بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

من 1905 إلى 1917: كيف تحوَّلت الثورة الروسية من الهزيمة إلى الانتصار؟

الثورة الروسية

في أكتوبر من كلِّ عام، يحتفي الاشتراكيون في العالم أجمع بذكرى انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا، أكتوبر 1917. تُعَدُّ الثورة الروسية مصدر إلهامٍ كبير ينهل منه الثوريون في كلِّ مكان. لكن هذا الاحتفاء العالمي غالبًا ما يختزل الثورة الروسية في مشهد الانتصار النهائي في مثل هذا الشهر من 103 عام، وبينما قد يملأ هذا المشهد البعض بالأمل والتفاؤل، فإنه يُولِّد في الأغلب انطباعًا بأن الثورة الروسية استثناءٌ لن يتكرَّر ولو جزءٌ يسيرٌ من منجزاته، بينما الأهم هو أن السنوات الطويلة التي سبقت انتصار الثورة الاشتراكية تقدِّم دروسًا وخبراتٍ غزيرة للثوريين حتى في أصعب لحظات الركود الجماهيري.

لقد توَّجَت الثورة الاشتراكية نضال الجماهير الروسية على مدار سنوات بما حقَّقَته من إنجازاتٍ لم ير العالم مثلها في تاريخه، حيث الإدارة التشاركية للاقتصاد وفقًا لاحتياجات المجتمع، والديمقراطية الاجتماعية من أسفل من خلال مجالس العمال والفلاحين المُنتَخَبة، وإنهاء الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، وإقرار حقوق المواطنة، وحقوق النساء، والقضاء على الاضطهاد الواقع على الأقليات القومية والدينية والجنسية، إلخ. لكنها لم تكن على الإطلاق سلسلةً متصاعدةً بشكلٍ ثابت من النضالات إلى أن بلغت ذروتها في انتصار أكتوبر. والحزب البلشفي، الذي قاد هذه الثورة إلى انتصارها، لم يكن هو نفسه في تصاعدٍ ونموٍ متواصلين حتى إحراز الانتصار. في الحقيقة، خاضت الثورة الروسية سنواتٍ من الأزمات والتراجع والقمع والتحديات الصعبة والموجات المتتالية من الصعود والهبوط وإعادة البناء مرةً تلو الأخرى.

لم تكن الثورة الروسية وليدة العام 1917، بل لقد سبقتها ثورة العام 1905، التي مُنِيَت بهزيمةٍ ساحقة دَفَعَت الجماهير إلى الوراء. كانت الهزيمة بالطبع قاسية ككلِّ هزيمةٍ تُنزِلها الثورات المضادة على الثورات، بكلِّ ما تحمله من شراسةٍ وانتقام وبطش. نحاول في هذه المقالة استخلاص بعض الدروس التي قد تكون مفيدةً للثوريين في مراحل هيمنة الرجعية والانسحاب شبه الكامل للنضال الجماهيري، وهو ما يمكننا البحث عنه، ليس في المشهد النهائي للانتصار، بل من خلال النظر في السنوات المريرة الفاصلة بين الركود الجماهيري والتحلُّل السياسي الكامل في أعقاب هزيمة 1905 والانتصار المُبهِر في 1917، بكلِّ ما تحمله هذه الفترة من نضالٍ طويلٍ وشاق في أجواءٍ من الإحباط والموات.

نحاول أيضًا في المقالة إبراز الدور الذي يمكن للثوريين الاضطلاع به حتى في أوقات التراجع الحادة والهزائم المتتابعة تمهيدًا لمعارك المستقبل، من خلال النظر إلى خبرة السنوات السابقة على الثورة الروسية -تلك السنوات التي لا يُسلَّط عليها الضوء عادةً عند الحديث عن الثورة الروسية. فلم تكن هذه الثورة لتنتصر في المقام الأول لولا ما راكمته من خبراتٍ سواء في الصعود الجماهيري السابق أو في سلسلة الهزائم الطويلة والمريرة التي تعرَّضَت لها. أو كما قالت المناضلة الاشتراكية الألمانية روزا لكسمبورج، فإن “الثورة هي شكل الحرب الوحيد الذي لا يأتي فيه النصر إلا عبر سلسلةٍ من الهزائم” (1).

هزيمة ساحقة
قامت الثورة الروسية الأولى في العام 1905 على خلفية أزمةٍ عميقة تفاقمت بفعل حرب روسيا ضد اليابان في 1904. كان المجتمع الروسي يرزح تحت الحكم القيصري وسلطة الإقطاعيين والطبقة الرأسمالية الحديثة نسبيًا آنذاك والتي ارتبطت مصالحها بالإقطاعيين والقيصرية من ناحية، ورأس المال الأجنبي من ناحيةٍ أخرى. وكان المجتمع الروسي وقتئذٍ يتألَّف في أغلبيته الساحقة من الفلاحين، بينما شكَّلَ العمال أقليةً محدودة -لكن شديدة التكثيف في تجمُّعاتٍ صناعية فاق بعضها ما كان في بلدان أوروبا ذات الرأسمالية الأقدم والأكثر رسوخًا.

قامت الثورة الروسية الأولى في العام 1905 احتجاجًا ضد الاستغلال والحرمان والاستبداد. وجاءت هذه الثورة في سياق نضالاتٍ عمالية وفلاحية كانت آخذة في التطوُّر منذ أعوامٍ عديدة. في 9 يناير 1905، خَرَجَ آلاف العمال في سان بطرسبورج -العاصمة آنذاك- في مسيرةٍ مهيبة، بقيادة قسٍّ يُدعى جابون، إلى قصر الشتاء، حيث يمكث القيصر. تدفَّقوا إلى هناك حاملين أيقوناتٍ وصورٍ للقيصر، مُتوسِّلين إياه أن ينصفهم بأجورٍ عادلة، وحرياتٍ مدنية، وأن يمنح الفلاحين أرضًا، ويهب الشعب بأسره جمعيةً تأسيسيةً بالاقتراع العام المتساوي. حملوا عريضةً بمطالبهم يستهلونها بـ:

“نحن العمال، من سكان بطرسبورج، جئنا إليك. نحن عبيدٌ بؤساء مستذلُّون نرزح تحت نير الاستبداد والتعسُّف. وحين نفد صبرنا، توقَّفنا عن العمل ورَجَونا أسيادنا أن يعطونا فقط ما ليست الحياة بدون سوى عذابٍ بعذاب … يا صاحب الجلالة، لا تتمنَّع عن مساعدة شعبك” (2).

كانت هذه هي البداية المتواضعة للثورة الروسية التي سرعان ما قَفَزَت لتصبح إحدى أكثر الثورات إلهامًا في التاريخ. كان ذلك هو ما أُطلِقَ عليه “يوم الأحد الدامي”، إذ ما كان من القيصر إلا أن أمَرَ الجيش بإطلاق النار على الجمهور المُحتشِد ليسقط أكثر من ألف قتيل وألفيّ جريح. انطلقت الحركة على نطاقٍ واسع مدفوعةً بغضبٍ عارم من هذه المذبحة، وخلال أشهرٍ معدودة من الثورة انتقل العمال على الأخص إلى مستوى آخر تمامًا من الوعي والتنظيم، وتطوَّر النضال إلى إضرابٍ جماهيري في أكتوبر وانتفاضة شاملة في ديسمبر من العام نفسه في موسكو. كان أروع نماذج التنظيم الجماهيري هو سوفييت (مجلس) بطرسبورج، الذي تشكَّل من مندوبين مُنتَخبين من المصانع والأحياء كأداةٍ ديمقراطية لتوحيد الطبقة العاملة في الثورة. لكن رغم ذلك، لم تكن قدرة الطبقة العاملة على التنظيم قد تطوَّرَت إلى حدِّ انتزاع النصر، ولم يكن حزبها الثوري أيضًا قد تطوَّر بعد إلى الدرجة التي يقودها إلى السلطة. كان لا يزال على الطبقة العاملة وثورييها أن يتعلَّموا الكثير من الدروس بالطريقة الصعبة تحت سيف القيصرية وسوطها.

بدأت هزيمة الثورة في العام 1907، الذي كان عام الانتقام بالنسبة للقيصر، حين أصبحت الكلمة في الساحة السياسية للمشانق والمحاكم العرفية. وخلال فترة ديكتاتورية ستوليبين، رئيس وزراء القيصر من يوليو 1906 إلى سبتمبر 1911، صدر 5 آلاف حكم بالإعدام، وأُعدِمَ بالفعل 3500 شخص، وقُدِّرَ ذلك على الأقل بثلاثة أضعاف من أُعدِموا خلال فترة الحركة الجماهيرية (باستثناء الذين قُتِلوا رميًا بالرصاص دون محاكمة بعد قمع انتفاضة ديسمبر) (3).

وعلاوة على الإعدامات والتصفيات دون محاكمة، كانت هناك آلاف الحالات من الاعتقالات والنفي إلى سيبيريا، والمئات من الثوريين الذين هاجروا إلى أوروبا إفلاتًا من القمع في محاولةٍ من بعضهم لاستكمال المهمات الثورية من الخارج، فيما استمرَّت الشرطة السرية القيصرية في ملاحقتهم حتى في العواصم الأوروبية.

انعَكَسَ القمع العنيف بالسلب على الحركة الجماهيرية، وتجلَّت الهزيمة في وسط الطبقة العاملة في حالةٍ من الانحطاط الحاد في المعنويات، وتحلَّلَت الحركة العمالية بشكلٍ كامل في غضون سنوات معدودة. لعلَّ تدهور أعداد المشاركين في الإضرابات العمالية لهو مؤشِّرٌ ذو دلالةٍ على ذلك. في ذروة الثورة في العام 1905، شارك في الإضرابات العمالية (التي دمجت المطالب الاقتصادية والسياسية معًا) 2 مليون و863 ألف عامل، وانخَفَضَ العدد إلى أقل من النصف في العام 1906 الذي شارك فيه مليون و108 ألف عامل في الإضرابات، ليستمر عدد المشاركين في التدهور إلى 740 ألف في العام 1907، ثم ينهار في العام 1909 إلى 64 ألفًا، ثم فقط 47 ألفًا في العام 1910 (4). كان الحال هو نفسه في الريف، لكن التدهور في الحركة كان أسرع كثيرًا مِمَّا في المدن. في صيف 1905، امتدت التحرُّكات الفلاحية عبر 60 مقاطعة في 27 محافظة، وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة من نفس العام انتفض الفلاحون في 300 مقاطعة في 47 محافظة، لكن القمع العنيف أدَّى إلى تراجع الفلاحين إلى درجة أن تحرُّكاتهم اختفت تمامًا في خلال أشهرٍ معدودة (5).

كان لهذا التراجع الحاد تأثيرٌ كبير على التنظيمات الثورية بشكلٍ عام، فهي بطبيعة الحال تنظيماتٌ تنتعش في الأجواء الثورية وتتدهور مع أفولها. على مدار عامين من الثورة، في يناير 1907، تمكَّنَت فصائل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي من تحقيق نموٍ كبيرٍ في عضويتها، فوَصَلَت عضوية الحزب ككل إلى ما يقرب من 150 ألف عضو (بما يشمل 46 ألف عضو في الحزب البلشفي، و38 ألفًا في حزب المناشفة، وغير ذلك) (6).

انقلب هذا النمو إلى انحسارٍ مُفزِع في صفوف التنظيمات الثورية مع انكسار الحركة الجماهيرية. وَصَلَ الحزب البلشفي إلى وضعٍ مزرٍ، وفي مؤتمر الحزب في ديسمبر 1908، على سبيل المثال، عبَّرَ جوزيف ستالين عن هذه الأزمة، إذ كتب: “يمرُّ حزبنا اليوم بأزمةٍ حادة وعسيرة … من فقدان الحزب عضويته، إلى انكماش وضعف تنظيماته، إلى عزلة المنظمات عن بعضها، إلى غياب العمل الحزبي المُنسَّق والمُنظَّم … تكفي الإشارة إلى أنه كان لدينا في 1907 حوالي 8 آلاف عضو في بطرسبورج وحدها، لكننا اليوم نستطيع بالكاد أن نحشد 300 أو 400 منهم” (7).

الأرقام تعبِّر عن نفسها في تدهور عضوية منظمات أكثر الأحزاب جذريةً في روسيا آنذاك، بل وانهيار تلك المنظمات تمامًا في بعض الحالات. لنأخد مثالًا آخر من منظمة البلاشفة في موسكو. كانت عضوية هذه المنظمة تتجاوز الـ5 آلاف عضو في صيف 1906، وبعد عامين، في صيف 1908، انهار هذا العدد إلى 250 عضو، ثم إلى 150 عضو فقط بعد ستة أشهر (8). الأسوأ من ذلك أن التدهور الحاد في المنظمات الثورية فَتَحَ الباب أمام عملاء الشرطة السرية القيصرية (الأوخرانا) لتصبح هذه المنظمات مرتعًا لهم. بحلول العام 1910، اختفت منظمة موسكو من الوجود تمامًا، وذلك بعدما صار كوكوشكين، العميل السري للأوخرانا، أمينًا عامًا لهذه المنظمة. وبمساعدة عملاء الشرطة داخل الحزب البلشفي، في 1910-1911، اعتُقِلَ كافة أعضاء اللجنة المركزية للحزب المتواجدين داخل روسيا (9). وحتى حينما بدأت الصحيفة البلشفية “البرافدا” في الصدور، في أبريل 1912، كان اثنان من عملاء الشرطة (ميرون تشيرمانوف ورومان مالينوفسكي) عضوين في هيئة تحريرها (10).

لم يكن الحال مختلفًا في الأحزاب الأخرى في معسكر اليسار خلال تلك الفترة. وكان على الثوريين مواجهة هذه الحالة من الانهيار والتفكُّك التام، بل وإعادة البناء، على الصعيدين الجماهيري والتنظيمي، بصبر ودأب، وتحيُّن الظروف المناسبة لتصعيد النضال من جديد شيئًا فشيئًا، ومن داخل حتى أصغر النضالات. والخطوة الأولى في هذا المسار كانت تتمثَّل في تحديد طبيعة المرحلة وتحليلها والعمل وفق ذلك.

“السياسة بدون جماهير سياسةٌ مُغامِرة” (11)
تسبَّبَت الهزيمة الساحقة لثورة 1905 في صدمةٍ هائلة لعشرات الآلاف في صفوف الأحزاب التي شاركت في الثورة، لاسيما الحزب البلشفي الذي قاد لاحقًا ثورة 1917. بالنسبة للبعض، كانت هذه الهزيمة تعني أن ما مِن أملٍ في قيام أيِّ ثورةٍ في المستقبل ولو بعد عقود، أو أنها حتى إذا تكرَّرَت سيكون مصيرها هزيمةً محتومة ونكراء كتلك السابقة. استسلم الكثير من الثوريين؛ إما بالتخلي الكامل عن كلِّ شكلٍ من أشكال النضال وإما بالارتماء في أحضان النظام القيصري وبرلمانه الجديد (مجلس الدوما) معتبرين إياه طريقًا وحيدًا لإدخال بعض الإصلاحات، طالما أن التخلُّص من القيصرية لم يعد بالنسبة لهم مطروحًا ولو على الأمد البعيد. كانت تلك سياسةً “مُغامِرة” لا تستند إلى القطاع المناضل من الجماهير في إستراتيجيتها وما يُبنَى عليها من تكتيكات.

ردُّ فعلٍ آخر ظَهَرَ في أوساط الثوريين في وقت الهزيمة تمثَّلَ في الإنكار التام لأيِّ هزيمة، والإيمان الشكلي، فقط بالشعارات الرنَّانة التي تفتقر إلى أيِّ مضمون، بأن الثورة لا تزال قائمة وفي أوج قوتها، وبالتالي عليهم أن يواصلوا تكتيكاتهم الساعية إلى التصعيد بصرف النظر عن مدى استعداد القطاعات المتقدِّمة من الجماهير للنضال ومدى تعافيها من الهزيمة. كانت تلك هي الأخرى سياسة “مُغامِرة”، لكن على الوجه الآخر من العملة نفسها. انفصلت هذه السياسة بالطبع عن القطاعات التي استهدفتها من الجماهير، تلك القطاعات التي تراجَعَت تحت الضربات الموجِعة للهزيمة، إذ كانت هذه السياسة ترمي تكتيكاتها في مساحة المعارك الكبرى والمباشرة نحو محاولة استيلاء الثورة على السلطة، بدلًا من محاولة الانسحاب وتخفيض سقف هذه التكتيكات لمحاولة توحيد ما يمكن توحيده من الجماهير في معاركهم الصغيرة.

كان من بين هؤلاء أسماءٌ سياسية لامعة آنذاك في السياسة الروسية، مثل بوجدانوف، ولوناتشارسكي، وبوكروفسكي، وروجكوف، وحتى الروائي الشهير مكسيم جوركي. أخذوا يعيدون نفس شعارات التصعيد الثوري، متجاوزين عن التكتيكات الطويلة والشاقة من أجل إحياء النضال شيئًا فشيئًا من جديد بعد الهزائم، قافزين مباشرةً إلى الأهداف النهائية -حيث دعوات الانتفاضة والإضراب العام، إلخ. بعبارةٍ أخرى، كانوا ينطلقون في سياساتهم من الأمنيات، لا من التغيُّرات في توازنات القوى، وهذا هو منبع ما أسماه لينين بـ”التطرُّف اليساري”.

رأينا حالة إنكار هزيمة الثورة هذه على مدار بضع سنواتٍ بعد هزيمة الثورة المصرية 2011-2013، وهي حالةٌ تُكرِّر نفسها تقريبًا في أعقاب كلِّ هزيمةٍ كهذه في التاريخ. كَتَبَ كارل ماركس مُعلِّقًا على ذلك بعد هزيمة الموجة الثورية 1848-1849 في أوروبا:

“يترك القمع العميق للثورة بصمةً قويةً في عقول كلِّ المشاركين فيها … ولذلك، حتى أولئك الناس ذوي الشخصيات الثابتة قد يفقدون عقولهم لفتراتٍ قصيرةٍ أو طويلة، فلا يستطيعون مواكبة الأحداث ولا يتقبَّلون حقيقة أن التاريخ غيَّر مجراه” (12).

إن تحديد التكتيكات الملائمة لفترات الهزيمة والانحسار يبدأ بالاعتراف بهذه الهزيمة أولًا. في هزائم الثورات -كما في هزائم الحروب- لابد على الثوريين أن ينظِّموا عملية الانسحاب مع الجماهير ويخفضوا تكتيكاتهم، ليس تخليًا عن مشروع الثورة، بل من أجل الاستعداد للمستقبل ومحاولة إعادة إحياء النضال تدريجيًا من جديد بمجرد أن تسمح التوازنات الطبقية بذلك؛ بدلًا من المناورات المباشرة على المكشوف لتغيير وجه السلطة السياسية، على الثوريين أن يعيدوا البناء في المعارك الجزئية وأن يحاولوا كسب موطئ قدم تلو الآخر تمهيدًا لمعارك أكبر في المستقبل. فارقٌ أساسيٌّ بين الحروب والثورات هنا هو أنه بينما تعتمد حسابات الحروب على الساعات والأيام، تُحسَب خطوات الثورات بالسنوات والعقود.

ظلَّ لينين حتى وقتٍ متأخِّر يرى هزيمة ديسمبر 1905 هزيمةً مؤقَّتة قد تعطِّل مسار الثورة بعض الوقت، لكن فقط ليندفع في انطلاقٍ أكبر في المستقبل المنظور (وربما تدفعه في ذلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة). فكَتَبَ في يوليو 1906:

“تتزايد إمكانية شنِّ حركةٍ فورية عبر روسيا كلها، وتتزايد احتمالية دمج الانتفاضات الجزية في انتفاضةٍ واحدةٍ شاملة. أما حتمية إضراب سياسي وانتفاضة تقاتل من أجل السلطة، فلها جذورٌ تستشعرها قطاعاتٌ عريضةٌ من الشعب” (13).

وبالتالي رأى أن مهمة الفصيل البلشفي الذي يقوده تتعيَّن في:

“بذل كلِّ جهدٍ لأجل أن يدرك كلُّ شخصٍ أن هذا حتمي … النضال من أجل السلطة؛ النضال من أجل إطاحة الحكومة. الوضع برمته يقف في صالح إتمام هذه المهمة” (14) .

لم تكن النضالات العمالية قد اختفت تمامًا في منتصف العام 1906، لكنها كانت تشهد تدهورًا ملحوظًا عن العام السابق، بل وقد شهدت هذه النضالات المزيد من التدهور بالفعل في الأشهر التالية. الإضرابات العمالية، على سبيل المثال، لم تتعدَّ في العام 1906 نسبة 39% مِمَّا كانت عليه في العام 1905. لكن كان لا يزال من المُبكِّر للغاية، بل ومن الانهزامية، أن يُقِر لينين في العام 1906 بهزيمةٍ ممتدة مُنِيَت بها ثورة 1905، فأكثر من مليون عامل شارك في الإضرابات في ذلك العام، من بين طبقةٍ عاملة بالكاد تتجاوز الـ4 مليون عامل، ليس عددًا هيِّنًا على الإطلاق. لكن في الوقت نفسه، كان لينين يبالغ بعض الشيء في إمكانية تحوُّل هذه النضالات، التي كانت تكافح التدهور على خلفية هزيمة انتفاضة ديسمبر 1905، إلى “انتفاضةٍ شاملة” من أجل السلطة.

في ديسمبر 1906، أي بعد ستة أشهر كاملة، بدا من الأوضح أن مجريات النضال تشهد حالةً من التدهور الثابت. وهذا ما دَفَعَ لينين إلى مراجعة موقفه -دون اعتذارات- موضِّحًا لماذا توصَّلَ إلى تقديرٍ كهذا في منتصف العام. كَتَبَ في ديسمبر:

“إن الماركسي هو أول من يرى اقتراب المدِّ الثوري … الماركسي هو أول من يأخذ طريق النضال الثوري المباشر … وآخر من يدير ظهره لهذا الطريق، ويفعل ذلك فقط حينما تنفذ كافة الإمكانيات المُحتَمَلة، حينما ينعدم الأمل في النهوض الثوري خلال فترةٍ قصيرة، حينما تختفي إمكانيات الدعوة للإضراب العام، أو الإعداد للانتفاضة” (15).

لا يمكن أن يقبل الثوري بالهزيمة دون أن يلمس حقائق مادية جاسدة وغير قابلة للشكِّ تدل على هذه الهزيمة. وهكذا كان توقُّع لينين السابق، في منتصف 1906، بإمكانية حشد النضالات في انتفاضةٍ من أجل حوز السلطة، تشبُّثًا بنضالاتٍ جماهيرية لم تكن قد خَمَدَت بعد -رغم المبالغة بعض الشيء في هذا التوقُّع. لكن حين يتبيَّن أن الثورة قد زهقت روحها تمامًا، وحين “ينعدم الأمل في النهوض الثوري خلال فترةٍ قصيرة”، فلابد من تغيير التكتيكات استعدادًا لطريقٍ طويل من إعادة البناء من أجل المستقبل.

الأزمة الاقتصادية والثورة
إحدى القضايا الرئيسية التي أثارت أيضًا نقاشاتٍ بين الثوريين الروس في أعقاب هزيمة ثورة 1905 هو ما إذا كانت أزمةٌ اقتصاديةٌ جديدة قد تمنح النضال دفعةً لتدشين موجة ثورية أخرى وشيكة. في العام 1907، في أثناء تدهور النضالات الثورية في روسيا، انزلق الاقتصاد العالمي نحو أزمةٍ عميقة. في البداية، ضربت الأزمة، التي عُرِفَت باسم “كارثة الجمعة السوداء” أو “الذعر المصرفي”، بورصة نيويورك، وأفضت إلى إفلاس العديد من البنوك والشركات الكبرى، ثم تمدَّدَت عالميًا وابتلعت الكثير من الاقتصادات، بما فيها الاقتصاد الروسي الذي اهتزَّت ركائزه بشدة.

كانت وجهة النظر السائدة لدى الثوريين الروس في الحركة الاشتراكية، بمختلف فصائلهم، هي أن الأزمة ستعتصر العمال وتدفعهم لتكثيف نضالاتهم في المستقبل المنظور، ما قد يطرح فرصةً لإحياء الثورة من جديد. وتمثَّل المنطلق الرئيسي لهذه الفكرة في المقاربة الشديدة للآثار الاقتصادية لهذه الأزمة مع الكوارث الاقتصادية التي خلَّفَتها الحرب الروسية اليابانية 1904، والتي اندلعت على خلفيتها الثورة الأولى. من ناحيةٍ أخرى، كانت إحدى الخبرات التاريخية الأكثر ثراءً لدى الحركة الاشتراكية هي الموجة الجماهيرية العملاقة التي اجتاحت أوروبا في 1848. وُلِدَت هذه الموجة من رحم أزمة 1847 الاقتصادية، بينما وُلِدَت الثورة المضادة من رحم رخاءٍ اقتصادي بدأ في العام 1849 وخَلَقَ انتعاشًا للرأسمالية استمرَّ لأكثر من عقدين. وهذا المسار جَعَلَ من السهل الربط بين الأزمة والثورة من ناحية، والرخاء والثورة المضادة من ناحيةٍ أخرى، في حين لم يتوقَّع أيٌّ من الاقتصاديين الاشتراكيين البارزين في روسيا آنذاك أن تزدهر التجارة والصناعة في ظلِّ الثورة المضادة، وبالتالي كانوا يترقَّبون موجةً جديدةً وشيكة في أعقاب أزمة 1907.

لكن التاريخ لم يسر على هوى الحركة الاشتراكية الروسية. فقد أطالت أزمة 1907 أمد الركود الاقتصادي لثلاث سنوات أخرى، ولم تدفع العمال على الإطلاق لشنِّ نضالٍ جديد، بل بعثرتهم وأضعفتهم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. وتحت الضربات المتتالية لإغلاق المصانع وتفشي البطالة والفقر، عانت الجماهير المُنهَكَة من المزيد من اليأس المرير.

كان الاستثناء الوحيد من بين الاشتراكيين الروس، الذين هيمَنَت عليهم فكرة أن الأزمة تولِّد بالضرورة نضالاتٍ ثورية، هو ليون تروتسكي، الذي أثبتت الأحداث صحة تصوُّره. كَتَبَ تروتسكي في وقتٍ لاحق مستدعيًا تلك الحقبة:

“بعد فترةٍ من المعارك والهزائم الكبرى، قد تؤدي الأزمات الاقتصادية، لا إلى استنهاض طاقة الطبقة العاملة في النضال، بل إلى هيمنة حالة من الإحباط بين صفوفها، بحيث تدمِّر ثقة العمال في قوتهم الجماعية وتقتلهم سياسيًّا” (16).

في المقابل، فإن الشرط الذي استنتجه هو أن:

“فقط نهضة صناعية هي التي تستطيع أن تضخ دماءً جديدة في شرايين الطبقة العاملة، وتعيد لها ثقتها بنفسها، وتجعلها قادرة على النضال مجددًا” (17).

ومع ذلك، ليست هناك علاقة مباشرة أو بسيطة بين الأزمة الاقتصادية والثورة. إنها ليست علاقة أوتوماتيكية يمكن تفسيرها ببضع مبادئ سهلة الحفظ. إنها علاقة جدلية تتوقَّف على السياق الذي تأتي فيه هذه الأزمة؛ إذا كانت في سياق هزيمةٍ فمن الأرجح أنها ستولِّد المزيد من الإحباط واليأس في صفوف الطبقة العاملة (لعلَّنا نتذكَّر هنا أمنيات الصعود الثوري في وجه السيسي في مصر في أعقاب تعويم الجنيه في 2016 رغم الهزيمة المريرة التي جاءت على خلفيتها الأعباء الاقتصادية الجديدة على الجماهير)؛ وإذا جاءت على خلفية تصاعدٍ في النضال وأملٍ في انتزاع بعض الحقوق، ففي الأغلب أنها تدفع للمزيد من التصاعد وتخلق الزخم اللازم للثورة في بعض الحالات. الأمل، وليس اليأس، هو ما يدفع الجماهير للنضال. وبالطبع يتوقَّف الأمر أيضًا على وعي وتنظيم القطاعات الرئيسية من الطبقة العاملة، وكذلك استعدادها لشنِّ النضال.

وفي المقام الأول، تندلع الثورة، كما كَتَبَ لينين، “عندما لا ترغب الطبقات الدنيا في العيش بالطريقة القديمة، ولا تعد الطبقات العليا قادرةً على الحكم بالطريقة القديمة” (18)، أي عندما تكون الطبقات الدنيا على أهبة الاستعداد لتصعيد النضال، وتكون الطبقات العليا في أوج تردُّدها وانقسامها. وقد تضطلع الأزمة بدورٍ مهم في تعميق انقسامات الطبقات العليا ودفع الطبقات الدنيا للنضال، لكن وفق ظروفٍ وسياقاتٍ متغيِّرة. أما اعتبار الفقر المدقع الناجم عن الأزمة شرطًا ضروريًا للثورة الاشتراكية، فما هو إلا تشويه كاريكاتوري للفهم الماركسي لهذه العملية برمتها.

استمرَّت أزمة 1907 في روسيا حتى العام 1910، وأعقبها مباشرةً نهضةٌ صناعية ضخَّت “دماءً جديدة في شرايين الطبقة العاملة”، وجَلَبَت معها إضراباتٌ عمالية، رغم الثورة المضادة الباطشة، حين تمكَّنَت قطاعاتٌ من الطبقة العاملة من التقاط أنفاسها بالفعل في غضون هذه النهضة الصناعية. ثم جاءت أزمة 1914، مع مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى. وعلى خلاف أزمة 1907، التي جاءت في أعقاب الهزيمة، جاءت أزمة 1914 على خلفية حركةٍ عمالية متصاعدة، فوفَّرَت بالفعل الزخم الضروري من أجل اندلاع الثورة في 1917.

الإعداد للمستقبل
نهضت الحركة الجماهيرية، لاسيما العمالية في روسيا، نهوضًا تدريجيًا من تحت أنقاض الهزيمة بدءًا من العام 1911. فقد شهد ذلك العام مشاركة نحو 105 ألف عامل في موجةٍ من الإضرابات (بزيادة نسبتها أكثر من 120% عن العام 1910)، بينما كانت الإضرابات ذات المطالب السياسية محدودة في هذه الموجة، إذ شارك فيها 8 آلاف عامل فقط. وتزامَنَ ذلك مع إضرابٍ طلابي على مستوى البلاد للتنديد بوحشية الشرطة بحقِّ المعتقلين، وقوبِلَ الطلاب بقمعٍ عنيف.

خَلَقَ هذا الإضراب زخمًا كان ضروريًا لاستعادة السياسة في الحركة العمالية، لكن النقطة المفصلية تمثَّلَت في القمع الوحشي الذي تعرَّض له عمال مناجم لينا في أبريل 1912، والذي سَقَطَ على إثره نحو 500 عامل بين قتيلٍ وجريح. انفجرت موجةٌ هائلة من الإضرابات العمالية احتجاجًا على المذبحة، وصَعَدَت خلالها مشاركة العمال في الإضرابات السياسية صعودًا صاروخيًا لتشمل 550 ألف عامل على مدار العام 1912، ثم 502 ألف عامل في 1913، ثم أكثر من مليون في 1914 (19). كانت الحركة الثورية بشكلٍ عام تندفع نحو الثورة، غير أن اندلاع الحرب العالمية الأولى ومشاركة القيصرية الروسية فيها قَطَعَ هذا الطريق مؤقتًا -لكنه لم يغلقه تمامًا. فخلال سنوات الحرب، شارك مليون و56 ألف عامل في الإضرابات الاقتصادية، وحوالي نصف مليون في الإضرابات السياسية (20). وهذا المسار هو ما مهَّدَ الطريق لثورة 1917 لاحقًا.

قبل تصاعد النضال الجماهيري، كان مناضلو الحزب البلشفي، رغم الضعف الشديد الذي حلَّ بالحزب في أعقاب هزيمة الثورة الأولى، ينخرطون بدأبٍ في مُختَلَف المعارك الصغيرة والجزئية التي تخوضها قطاعاتٌ محدودة من الطبقة العاملة، في محاولةٍ لتوحيدها وتنظيمها وتسييسها. كانوا يستغلون أيضًا كلَّ فرصةٍ لإعادة البناء وسط الجماهير، وجاءت مشاركاتهم في الانتخابات البرلمانية والنقابية، وفق شروطٍ جائرة (لكن لا تتضمَّن على أي حال المشاركة على قوائم انتخابية بالتنسيق مع الأمن مثلًأ)، بالضبط في هذا السياق، بغرض الدعاية ودعم الجماهير المناضلة في المصانع والشوارع، بل والتحريض والتعبئة في بعض الأحيان. كان ذلك شديد الأهمية، رغم محدودية الرقعة الجماهيرية في هذه المعارك خلال تلك الفترة. على سبيل المثال، كان إجمالي العمال المُنظَّمين في النقابات، في الفترة من 1908 إلى 1911، لا يتجاوز 30 ألف عامل (21).

بالطبع، كان ذلك التراكم البطيء في النضالات الصغرى يمثِّل تحوُّلًا كبيرًا في التكتيكات البلشفية عمَّا كانت عليه في فترة النهوض الثوري 1905-1907، وكان ذلك ضروريًا بصورةٍ خاصة من أجل الاستنهاض التدريجي لطاقات الطبقة العاملة. عبَّر لينين بوضوح عن هذه الفكرة حين كَتَبَ في يوليو 1909:

“خلال فترة الثورة، تعلَّمنا كيف نتحدَّث الفرنسية؛ أي … نرفع طاقة النضال المباشر للجماهير ونوسِّع أفق هذا النضال. والآن في فترة الركود والرِدَّة والتفكُّك، علينا أن نتعلَّم كيف نتحدَّث الألمانية؛ أي أن نعمل ببطءٍ (وليس ثمة شيءٌ آخر نفعله حتى يُبعَث النضال) وبانتظام وثبات؛ أن نتقدَّم خطوة خطوة، وأن نكسب بوصة تلو الأخرى. ومن يجد هذا العمل مملًا … فإنه قد أخذ لقب الماركسي عبثًا” (22).

ومع الصعود التدريجي للنضال العمالي في 1912، تقدَّم البلاشفة خطوةً أخرى وبدأوا يدشِّنون حملاتٍ جزئية أوسع لتوحيد حركة العمال. كانت أبرز هذه الحملات هي حملة التأمين الصحي، الذي لم تشمل مظلته سوى 20% فقط من عمال الصناعة. استخدم البلاشفة وجودهم البرلماني بمجلس الدوما وحضورهم النقابي كذلك من أجل كشف قصور قوانين التأمين وحتى من أجل التحريض على النضال لانتزاع شروط أفضل لتلك القوانين. وكانت إحدى الأدوات الرئيسية في بناء الجسور مع الجماهير العمالية هي صحيفة “البرافدا” البلشفية، التي صدرت من أبريل 1912 إلى يوليو 1914. في حملة التأمين الصحي على سبيل المثال، خصَّصَت البرافدا قسمًا ثابتًا ويوميًا تحت عنوان “تأمينات العمال: أسئلة وأجوبة”. وبصورةٍ عامة، كانت البرافدا تضطلع بدور الأداة الناظمة لأعضاء الحزب البلشفي في كافة أرجاء روسيا على المواقف والحملات والتكتيكات، وتخلق صلةً يومية لهم مع قطاعٍ أوسع من الجماهير، إذ كانت توزِّع ما يصل إلى 40 ألف نسخة في الأيام العادية، و60 ألفًا في أيام السبت، وعلى مدار فترة صدورها حشدت حولها أكثر من خمسة آلاف مجموعة عمالية بغرض جمع التبرُّعات لها للحفاظ على صدورها اليومي (23).

كان كلُّ ذلك النشاط البلشفي يجري في ظلِّ ظروفٍ أمنية عسيرة، فإلى جانب الملاحقات الأمنية، عانت الصحيفة المركزية للحزب من المُصادرة المستمرة، إذ صودِرَت ثمان مرات خلال أقل من عامين ونصف، هي فترة صدورها، واضطرت في كلِّ مرة إلى تغيير اسمها (كانت الأسماء جميعها تشترك في كلمة “برافدا”، مثل “سيفيرنايا برافدا”، و”بوت برافدا”، و”بروليتاريسكايا برافدا”، إلخ).

بالنسبة للينين، كانت هذه الحملات، وحتى المعارك الأصغر كثيرًا، تمثِّل مدرسةً للثورة، فكَتَبَ على سبيل المثال:

“كلٌّ من الأزمات “الصغيرة” تبيِّن لنا، بصورةٍ مُصغَّرة، عناصر وأجنَّة المعارك التي ستتكرَّر على نطاقٍ واسع خلال الأزمة الكبيرة. فما هو، مثلًا، الإضراب -كلُّ إضراب- إن لم يكن أزمةً صغيرة في المجتمع الرأسمالي؟” (24).

أما الحزب الثوري في هذه المعارك، فكان بالنسبة له مدرسةً للقيادة في النضال. لقد حقَّقَ الحزب البلشفي نجاحاتٍ جزئية خلال فترة الصعود التدريجي للحركة الجماهيرية، منذ العام 1912، في بناء الجسور مع الجماهير وكسب ثقتهم وصولًا إلى قيادة الحزب ثورة 1917. ولم تكن هذه النجاحات ممكنةً على الإطلاق لولا الجهود الوافرة والعنيدة التي بذلها لينين ورفاقه في فترة الركود الحاد وتفشي الإحباط، من نهاية 1907 إلى 1911، من أجل الحفاظ على الأنوية النشطة للبلاشفة من الانهيار.

مع القمع الوحشي الذي أعقَبَ هزيمة الثورة الأولى، اضطر المناضلون الاشتراكيون للعودة إلى العمل السري الذي كانوا قد خرجوا منه مُفعَمين بالأمل في 1905، ومن ثم عكفوا على الدمج بين العمل العلني، في النقابات ومجلس الدوما وتوزيع الصحف والنضالات الصغيرة، والعمل السري للحفاظ على قلب التنظيم وهيكله من الضربات الأمنية. كانت مهمة الحفاظ على التنظيم البلشفي شاقةً للغاية خلال مرحلة الهزيمة، لكنها كانت ضرورية، استنادًا إلى القناعة الراسخة لدى لينين والقيادات البلشفية بأن التاريخ يتغيَّر وأن فترة التراجع لن تستمر إلى الأبد، وبالتالي لابد من الحفاظ على التنظيم استعدادًا للموجات المقبلة من النضال. احتفظ لينين بمئات الكوادر خلال فترة التراجع وإرهاب النظام، وعَكَفَ على تجنيد وتدريب مئات آخرين في تلك الفترة. وما لا يقل أهمية هو أنه ظلَّ يصوِّب أخطاء حزبه (وأخطاءه هو نفسه أحيانًا) لضبط وجهة الحزب السياسية وسط التيارات التي هَزَمها الإحباط.

1905 – 1917
أشرنا في أكثر من موضعٍ من هذه المقالة إلى الضرورة التي دَفَعَت الحلقات البلشفية إلى إعادة البناء في السنوات الطويلة التي أعقبت هزيمة ثورة 1905. لكن إعادة البناء هذه لم تكن من الصفر تمامًا، إذ كانت الخبرات الغزيرة للثورة لا تزال مدفونة في وعي قطاعات من الجماهير تحت ركامٍ من إذلال الهزيمة وإحباط التشرذم في سنوات التراجع. وهذه الخبرات تردَّدَت أصداؤها في المستقبل في ثورة 1917 نفسها. جَنَت الجماهير في الثورة الأولى خبراتٍ قد تتطلَّب عقودًا من النضال التدريجي لاكتسابها، من حيث إدراك انقسام الطبقات ومصالحها والخطوط الفاصلة بين الأحزاب السياسية، علاوة على الخبرة العملية المباشرة في تنظيم الصفوف وتوحيد النضالات والشعارات. وقد برزت هذه الخبرات إلى السطح حين استدعتها التطوُّرات في 1917. بعبارةٍ أخرى، كانت ثورة 1905 بروفة كبرى أعدَّت القطاعات المتقدِّمة من الجماهير للاختبار الأكثر حسمًا في 1917.

كان من الأسهل على سبيل المثال أن يبني العمال سوفييتاتهم المُنتَخَبة بمجرد أن اندلعت ثورة 1917، استنادًا إلى خبرة بناء سوفييت بطرسبورج عام 1905، بل ولقد انتشرت هذه السوفييتات كالنار في الهشيم في كلِّ أرجاء روسيا، وليس فقط في العاصمة. واستند كلُّ سوفييت إلى أعدادٍ هائلة من اللجان المُنتَخَبة هي الأخرى في مواقع العمل والأحياء، وحتى في القرى والثكنات، وهكذا أصبح صوت الثورة وتمثيلها وتوحيدها أكثر تغلغلًا وسط الجماهير مِمَّا كان في الثورة الأولى. وحتى في مراحل الصعود التدريجي التي مهَّدَت بطيئًا لثورة 1917، انعكست خبرات الثورة الأولى بوضوحٍ فيها. من الجدير بالملاحظة، مثلًا، أن المظاهرات التي انطلقت للتنديد بمذبحة لينا، أبريل 1912، رَفَعَت منذ البداية شعار الجمهورية الديمقراطية، وهو مستوى أرقى كثيرًا في الوعي الجماهيري مِمَّا كان في مطلع ثورة 1905 التي بدأت بتقديم عريضة ساذجة إلى القيصر. وهكذا بدأ العمال الروس في 1912 من حيث انتهوا عند أعلى نقطة للثورة قبل سبع سنوات -من زاوية الوعي السياسي.

لكن هذا لا يعني أن خبرات الثورات الماضية دائمًا ما تكون في “وضع الاستعداد” في وعي الجماهير، انتظارًا للظرف المناسب الذي يطلق لها العنان مجددًا. هذا ليس أمرًا يحدث بالضرورة مع النهوض الثوري الجديد من بعد سنواتٍ من الركود، إذ قد تطمسها هذه السنوات أو تُشوِّهها تمامًا. تحتاج الخبرات المدفونة في وعي القطاعات المتقدِّمة من الجماهير إلى التعميم والفهم -والتناول النقدي أيضًا حتى لا تتكرَّر الأخطاء. هذا ما جَعَلَ لينين وتروتسكي على الأخص يعكفان خلال سنوات التراجع على تلخيص خبرات ثورة 1905 للتسلُّح بها في الثورة المقبلة، وللاستفادة منها حتى في أصغر نضالات تلك السنوات. ومن قبلهما، كان ماركس وإنجلز على سبيل المثال يعودان مرةً تلو الأخرى خلال أيام الركود في الصراع إلى العام 1848 كنطقة انطلاقٍ في تحديد شكل ومسار الحركة العمالية الثورية في المستقبل.

في مقالةٍ بعنوان “تقييم الثورة الروسية”، أبريل 1908، كَتَبَ لينين:

“فقط انتظروا، 1905 ستعود مرةً أخرى. هذه هي الطريقة التي ينظر بها العمال للأمور. بالنسبة لهم، قدَّم لهم ذلك العام نموذجًا لما يتعيَّن فعله … بالنسبة للبروليتاريا، لابد أن يتضمَّن الاستيعاب النقدي لخبرة الثورة كيفية تطبيق أساليب النضال وقتذاك بصورةٍ أنجح، من أجل شنِّ نفس النضال في إضراب أكتوبر، ونفس النضال في انتفاضة ديسمبر، على نحوٍ أوسع جماهيريةً وأشد تكثيفًا وأعلى وعيًا” (25).

وعلى المستوى التنظيمي للحزب البلشفي، لم تكن إعادة البناء من الصفر هي الأخرى. احتفظ الحزب بنواةٍ نشطة وشديدة التماسك، أُضيفَ إليها المئات من المناضلين الراسخين خلال فترات التراجع. ومع الصعود التدريجي في النضال، لم تذهب جهود لينين السابقة سدى، فقد عاد إلى الحزب الكثير من المناضلين الذين غادروه من قبل تحت وطأة إحباط الهزيمة، وهؤلاء كان لديهم هذا القسط أو ذاك من الخبرة في صفوف الحزب أثناء الثورة الأولى. ومع اندلاع ثورة 1917، عاد هؤلاء بالآلاف إلى الحزب، ليزيدوا الحزب ثقلًا حتى أصبح مصدر جذبٍ لانضمام عشرات الآلاف من المناضلين الجدد في مجريات الثورة. لم يكن ذلك ممكنًا على الإطلاق لولا أن الحزب البلشفي حافَظَ على وجوده وتراثه، وحرص على استقلال وتمايز خطه السياسي في أحلك الظروف.

خاتمة
حاولنا في هذه المقالة استخلاص بعضٍ مِمَّا يمكن اعتباره دروسًا من خبرة الثورة الروسية، من زاوية انتقالها من الهزيمة ثم الانحسار إلى النهوض الجديد الذي مهَّدَ لاندلاع الثورة مرةً أخرى.

لكن من الخطأ الفادح تناول الثورة الروسية وكأنها وصفة جاهزة لثوراتٍ قد تندلع في المستقبل. من المفيد والضروري استخلاص الدروس، ولكن ليس استنساخها أو مطابقتها كما هي على أوضاعٍ مختلفة بعد أكثر من قرن. الثورة الروسية نفسها لم تكن لتحرز الانتصار في 1917 لو كانت نموذجًا مُكرَّرًا بحذافيره من تجربةٍ سابقة، بل كانت في الحقيقة النسخة الأولى من نفسها. والأمر نفسه ينطبق على نموذج الحزب البلشفي في القيادة والتنظيم.

ومن قبل 1917، كانت ثورة 1905 نفسها هي الأولى من نوعها من حيث العديد من الأوجه؛ إذ كانت أول ثورة يشارك فيها الناس العاديون في إيقاف حرب (الحرب الروسية اليابانية)، وشهدت أول إضراب جماهيري على مستوى البلاد في التاريخ يدمج المطالب الاقتصادية والمطالب السياسية معًا، وكانت أول ثورة تنشأ فيها مجالس عمالية تنافس السلطة القائمة. وحتى حينما طبَّق البلاشفة أنفسهم دروس 1905 لاحقًا في ثورة 1917، لم يكن الأمر بالنسبة إليهم مجرد تكرار التجربة ذاتها مع بعض التصويب فقط، إذ لم تكن ثورة 1905 قد قدَّمَت كلَّ الإجابات بالطبع، لكنها علَّمَتهم منطق الحركة الجماهيرية وكيفية الانخراط فيها وكسبها. وعلَّمتهم هزيمتها أيضًا -بالطريقة الصعبة- أن شبرًا واحدًا من التهاون مع قوى الثورة المضادة يعني بابًا مفتوحًا أمام حملات انتقامٍ لا رحمة فيها.

إن المسار القاسي الذي مرَّت به الثورة الروسية يعلِّمنا نحن أيضًا أنها لم تكن تلك الأيقونة المُقدَّسة التي تُصوَّر في الأدبيات الستالينية وغيرها، بل كانت عمليةً حيَّة من الصعود والهبوط والجولات المتلاحقة من الصراع. ولم يكن الثوريون البلاشفة هم أيضًا أولئك الأبطال الذين لن يتكرَّروا، والذين يرفعهم البعض إلى منازل الآلهة، بل كانوا بشرًا من لحم ودم؛ يخطئون ويصوِّبون أخطاءهم ويتعلَّمون من التجارب. تعلِّمنا الثورة الروسية، كما علَّمت أبناءها وقادتها من أكثر من قرن، أن التاريخ يتغيَّر مهما بلغت قساوة الهزيمة أو طالت مرارة سنوات التراجع، وأن الإعداد للمستقبل ضرورة لا تفوقها ضرورة من أجل الانخراط في صياغته.

مصادر:
(1) روزا لكسمبورج، النظام يسود في برلين.
(2) ليون تروتسكي، 1905.
(3) توني كليف، لينين: بناء الحزب.
(4) فلاديمير لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 16، صـ395.
(5) كليف، لينين: بناء الحزب.
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق.
(8) المصدر السابق.
(9) المصدر السابق.
(10) فيكتور سيرج، ما الذي يجب أن يعرفه الجميع عن قمع الدولة.
(11) لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 20، صـ356.
(12) كارل ماركس، محاكمات الشيوعيين في كولونيا.
(13) لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 11، صـ130.
(14) المصدر السابق.
(15) لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 11، صـ351.
(16) تروتسكي، حياتي، ج1، صـ396.
(17) المصدر السابق.
(18) لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 21، صـ213.
(19) تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية، ج1، صـ41.
(20) كليف، لينين: كل السلطة للسوفييتات.
(21) كليف، بناء الحزب.
(22) لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 15، صـ458-459.
(23) لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 20، صـ 369-370.
(24) لينين، تقرير عن ثورة 1905، المختارات، المجلد 1، الجزء 2، صـ465.
(25) لينين، الأعمال الكاملة بالإنجليزية، المجلد 15، صـ53.