بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خبرات ثورية

الديمقراطية من أسفل:

دروس مصر والعراق

علمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ
كلٌ عن المعنى الصحيحِ مُحرّفُ
معروف الرصافي

يمكننا أن ننقش هذا التعليق اللاذع لمعروف الرصافي عن النظام السياسي في العراق أيام الملكية على شاهد القبر المدفون به “المخطط الأكبر” لبوش الابن لإدخال الديمقراطية إلى العراق! فبعد حوالي خمسة أعوام من بدء الغزو ومن الإطاحة بصدام حسين، حصلت العراق على الشكل الظاهري لدولة ديمقراطية ذات سيادة – من علم ودستور وجيش! ولكن يوجد القليلون داخل أو خارج هذه البلد ممن لا يدركون أن هذا المظهر ليس أكثر من كذبة. فقد صاغت قوى الاحتلال الدستور الجديد للعراق “الديمقراطي”. ومن دون جيش الاحتلال ستنهار الحكومة العراقية. ولا يمكن للجيش العراقي خوض أي معارك دون إذن أمريكي. كما أن قوى الأمن تحت إمرة قيادات أمريكية.

لماذا فشل الاحتلال الأمريكي للعراق في جلب الديمقراطية المستقرة المنتعشة الحرة كما وعد مؤيدوه؟ يزعم المستشرقون ذوي النفوذ، مثل برنارد لويس، وعلماء السياسة المحافظين، مثل صامويل هنتينجتون، أن السبب هو أن الديمقراطية جزء من تراث “الحضارة الغريبة” وأنها لا تناسب المجتمعات العربية والإسلامية. إلا أن تاريخ مصر والعراق يقول غير ذلك.

فللعالم العربي ثقافة ديمقراطية أغنى مما قد يدركه البعض. ولكننا لا نجدها في رياء وخداع برلمانات العصور الاستعمارية، أو في المنظمات الجماهيرية للديكتاتورية البعثية أو الناصرية، بل في الحركة الوطنية الجماهيرية في الأربعينات والخمسينات، تلك الحركة التي اشتهرت بانتفاضاتها الجماهيرية، وبحركتها النقابية المستقلة، وباختمار الجدل السياسي الحر، وهو الأمر الذي حمى الممارسات الديمقراطية في وجه قمع قاس. وبالرغم من أن الهدف الأساسي للحركة كان النضال من أجل التحرر الوطني، فإننا لا ينبغي أن ننسى أن المتظاهرين كانوا يخرجون في كثير من الأحيان إلى شوارع القاهرة وبغداد للمطالبة أيضا بحقوقهم الديمقراطية الأساسية من أمثال رئيس الوزراء المصري صدقي باشا ورئيس وزراء العراق نوري السعيد.

يبحث هذا المقال في قضية الديمقراطية في مصر والعراق من 1945 إلى ثورتي الجيش في 1952 و1958. وتعني الديمقراطية هنا أكثر من مجرد نظام برلماني للحكم أو إجراء للانتخابات. فمثل هذه التعريفات الضيقة تخفي الحدود الموضوعة على السيادة البرلمانية التي تتضمنها معظم الأنظمة المفترض أنها “ديمقراطية”، والتي تنكر حق المواطنين العاديين في صياغة قرارات بشأن تنظيم حياتهم العملية. كما أنها تغفل حقيقة أن الحياة الداخلية الرسمية للحركات السياسية لا تخبرنا بالضرورة الكثير عن تأثير تلك الحركات على الديمقراطية في المجتمع. فالديمقراطية الداخلية المثالية ليست شرطا مسبقا لازما لنفوذ الحركة السياسية التي تنشر الديمقراطية في مجتمع أوسع. إذ يمكن لنشطاء حركة ما، خاصة تحت ظروف قمع الدولة، التجاوز عن محاسبة قادة الحركة، وبالرغم من ذلك ينجحون في تحقيق أهدافهم الديمقراطية الأوسع للقضاء على الاستبداد.

إن فرصة المناقشة وتقييم الأفكار والاختلاف هي جزء جوهري من أي نظام ديمقراطي. ويكمن جزء رئيسي آخر في قدرة الشعب على اختيار ومحاسبة واستبدال قادته. والعنصر الحيوي الثالث يتعلق بصناعة القرار: فكل الأنظمة الديمقراطية تعتبر إرادة الشعب ذات سيادة، حتى عندما يأخذ نواب البرلمان القرارات أو عندما تُعتمد بانتخابات أو استفتاءات عامة.

كل من هذه الجوانب الثلاثة يمكن رؤية صلته القوية بالحركة الوطنية: فقد كان وجود تلك الحركة تحديا للثقافة السياسية السائدة في ذلك الوقت. فقد خلقت جيلا جديدا من القادة جاء كثير منهم من جماعات سبق استبعادها من السلطة السياسة، مثل الطبقة العاملة. وفي النهاية، سعت تلك الحركات، باسم الشعب، إلى تغيير قرارات حكامها في قضايا ذات أهمية قومية محققة، مثلا، نجاحها المذهل في العراق في انتفاضة يناير 1948 التي أجبرت الحكومة على إلغاء “معاهدة بورتسموث” التي وقعتها مع بريطانيا قبل أسابيع قليلة من الانتفاضة.

فشل الليبرالية البرلمانية
كانت العراق ومصر عام 1945 مملكتين دستوريتين مستقلتين اسما مرتبطتين سياسيا واقتصاديا بالإمبراطورية البريطانية. فقد احتلت القوات البريطانية مصر في 1882 وأصبحت البلاد “تحت الحماية” رسميا في 1914. وكان التواجد العسكري البريطاني في العراق أحدث، إذ بدأ من 1914.

وبعد الحرب العالمية الأولى، واجهت السلطات البريطانية هبات وطنية تمثلت في الثورة المصرية سنة 1919 والثورة العراقية سنة 1920. وعلى كل حال، فبالرغم من المشاعر الوطنية والجمهورية القوية لدى كثير من المصريين والعراقيين، فقد تمكنت سلطات الاحتلال من تأسيس نظام حُكم ملكي في كلا البلدين. وحصلت مصر على استقلالها الرسمي في 1922 وحصلت عليه العراق في 1932، ولكن وفي كلتا الحالتين تمت حماية المصالح البريطانية بمعاهدات سمحت لها بقيادة السياسة الخارجية والمحافظة على أعداد كبيرة من القوات في مصر لإدارة منطقة قناة السويس. وقد قامت القوات البريطانية بتغيير الحكومة العراقية في 1941 والمصرية في 1942 خوفا من أن تضر حكومات مؤيدة لدول المحور بمصالحها.

لعبت الشركات البريطانية والشركات الأجنبية الأخرى دورا هاما في اقتصاد البلدين وفي القطاعات المهيمنة مثل النقل والصناعة والبترول. أما رأس المال المحلي فكان ذو قيمة قليلة في الاقتصاد باستثناء صناعة الغزل بمصر. وقد تطورت الصناعة بشكل سريع خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. حيث ساعد الطلب المتزايد للجيوش البريطانية المقيمة بالمنطقة على تحفيز وتنويع الإنتاج. وشهدت الحرب ارتفاعا كبيرا في تكاليف المعيشة. حيث ارتفعت في 1945 أسعار البيع بالتجزئة في كل من مصر والعراق إلى 300% و590% على التوالي من مستواها عام 1939. ووصلت تكاليف المعيشة للعمال في عام 1948 إلى أقصى مستوى لها مع زيادتها بنسبة 673% (805% للمواد الغذائية) مقارنة بمستويات 1939, وارتفعت نسبة البطالة بشكل حاد في أعقاب الحرب.

ومن وجهة نظر نشطاء الحركات الوطنية في مرحلة ما بعد الحرب كان هناك عاملان قللا من شأن المحتوى الديمقراطي للنظام البرلماني الموجود: الأول كون أن الوجود البريطاني يسلب الحكومات المنتخبة ديمقراطيا نفوذها، والثاني يتعلق بالطبيعة المحدودة “للديمقراطية”. إذ تم منح الملك سلطة الإطاحة بالحكومات المنتخبة، بينما مثّلت معظم الأحزاب السياسية مجرد تيارات متنافسة من صفوف الصفوة الحاكمة أكثر من تمثيلها أي قطاعات سياسية وطبقية أوسع، بالإضافة إلى أن النظام الانتخابي نفسه قام على تقييد حق الانتخاب. هذا وقد مُنع الشعبين المصري والعراقي من التعبير عن ميولهم السياسية وجُرّمت الشيوعية وأَُوقفت المظاهرات وشُددت الرقابة على المطبوعات. وكمثال على حدود الديمقراطية: ردت الحكومة المصرية على حركة الاحتجاج في أوائل 1946 بعدد من الإجراءات القمعية، إذ تم اعتقال أكثر من 1000 شخص وأَغلقت 4 جرائد و5 مكاتب وناديان اشتراكيان بحلول صيف هذه السنة.

كانت هذه هي ظروف تطور الحركة الوطنية. وكان الموضوع المهيمن وقتها هو مناهضة الاستعمار وأن على البريطانيين الرحيل. لكن أيضا ظهرت مجموعة أخرى من الأفكار مثل: الأنظمة الملكية المدعومة من البريطانيين عليها أن تكون أكثر ديمقراطية أو عليها الرحيل؛ يجب استبدال رؤوس الأموال البريطانية والأجنبية بأخرى وطنية؛ لابد وأن تتلازم تنمية الصناعات الحديثة مع الإصلاح الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة – باختصار كان النضال المصري والعراقي للاستقلال جزء من مشروع عربي للتحرر الوطني.

وقد تطورت الحركة الوطنية من خلال موجات من النضالات الجماهيرية التي تقترب من مستوى الانتفاضات: في مصر في أعوام 1946 و1948 و1951-1952 وفي العراق في أعوام 1952 و1956 و1958. بعض هذه الانتفاضات اشتعلت بسبب المطالبة بديمقراطية أكبر، مثل ثورة 1952 في العراق ضد تقييد حق الانتخاب على أساس طبقي. وبعضها الآخر اشتعل بسبب إنكار حقوق المواطنين في الاحتجاج والتجمهر، ومثال ذلك المظاهرة في مصر سنة 1946 كرد على مهاجمة السلطات لمسيرات طلابية على كوبري عباس.

وفي مصر، كانت التنظيمات الرئيسية في الحركة هي أغلبية النقابات العمالية، والتنظيمات الشيوعية، خاصة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وطليعة العمال، والجناح اليساري لحزب الوفد، والإخوان المسلمين. أما في العراق، فقد كانت هناك شبكة شبيهة ضمت نقابات العمال، والتنظيمات الشيوعية، خاصة الحزب الشيوعي العراقي؛ بعض الأحزاب اليسارية الأخرى مثل الاتحاد الوطني وحزب الشعب؛ الحزب الوطني الديمقراطي؛ حزب الاستقلال الوطني العربي؛ وفي منتصف وأواخر الخمسينات، حزب البعث القومي العربي. وباستثناء الشيوعيين، الذين ظلوا جماعة سرية ومحظورة طوال هذه الفترة، فقد كان للعديد من هذه الأحزاب علاقات متناقضة مع النظام الحاكم. إذ تعاون الإخوان المسلون في مصر، في بعض الأوقات، مع القصر الحاكم، وكانت قيادتهم معادية بشكل كبير لليسار العلماني. بينما انضم حزب الوفد في مصر، والحزبان الوطني الديمقراطي والاستقلال في العراق، إلى الحكومة في أوقات مختلفة في الفترة ما بين 1945 وسقوط النظام الملكي.

ثقافة المعارضة: خلق مساحات للجدل
في مواجهة القمع المكثّف، خلق الناشطون في الحركة الوطنية فضاءات ثقافية تمكّنهم من مناقشة أفكار بديلة حول تنظيم المجتمع. ففي مصر في الأربعينات والخمسينات كانت هناك صحافة شيوعية حيوية. حيث أصدرت مجموعة صغيرة من الناشطين الشيوعيين عملت مع عمال النسيج في شبرا الخيمة مجلة “الفجر الجديد”. وكان لصحيفة “الجمهورية” لحركة “حدتو” التي ظهرت في الفترة ما بين 1947 و1948 توزيعا يتراوح بين 8000 و12000 نسخة. هذا إلى جانب مجلات أخرى لـ”حدتو” في أوائل الخمسينات مثل “البشير” و”المستقبل” و”الملايين”.

أما الصحافة الوفدية اليسارية فقد وفرت منتدىً آخر، أكثر جماهيرية، للتعبير عن أفكار الحركة. تولى محمد مندور رئاسة تحرير جريدة “المصري” الوفدية، تلتها جريدة “الوفد المصري” (التي ترأسها من عام 1945 حتى أُعتقل في يوليو عام 1946)، ثم تلتها جريدة “صوت الأمة”. وتحت رئاسة مندور, أصبحت الصحافة اليسارية لحزب الوفد ناظما نشطا للحركتين الوطنية والنقابية. ووفقا لمندور نفسه “جريدة “الوفد المصري” كانت ميتة عندما توليت رئاسة تحريرها، لكنها تحولت بسرعة إلى نشرة ثورية يومية” بمساعدة فريق من المثقفين وصغار الصحفيين.

لم يكن المثقفون أمثال الناقد الأدبي مندور هم الوحيدون الذين سُمعت أصواتهم في الصحافة المعبرة عن الحركة الصاعدة. قادة النقابات العمالية، طه سعد عثمان ومحمود العسكري من نقابة عمال الغزل ويوسف المدرّك من نقابة عمال التجارة، كانوا أيضا من الصحفيين المبدعين. وقد أسست نقابة عمال غزل شبرا الخيمة عددا من الصحف منها “شبرا” في 1942 و”الضمير” في 1945 اللتان لفتتا على الفور أنظار السلطات والسفارة البريطانية. وفي وقت لاحق صار العسكري يكتب لـ”صوت الأمة” جريدة الوفد ذات الميل اليساري. كما ظهرت أولى كتب طه سعد عثمان في 1945، حيث كتب عن حياة “فضالي عبد الجيد” أحد قادة نقابة الغزل الذين خاضوا الانتخابات البرلمانية بمساندة من النقابات العمالية سنة 1945. وقد نشر أيضا في نفس السنة تاريخا لنضالات عمال الغزل في القاهرة. وبالمثل، فقد برز في العراق في نفس الفترة تراثا من الصحافة المعارضة والإعلام اليساري يتراوح بين صحف شيوعية سرية مثل “القاعدة” في الأربعينات و”إتحاد الشعب” في الخمسينات، وجريدة “صوت الأهالي” للحزب الوطني الديمقراطي وجريدة “لواء الاستقلال” ذات النزعة القومية العربية.

لعبت صحافة وأماكن لقاء واجتماع الحركة الوطنية دورا عمليا هائلا في تنظيم الحركة. فقد كان الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري مرتبطا بمقهى حسن العجيمي، في حين دأب الشاعر معروف الرصافي على اعتياد مقهى حيدر خانة. ولم تكن المقاهي مجرد أماكن للمناقشات، فقد استضافت اجتماعات النقابات العمالية، ووفرت أماكن لالتقاء المتظاهرين. أما الشعر فلم يقتصر على الاجتماعات الأدبية، إذ يتذكر باقر إبراهيم أصدقاء دراسته وهم يقرأون سطورا من شعر الرصافي خلال “الوثبة” عام 1948. بينما كان الشعراء أمثال فتحي المغربي، عامل الغزل، يلقون شعرهم بانتظام في اجتماعات النقابة في مصر وينشرونه في الصحافة العمالية. وقد لعبت المكتبات أيضا دورا مماثلا للمقاهي كمكان لالتقاء الأشخاص والأفكار. فقد كان هناك العديد من المكتبات في القاهرة وبغداد والإسكندرية والبصرة التي استوردت أعمالا أجنبية لمؤلفين يساريين بالإضافة إلى الأدب الحداثي والفلسفة.

ممارسة السياسة الجماهيرية
في عهد استُبعد فيه معظم المصريين والعراقيين من الحياة السياسية الرسمية، وفرت أنشطة الحركة الوطنية فرصا للأشخاص العاديين لتصبح أصواتهم مسموعة. كان هذا عصر الاحتجاجات الجماهيرية، حينما كانت المظاهرات تدفع بالآلاف ومئات الآلاف إلى الشوارع. فمثلا “يوم الجلاء”، يوم الإضراب العام في 21 فبراير سنة 1946 في مصر، كان يوما مؤثرا وظاهرا في كل المدن من الدلتا وحتى جنوب أسيوط. وقد تلقى الحزب الشيوعي لبريطانيا العظمى هذه الشهادة من مراسل رأى الأحداث رأي العين: “في كل أرجاء القاهرة وقع إضراب عام. صار كل شيء ساكنا: المحال، المقاهي، المطاعم، السينمات، القطارات، الأوتوبيسات، المدارس. وسار الطلاب والعمال معا يهتفون شعارهم “الجلاء التام عن مصر والسودان”.

حملت مظاهرات الشوارع أصوات الشباب والعمال والفقراء وغير المتعلمين إلى مجالس الوزراء وملاك الأراضي والملوك. وقضت هذه الاحتجاجات الواسعة ليس فقط على التراتبية الطبقية، بل أيضا على تراتبية العمر والجنس. إذ شاركت عاملات الغزل في مصر في المظاهرات والمسيرات رافعات رايتهن الخاصة. أما المتظاهرين على جسر المأمون خلال “الوثبة” عام 1948، فقد سلموا قيادتهم لفتاة عمرها 15 سنة، هي عدوية الفلكي. وقد لعبت فتيات المدارس دورا بارزا في مظاهرات البصرة سنة 1956 التي اندلعت ردا على العدوان الثلاثي على مصر، وذلك طبقا لرواية القنصل العام البريطاني للمدينة نويل جاكسون. فقد كانت المدرسة الثانوية للبنات في مدينة البصرة بؤرة لاحتجاجات الطلبة: “تجمعت حشود الطلبة من مدارس أخرى خارجا، ومن بينهم مدّعو الشيوعية، الذين يبدو أنهم كانوا يقودون المظاهرة. وقد استُخدمت الشعارات المعتادة المناهضة للحكومة والمناصرة للمصريين والسوريين. وقد شتتت الشرطة المتظاهرين الذين أُعتقل منهم 14 فردا وأُصدر أمران لاعتقال اثنين آخرين. وقد تم الإفراج عن الكل فيما بعد باستثناء ثلاثة أشخاص. وأعتقد أن مدير التعليم المسئول وبصحبته ضابط شرطة حذروا طالبات مدرسة البنات من ممارسة مثل هذه الأنشطة مستقبل.”

وقد تضمنت إضرابات العمال أيضا ممارسات ديمقراطية. فمثلا تمت الموافقة على مطالب عمال البترول المضربين في كركوك في يوليو 1946 في اجتماع جماهيري ضم أكثر من 500 دعا إليه الناشطون الشيوعيون في مقهى حمى طوبال. والاجتماعات الجماهيرية كانت ملمحا مهما من ملامح هذا النزاع. إذ كان مئات من العمال يتقاطرون يوميا على حدائق كاورباغي ليسمعوا تقارير من لجان الإضراب. وقد هجمت الشرطة على واحد من هذه الاجتماعات في محاولة من السلطات لكسر الإضراب. أما في نقابة عمال الغزل بالقاهرة، فقد أضعفت التحضيرات للإضراب العام سنة 1946 دور القيادات النقابية وقوّت دور العمال القاعديين. ويتذكر يوسف درويش، وهو ناشط شيوعي ومحامي عمالي، أن مندوبي العنابر والمصانع، وليس القيادات النقابية، هم الذين لعبوا الدور الحاسم في الإضراب: “كان فيه مندوبين. فبالإضافة إلى النقابة, اللى كان معترف بها من الحكومة, العمال فكروا أنه لازم يبقى فيه ديمقراطية مباشرة, فقرروا ينتخبوا مندوبين عنهم, مثلا في كل عنبر يبقى فيه مندوب أو مندوبين ويجتمعوا مع بعض. في شبرا الخيمة كان فيه ضغط عليهم فكانوا بيجتمعوا على النيل.”

حتى الأشكال الأكثر سلبية للحركة، مثل الالتماسات، كان بها جانب ديمقراطي هام. فمثلا وقّع المئات من عمال الغزل وعمال كبس البلح وعمال البلدية والطلاب والمثقفين والفلاحين وأصحاب المحلات على مذكرة أعدها ناشطون شيوعيون في المدينة العراقية الكوفة، معبرين عن التضامن مع النضال المسلح للحركة الوطنية المصرية ضد البريطانيين في منطقة قناة السويس في خريف سنة 1951. وبتلقيه ردا من السفير المصري في بغداد، عقد عبد النبي حمزة، واحد من منظمي الالتماس، اجتماعات للعمال في المصانع والأسواق، ليخبرهم “بالرد على مذكرتهم، وهو أمر زاد من ثقتهم في أهمية توقيعاتهم.”

إذن فقد لعبت العريضة دور المحفز للنقاش السياسي، بينما أظهرت حقيقة أن الناشطين الذين قاموا بجمع التوقيعات عادوا وقدموا تقريرا عن نتائج عملهم لاجتماعات جماهيرية التزاما بمبدأ أن أولئك الذين يُفوضون لإيصال قرارات جماعية يخضعون للمحاسبة على أعمالهم.

القيادة الديمقراطية
يحكي طه سعد عثمان قصة توضح كيف يؤدي النضال والتنظيم من أسفل إلى توقعات بشأن القيادة تختلف بشكل عميق عن الأفكار السائدة. فقد تم القبض عليه وأُحضر لقسم الشرطة للاستجواب خلال إضراب عن الطعام ضد فصل العمال في مصنع هنري بيير في الفترة الأولى من الحرب العالمية الثانية. طلب مأمور الشرطة من طه سعد إنهاء الإضراب عن الطعام وإخراج المحتجين من مكتب النقابة:
– يعنى ملقيتوش غير الحته دي تضربوا فيها؟ مرحتوش حته تانية ليه بعيد يعني؟!
– دي دار نقابتهم.
– ومين رئيس النقابة دي؟ طبعا إنت. إزاي تسمح لهم بالإضراب في النقابة؟
– دي نقابتهم وأنا مشترك زيهم، وإذا كانوا انتخبوني رئيس للنقابة فمش معنى كده إني صاحبها!! دول أضربوا في الدار اللي بيدفعوا إيجارها من اشتراكاتهم.
– لكن إنت المسئول أمامنا وأمام النيابة العامة وعليك إنك تطلعهم من النقابة.

بالضبط كما أن الحوارات الديمقراطية ليست مقتصرة على البرلمانات، فإن القيادة الديمقراطية هي شيء أكبر من مجرد انتخاب المسئولين. تغيير المجتمع من جذوره يستلزم القيادة: إنه مشروع يتطلب تقسيم العمل والتخطيط الاستراتيجي ومرونة عالية في التكتيك. لكن من ناحية أخرى، فإن إصدار الأوامر من جانب النقابيين أو الاشتراكيين أو أي شخص منخرط في مشروع جماعي للتحرر هو أمر في الأغلب قليل الفائدة. فـ”القادة” و”التابعين” في حركات كتلك لا يكونون فئات ثابتة. ففي حالة طه سعد عثمان ورفاقه المضربين، كان العمال القاعديين هم أصحاب الدور القيادي في الاحتجاج، في حين كان رئيس النقابة، سعد عثمان، يلعب دور طرح مطالبهم على السلطات.

فبسبب من طبيعتها الجوهرية بالذات، تخالف هذه النوعية من الحركات الأفكار السائدة حول من ينبغي أن يكون قائدا، وذلك بميلها ناحية تحويل الناس العاديين، وليس أبناء النخبة، إلى صانعي قرار سياسي. وتكون هذه الحركات في أتم فاعليتها عندما تنجح في تحويل الآلاف، أو حتى الملايين، إلى قادة للحركة. فكما قال كارل ماركس، العمال يجب أن يحرروا أنفسهم بأنفسهم. وخبرة الحركات الوطنية في مصر والعراق في الأربعينات والخمسينات ترينا معنى القيادة الديمقراطية، ولكنها ترينا كذلك كيف أن الحفاظ على هذا النوع من القيادة صعب.

وكان من أهم الإنجازات الديمقراطية للحركة أنها صهرت جيلا جديدا من القادة السياسيين معظمهم كانوا عمالا ومزارعين. فقد كان النشطاء النقابيون على سبيل المثال يبحثون عادة عن رعاة وقادة من خارج الطبقة العاملة لدعم مطالبهم، كالنبيل عباس حليم أومسئولي حزب الوفد. لكن في الأربعينات تم تهميش هؤلاء الرعاة الخارجيون وحل محلهم قادة قادمين من صفوف الطبقة العاملة مثل يوسف المدّرك من نقابة عمال التجارة وطه سعد عثمان ومحمود العسكري من نقابة عمال الغزل وعطية الصيرفي من نقابة عمال النقل. هذه الشريحة الجديدة دافعت بحمية عن استقلالها إزاء “الأفضل” اجتماعيا وتعليميا. فمثلا عمل طه سعد عثمان وزملاؤه عن قرب مع المحامي الشيوعي يوسف درويش، ولكنهم رفضوا منحه دورا علنيا في لجنة العمال للتحرير القومي التي أنشأوها عام 1945.

أما النقابات العمالية العراقية في الأربعينات فقد كان يقودها في الأغلب ناشطون من أصول عمالية. كان فرج سليمان رئيس نقابة النجارين ابن عامل غزل. أما علي شكر، قائد نقابة عمال السكة الحديد، فقد كان ابن عامل فقير. بينما كان والد عبد الحسن جبار عودة رئيس نقابة عمال الميناء في البصرة نجارا. وكان كثيرون من هؤلاء القادة الجدد يبدأون حياتهم العملية في سن صغيرة جدا: كاظم حسن الدجيلي، سكرتير نقابة عمال الخياطة، وهادي علوان حسين، نائب رئيس نقابة عمال الأحذية، بدأوا العمل كصبية تدريب في سن السابعة. وكذلك، فإن عمل الأطفال كان أيضا أمرا شائعا في القطاع الحديث: بدأ محمد غضبان، رئيس نقابة عمال السجائر، عمله في مصنع للسجائر وعمره 12 سنة. أما كاظم محمد السعيد، عضو المجلس التنفيذي لنقابة عمال الميكانيكا القائمة في البصرة، فقد بدأ العمل في شركة جاري ماكينزي البريطانية كعامل في سن 12 سنة. وعلى وجه العموم، كان هناك القليل من قادة النقابات العمالية في الأربعينات من الذين تجاوز تعليمهم مستوى التعليم الابتدائي.

وفيما يتعلق بالحركة الشيوعية في الأربعينات، كان الحال في البداية هو هيمنة مثقفي الطبقة الوسطى عليها، ولكن فيما بعد نجحت الحركة في ضم عمال إلى قياداتها. كان محمد شتا، عامل غزل من شبرا الخيمة، عضو قياديا في حدتو، بينما أصبح الميكانيكي السابق سيد سليمان الرفاعي (الرفيق بدر) السكرتير العام للحزب. أما محمود العسكري وطه سعد عثمان من نقابة عمال الغزل بشبرا، فقد كانوا من الأعضاء المؤسسين في منظمة الطليعة الشعبية للتحرر التي عُرفت فيما بعد باسم “طليعة العمال”، حيث كان العسكري عضوا في اللجنة المركزية للمنظمة، بينما كان عثمان أحد منظمي الحزب. ويقدم حنا بطاطو معلومات مفصلة عن الخلفيات الاجتماعية للأعضاء القياديين في الحزب الشيوعي العراقي خلال الأربعينات والخمسينات. كان المدرسون والمنتمون إلى المهن الحرة يمثلون عناصر بارزة، ولكن بالذات تحت قيادة الرفيق فهد (يوسف سلمان يوسف) تسلم العمال مناصب قيادية في المنظمة. كان فهد نفسه حدادا في السابق، وأيضا عمل كموظف صغير. أما أقرب حلفائه فقد كانوا: زكي باسم، الذي كان عاملا سابقا في مدبغة، وعلي شكر من نقابة عمال السكك الحديدية، وأحمد عباس (المعروف بعبد تمر لأن أكله كان مكونا من الخبز والتمر وأشياء قليلة أخرى)، الذي عمل في السكك الحديدية وكعامل غزل وأحيانا كميكانيكي.

وبينما جذبت الأحزاب الأخرى عضوية من صفوف العمال والفلاحين وفقراء المدن، إلا أنها أعطتهم فرصا أقل في الوصول إلى مستويات قيادية في التنظيم. فقد جنّد الإخوان المسلمون في مصر على سبيل المثال عدد كبيرا من العمال، لكن قيادة التنظيم كانت حريصة على تأكيد طبيعة “الجماعة” كممثلة لفئة الأفندية. أما الحزب الوطني الديمقراطي في العراق، فعلى الرغم من نشره لبعض أفكار الديمقراطية الاجتماعية، إلا أن قمته كانت مكونة بالكامل من عناصر من الطبقتين الوسطى والعليا: فلجنته التأسيسية تكونت من ستة محامين، رأسمالي صناعي، ومساعد رئيس الديوان الملكي.

والقيادة الديمقراطية ليست فقط مسألة أيديولوجية، فهي أيضا يمكن أن تكون سلاحا فعالا في الصراع. فقد وجدت نقابة عمال الغزل في شبرا الخيمة أن قيادة منتخبة واسعة هي أداة فاعلة في مواجهة أفعال أصحاب الأعمال. إذ يتذكر طه سعد عثمان أن الفترة الأولى من وجود النقابة انتهت تقريبا بكارثة عندما أقالت إدارة مصنع هنري بيير في شبرا الخيمة المسئولين الأساسيين في النقابة الذين كانت نقطة ضعفهم هي تركّزهم في مكان عمل واحد. ثم بدأت بالفعل إعادة تكوين النقابة من القاعدة الى القمة باجتماع الجمعية العمومية في 26 أبريل 1942 كمقدمة لخلق قيادة للنقابة موزعة بين أكبر عدد من المصانع.

وفي المناطق ذات الكثافة السكانية الأعلى في شبرا الخيمة تركز أعضاء النقابة في المصانع الأكبر وقاموا بتنظيم أنفسهم في لجان مصانع. كل ورشة أو صف من الماكينات قام بانتخاب مندوب ليكون عضوا في لجنة المصنع. لجان المصانع بدورها انتخبت ممثلين مسئولين عن جمع اشتراكات الأعضاء والاتصال بمسئولي النقابة. ويرى عثمان أن لجان المصنع هذه كانت العمود الفقري للنقابة، واصفا دورها بأنه القيادة اليومية للعمل. وفكرة أن “القيادة” توغلت إلى مستويات أعمق من القيادات النقابية العليا يبدو أنها كانت عنصرا مهما في نجاح النقابة في تعبئة عضويتها. ويؤكد عثمان أن “اللجنة العامة للمندوبين”، المنبثقة من اللجان المصنعية، أصبحت في الواقع أكثر فاعلية بعد أن أصدرت وزارة الشئون الاجتماعية قرارها بحل النقابة بالرغم من أن القيادة الرسمية للنقابة قد أصبحت مشلولة جزئيا.

وقد دخلت نقابة عمال الغزل في بغداد في جدال ساخن حول الديمقراطية الداخلية سنة 1945. حيث كانت الهيمنة في اللجنة التنفيذية للنقابة لأعضاء الحزب الوطني الديمقراطي، بينما كانت هناك في اللجنة أقلية مرتبطة بالحزب الشيوعي العراقي. أما أنصار الحزب الشيوعي، فقد كانوا أغلبية في “اللجنة الإشرافية” للنقابة، المكونة من أعضاء النقابة في ورش النسيج. هنا ظهرت رؤيتان متنافستان للديمقراطية: الأولى، التي ناصرتها الأغلبية المنتمية للحزب الوطني الديمقراطي في اللجنة التنفيذية، رأت أن قادة النقابة مسئولون عن الإدارة اليومية للنقابة وأعضائها، بما في ذلك “اللجنة الإشرافية” بصفتها تمثل جمهور من الناخبين الخاملين نسبيا. أما الرؤية الثانية، التي دعهما الشيوعيون، فقط أعطت “اللجنة الإشرافية” دورا نشطا في مساءلة “اللجنة التنفيذية”، وشجعت النشاط السياسي بين العمال القاعديين في النقابة. وفي النهاية أُجبر رئيس النقابة ونائبه على الاستقالة وأُجريت انتخابات جديدة أتت بقيادة نقابية متحالفة مع الشيوعيين في أكتوبر 1945.

حدود القيادة الديمقراطية
لكن الحقيقة أن كل من الأيديولوجيا والممارسة الخاصتين بمسألة القيادة في التيارات المنظمة للحركة الوطنية كانتا نخبويتين في كثير من الأحيان. بعض التيارات، كالقوميين العرب، كانت ناقدة للنظام البرلماني الموجود وللديمقراطية بشكل عام. آخرون، كحزب الوفد في مصر والحزب الوطني الديمقراطي في العراق كانوا ملتزمين بتوسيع حدود الديمقراطية الليبرالية، لكنهم خلقوا في مجرى تطورهم أشكالا حزبية بيروقراطية خنقت أي نقد لقيادات تلك الأحزاب.

أما الحركة الشيوعية فقد أعاقها إرث ستالين الذي انقض على المكاسب الديمقراطية الجذرية التي حققتها الثورة الروسية. فلقد كان هناك تناقضا أساسيا بين ما يسميه أوجست نيميتز “التوجه الديمقراطي الأصيل” في الفكر الماركسي، وبين تطبيق هذا الفكر من جانب معظم الأحزاب الشيوعية بعد صعود ستالين للسلطة في الإتحاد السوفيتي. ويطرح هال درابر أن التزام الماركسية بالديمقراطية يرتكز على نقطتين أساسيتين: الأولى هي تحقيق الاشتراكية “من خلال النضال من أجل التوسيع المتواصل لمجالات السيطرة من أسفل”، والثانية هي صهر “النضال من أجل الديمقراطية السياسية الأتم مع النضال من أجل التحول الاشتراكي.”

من هذا المنظور يمكن القول أن الناشطين الشيوعيين في مصر والعراق كانوا الأكثر نشاطا في تعبئة المجموعات الاجتماعية المستبعدة بشكل منهجي من ممارسة السلطة في النظام السياسي السائد: العمال والفلاحون والفقراء والطلاب والنساء والمنتمون إلى أقليات دينية وقومية. أما إصرارهم على أن الإصلاح السياسي لوحده لن يستطيع أن يحقق التحرر الوطني أو أن يقلل التفاوت الطبقي في كل من مصر والعراق، فقد مثل تحديا لليبرالية السياسية والاقتصادية التي اعتبرها الجيل السابق من القوميين بمثابة مسلمة لا مجال للتساؤل بشأنها. ولقد أنتجت هذه الأفكار، جنبا إلى جنب مع الاعتبارات العملية لبناء حركة جماهيرية، “من أسفل” في أغلب الأحيان، كل الممارسات الديمقراطية التي تحدثنا عنها قبل قليل.

لكن كان هناك مسارا آخر في الفكر والممارسة الشيوعيين خلال فترة الأربعينات والخمسينات. فقد كانت أيديولوجيا القيادة التي دعمها الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي تحت ستالين غير ديمقراطية إلى أبعد حد. أحد أبعاد هذه الأيديولوجيا كانت مسألة عبادة البطل، أي القادة السوفييت، الذين زينت صورهم الإصدارات الشيوعية وتم تعليقها على حوائط مقار الاجتماعات الشيوعية. كانت صورة ستالين، بالنسبة للعديد من الناس خارج وداخل الحركة، رمزا للشيوعية. وقد قام يوسف درويش فيما بعد بنقد هذا الفكر التأليهي: “في رأيي، واحد من أسباب انهيار الحركة الشيوعية حول العالم هو إتباع الناس للإتحاد السوفيتي كما لو أنه إله، كما لو أنه مثل ربنا.”

أسرت الثورة الروسية خيال العديد من الشيوعيين في الشرق الأوسط في الأربعينات والخمسينات. فمثل البلاشفة في بداية القرن العشرين, واجه هؤلاء حكما ملكيا جائرا رفض منح المواطنين حقوقهم الأساسية. وقد كان التكوين الاجتماعي لبلدان مثل العراق ومصر وسوريا يشبه مثيله الروسي قبل الثورة الروسية: حيث أصحاب الأراضي الذين يسيطرون على النظام السياسي والذين يتعاملون مع المزارعين المعدمين مثل الملاك الإقطاعيين؛ وحيث التطور السريع للصناعة حول المدن أنشأ طبقة عاملة جديدة وعنيدة. من هنا قارن الشيوعيون في الشرق الأوسط بين مهام الثورة الوطنية القادمة، التي كانت في اعتقادهم الطريقة الوحيدة لتأمين حتى أي إصلاح اجتماعي معتدل أو حقوق ديمقراطية أولية، والموقف الذي واجه البلاشفة في روسيا تحت حكم القيصرية. واستمد الشيوعيون العرب الخيط من لينين، الذي طرح سنة 1914 أنه في الثورة الروسية القادمة سوف تؤدي الديكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين التي سيقودها حزب العمال وحزب الفلاحين بثلاث مهام: تأسيس جمهورية ديمقراطية (حيث المساواة في الحقوق والحرية الكاملة لتقرير المصير تمنح لكل القوميات)، ومصادرة ملكيات كبار الملاك، وتطبيق نظام العمل بثمان ساعات يوميا.

لكن معظم هؤلاء المناضلين الشيوعيين كانوا يرون التجربة البلشفية من خلال المرآة المشوهة للستالينية. فالحقيقة أن مسألة الديمقراطية كانت أساسية بالنسبة للثورة الروسية. فالانتفاضة التي قادها البلاشفة والتي أسقطت الحكومة المؤقتة حصلت على تفويضها من مجالس العمال (المعروفة بالسوفييتات في روسيا). كانت المجالس شكلا ديمقراطيا جديدا ومختلفا، يتكون من مندوبين مباشرين من مواقع العمل، وليس من برلمانيين منتخبين على مدى دورة كاملة. ولكن تحت ستالين تحولت السوفييتات إلى مؤسسات بيروقراطية مهمتها فقط تنفيذ الأوامر الصادرة من أعلى، بدلا من لعبها دورها الحقيقي، وهو التعبير عن الإبداع الديمقراطي للحركة على طريق إعادة صنع المجتمع من أسفل.

وفي نفس الوقت، كان تحليل تروتسكي للأحوال في روسيا، الذي قاده إلى الاستنتاج أن الثورة الديمقراطية يمكن أن تتطور إلى ثورة اشتراكية، بدلا من توقفها فقط عند مرحلة الإصلاح في حدود الرأسمالية، غير معروف لدى الجميع باستثناء عدد قليل في الشرق الأوسط. ولم تكن هذه النقاشات مجرد نقاشات أكاديمية. فقد كانت أفكار لينين عام 1914 عن “الديمقراطية الديكتاتورية” هي المسيطرة على الشيوعيين العرب، في حين كانت أفكاره هو وتروتسكي عام 1917 عن ضرورة التحرك فورا باتجاه الثورة الاشتراكية غير معروفة كما قلنا، وذلك في وقت التطورات الردايكالية والثورية في مصر والعراق بين 1945 و1958. وقد أسهمت فكرة أن الثورة الوطنية لا يمكنها أن تتجاوز حد إجراء بعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية في دفع الشيوعيين إلى بناء تحالفهم مع عبد الناصر والضباط الأحرار في مصر، ومع عبد الكريم قاسم في العراق.

وعلى المستوى العملي، فقد اتهم البعض شيوعيي الطبقة الوسطى في بلدان الشرق الأوسط بالهيمنة على الحركة واستبعاد الطبقة العاملة من تقلد مناصب قيادية. إذ يتبنى عطية الصيرفي، المناضل النقابي والعضو السابق في حدتو، منظورا متشائما بقوله إن “المثقفين المصريين سيطروا على الحركة الشيوعية، وهمشوا، إلى حد معين، العمال.” وقد قدم يوسف درويش وزملاؤه في حزب طليعة العمال انتقادات مماثلة للجنة القومية للعمال والطلبة التي نظمت إضراب عام واحتجاج شهير خلال فبراير ومارس سنة 1946.

الخاتمة
وبالرغم من هذه الحدود، فإن حقيقة أن الحركة الوطنية حرّكت الآلاف في كل مدينة وبلدة في أرجاء مصر والعراق شكّلت عاملا مضادا صحح بعضا من عيوب ونواقص الأشكال التنظيمية للحركة ومن طريقة تفكير ناشطيها المعادية أحيانا للديمقراطية. فقد خلقت الحركة فضاءات للمناقشات الديمقراطية: ففي صحفها واجتماعاتها النقابية ونقاشات وشعر مقاهيها، ناقش المئات والآلاف من الناس طرقا جديدة لتنظيم المجتمع. أما ممارسة السياسة الجماهيرية – تنظيم المظاهرات والإضرابات وكل أشكال النضال الجماعي – فقد أعطت الملايين ممن استُبعدوا من النظام السياسي الرسمي فرصا لتغيير العالم الذي يعيشون فيه.

وهذا لا يعني بالضرورة، بالطبع، أن الحركة الوطنية، أو تياراتها المنظمة، كانا محكومين بنظام مثالي للديمقراطية الداخلية. فقد ناضل النشطاء السياسيون للموازنة بين الحاجة للديمقراطية والحاجة للمركزية، بين الاحتياج إلى النقاشات المفتوحة والاحتياج إلى تجنب هجمات الشرطة السرية. وقد التزم البعض بتطوير القيادة الديمقراطية أكثر من غيرهم. واليوم فإن النماذج المعاصرة للمنظمات الإسلامية والقومية والشيوعية هي أقل ديمقراطية من مثيلتها في مراحل سابقة. إلا أن المأساة الحقيقية هي أن الإمكانات الديمقراطية للحركة الوطنية لم تتم ترجمتها إلى مجتمع أكثر ديمقراطية: فقد أطيح بأنظمة الحكم الملكي، ولكن قادة الجيش الذين استولوا على السلطة بعد ذلك زعموا أن انجازات التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتأتى إلا على حساب الديمقراطية!

بعض المراجع الرئيسية
1. باقر إبراهيم، مذكرات، دار الطليعة، بيروت، 2002.
2. جويل بينين وزكاري لوكمان، عمال على النيل: الوطنية والشيوعية والإسلام والطبقة العاملة المصرية من 1882 إلى 1954، أي بي توريس، لندن، 1988.
3. حنا بطاطو، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق، منشورات جامعة برينستون، برينستون، 1978.
4. دينا حشمت، يوسف درويش محامي العمال، أوراق اشتراكية، العدد السادس، أغسطس 2004.
5. رفعت السعيد، الصحافة اليسارية في مصر، الجزء الثاني (1950-1952)، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1986.
6. روبرت ميتشيل، جماعة الإخوان المسلمين، منشورات جامعة أوكسفورد، لندن ، 1969.
7. سلمى بوتمان، سياسات المعارضة في مصر: الحركة الشيوعية المصرية من 1936 إلى 1954، رسالة دكتوراه، جامعة هارفارد، 1984.
8. طه سعد عثمان، من تاريخ عمال مصر: كفاح عمال النسيج، مكتبة مدبولي، القاهرة ، 1983.