد أقل من أسبوع من محاولة الانقلاب العسكري. أخبرهم كومبانيز: “اليوم أنتم أسياد المدينة وأسياد كاتالونيا، لقد انتصرتم والآن كلُّ شيء يخضع لسلطتكم؛ إذا لم تحتاجوني أو ترغبون في رئاستي لكاتالونيا، أخبروني الآن”.

جدالات
تناقشت اللجنة الإقليمية للاتحاد الوطني للعمال إذا ما كان يجب عليهم السيطرة على السلطة. صوتوا بالإجماع -باستثناء صوتٍ واحد- ضد الأمر. كانت حجتهم أن ذلك قد يعني استبدال أحد أشكال الديكتاتورية بشكلٍ آخر، كما لم يكونوا مُجهَّزين لتولِّي سلطاتٍ ديكتاتورية. كان حكم تروتسكي هو إدانة هذا الموقف، إذ كتب:

“يتضمَّن هذا التبرير الذاتي إدانةً مؤكَّدةً للأناركية كعقيدةٍ مُناهِضةٍ للثورة. إن الإعراض عن الظفر بالسلطة يُعَدُّ بمثابة التسليم طواعيةً بتركها لمن يجيدون استغلالها، وهم بالطبع المستغلون. يتألَّف جوهر أي ثورة من وضع طبقة جديدة في السلطة، ما يمكِّنها من تحديد برنامجها الخاص في الحياة. من المستحيل شنُّ الحرب ورفض النصر”.

الجماعة الثورية المهمة الأخرى كانت تتمثَّل في حزب العمال للتوحيد الماركسي (POUM)، وهو حزب اشتراكي ثوري صغير وكان حديث التأسيس آنذاك، بقيادة أندريو نين، وهو معلم سابق وصحفي وعضو بالحزب الشيوعي، وقد طُرِدَ من روسيا لكونه عضوًا في المعارضة اليسارية ضد ستالين.

كان نين معاديًا لستالين، وكان له صلات مع تروتسكي، لكن تروتسكي انتقد حزب العمال للتوحيد الماركسي بشدة من منفاه في المكسيك، خاصةً بسبب توقيع اتفاقية الجبهة الشعبية في بدايات عام 1936 ودخول الحزب في الحكومة الكتالونية في سبتمبر اللاحق. جادلوا بأنهم يسعون نحو بناء سلطة ثورية بديلة من لجان العمال والفلاحين والمقاتلين، وجيش أحمر على غرار الجيش الذي قاده تروتسكي دفاعًا عن الثورة الروسية من 1918 إلى 1921.

لكن حزب العمال للتوحيد الماركسي، الذي ضمَّ من 3 إلى 5 آلاف مناضل، كان أصغر حجمًا من أن يتمكَّن من فرض نفوذه، وانتهى به الحال إلى تذيُّل الاتحاد الوطني للعمال بسبب الخوف من الانعزال. على الرغم من أن نين هو من كَتَبَ البرنامج الاقتصادي للحكومة الكتالونية، كان يدعم الدولة الجمهورية بشكلٍ أساسي بدلًا من النضال من أجل بديلٍ ثوري.

ظلَّ الحزب الشيوعي صغيرًا نسبيًا بعدد يتراوح من 20 إلى 30 ألف عضو مع اندلاع الحرب، بسبب سياساتهم العصبوية بشكل أساسي. جادل الحزب الشيوعي آنذاك بأن الثورة كانت إلهاءً وأن سياسة الجبهة الشعبية وحدها هي القادرة على الاستمرار. قد تتسبَّب الخطوات الجذرية في نفور الوسطيين والطبقة الوسطى وأصحاب الأعمال الذين كان الحزب الشيوعي يحاول يائسًا من أجل إثنائهم عن الانضمام للجانب الفاشي. كتب أحد مسؤولو الحزب الشيوعي أن التحوُّل نحو الاشتراكية والعمل التعاوني “لم يكن فقط غير مرغوب فيه ولكن غير مسموح به أيضًا”.

من أجل كسر شوكة الثورة، حاولت الحكومة الجمهورية مركزة القوات المعادية للفاشية. في سبتمبر وافق الأناركيون على حلِّ لجان الميليشيات المعادية للفاشية التي هيمنوا عليها، ومركزوا الثورة من خلال الحكومة الكتالونية التي انضموا إليها كوزراء. وفي نوفمبر ساروا باتجاه الانضمام إلى الحكومة الإسبانية الجمهورية.

السلاح
وقَّعَت كلٌّ من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والبرتغال وروسيا في أغسطس اتفاقيةً بعدم التدخل بدعمٍ من الولايات المتحدة. اتفقوا على ألا يمدوا أيًّا من الطرفين بالسلاح أو الأفراد. وبالرغم من ذلك، نقضت كلٌّ من إيطاليا وألمانيا الاتفاقية على الفور وشحنوا الأسلحة والطائرات وآلاف الجنود لتدعيم الجانب الفاشي. في الوقت نفسه كانت الديمقراطيات الغربية تحرم الجمهورية من الأسلحة التي كانت في نقصٍ شديد.

كانت روسيا هي الدولة الوحيدة التي زوَّدت الجمهورية بالسلاح، باستخدام احتياطي الجمهورية من الذهب كضمانة. ومن خلال التحكم في توزيع تلك الأسلحة وسَّع الحزب الشيوعي نفوذه بدرجةٍ كبيرة.

كتب أورويل أن المشاة “تسلَّحوا ببنادق بالية عادةً ما كانت تتلف بعد إطلاق 5 رصاصات؛ وتقريبًا بندقية آلية لكلِّ 50 رجلًا ومسدس واحد أو مسدس دوَّار لكل 30 رجلًا. تلك الأسلحة ذات الأهمية البالغة في حرب الخنادق لم توفِّرها الحكومة … إن حكومةً ترسل صبيةً بعمر الخامسة عشر إلى الجبهة مسلَّحين ببنادق عمرها 40 عامًا، بينما تترك أقوى رجالها وأحدث أسلحتها في المؤخرة، هي حكومةٌ تخشى بكلِّ وضوح من الثورة أكثر من خوفها من الفاشيين”.

في موسكو، بحلول عام 1937 كان كلُّ البلاشفة الباقين يتم التخلص منهم بأوامر من ستالين، وأي معارضين، وخاصة التروتسكيين، كانوا يوصمون بالفاشية. في إسبانيا حدث الأمر ذاته في أحداث مايو في برشلونة، حين سعى الجمهوريون، بقيادة الشيوعيين، نحو نزع السلاح من الميليشيات بغرض إضعاف الثورة وتعزيز سلطتهم. في ذلك الوقت كان أكثر من 80% من برشلونة في قبضة الأناركيين وحزب العمال للتوحيد الماركسي.

بعد ستة أيام من القتال في الشوارع، أقنع الاتحاد الوطني للعمال أعضاءه بنزع سلاحهم خشية إضعاف الوحدة ضد الفاشية. حُظر “حزب العمال للتوحيد الماركسي التروتسكي-الفاشي” وأُلقِيَ القبض على نين مع مجموعةٍ من رفاقه، وعُذِّبوا ثم قُتِلوا. وزُجَّ بالمئات في السجون. قُضِيَ على العديد من مكاسب الثورة. عادت الأملاك الجماعية والمصانع التي أدارها العمال إلى مُلَّاكها الأفراد، أو استولت عليها الدولة.

هل كان النصر ممكنًا لمناهضي الفاشية؟ أم أن الحرب الأهلية الإسبانية كانت حركةً بطولية ولكن حُكِمَ عليها بالفشل؟ اعتمدت النتيجة على شكل الحرب التي استخدموها. هل كانت حربًا أرثوذكسية أم حربًا ثورية؟

كتب تروتسكي وقتذاك: “نشبت الحرب الأهلية، كما يعلم الجميع، ليس فقط بالأسلحة العسكرية بل بالأسلحة السياسية أيضًا … ولتحقيق النصر فإنه من الضروري فقط اعتماد برنامج الثورة”.

سيطر فرانكو على نصف الأراضي تقريبًا. كان من الممكن أن تشمل الحرب الثورية برنامجًا لإعادة توزيع الأراضي من أجل كسب الفلاحين. وبالمثل، كان التعهُّد بالاستقلال لكتالونيا وإقليم الباسك يمكن أن يضمن الظفر بتأييد الجماهير المتردِّدة في تلك المناطق.

وعلاوة على ذلك، كان منح الاستقلال للمغرب التي يستغلها فرانكو كقاعدةٍ لعملياته خيارًا آخر. استُبعِدَ هذا الأمر خوفًا من إثارة مخاوف القوى الإمبريالية، وخاصة فرنسا، التي تحتل الجزائر المجاورة.

كان حصار مدريد هو الوقت الوحيد الذي انتهج فيه الشيوعيون الأساليب الثورية مثل التعبئة الشعبية والتكتيكات المرنة مثل حرب العصابات. نظَّمَت لجان الأحياء الوجبات الجماعية، وغسيل الملابس والحضانات. استُخدمت الدعايا الثورية أيضًا، ورُفِعَت شعاراتٌ مثل “لن يمروا”.

التهديد
كانت هناك فرص أخرى مفقودة. وضع البحارة البحرية سريعًا تحت السيطرة الجمهورية، ولكن الحكومة رفضت نشر البحرية خوفًا من اعتبار الحكومات الغربية هذا الأمر تهديدًا لمصالحها في البحر المتوسط.

تسبَّبت الحرب، التي استمرت ثلاثة أعوام، في إعدام ما يقرب 100 ألف على يد الفاشيين، بالإضافة إلى القمع الذي تلا الحرب وحصد عشرات الآلاف من الأرواح. مات قرابة 200 ألف شخص من الجوع والمرض في السنوات الأولى التي تلت الحرب. وفرَّ قرابة نصف مليون لاجئ إلى فرنسا حيث عاشوا في ظروفٍ قاسية. تلا الحرب الأهلية 36 عامًا من الحكم الفاشي، واستعادت الكنيسة سلطتها القديمة وأُعيدَت النساء إلى المنازل وسُلبن حريتهن التي انتزعنها.

تسبَّب رفض الحكومة الجمهورية لاستخدام كافة الخيارات المتاحة أمامها في هزيمة قاسية للطبقة العاملة، بالإضافة إلى الخطوات المضادة للثورة التي اتخذها الحزب الشيوعي، والقصور الأيديولوجي لدى الأناركيين، والتأثير المحدود للاشتراكيين الثوريين.

منذ عام 15 مايو 2011 تجدِّد الحركة المناهضة للتقشف في إسبانيا الأمل في تغيير المجتمع بين أوساط الطبقة العاملة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى التحالف الراديكالي الذي دخل فيه حزب بوديموس في الانتخابات. ولكننا نبقى مدينين جميعًا إلى أبطال وبطلات الثورة الإسبانية الذين تعلَّمنا منهم الكثير من الدروس من خلال نضالهم وتضحياتهم.

– المقال بقلم بيتر روبنسون – مجلة سوشياليست ريفيو البريطانية