لينين.. أسوأ كوابيس بوتين

قال كارل ماركس ذات مرة واصفًا إرث الماضي أنه “يجثم كالكابوس على أذهان الأحياء”. أوضح فلاديمير بوتين أنه مُطارَد بإرث فلاديمير لينين والثورة العمالية في 1917 التي أسقطت الإمبراطورية الروسية القيصرية. صرح بوتين قبل أيام من أمره بالهجوم على أوكرانيا أن “روسيا أنشأت أوكرانيا الحديثة بالكامل، أو على وجه الدقة، روسيا البلشفية الشيوعية”. وأضاف بوتين أن لينين كان “صانع ومصمم أوكرانيا” وهي الخطوة التي يلومه بوتين عليها لأنها قسمت الدولة الروسية “التي لا تتجزأ”. لا يزال لينين يطارد بوتين؛ وهذا لأن السياسات الثورية للحزب البلشفي، الذي قاده لينين، لا تزال مرشدًا للمناضلين المخلصين من أجل الحرية والديمقراطية للطبقة العاملة اليوم.
كانت الثورة الروسية في 1917 علامةً فارقة في تاريخ نضال الطبقة العاملة على مستوى العالم، حيث شهدت ميلاد أول دولة عمالية في العالم تحت سيطرة المجالس الديمقراطية في أماكن العمل، أو السوفييتات. ولا يزال صدى الإنجازات الديمقراطية لتلك الفترة مستمرًا حتى بعد 100 سنة، رغم استمرار تلك الميزة لعدة سنوات قصيرة قبل أن تساهم العزلة الدولية في القضاء على الديمقراطية العمالية على يد الاستبداد البيروقراطي تحت حكم جوزيف ستالين.
أحد تلك الإنجازات طويلة المدى كان إنشاء دول مستقلة في الأراضي التي حكمتها الإمبراطورية الروسية القديمة، وهي الدول التي نشأت في ظل عاصفة وضغط الثورة والحرب الأهلية الناتجة عنها. شمل هذا، بالإضافة إلى أوكرانيا، دول وسط آسيا مثل كازاخستان وأوزبكستان، وفي القوقاز وفي كل شرق أوروبا مع تأسيس بولندا وفنلندا ودول البلطيق. لم يكن تأسيس تلك الدول نتيجة لينين وحده كما تصفه نسخة بوتين من التاريخ بـ”الرجل العظيم”، بل كان نتيجة النضال الديمقراطي للقوميات التي قمعتها الإمبراطورية الروسية لزمنٍ طويل وضمتها بالقوة للدولة الروسية. قبل 1917، تراوح ذلك القمع من القوانين التي تشبه الفصل العنصري الموجهة ضد ملايين اليهود الذين عاشوا في الأراضي الروسية، إلى شكلٍ شديد العنف من الاستعمار الاستيطاني ضد الكازاخ، والقيرغيز، والأوزبك، وإلى الفرض القسري للغة الروسية في المدارس والحكومة في مناطق مثل أوكرانيا فيما كان يسمى “إضفاء الطابع الروسي” أو “الترويس”.
ارتبط لينين والبلاشفة بذلك النضال الديمقراطي عندما طرحوا أن الثورة العمالية فقط هي ما يمكنها إسقاط الإمبراطورية القمعية التي استعبدت العمال اقتصاديًا وسياسيًا، وأن الاشتراكيين يجب أن يسعوا لتوحيد نضال كل المقهورين تحت راية العمال. كان على العمال الروس النضال لتحقيق تلك الوحدة كما وصف لينين ضد “كل مظهر من مظاهر الاستبداد والقمع، بغض النظر عن مكان حدوثه أو الطبقة التي يؤثر عليها” وأن “يعمموا كل هذه المظاهر، لإظهار صورة موحدة عن عنف الشرطة واستغلال الرأسماليين”. وكان هذا يعني دعم القوميات المضطهَدة تحت الإمبراطورية الروسية في نضالهم من أجل حق تقرير المصير.
كان أحد أول إعلانات الحكومة السوفييتية، بعد تمرد الطبقة العاملة في قلب روسيا في أكتوبر 1917، عن وضع الأمم المضطهدة مثل أوكرانيا. أعلن السوفييت “إلغاء كل الامتيازات والقيود القومية والقومية الدينية. وحق شعوب روسيا في تقرير مصيرها، حتى لو أدى ذلك إلى الانفصال وتشكيل دولة مستقلة”.
اتهم المحافظون البلاشفة في كثير من الأحيان بالسخرية فيما يتعلق بتلك الإعلانات، بشكل متسق مع فهمهم للثورة الروسية الجماهيرية والتشاركية والديمقراطية كمؤامرة سلطوية. طرح مارك كاتز، على سبيل المثال، في مجلة ناشيونال إنترست بخصوص تعليقات بوتين الأخيرة حول لينين وأوكرانيا، أن رؤية لينين وبوتين حول المسألة وصلت لنفس الشيء، وهو الرغبة في “استعادة السيطرة على الأجزاء المفقودة من الإمبراطورية الروسية”، وأن لينين، من وجهة نظر كاتز، كان أكثر واقعية من بوتين، حيث عرف أن “اتباع نهج أكثر ملائمة نحو القومية الأوكرانية سيخدم مصالح روسيا على المدى البعيد”.
هناك دراسات أخرى جادة، مثل التي قام بها جيريمي سميث في 1996، منحت التقدير اللائق لتماسك تطلعات البلاشفة الثورية الديمقراطية، وإنجازاتهم بعد 1917. دعمت الحكومة السوفييتية حقوق القوميات التي قمعتها روسيا فيما قبل، بدلًا من استخدام دعوات حق تقرير المصير بسخرية كحجة لإعادة الإمبريالية الروسية، لتكسب دعمهم في سبيل الإمكانية التحررية لمجتمع يديره العمال ومن أجل العمال. وتضمن هذا جهودًا لدعم الحكم الذاتي للفئات المضطهدة لجعل الحكم السوفييتي بشكل أساسي “حكم الشعب”. اعترفت الحكومة السوفييتية الجديدة بهذا الحكم الذاتي ليس فقط حين قُدِّمَت به الالتماسات، بل وبشكلٍ استباقي أيضًا. أُنشِئت 13 جمهورية ذات حكم ذاتي، بين عامي 1918 و1923، ولا تزال موجودة حتى اليوم في أراضي روسيا الحديثة.
ظهر ذلك الالتزام نحو تقرير المصير بشكل واضح في الترويج لسياسة التوطين بدلًا من الترويس الإمبريالي الذي كان قائمًا حتى 1917. شمل هذا التعليم بلغات مثل الأوكرانية والبيلاروسية والكازاخية والأذرية في الدول الخاصة بهم. ولا يمكن فصل الترويج للغات الأصلية عن الجهود التعليمية الضخمة التي نفذتها الحكومة السوفييتية بعد الثورة، حيث ارتفعت معدلات معرفة القراءة والكتابة أكثر من الضعف في خلال 10 سنوات.
لا يعد هجوم بوتين على المكتسبات الديمقراطية لثورة أكتوبر مجرد هذيان ديكتاتور مجنون، ولكنه يعكس رغبة محسوبة لتوطيد نفوذ وقوة الدولة الروسية الحديثة والتي يراها بوتين وريثة إمبراطورية القياصرة. وكما كان الوضع تحت حكم القياصرة، يُستخدم القمع الممنهج لاستمرار مجتمع به هذا الكم الهائل من اللامساواة والظلم والاستغلال، حيث الإمبريالية في الخارج والقمع في الوطن.
لذلك مرَّرت روسيا في 2018 قانونًا جديدًا يمنع الجمهوريات ذات الحكم الذاتي من تعليم الأطفال بلغاتهم الأصلية لأكثر من ساعتين أسبوعيًا، مع جعل تلك التعليمات اختيارية. تبع هذا، في 2020، استفتاءٌ دستوري يعترف باللغة الروسية “لغة القومية المُشكِّلة للدولة” وفي نفس الوقت حظر الزواج من نفس الجنس وزيادة صلاحيات الرئاسة التي يشغلها بوتين.
نرى في تلك الأفعال وفي غزو بوتين لأوكرانيا بوضوح أن مصالح الأوليغارشية الاستغلاليين من الرأسماليين، تلك الأوليغارشية التي تحكم روسيا اليوم هي انعكاسٌ لمصالح القيصر والإقطاعيين الأرستقراط الذين وقفوا خلفه. وشاهد اليوم أن كثير من الروس انتفضوا لمعارضة الإمبريالية، مثل الثورة ضد القيصر أثناء الحرب العالمية الأولى. والتحدي الذي يواجه الحركة المعارضة للحرب هي أن تأخذ على محمل الجد دروس التاريخ التي يشوهها بوتين.
أدرك لينين والبلاشفة أولًا أن الطبقة العاملة هي القوة الاجتماعية التي لديها السلطة الاجتماعية في مجتمع رأسمالي حديث للتخلص من الرأسمالية ولديها المصلحة لإنشاء مجتمع ديمقراطي حقيقي لكل المضطهدين والمستغَلين. ولتحقيق هذا في ذلك الوقت، كان على البلاشفة خلق قضية مشتركة مع كل الفئات الأخرى المضطهدة من الدولة الروسية، مثل الفلاحين والأقليات الدينية والمجموعات المضطهدة على مستوى الأمة لتوحيد كل تلك النضالات في صورة سيل لا يقهر للقضاء على الطغاة.
إذا استطاعت الحركة المناهضة للحرب في روسيا اليوم وحركة المقاومة الأوكرانية الشجاعة تشكيل جبهة موحدة ضد الإمبريالية، بناءً على مصالحهم الطبقية المشتركة ضد الدولة الروسية، فإن بوتين لن يعاني من كوابيس الماضي البلشفي، ولكن من كوابيس الحاضر البلشفي أيضًا.
* المقال بقلم: دانكن هارت – موقع “ريد فلاج” الأسترالي