46 عامًا على 23 يوليو 1952.. الناصرية والتغيير
منذ 46 عامًا، وبالتحديد قبيل فجر يوم 23 يوليو 1952، استولي تنظيم الضباط الأحرار على السلطة في مصر. وعلى مدى عقود، حصل النظام السياسي الذي خلقه هذا التنظيم، وحصل الرجل الجالس على قمته – جمال عبد الناصر على تأييد شعبي واسع ليس في مصر وحدها إنما في جملة من الدول العربية. استطاع عبد الناصر ونظامه، وقت ارتفاع نجمها، أن يخلقًا هالة من المجد حولهما، وأن يمثلاً أملاً بالنسبة لقطاعات عريضة من الطلاب والمثقفين وشرائح الطبقة الوسطي وصغار الملاك والمستأجرين الزراعيين (بل ولبعض فئات المعدمين والعمال) الحالمين بالتحرر الوطني وبالعدالة الاجتماعية.
كل هذا أصبح شيئًا من الماضي. فلقد جدت في النهر مياهًا كثيرة، وفقد عبد الناصر مجده، وفقدت الناصرية جاذبيتها – ولكنها (لا يمكن أن ننكر) لا يزال أحياء. فحتى اليوم لا يزال عدد من الانتهازيين محترفي السياسة يجدون شرعيتهم في الدفاع عن عبد الناصر وعهده، ولا يزال بعض الشباب المتحمس من المثقفين والطلاب يرى أن الطريق إلى المستقبل في مصر هو ذلك الذي رسمه عبد الناصر في “الميثاق” قبل 36 عامًا: طريق الوحدة العربية، والتنمية المستقلة ومقاومة الامبريالية، وتحالف قوى الشعب العامل. وهو ما يدعونا للسؤال عن طبيعة الناصرية، وعن المضمون الطبقي لإجراءاتها السياسية والاقتصادية، وعن إمكانياتها المستقبلية. فهل فعلاً حررت الناصرية الجماهير من كل استغلال أو اضطهاد؟ ولعل في مقدورها ذلك اليوم بعد مرور ما يقترب من نصف قرن على بدايتها الأولى؟
إفلاس النظام القديم
في حوار أجراء عادل حموده في 1994 مع محمد حسنين هيكل الصحفي الأول للنظام الناصري ذكر هيكل “أن السلطة في 1952، عشية أحداث يوليو، كانت ملقاة في عرض الطريق. وكان بوسع أي أحد أن يأخذها. لكن القوى الموجودة كلها كانت من العجر بحيث لم تستطيع”. يشير هيكل هنا عن حق إلى إفلاس نظام الملك فاروق بشكل كامل في الشهور التي سبقت انقلاب الضباط الأحرار، وإلى عجز كل القوى السياسية على الساحة – من الوفد إلى الأخوان إلى الشيوعيين إلى مصر الفتاة وأحزاب الأقلية – عن القيام بدور البديل الذي ينفذ الطبقة الحاكمة من الهاوية التي تردت إليها أو (كما هو مفترض في حالة الشيوعيين) الذي يدك سلطة هذه الطبقة دكا ليفسح الطريق أمام سلطة طبقة بازغة جديدة. إفلاس الملكية في مصر في شهورها الأخيرة كان علامة على انتهاء مرحلة حاسمة في التاريخ المصري عرفت باسم المرحلة الليبرالية الدستورية. ولم تكن الليبرالية التي عرفتها مصر في تلك الفترة سوى حلاً وسطا توصلت إليه الطبقات المستغلة المصرية (كبار الملاك الزراعيين، والرأسمالية الناشئة) مع الملكية والإمبريالية البريطانية في أعقاب ثورة 1919 لم تمس ثورة 1919 السلطة الحقيقية للبريطانيين في البلاد ولم تضعف من سيطرة كبار الملاك على الريف، ولكنها اضطرت الملكية – تحت ضغط ثورة الجماهير في الريف والمدن – إلى تجميل نفسها بإصدار (دستور 1923) يحمل بعض السمات الليبرالية وإلى السماح بإنشاء نظام حزبي مقيد، واضطرت البريطانيين إلى إعلان استقلال مصر شكليًا في فبراير 1922.
كان وقود ثورة 1919 ومقاتليها في الشوارع هم الطبقات المستغلة والمطحونة في المجتمع: الفلاحين الفقراء والمعدمين والعمال الزراعيين في الريف، والعمال المأجورين في المدينة. وإلى جانب هؤلاء شارك في الثورة – التي فجرها مطلب الاستقلال الوطني – الطلاب والتجار المتوسطين والصغار والمهنيين والموظفين. أما القيادة المفترضة للثورة (الوفد المصري بزعامة سعد زغلول) فقد كانت تتكون من الأعيان والباشوات الذين كانوا ينتمون بالفعل أو بالتوجه السياسي – إلى طبقة كبار الملاك، وهي طبقة محافظة رجعية تخشى الجماهير وانتفاضتها أكثر من كراهيتها للاستعمار البريطاني. وقد برز التناقض المستعصي على الحل بين جماهير الأجراء والفقراء والمعدمين من ناحية وبين الطبقات المتحكمة في الثورة الاقتصادية من ناحية أخرى في أثناء الثورة ذاتها. ففي بدايات أحداث الثورة أوائل مارس 1919 ذهب مندوبو طلبة الحقوق إلى عبد العزيز فهمي أحد أعضاء الوفد المصري وأخبره بنيتهم في القيام بمظاهرات احتجاج على اعتقال البريطانيين لسعد زغلول ورفاقه. فما كان من عبد العزيز فهمي إلا أن طلب من الطلاب الإقلاع عن هذه الفكرة والتزام الهدوء. وفي أثناء الثورة شاهد فكري أباظة الجماهير تكدس صفائح البنزين على محاذاة قصر محمد محمود باشا في أسيوط بغرض إحراقه، فحاول أباظة نهيهم ذاكرًا أن محمد محمود من ضمن المنفيين في مالطة “من أجل حريتهم”. فرد عليه واحد من الجموع قائلاً: “أسكت، وهل وزع محمد محمود أرغفة العيش على الجائعين؟” وفي يوم 24 مارس 1919، وفي محاولة لتطويق العنف الثوري المرعب المنفلت عن الزمام، أصدر قادة الثورة ومعهم كبار رجال الدين الإسلامي والمسيحي بيانًا طالبوا فيه بالتوقف عن النضال الثوري وأعلنوا أن “الاعتداء على الأنفس أو على الأموال محرم بالشرائع الإلهية والقوانين الوضعية، وأن قطع المواصلات يضر أهل البلاد ضررًا واضحًا، ويوقف حركة نقل المحاصيل والأرزاق.
حكم التناقض الذي طفًا إلى السطح في غمار أحداث الصراع الطبقي في مصر في المرحلة الليبرالية الدستورية.
فبالرغم من أن الثورة لم تحقق الاستقلال ولم تزحزح طبقة كبار الملاك عن مواقعها، إلا أنها زالت بعض العوائق أمام التراكم الرأسمالي في مصر، وأتاحت هامشًا من المناورة السياسية أمام البرجوازية الحديثة الصاعدة. وكان الوفد – الذي تحول بعد الثورة إلى حزب برجوازي جماهيري مكتمل الملامح – هو الممثل السياسي لبرجوازية ناشئة وضعيفة ولكنها طموحة. ولقد ظل الوفد طوال عمره القصير (33 عامًا إذ حلته سلطة يوليو في يناير 1953) يسير على الوتر المشدود للتوازنات التي فرضها عليه فرضًا وضعه كحزب يمثل طبقة لا تستطيع أن تتقدم للأمام أو تتراجع للخلف. احتفظ الوفد بولائه للمصالح الطبقية لطبقة كبار الملاك، وبتقديسه للنظام الملكي، وتمسك بالطريق السلمي للمفاوضات مع الاستعمار البريطاني. ولكنه وفي نفس الوقت أراد أن يحافظ على وضعه كقائد للحركة الجماهيرية من أسفل. وكان هذا أمرًا أقرب إلى المستحيل، خاصة مع اشتداد عود الطبقة العاملة وتزايد البؤس والفرز الطبقي في الريف المصري، ثم مع تصاعد الحركة الجماهيرية في الأربعينات وأوائل الخمسينات.
كانت من نتائج ضعف البرجوازية المصرية ومهادنتها للاستعمار وكبار الملاك ونظام الملك فاروق وعجزها عن تحقيق أي من المطامح الوطنية أو الإصلاحات الاجتماعية أن بدأت هالة المجد التي رسمتها الجماهير للوفد وزعمائه تتحطم ليحل محلها الإحباط والبحث عن بدائل. ولم يكن تفكك الاتحاد الوطني الهش والمؤقت بين الطبقات حول قيادة الوفد بالأمر المستغرب. ففي السنوات والعقود التي تلت 1919 تباعدت السبل بين الطبقات الناشئة حديثًا – الرأسمالية وكبار الملاك من جانب، العمال والبرجوازية الصغيرة في الريف والمدن من جانب آخر بصورة لم يسبق لها مثيل. حصدت الرأسمالية المصرية النتائج السياسية للثورة في صورة توسع صناعي وأرباح متزايدة تتكدس، خاصة أثناء الكساد العالمي الكبير في الثلاثينات وما بعدها. في الفترة بين 1938 و1951 ارتفع الإنتاج الصناعي بأكثر من 10% في المتوسط سنويًا، وبحلول عام 51 – 1952 كانت الأرباح الصناعية قد زادت لتصل إلى حوالي 50% في شركات التعدين وشركات المواد الكيماوية وشركات الورق والطباعة، وإلى حوالي 1905% في شركات التبغ وحوالي 10% في شركات المنتجات الفلزية. أما الطبقات المستغلة الحديثة ألتي أنشأها واعتصرها التوسع الرأسمالي فقد عانت الأمرين. في الفترة من 1907 إلى 1950 انخفض متوسط دخل الفرد السنوي بـ 42%، وفي أعوام الحرب العالمية الثانية تردت أحوال العمال السيئة أصلاً – إذ أكل تضخم مقداره 193% الزيادات في الأجور اليومية التي لم تتجاوز 113%. وفي السنوات المؤدية إلى 1952 ازدادت سطوة كبار الملاك الزراعيين وتفاقم فقر وتهمش الفلاحين الفقراء حتى أن كبار الملاك (المالكون لأكثر من 200 فدان) في 1952 كانوا يمثلون 1،% من إجمالي عدد ملاك الأراضي في حين أنهم كانوا يستحوذون على 30% من الأرض الزراعية. وإذا أضفنا إلى هؤلاء الملاك المتوسطين (مالكو من خمسة إلى خمسين فدان نجد أنهم في مجموعهم كانوا يمتلكون 65% من الأرض. هذا بينما كان 9404% من الملاك هم جموع الفقراء – يمتلكون فقط حوالي 35% من الأرض.
إذن فلقد تجاوز في مصر قبيل 1952 البؤس المتعاظم والثروة المتراكمة. ورغم أن شارات الإنذار – خاصة عقب الحرب العالمية الثانية – قد انطلقت المرة تلو المرة لتحذر الطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية من السقوط المحتمل إلا أن أحدًا من الساسة البرجوازيين لم يتحرك. وكأن الشلل قد أصاب أولئك الجالسين على قمة النظام وعلى رأس الأحزاب البرجوازية. وفي وجه تصاعد الحركة العمالية و الجماهيرية – في وجه إضرابات عمال شبرا والمحلة والإسكندرية، ووجه مظاهرات الطلاب والعمال والموظفين المطالبة بالاستقلال والخبز والحرية – في المنعطف المعبأ بأجواء المد الثوري المؤدي إلى 1952، لم يجد القصر والوفد وأحزاب الأقلية أمامهم شيئًا ليفعلوه إلا المراوغة والخداع والقمع كل المحاولات لتطبيق إصلاح زراعي ولو محدود – والتي كانت أحيانًا تأتي بإيعاز من البريطانيين لسحب البساط من تحت أي ثورة حمراء محتملة – كانت تتحطم دائمًا على صخرة مهادنة البرجوازية مع كبار الملاك. وكل المحاولات لتطبيق أي إصلاح اجتماعي ذو شأن، أو لإتباع خط جذري ضد الاستعمار كانت تخضع لنفس المصير. ولذلك فعندما أنفجر الغضب الجماهيري في 26 يناير 1952 بعدما قصمته قشة مذبحة البريطانيين لرجال البوليس في الإسماعيلية في اليوم السابق، أصبح واضحًا للكل تقريبًا أن النظام قد أفلس تمامًا، وأن شيئًَا ما لا بد أنه سيحدث عما قريب.
من في مقدروه إسقاط الملكية؟
هذا السؤال سؤال التغيير سواء بالإصلاح أو بالثورة – كان مطروحًا بقوة في مصر في السنوات العاصفة عند منتصف القرن العشرين. في تلك السنوات العاصفة عند منتصف القرن العشرين. في تلك السنوات كانت كل الاحتمالات مفتوحة: انقلاب قصر، انقلاب عسكري،… أو ثورة جماهيرية من أسفل.
في يونيو 1951 كتب أحمد حسين (زعيم حزب مصر الاشتراكي، وهو حزب وطني برجوازي صغير متأثر بالفاشية) محذرًا وناصحًا ومطالبًا بالإصلاح الاجتماعي: “وبعد فإني نذير للحكام، ولولاة الأمور، ولرئيس الحكومة ووزير الداخلية وللسراة والأعيان والأغنياء… إن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا الحال وفرصتكم الوحيدة لإيقاف الثورة هي تطبيق المبادئ الاشتراكية، والخطط الاشتراكية. فإذا لم تفعلوا فهي الثورة الاجتماعية آتية لأريب فيها وقد أعذر من أنذر”. ثم أضاف ليؤكد أن هدفه هو منع الثورة الحفاظ على الطبقة الحاكمة: “إني أوجه هذا النذير مخلصًا صادقًا، لا أبغى من ورائه سوى الخير لكل الناس وعلى رأسهم الأغنياء والكبراء والإقطاعيين.. فقد خلقن الله لا أحب إيذاء أحد ولا أحمل الحقد والضغينة لأحد” وبعد هذا بحوالي عام – في منتصف 1952 – كتب إحسان عبد القدوس (الصحفي الذي يدعي الليبرالية) مقالاً بعنوان “إن مصر في حاجة إلى ديكتاتور” يطرح فيه على نحو اتضح أنه أقرب إلى النبوءة أن الفوضى التي تمر بها البلاد تملي الحاجة إلى ديكتاتور “يصبح ديكتاتورًا للشعب لا على الشعب، ديكتاتورًا للحرية لا على الحرية، ديكتاتورًا يدفعها للأمام ولا يشدها إلى الوراء”!!! كان إحسان عبد القدوس يقدم حلاً أخيرًا لطبقته – البرجوازية – التي شلها الضعف والعجز بينما شبح الثورة الاجتماعية يحوم على مقربة.
وفي ظل الأجواء المحملة برياح التغيير والثورة عجزت القوى الجماهيرية المناطحة للوفد التي برزت إلى السطح في الثلاثينات وعلا نجمها في الأربعينات – الشيوعيون والإخوان المسلمين كانوا أكثرهم أهمية – أن تقتنص الفرصة وتمثل البديل للنظام المتهاوي. لم يكن هذا الفشل قدرًا محتومًا، ولكنه أيضًا صدفه. فلقد ظل الشيوعيون على اختلاف تنظيماتهم، وحتى نهايتهم المحتومة، أسرى لإستراتيجية الجبهة الشعبية التي أملاها الإتحاد السوفيتي على الأحزاب التابعة له أو المتأثرة به9. وبمقتضى هذه الإستراتيجية أمنت معظم التنظيمات الشيوعية التي ازداد نفوذها في الأربعينات بأن تحرير الطبقة العاملة من الاستغلال لابد وأن يسبقه تحرير مصر من الاستعمار. وعلى هذا فإن الموقف “الصحيح” يقوم على التحالف مع القوى الوطنية الأخرى، وعلى رأسها الوفد، لمقاومة الاستعمار. وقد رسمت منظمة حدتو (أكبر التنظيمات الشيوعية) إطار الجبهة الشعبية الوطنية في صحيفتها “الجماهير” على النحو الآتي “إذ كانت أسلحة الاستعمار موجهة ضد الوفد والحركة العمالية فإن ذلك يربط بين الحركتين في حلف جماهيري يستند إلى برنامج وطني مشترك أساسه الحكم الديمقراطي الذي يعمل لتحقيقي الجلاء فورًا عن وادي النيل بغير تحالف مع الاستعمار، والتوسع في الحريات الديمقراطية مع تأميم الصناعات الكبرى وتوزيع الملكيات الزراعية الكبرى التي يتعاون أصحابها مع الاستعمار”. وبالطبع فقد خدم إتباع أكبر وأهم التنظيمات الشيوعية لخط موسكو البرجوازية المصرية أكبر خدمة في تاريخها. ولهذا فقد أفسحت قيادات الوفد اليمينية المجال للتقارب بين شباب الحزب وبين الشيوعيين، وهو ما أوقع هؤلاء الأخيرين أكثر فأكثر في مستنقع التبعية والتنازل أمام برجوازية مفلسة ومترنحة. حتى أن الشيوعيين قد وصلوا عند نقطة ما إلى حد حذف مطلب تحديد حد أعلى لملكية الأرض الزراعية من برنامجهم حتى لا يستفزوا مصالح كبار الملاك من قيادات الوفد! وبذلك أصاب الشلل الشيوعيين، وأصبحت الثورة الاجتماعية الجذرية بالنسبة لهم هم أيضًا شبحًا – أو عفريتًَا – ينبغي صرفه من أجل الاحتفاظ بالتحالف مع حزب البرجوازية الرجعي – هذا ما كان يحدث في صفوف الشيوعيين بينما كان المجتمع في حالة اختمار ثوري تسمح له بشكل استثنائي – لو اتبعوا خطًا ثوريًا – أن يتوسعوا ويخلقوا حزبًا جماهيريًا يكون مهيئًا لقيادة ثورة اجتماعية ضد البرجوازية وأحزابها على رأسها الوفد.
أما أكثر التنظيمات جماهيرية في ذلك الوقت – الإخوان المسلمون الذين كان لديهم نصف مليون عضو – فلم تكن أيديولوجية وقاعدته الطبقية البرجوازية الصغيرة تؤهله للقيام بدور أكبر من التعبير والتنفيس عن غضب وإحباط الطبقة الوسطى الحديثة إزاء العجز أمام الاستعمار وأعوانه، وإزاء الهوان الوطني الناجم عن ذلك. استطاع الإخوان المسلمون بقيادة حسن ألبنا الديكتاتورية أن يجتذبوا أعداد كبير من العمال والفلاحين إلى صفوفهم. ولكن هذا لم يكن إلا خلفية خاملة للعضوية الحقيقية النشطة المكونة من الطبقة الوسطى الحديثة: الموظفين، المدرسين، الطلاب، وضباط الجيش. ولذلك فعندما تصاعدت الحركة الجماهيرية في السنوات المؤدية إلى 1952، واجه الأخوان مصاعب شديدة أفقدتهم التوازن. تأرجح الأخوان في هذه السنوات بين إتباع الأساليب الإرهابية وبين العمل الجماهيري، وتقلبوا بين أقصى العداء للوفد وللملكية وبين التودد والتقرب إليهم، وحافظوا على عداء مستحكم لليسار وخاصة الشيوعية، وأظهروا تحفظًا إزاء الحركة العمالية والجماهيرية من أسفل بل أنهم في أحيان كثيرة وقفوا ضد الإضرابات والاعتصامات المتزايدة في تلك الآونة. وفي هذا كله كان الإخوان يعكسون وضعية جماهير الطبقة الوسطى في المدنية الخارجة لتوها من مجتمع الريف التقليدي، والتي تحتمي بالقيم التقليدية التي ورثتها من مرارة الوضع المتدني أمام الأجانب، ومن هذه التحديث التي تعرضت لها. لم يكن تنظيم الطبقة الوسطى المصدومة والمحبطة هذا بقادر – مهما أوتى من الجماهيرية – أن يخلق لنفسه خطًا مستقلاً وثابتًا في سنوات المد في الأربعينات وأوائل الخمسينات؛ لم يكن بمقدور الإخوان أن يقودوا حركة جماهيرية من أسف – يشعرون إزاءها بالتحفظ وأحيانًا العداء – للقضاء على نظام لا يحقق مطامحهم ولكنهم على الرغم من ذلك يتوددون إلى رموزه.
الضباط الأحرار يستولون على السلطة
لم يكن أحد يتوقع أن يأتي التغيير في منتصف 1952 على يد حفنة من الضباط الصغار المتآمرين في الجيش المصري. ولكن هذا بالضبط ما حدث. وكان هذا دليلاً إضافيًا لا على قوة الضباط الأحرار أو جماهيرية تنظيمهم، وإنما على العجز القاتل الذي أصاب الأحرار على السلطة في 23 يوليو هو أنهم فعلوا ما كان يصبو إليه كل الساسة البرجوازيين والبرجوازيين الصغار الذي عجزوا عن قيادة الحركة الجماهيرية، أو احتواءها، أو أدها – فانتظروا جميعًا معجزة تقطع الطريق على ثورة اجتماعية تطل برأسها. عقب انقلاب الضباط في 52 كتب الكاتب المحافظ عباس محمود العقاد يقول أنه كان “ثورة ضد الثورة” الحمراء التي كان يتوقعها ويخشاها في ذلك الوقت. نفس المعنى ردده أنور السادات في قصته عن الثورة حين قال: “أننا أنقذنا البلاد من فوضى محققة”!
لم يكن الجيش المصري في 1952 بأي حال معقلاً من معاقل الحركة الوطنية، ولم تكن منتشرة به الأفكار السياسية الوطنية على مختلف اتجاهاتها التي كان يموج بها المجتمع آنذاك فكأي مؤسسة عسكرية في المجتمعات الطبقية كان الجيش المصري جهازًا وأداة للطبقة الحاكمة في الحفاظ على سلطتها، وكانت الأفكار المسيطرة على ضباطه هي أفكار تكل الطبقة. وقد اكتشف الشاب الوطني المتحمس جمال عبد الناصر الذي شارك في المظاهرات الوطنية حينما كان طالبًا – ذلك بنفسه عندما أصبح ضابطًا: “عندما تم تعيينا في احد الكتائب في منقباد، بالقرب من أسيوط كنا ممتلئين بالمثل. ولكن سرعان ما تبددت أوهامنا. فمعظم الضباط العاملين كانوا فاسدين ومعدومي الكفاءة. وقد أصاب هذا بعض أصدقائي الضباط بالصدمة لدرجة أنهم قدموا استقالاتهم”. على أن سيطرة الروح المحافظة والولاء في صفوف ضباط الجيش لم يمنع من تسرب أقلية ضئيلة من الشباب الوطني المتحمس من أبناء الطبقة الوسطى إليه بعد عام 1936 عندما اتبعت الكلية الحربية سياسات قبول أكثر تساهلاً تطبيقًا لمعاهدة 1936 بين البريطانيين وحكومة الوفد. ومن بين عناصر الأقلية نشأ تنظيم الضباط الأحرار.
تكون تنظيم الضباط الأحرار كتنظيم جدي في عام 1949، بعد عام واحد من الهزيمة القاسية التي تلقاها الجيش المصري في حرب فلسطين عام 1948. وقد اجتذب التنظيم إلى صفوفه حتى يوم الاستيلاء على السلطة ما لا يزيد على مائة ضابط من صغار السن والرتبة، وكلهم تقريبًا من أبناء الطبقة الوسطى الذين دخلوا الكلية الحربية في 1936 وما بعده. وقد استطاع التنظيم أن يحقق نفوذًا نسبيًا في أوساط الأقلية من شباب الضباط من أبناء المهنيين، الموظفين المتوسطين، التجار، والعمد والذين أغضبهم نتائج حرب 1948، والذين كانت لهم أحلامهم الوطنية في خلق مصر الحرة المستقلة. وفي المقابل لم يستطع التنظيم أن يجند أي من الضباط الكبار المنتمين عقلاً وروحًا بطبيعة الحال إلى الطبقة الحاكمة فيما عدا اللواء محمد نجيب الذي مثل واجهة للاستيلاء على السلطة لا أكثر. ويمكننا، وبمقدار كبير من الدقة، أن نحدد طبيعة تنظيم الضباط الأحرار على أنه تنظيم متآمري الطبقة الوسطى الوطنين الذين يرتدون الزى العسكري. فعلى الرغم من أن توجهات وانتماءات قيادات وأعضاء التنظيم تراوحت بين كل ألوان الطيف السياسي – ما بين وفديين وإخوان ويساريين ومصر الفتاة – إلا أن فكر التنظيم نفسه لم يكن أي من هذا كله. لقد كانت أيديولوجية التنظيم هي الوطنية الصرفة للطبقة الوسطى بكل غموضها ومثاليتها ولا طبقيتها وتوجسها إزاء جماهير. وكجناح عسكري لوطنيي الطبقة الوسطى أضاف الضباط الأحرار للوطنية الصرفة نزعة تآمرية مغلقة شديدة التطرف.
كانت مسعى الضباط الأحرار للسلطة في أيام المد في الصراع الطبقي يوليو 1952 يقوم أساسًا على استبعاد الجماهير. والثابت أن التنظيم لم يسع أبدًا إلى خلق صلات أو نفوذ جماهيري لا من خلال التحريض بين الجنود ولا من خلال الارتباط بالحركة الجماهيرية المتصاعدة في الشارع. بل إنه عندما انفجرت المظاهرات في 26 يناير 1952، وازدادت الدلائل على إمكانية التحرك الثوري الواسع للجماهير، كان رد فعل بعد الناصر هو التخطيط لانقلاب يقطع الطريق على الثورة ويسلم السلطة للوفد. على أن النحاس باشا زعيم الوفد رفض عرض عبد الناصر على اعتبار أنه مخاطرة غير مأمونة العواقب.
كان الطريق الذي اكشفه عبد الناصر وزملاؤه للتغيير الذي يحملون به هو مؤامرة الأقلية داخل صفوف الجيش. كتب عبد الناصر في فلسفة الثورة (1954) يتحدث عن دور الجيش في التغيير: “كان الموقف يتطلب أن تقوم قوة يقرب ما بين أفرادها إطار واحد، يبعد عنهما إلى حد ما صراع الطبقات والأفراد، وأن تكون هذه القوة من صميم الشعب، وأن يكون في استطاعة أفرادها أن يثق بعضهم ببعض، وأن يكون في يدهم من عناصر القوة المادية ما يكفل لهم عملاً شريفًا حاسمًا ولم تكون هذه الشروط تنطبق إلا على الجيش”. وبغض النظر عن الصورة الوردية الزائفة التي صور عبد الناصر الجيش بها فإن الفكرة الأساسية التي يطرحها عن التغيير واضحة: التغيير لابد أن يتم بمعزل عن الصراع الطبقي، وعلى يد قوة غير منغمسة فيه.
وقد أتي التغيير في 23 يوليو 1952 تمامًا كما أراده متآمري الطبقة الوسطى الوطنين الخارجين من صفوف جهاز القمع العسكري. إذ أتي فوقيًا ومن أعلى ليقطع الطريق على حركة الجماهير المتصاعدة. وقد حرص الضباط الأحرار أنفسهم على الطابع الانقلابي المعزول لحركتهم أشد الحرص. ففور نجاح الانقلاب أصدر التنظيم بيانا يحظر فيه المظاهرات تمامًا ويطمئن كل القوى على مصالحها في ظل النظام الجديد. وبعد أسابيع قليلة أصدرت محكمة عسكرية شكلتها السلطة الجديدة حكمًا بالإعدام على عاملين كانا من ضمن قيادات مظاهرات عمالية في شركة العزل بكفر الدوار أيدت حركة الجيش وطالبت ببعض المطالب الاقتصادية!
لم تكن هذه ثورة اجتماعية مطلقًا وإنما كانت تآمر الأقلية الذي أتى ليحقق ما عجزت القوى التقليدية للبرجوازية عن تحقيقه:
الإصلاح الاجتماعي والاستقلال السياسي. وقد عكست السهولة التي نجح بها الانقلاب، بالرغم من أخطاء التنفيذ القاتلة، الارتياح الذي أصاب كل الساسة من قطع الطريق على ثورة حمراء متوقعة، وعكست أيضًا عدم استعدادهم للقتال من أجل الإبقاء على نظام، أفلس وتعفن وعكست أخيرًا التوازنات الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما كان الأمريكيون يحاولون إزاحة البريطانيين من الشرق الأوسط. ولقد تركت كل القوى النظام الملكي يواجه مصيره، واتجهت بأنظارها إلى النظام الجديد في محاولة لتوجيه الديكتاتورية العسكرية لخدمة أغراضها الخاصة.
إجراءات نظام يوليو
تقول الأسطورة الناصرية والرسمية أن نظام يوليو بدأ كانقلاب عسكري ثم تحول رويدًا إلى ثورة اشتراكية شاملة كان أول من داعب هذه الفكرة هو “الليبرالي” طه حسين في مقال شهير له “في حقيقة الأمر ثورة وطنية”. وقد صدقها نظام يوليو ثم روج لها حتى أصبحت حقيقة ثابتة لا يشك فيها أحد. ولكن حقيقة الأمر أنها تستند إلى كذب صريح وتزوير للتاريخ.
لفهم الأسباب التي دفعت المتآمرين الوطنيين إلى اتخاذ إجراءات إصلاحية جذرية علينا أن نتذكر أنهم صعدوا إلى السلطة بالتحديد لأن البرجوازية، في سياق أزمة اجتماعية شاملة، عجزت عن قيادة الثورة البرجوازية وظلت أسيرة للنظام القديم، ولأن الطبقة العاملة من جانب آخر فشلت على يد الشيوعيين في الإطاحة بها في ثورة اشتراكية. لقد تمت تسوية المعضلة الاجتماعية بالطريق غير الثوري من جانب عناصر الطبقة الوسطى في الجيش التي اتبعت الوسائل العسكرية لتحقيق مهام البرجوازية في الثورة الوطنية:
الاستقلال السياسي، الإصلاح الزراعي، التنمية الصناعية، الإصلاح الاجتماعي.
لم تكتشف السلطة الجديدة طبيعة دورها وحقيقة مهمتها دفعة واحدة. فلقد ظلت لفترة معتقدة أن عناصر البرجوازية التقليدية قادرة على أداء مهمتها التاريخية بعد الانقلاب، خاصة في إزاحة طبقة كبار الملاك بالإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952. ولذلك توددت إلى بعضها فأعطت لعلي ماهر رئاسة الوزارة، ولعبد الرازق السنهوري مهمة صياغة القوانين الجديدة. ولذلك أيضًا حاولت تشجيع الرأسماليين المصريين والأجانب على الاستثمار والتراكم. ولكن الضعف المستحكم للبرجوازية المصرية وتوجسها من السلطة الجديدة، وتناقضات التطور الرأسمالي للدول المتخلفة في عصر الإمبريالية، دفعًا الرأسماليين إلى الإحجام عن تحقيق طموحات الحكام الجدد في خلق مجتمع صناعي متقدم. وهنا بدأ الصدام بين الرأسمالية التقليدية الفردية وبين سلطة يوليو. وقد أعطى الصدام قوة إضافية بعدما ترددت – ثم امتنعت كلية – الإمبريالية الأمريكية – عن تمويلي مشروع التنمية والتصنيع الذي طمح الحكام الجدد في تحقيقه.
في يناير 1957 – بعد حرب 1956 الإمبريالية – صدرت قوانين التمصير للبنوك وشركات التأمين والوكالات التجارية، وهي القوانين التي أصبح بمقتضاها من حق المصريين وحدهم العمل في تلك المجالات. في نفس العام هبطت الاستثمارات الصناعية إلى 13 مليون جنيه بعد أن كانت 26 مليون جنيه في عام 1956 – هذا بالرغم من أن الحكام العسكريين توقعوا تزايدها.
ولتدارك الموقف، ولمواجهة هروب الرأسماليين التقليديين، نبتت فكرة التخطيط في رؤوس عناصر السلطة الناصرية. إذ أنشئ مجلس التخطيط الأعلى ولجنة التخطيط القومي والمؤسسة الاقتصادية. كان الهدف هو دفع التراكم الرأسمالي للأمام في مرحلة بدأ فيها أن الرأسمالية غير قادرة على التوسع وتطوير قوى الإنتاج.
كان تصنيع البلاد هو الهدف الأول للسلطة التي جاءت لتحل معضلات التنمية الرأسمالية لمصر. وقد اكتشفت هذه السلطة أن الديكتاتورية العسكرية ورأسمالية الدولة ومناورات الإمبريالية الصغرى في المنطقة العربية لتوسيع السوق هم الوسائل الضرورية لتحقيق هذا الهدف. في أواسط الخمسينات أرسل عبد الناصر يستشير إحدى الشركات الأمريكية عن احتمالات التقدم الصناعي والاقتصادي في مصر. وجاءه الرد التالي: “حتى لو حصلت على مليار من الدولارات التي تحتاج إليها في خطتك الخمسية، وحتى لو نجحت خطتك الخمسية نجاحًا كاملاً بدون أي تعثر وتوقف، وحتى لو بذل كل فرد في المجتمع المصري قصارى جهده وغاية طاقته مستخدمًا كل الخبرة والمعرفة الأجنبية فإن أفضل ما تستطيعه حينئذ هو المحافظة على الوضع الراهن والحيلولة دون تقهقر أكثر إلى الوراء”. وكانت استجابة عبد الناصر هي الانعطاف أكثر فأكثر ناحية رأسمالية الدولة لتعبئة موارد دولة الرأسمالية صغيرة ناشئة في عالم يسوده الاحتكار والمنافسة الشرسة آنذاك الخمسينات والستينات كان إتباع إستراتيجية رأسمالية الدولة هو الطريق الذي اثبت نجاحه لتصنيع البلدان المتخلفة.
وبالفعل في يوليو 1961، وقبيل العيد التاسع للثورة، أصدرت الدولة سلسلة من القوانين سميت بالقوانين الاشتراكية: تخصيص 25% من أرباح الشركات للموظفين والعمال، إشراك الموظفين والعمال في مجلس إدارات الشركات، تأميم 149 شركة، تحديد ملكية الأفراد في الشركات بما لا يزيد عن 10 آلاف جنيه، إسقاط التزام مرفق النقل العام، تخفيض الحد الأقصى لملكية الأرض إلى 100 فدان… الخ، وقد دفعت جذرية الإصلاحات الشيوعيين الستالينيين الذين كانوا في السجون وقتها إلى اعتبار أن السلطة قد أصبحت اشتراكية وتجاوزت الطريق الرأسمالي للتطور. ولم يكن هذا الرأي إلا ترديدًا لأصداء الستالينيين المصرين المتأصلة. فأي اشتراكية تلك التي تطبق بقرارات من أعلى بينما الجميع في السجون؟ أي اشتراكية تلك التي تقوم على قمع الحركة العمالية وحظر الإضرابات والهيمنة على النقابات؟ وأي اشتراكية تلك التي تخضع كل شيء لضرورات التراكم من أجل مضاعفة الدخل القومي في ظرف عشر سنوات لا أكثر كما حدد الميثاق؟
سقوط الناصرية
كانت إستراتيجية عبد الناصر لتنمية مصر رأسماليًا عن طريق سياسة الإحلال محل الواردات تقوم على ثلاث ركائز: غلق السوق حتى لا تهزمنا منافسة السلع الأجنبية لبضائعنا، تعبئة الموارد في يد الدولة لتقوم بدور الرأسمالي الأكبر الذي يدفع التصنيع، وتوسيع سوق تصريف منتجاتنا المحلية. ومن أجل تطبيق هذه الإستراتيجية تم التأميم لتعبئة المواد، وتم الإصلاح الزراعي لضرب كبار الملاك الذين كانوا يستحوزون على فوائض هائلة، وحدثت محاولات لرفع مستوى معيشة الجماهير لتوسيع السوق، ورفعت شعارات الوحدة العربية للنفاذ إلى أسواق الدول المجاورة.
ولكن تجربة عبد الناصر أثبتت فشلها في غضون سنوات قلائل. فبعد خمس سنوات فقط من تطبيق القرارات الاشتراكية – في عام 1966 – انخفض معدل الزيادة في الدخل المحلي إلى 5% بعد أن قد بلغ طيلة سنوات الخطة الخسمية (61 – 1965) 6%. وهبط معدل الادخار المحلي إلى 13.7 مما نتج عنه تحقيق عجز في ميزان المدفوعات. وانخفض الإنتاج في مجموع القطاعات السلعية بحوالي 1%، ونقص دخل الفرد بحوالي 2.2%. في عام 1967 هبط الإنتاج مرة أخرى بمعدل 1.8%، وتناقص دخل الفرد بمقدار 5.7%. وفي نفس العام وجهت الإمبريالية ضربتها لنظام يوليو عندما اكتسحت إسرائيل الجيش المصري واحتلت سيناء في ساعات قلائل في يوم 5 يونيو 1967. وبذلك أضيفت الهزيمة العسكرية والإفلاس السياسي إلى الأزمة الاقتصادية للنظام، وهي عوامل تدفع كلها في اتجاه تأجيج الصراع الطبقي الذي ظل خاملاً على مدى سنوات.
كان رد الفعل الأول لنظام رأسمالية الدولة الناصرية على الأزمة الاقتصادية هو الهجوم المباشر على مستويات معيشة الجماهير. رفعت الدولة نسبة الضرائب على السلع والخدمات الضرورية، فزادت مثلاً رسوم الدفعة بنسبة 20.7% في 1966، بينما زادت ضرائب الخدمات بـ 41%، والضرائب السلعية الأخرى بـ 122%. وقد عكس هذا نفسه مباشرة في زيادات متواصلة في الأسعار وانخفاض في استهلاك الكادحين. وبعد هزيمة 1967 اتجهت السلطة إلى لي عنق سياساتها السابقة في اتجاه انفتاحي فاختفى تدريجيًا شعار “الاشتراكية” وبدأ يمل محلة شعار “الكفاحية والعدل”. وبدأ عبد الناصر يعدل من سياسته المناوئة للإمبريالية فقبل مبادرة روجز الأمريكية في صدد الصراع العربي الإسرائيلي.
وبينما كانت الناصرية المهزومة تترنح بدأت الحركة الجماهيرية تتصاعد من جديد. في فبراير 1968 خرجت المظاهرات العمالية من حلوان احتجاجًا على الأحكام المخففة لقادة الطيران الذين حوكموا بتهمة تسببهم في هزيمة 1967، وقد انتشرت المظاهرات بعدها في الجامعات. وفي بدايات العام الدراسي 68 – 1969، اشتعلت الجامعات بحركة طلابية مزجت بين المطالب السياسية والمطالب الطلابية. كانت هذه هي المرة الأولى على مدى أكثر من عشر سنوات التي تجرؤ الجماهير فيها الخروج في مظاهرات بغرض آخر غير تأييد النظام والتهليل لسياساته. في هذا الوقت بالذات ظهرت الحاجة لدى السلطة إلى تكوين فرق الأمن المركزي. لاشك أن السلطة كانت تدرك وقتها أنها ستحتاج إلى هذه الفرق كثيرًا لتمرير سياساتها الهجومية المقبلة.
أي مستقبل للناصرية؟
كان سقوط تجربة عبد الناصر بمثابة حكم تاريخي جديد على البرجوازية المصرية، بعدما ارتدت ثوب رأسمالية الدولة، بالفشل والعجز – الفشل في تعبئة الموارد والعجز عن توسيع السوق عن طريق الهيمنة على المنطقة العربية لأن هذا كان يتعارض على طول الخط مع مصالح الإمبريالية في منطقة إستراتيجية هامة.
بعد سقوط التجربة، استمرت الناصرية خارج السلطة تطرح نفسها كمعارضة وبديل لنظامي السادات ومبارك. وفي طورها الجديد ظهرت الناصرية على صورتين أساسيتين: صورة معارضة بعض رجال الحكم في نظام عبد الناصر للسياسات الانفتاحية للسادات ومن بعده، وصورة استلهام قطاعات من الطلاب الشباب في السبعينات والثمانينات للتجربة الناصرية بوضعها أفقًا للتعبير في المستقبل بالطبع كان هناك تقاطع وتداخل بين الصورتين سواء من الناحية التنظيمية داخل الحزب الناصري أو من الناحية الفكرة ولكن تظل الاختلافات والتمايزات أكثر أهمية. رجال نظام عبد الناصر الذين اختلفوا مع السادات وأسسوا سمعتهم على أنهم ناصريون ليسوا أكثر من معارضة برجوازية ذات وجه قومي، تلعب لعبة الأحزاب الورقية والانتخابات الشكلية، وتتودد إلى النظام وتدور في فلكه (وقد حصل هؤلاء على حزبهم الشرعي أخيرًا في أوائل التسعينات) أما شباب الناصريين الذين برزوا إلى الساحة أثناء تصاعد الحركة الطلابية في السبعينات أو في بعض سنوات الثمانينات فهم من طينة مختلفة. هؤلاء الأخيرين الذين أسسوا نادي الفكر الناصري في السبعينات ثم بعد ذلك، ومع تراجع الحركة الجماهيرية، أسسوا التنظيم الناصري المسلح في النصف الثاني من الثمانينات كانوا – ولا يزال بعضهم – يريدون التغيير فعلاً ولكنهم لم يتجاوزوا أفق طبقتهم البرجوازي الصغير. الناصريون الشباب الراديكاليون لم يحلوا أبدًا المعضلة التاريخية للناصرية حول السبيل إلى التغيير: هل يأتي التغيير عن طريق انقلاب الأقلية، أو عن طريق البرلمان، أو عن طريق الثورة الجماهيرية؟ عبد الناصر حل المعضلة بإتباعه للطريق الأول، ولكن اليوم هذا الطريق غير ممكن ومسدود وفشل الحركة الإسلامية دليل على ذلك. أما الطريق الثاني – طريق البرلمان – فهو بالطبع مستحيل وإفلاس المعارضة الشرعية دليل على ذلك. أما الطريق الأخير – طريق الثورة الجماهيرية – فهو بالتأكيد ممكن ولكن تراث الناصرية قائم على التوجس والتحفظ إزاءه. وحتى إذا نقد الناصرون الشباب ماضيهم وساروا في هذا الطريق فأي طبقة في رأيهم ستكون المؤهلة للتغيير؟ هل سيخرجون من خزائن الناصرية صيغة تحالف قوي الشعب العامل البالية.؟
وكيف سيمكنهم تكييف هذه الصيغة لزمن أصبحت فيه رأسمالية الدولة والتنمية المستقلة أشياء تنتمي للماضي السحيق؟ كيف سيمكنهم تجديد صيغة تقوم على التصالح بين الطبقات في زمن تتوحش فيه الرأسمالية وتشن الهجمات المتوالية على مكتسبات الجماهير؟
إن تناقضات الناصرية الراديكالية تضعها في مأزق عميق. فالاحتفاظ بالقوات الناصرية يعني الاتجاه إما إلى الإصلاح والترقيع أو إلى الإرهاب الفردي. وليس هناك من مخرج من هذه المعضلة سوى تحطيم القالب الناصري واكتشاف الاشتراكية الحقيقية: اشتراكية الثورة العمالية والتغيير الجماهيري من أسفل.