دروس من الثورة المجرية
دروس من الثورة المجرية: هل يحكم العمال العالم؟
* تم نشر المقال لأول مرة في 31 أكتوبر 2011، بموقع منظمة البديل الاشتراكي بأستراليا
تمتلك الطبقة العاملة القدرة على وضع نهاية للرأسمالية، ودليل على ذلك، أن ما من مكسب اجتماعي يتحقق إلا ويكمن خلفه نضال العمال. ربما يمتلك الأغنياء كل شئ،، لكنهم لا يسيطرون على شئ، وهنا تكمن قوة الاضرابات العمالية. تسعى الطبقة العاملة أيضاً إلى مجتمع جديد ذو نظام اقتصادي قائم على تلبية الحاجات الإنسانية وليس تحقيق الربح. ولكن وجود عالم مختلف أمراً يصعب تخيله. لقد تعودنا على رؤية أنفسنا وغيرنا من العمال وهناك من يملك زمام الأمور من حولنا على الدوام، ليس لنا دور حقيقي سواء في العمل أو في المجتمع بشكل عام، لم نعرف سوى الرأسمالية. فهل الحلم بعالم يحكمه العمال أمراً ممكناً؟
لقد شهدنا إرهاصات لهذا العالم في كل مرة قام العمال فيها بثورة ونجاحهم في إدارة شئون المجتمع. ويحفل تاريخ الرأسمالية بالعديد من الأمثلة لهذه الثورات العمالية، والتي عادة ما كانت تبدأ بإضراب عام أو احتلال واسع النطاق لأماكن العمل، وغالباً ما كانت تندلع هذه الاحتجاجات في أعقاب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية. في تلك الثورات لم تسعى الطبقة العاملة فقط لتعطيل العمل كما كان معتاد في إضرابات سابقة، بل سعت لتنظيم مؤسسات ديمقراطية جديدة بديلة والتى من شأنها أن تمارس السلطة السياسية وأن تسيطر على المجال الاقتصادي في آن واحد.
الثورة المجرية واحدة من هذه الأمثلة. في عام 1956 انتفض العمال ضد النظام الستاليني. ومثل كل الثورات، أندلعت الثورة المجرية من رحم النظام المأزوم. فالنظام في المجر، تماماً كما في الأتحاد السوفيتي، كان شكل من أشكال الرأسمالية: رأسمالية الدولة البيروقراطية. في هذا النظام، لا يملك العمال أية سيطرة ديمقراطية على المجتمع، ويحكم المجتمع قلة فوق المسائلة من رجال الدولة الذين يستغلون العمال بغرض اكتناز الأموال.
لقد فرض الإتحاد السوفيتي على دول أوروبا الشرقية التي كانت تقع في حيز نفوذه السياسي والاقتصادي برنامج انتاجي موجه نحو بناء القدرة التصنيعية، وكان الهدف هو تنشيط الإنتاج الحربي مما يتيح لروسيا إمكانية منافسة التسليح الغربي. وكان لتركيز الجهود على الإنتاج الصناعي تأثيراً سيئاً جداً على مجال الإنتاج الزراعي حيث شهد الأخير انخفاضاً هائلاً مما أدى إلى نقص حاد في المواد الغذائية. والحقيقة أن الأزمة الأقتصادية هي أحد العوامل فقط، فقد كان هناك أيضاً توقاً شديداً للحرية. لقد اندلعت الثورة المجرية ضد نظام ديكتاتوري مفزع، على غرار ثورات الشرق الأوسط هذا العام، حيث أظهرت الجماهير العربية شجاعة وبطولة غير مسبوقة في أنتفاضها ضد أنظمة الحكم الديكتاتورية في شمال أفريقيا.
بدأت الثورة المجرية عندما أطلقت قوات الشرطة النار على مظاهرة حاشدة (نظمت تضامناً مع احتجاجات العمال والطلبة في بولندا). وفي مقابل عنف الشرطة بدأ جنود الجيش في إمداد العمال والطلبة بالسلاح ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، وهكذا وبسبب إنحياز معظم القوات العسكرية إلى جانب الثورة، استعان النظام بالقوات الروسية المتمركزة في قواعد عسكرية داخل المجر لمهاجمة المواطنين المحتجين، وفيما بعد أرسلت روسيا المزيد من الجنود لتعزيز قواتها وهكذا تمكنوا من القضاء على الثورة تماماً.
في المراحل الأولى للثورة، لعب الطلاب والمثقفين دوراً هام في تحدي هيمنة النظام، ولكن بمجرد أن انخرطت الطبقة العاملة في الصراع، كانت تلك هي الضربة القاضية التي حسمت الأمر تماماً. حيث تمكن العمال من السيطرة على المصانع، المناجم، السكك الحديدية، وكذلك الخدمات البريدية والأتصالات. وتقريباً شارك كل سكان العاصمة المجرية بودابست في الانتفاضة، والتي سرعان ما اجتاحت كل المدن الكبرى والمراكز الصناعية الهامة. وتوالت سلسلة الإضرابات، وتم تنظيم ثلاثة إضرابات ضخمة في أعقاب الغزو السوفيتي، حيث أنضمت الأغلبية الساحقة من الطبقة العاملة المجرية لتلك الأضرابات، مما دفع بالصناعة إلى طريق مسدود.
لقد فهم العمال جوانب الاقتصاد التي يجب أن تتوقف عن العمل. على سبيل المثال، رفض عمال السكك الحديدية نقل القوات العسكرية السوفيتية. ولكن في بعض القطاعات، بدلاً من الإضراب واصل العمال العمل للحفاظ على استمرارية الإنتاج، ولكن ليس بشكل مكثف. تم تشغيل هذه الصناعات مثل إنتاج الغذاء والكهرباء والنقل تحت الرقابة العمالية، وتم تعيين مندوبين لمراقبة وتنسيق العمل. فكان الإنتاج لصالح الثورة، ولتلبية احتياجات الناس، لا أن يكون مصدراً للثروة والسلطة ولإحكام سيطرة النخبة الحاكمة.
وكان قلب الثورة ومحورها الأساسي هي المجالس العمالية، أول مجلس عمالي تشكل في الثالث والعشرون من أكتوبر – وهو اليوم الأول للثورة – في بلدة أويبست وكان قوامه عشرة آلاف عامل من عمال مصنع المصابيح المتحد. وفي غضون أسبوع، تشكلت مجالس مماثلة في معظم المراكز الصناعية الكبرى، وكان واضح أمام تلك المجالس التي أنتخبت بشكل ديمقراطي، أهمية التوحد في مجلس مركزي يتشكل من مندوبين عن كل المجالس للعمل على تنسيق النضال، وكان أن أعلن المجلس المركزي:
الهيئة العليا لإدارة المصنع هو مجلس العمال المنتخب ديمقراطياً من طرف العمال، على أن يكون رئيس المجلس معيناً في المصنع، المدير والدرجات الوظيفية العليا يتم انتخابهم من قبل المجلس العمالي، ويكون المدير هو المسئول أمام المجلس العمالي عن كل الأمور المتعلقة بالمصنع.
وبصفته عضو مخلص في الحزب الشيوعي البريطاني الموالي لستالين تم إيفاد “بيتر فراير” إلى المجر لموافاة جريدة الحزب بتقارير مفصلة حول الوضع هناك. ولكن بدلاً من أن يتبنى سياسات موسكو المضادة للثورة، دوّن بيتر تقارير رائعة ومتعاطفة مع الثورة، والتي كان من المتوقع أن تمنعها الرقابة. حول “المجالس العمالية” كتب بيتر يقول:
في نشأتها العفوية، وبنيتها، وإحساسهم بالمسؤولية، في كفائتهم التنظيمية بشأن الأمدادات الغذائية والنظام المدني، في قدرتهم على كبح جماح أكثر العناصر تطرفاً بين صفوف الشباب، في الحكمة التي تحلى بها الكثير منهم في تعاملهم مع أزمة القوات السوفيتية، وأخيراً وليس أخراً، في تشابهها مع في العديد من المحاور مع مجالس العمال والفلاحين والجنود الروسية “السوفيتات” والتي نشأت في أعقاب ثورة 1905 وعاودت الظهور مرة أخرى في فبراير 1917، وسرعان ما أتسعت رقعة المجالس العمالية لتشمل عموم المجر، كل هذا إلى جانب تمسكهم بالحفاظ على وحدة الكاملة بين المجالس كان أمراً لافت للإنتباة، لقد كانوا جميعاً القوة المتمردة القادرة على إحراز النصر، أتحد جميع المندوبين المنتخبين من المصانع والجامعات، من المناجم ووحدات الجيش، ومندوي هيئات الحكم الذاتي التي كانت محل ثقة الجماهير المسلحة. وهكذا فقد تحلت المجالس العمالية بسلطة هائلة، ولا يعد من قبيل المبالغة القول بأنه وحتى هجوم القوات السوفيتية على المجر في الرابع من نوفمبر كانت السلطة الحقيقية في قبضة مجالس العمال.
بطبيعة الحال، كما في كل ثورة حقيقية “من أسفل”، كان هناك “الكثير” الجدال واللغط، الصعود والهبوط، انتصارات وانكسارات ولكن هذا هو جانب واحد من الصورة. الجانب الآخر هو ظهور قيادات شعبية من الرجال والنساء والشباب العاديين الذين طالما عمل جهاز الأمن (الشرطة السرية)* على إبقائهم بعيدأ عن المشهد السياسي. لقد دفعت بهم الثورة لمقدمة الصفوف، وأشعلت فيهم إعتزازهم بالوطن، وأظهرت قدرتهم العبقرية على التنظيم الذاتي، وأوكلت إليهم مهمة بناء الديمقراطية من بين أنقاض البيروقراطية، كان الوعي السياسي لدي الناس يتطور بشكل ملفت يوماً بعد يوم.
أثبتت الطبقة العاملة قدرتها الكاملة على ممارسة السلطة وإعلاء مفهوم سيادة القانون والحفاظ على النظام العام، برغم تفشي الجوع والفقر لم تكن هناك أية محاولات للنهب والسرقة. وكالمعتاد في مثل هذه الاحداث فإن وسائل الإعلام الموالية للإتحاد السوفيتي ضللت شعوبها وذكرت العكس. ولكن لحسن الحظ أن المجالس العمالية كانت قد أحكمت سيطرتها على إدارة الصحف في المجر وأصبح الآن بإمكاننا نشر الحقائق لا الأكاذيب. بالإضافة إلى ذلك، أظهر العمال المجريين حسهم الفكاهي بإستيلائهم على شعار الحزب الشيوعي “الخردة لحفظ السلام” والذي كان شعارهم آبان الحرب على كوريا الشمالية، ليصبح الشعار المكتوب على هياكل الدبابات السوفيتية المحترقة بنيران المقاومة المجرية.
وهكذا في المثال الذي لدينا اليوم، وكما نرى مراراً وتكراراً، فإن هزيمة الثورة لم تحدث لأن العمال عجزوا عن تولي زمام الأمور، أو لأن العمال غير قادرين على تشغيل خطوط الإنتاج أو إدارة المجتمع بشكل ديمقراطي. لقد هزمت الثورة المجرية بأيدي أعدائها، وتحديداً بسبب القوة الساحقة للقوات العسكرية السوفيتية. فالمجر وكونها دولة جوار للإتحاد السوفيتي أعتبرتها الأخيرة من ممتلكاتها، وكان عامل الجوار هذا من أخطر التهديدات التي واجهت الثورة، ولم يكن لديها سبيل للنصر سوى أن تنتشر وتمتد على نطاق أوسع. والحقيقة أنه لم ينخرط جنود الصف السوفيت في عملية إبادة الثورة تلك من فرط حماستهم لمهاجمة غيرهم من العمال، بل على العكس فلقد تمرد بعض الجنود السوفيت على هذا الوضع وتركوا الخدمة العسكرية وأنضموا لصفوف الثوار. وكانت من أحد العوامل التي حالت دون أتساع رقعة الثورة هو غياب الحزب السياسي الثوري القادر على دفع الثورة قدماً في بولندا والمجر وفي أماكن أخرى في المنطقة.
ومع ذلك، ستبقى الشجاعة والعبقرية التنظيمية لعمال المجر عام 1956 مثالاً عظيماً يعطينا لمحة عن عالم آخر ممكناً بالفعل.
هوامش:
* تعد الشرطة السرية التابعة لجهاز أمن الدولة المجري واحد من أكثر الأجهزة البوليسية شراسة وقمعا، وكانت الكراهية الشديدة لهذا الجهاز هي واحدة من الأسباب الرئيسية لإندلاع الثورة. في بودابست أثناء الثورة كان يتم إعدام كل من عرف بعمله في الشرطة بعد أن تُحشى أفواههم بالنقود أمام حشود غفيرة من المواطنين. لقد خلق عمل الشرطة السرية مناخاً من الخوف وكان في نوفمبر 1956 إلى جانب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالمجر من أهم العموامل التي أدت إلى التمرد. (المترجمة)