بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خبرات ثورية

في الذكرى الثانية والخمسين لـ"ثورة يوليو":

عبد الناصر بلا ناصرية وناصرية بلا عبد الناصر

بعد ما يقترب ثلاثة عقود على وفاته مازال جمال عبد الناصر حاضرا في السياسة المصرية. الأكثر من ذلك، فحضوره خلال الثلاث أو أربع سنوات الماضية يبدو في ازدياد مستمر. فنظام مبارك بدأ في السنوات الأخيرة محاولة للربط بين عبد الناصر ومبارك، ولبناء شرعية للنظام مستمدة من انه امتداد له ولحركة الضباط الأحرار، انعكست في احتفالات سنوية مكثفة بـ”ثورة 23 يوليو” تكاد تقف على حافة الزعم زورا بأن مبارك شارك في حركة الضباط الأحرار. من جانب آخر احتلت صور عبد الناصر مكانة واضحة في الحركة الجماهيرية للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية وضد احتلال العراق والتي أخذت زخما لم تشهده الحركة الجماهيرية في مصر على مدى عقود.

رغم كل شيء، يبدو أن الكثير مما كان عبد الناصر يدافع عنه في الستينات مازال مقنعا للأجيال الجديدة. فأعوام التكيف الهيكلي لم تجلب الرخاء الموعود لأغلب المصريين بل الفقر والبطالة وتفوت طبقي غير مسبوق. التحالف الحكومي مع الولايات المتحدة على مدى سنوات فشل في إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وحل المشكلة الفلسطينية ولو جزئيا. وبعد اثنين وخمسين عاما من انهيار الملكية عادت القوات الأجنبية لاحتلال دولة عربية وانتشرت قواعدها في الأراضي المصرية وهو ما يعتبره الكثيرون عودة للاستعمار. في هذا الإطار يبدو عبد الناصر رمزا لنظام روج لمعكوس هذه السياسات. الغريب هنا هو أن هذه الأسباب نفسها هي التي خلقت حياة جديدة لعبد الناصر في الطبقة الحاكمة وفي الشارع على حد سواء.

ورثة عبد الناصر في السلطة
في خطابه بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين للثالث والعشرين من يوليو أكد مبارك أن حكمه الذي بدأ في مطلع الثمانينات هو مرحلة جديدة من المسيرة الثورية “المستنيرة” وأنه رغم اختلاف الرؤى بين المراحل المختلفة والآن إلا انه متيقن من انحياز الجميع لجوهر المبادئ التي قامت عليها ثورة يوليو!

هذه بالضبط هي الصياغة التي وجدها نظام مبارك ملائمة للتعامل مع الأثر السياسي للأوضاع التي تحدثنا عنها. فالسياسات المعادية للفقراء على طول الخط وفشل السياسة الخارجية للطبقة الحاكمة فيما يخص فلسطين والعراق اقترنوا بقبضة حديدية وغياب للديمقراطية لتتمزق أي أسس يمكن أن تنبني عليها شرعية النظام. وبدأ كوادر النظام الذين تربى معظمهم في أروقة الاتحاد الاشتراكي في محاولة لبناء أساس جديد للشرعية.

ورغم أن نظام مبارك قد يكون أقرب في صلته بنظام السادات أكثر بكثير من عبد الناصر إلا ان الأخير كان الأنسب. من ناحية إحياء الصلة به يعيد خلق شرعية حكم العسكريين بإعادة التأكيد على وطنية الجيش ورجاله في لحظة يعاني فيها من تآكل شرعيته في ظل فساد مؤسساته وتآكل شرعيته في الحكم عبر مبارك. على ذلك حاول النظام فاشلا ربط قومية عبد الناصر العربية بعودة العلاقات العربية في ظل مبارك وبدأ في إعادة أغاني الحقبة الناصرية التي كانت ممنوعة في التليفزيون إلى الساحة وبدأت احتفالات يوليو تتجاوز إعلاميا الأسبوع والعشرة أيام. لكن عبد الناصر بدون الناصرية لم يقنع أحدا كأساس لشرعية مبارك ولا نظامه.

عودة للشارع
تتشابه حركة التضامن مع الانتفاضة وضد الحرب على العراق في الكثير من النقاط مع الحركة الشعبية التي ترعرع في ظلالها عبد الناصر الشاب في أربعينات القرن الماضي. فليس هناك صدى لتطلعات الأجيال الجديدة نحو الاستقلال والحرية و العدل الاجتماعي في الأحزاب السياسية الرسمية الغائبة عن الشارع. الإمبريالية الأمريكية حلت محل الاستعمار الإنجليزي في المنطقة ومن ثم كهدف للمتظاهرين. وتحولت المظاهرات من القضية الإقليمية إلى قضايا الداخل كالأسعار والديمقراطية. وكما ذكرنا حقبة عبد الناصر تمثل رمزا تاريخيا للتعامل مع أغلب هذه القضايا.

وهكذا عادت صور عبد الناصر للظهور في الشارع مرة أخرى في مقدمة كل المظاهرات التي شهدتها شوارع القاهرة خلال الثلاث سنوات الماضية. وبدا أن هناك إمكانية لإعادة إحياء الناصرية وأحزابها في مصر قلل من زخمها بالتأكيد ضراوة القبضة الأمنية للديكتاتورية. لكنها تبقى مرشحا رئيسيا كقبلة لأي تحركات جماهيرية في الفترة المقبلة. لكن ما تعد به الناصرية صار قليلا للغاية بما كان يمكن أن يقدمه عبد الناصر ورفاقه في 1952.

فاليوم يواجه الناصريون عقبات هامة إذا ما أرادوا عكس مجرى التاريخ مرة أخرى. فالتغيرات في الاقتصاد العالمي على مدى العقود الثلاثة الماضية لم تترك سوى مساحة ضئيلة للتنمية على الطراز الذي حاول عبد الناصر تنفيذه في الستينات. عصر رأسمالية الدولة انتهى عالميا ومحليا. وتم بيع جزء هام من القطاعات المربحة في الاقتصاد المصري للشركات العابرة للقوميات في مؤشر لاستحالة التنمية المستقلة كبديل ممكن أمام الرأسمالية المصرية. الاتحاد السوفييتي تبخر منذ زمن طويل، تاركا لمعظم قادة الدول النامية بدائل محدودة غير الحصول على الرعاية السياسية والاقتصادية من الولايات المتحدة.. في الشرق الأوسط، إسرائيل أقوى وأكثر تسليحا مما كانت عليه في 1967 وإمكانات السلام مع الفلسطينيين أبعد ما يكون. في الوقت نفسه فإن العلاقات العربية العربية على نفس درجة السوء التي كانت عليها إن لم تكن أسوأ.

وهكذا فإن نفس العناصر والأسباب التي يمكن أن تجعل عبد الناصر ومن يرفعون رايته مقبولين بالنسبة للجماهير المحتجة في مصر هي نفسها التي تحد مما يمكن أن يقدموه لها. وتقدم تجربة ميجاواتي سوكارنو في إندونيسيا دليلا إضافيا على ذلك. فالاستناد على الشخصية السياسية الاستثنائية لسوكارنو الذي يحتل موقعا تاريخيا مشابها للغاية لعبد الناصر، مكنها من الصعود على أكتاف الثورة التي أسقطت سوهارتو ليتراجع وهج شعبيتها شيئا فشيئا بعد أن ظهرت حدود ما يمكن ان يقدمه برنامجها للفقراء الطامحين لتغيير يعطيهم السيطرة الحقيقية على مصيرهم.