فرنسا 1968: الحلم الثوري يتفجر

كان عام 1968 عامًا ثوريًا بامتياز. فعلى مستوى العالم مادت الأرض تحت أقدام المستبدين والطغاة. وفي كل مكان تفتحت الأزهار وانتعشت الآمال وراحت صيحات الحرية تدك حصون الأغنياء والأقوياء. في أماكن عديدة كان للطلاب دور بارز. إلا أن الحركة لم تقتصر على الطلاب والهيبيز والخنافس كما يحاول الإعلام أن يقنعنا (المقصود الإعلام الغربي، فالإعلام عندنا لا يعرف سوى طريقة واحدة للتعامل مع الثورات: الصمت التام والتعتيم الكامل!). مثل 1968 تهديدًا حقيقيًا للطبقات الحاكمة على امتداد العالم تحديدًا لأن القوة القادرة على كسر أغلال الرأسمالية – الطبقة العاملة العالمية – تحركت، وكان لحركتها دوي هائل. صحيح أن العالم لم ينقلب رأسًا على عقب كما حدث في 1789 أو 1917، إلا أنه ارتج بشدة. ولا يزال شبح 1968 يثير رعب الحكام وينغص أحلامهم. كما أن بهجة 1968 لم تزل قادرة على تحرير عقول وقلوب الملايين.
يركز هذا المقال على أحداث فرنسا الثورية في مايو 1968. ولكن من المهم أن نضع تلك الأحداث داخل سياقها الأوسع. فقد شهد عام 1968 تصدع القلاع الكبرى للاستغلال والاستبداد، وهذا بالضبط هو ما أضفى على الحركة طابعها العالمي. تعرضت القوة العظمى الأولى في العالم – الولايات المتحدة – للإذلال في فيتنام في بداية ذلك العام. فقد شن مقاتلو “جبهة التحرير الوطني” الفيتنامية هجومًا منظمًا في قلب مدن فيتنام الجنوبية الخاضعة للسيطرة الأمريكية. ورغم أن الإمبريالية الأمريكية ردت بقسوة وهمجية، فإن الملايين عبر أنحاء العالم قد ذهلوا من شجاعة الفيتناميين وأيقنوا أن انتصار أمريكا بات مستحيلاً. هكذا راحت ظلال الشك تخيم على قدرة الإمبريالية الأمريكية على الاحتفاظ بسيطرتها على العالم. وحتى اليوم لا يزال الكابوس الفيتنامي يؤرق حكام واشنطن (تحاول أمريكا اليوم محو هذا الكابوس من خلال عرض فيلم فيتنام بالمقلوب في العراق). وفي أبريل من العام نفسه اندلعت ثورة السود في مختلف أنحاء أمريكا احتجاجًا على اغتيال الزعيم المنادي بنبذ العنف مارتن لوثر كينج (على يد عملاء مكتب المباحث الفيدرالية على الأرجح). وقامت جماهير السود بأعمال شغب وإشعال حرائق في 200 مدينة لأن مقتل كينج أظهر عبثية الاحتجاج السلمي الذي نادى به هو نفسه.
ولم يكن حال القوة العظمى الثانية أفضل كثيرًا في 1968. زعم العسكر الشرقي المتمثل في الاتحاد السوفييتي وتوابعه في أوروبا الشرقية أنه يجسد الحلم الاشتراكي. وتم قبول هذا الزعم على نطاق واسع من جانب أنصار الاشتراكية وخصومها على حد سواء. وكانت الحقيقة هي عكس ذلك تمامًا. فالعمال في هذه البلدان يتعرضون للاستغلال والقهر على يد طبقة بيروقراطية تتمثل في مديري المصانع وأماكن العمل، وقادة الأحزاب “الشيوعية” الحاكمة، وشاغلي الوظائف العليا في جهازي الدولة المدني والعسكري. كانت هذه الطبقة تسيطر على وسائل الإنتاج وتتخذ القرارات المتصلة بتنظيم الإنتاج وتشكيل حياة الناس، في ظل استبداد سياسي فظيع. وكان همها الأساسي هو تراكم الرأسمال على حساب مستوى معيشة الجماهير لخدمة أغراض المنافسة الاقتصادية والعسكرية مع الغرب. ساد في تلك البلدان إذن شكل من أشكال الرأسمالية هو رأسمالية الدولة، إلا أن الكذبة الكبرى القائلة بأن هذه البلدان “اشتراكية” حظيت بقبول واسع. وجاء عام 1968 لكي يلقي الشك ويثير التساؤل حول هذه الكذبة. ففي العام السابق، 1967، حدث انشقاق داخل صفوف الحكام “الشيوعيين” في تشيكوسلوفاكيا، وتولى السلطة جناح إصلاحي يقوده ألكسندر دوبتشيك. سعى دوبتشيك ورفاقه لإقامة “اشتراكية ذات وجه إنساني” (أي تخفيف القبضة الحديدية للطبقة البيروقراطية الستالينية الحاكمة بالحديد والنار). ورغم أن الإصلاحات المقترحة كانت محدودة ولم تتضمن السماح بالإضرابات أو الانتخابات الحرة أو التعددية الحزبية، فإن الجناح اليميني رفضها بشدة. وفي ظل ضغوط اليمين، التمست حكومة دوبتشيك العون من جانب العمال وحصلت عليه بالفعل في صورة إضرابات ومظاهرات تنشد التغيير. وعند هذا الحد شعر حكام روسيا بأن إمبراطوريتهم مهددة، فأرسلوا الدبابات إلى تشيكوسلوفاكيا في أغسطس 1968 لسحق “ربيع براج” وتم إسقاط الحكومة الإصلاحية ووأد آمال التغيير. هل انهزمت الجماهير؟ نعم، بلا شك. إلا أن الإمبراطورية “الاشتراكية” المزعومة تصدعت وراح المناضلون في كل مكان يثيرون أسئلة مهمة حول الطبيعة الطبقية للستالينية.
وإلى جانب تصدع القوتين العظميين، شهد عام 1968 أيضًا موجة واسعة من الإضرابات الثورية في مختلف أرجاء العالم. فهو العام الذي اندلعت فيه حركة طلابية جماهيرية عارمة في ألمانيا مارست قتال الشوارع ضد قوات الأمن عقب محاولة اغتيال أحد زعماء الطلبة (وكان ذلك في أبريل). وهو العام الذي ذبحت فيه السلطات المكسيكية أكثر من مائة من الطلاب والعمال المتظاهرين لضمان إقامة دورة الألعاب الأوليمبية في ظل ظروف “سليمة” (وكان ذلك في سبتمبر). وهو العام الذي انطلقت فيه شرارة الانتفاضة الوطنية في أيرلندا الشمالية ضد السيطرة البريطانية والقهر الطائفي، تلك الانتفاضة التي أشعلت الحرب الأهلية الأيرلندية (وكان ذلك في أكتوبر). وشهد عام 1968 أيضًا ظهور حركة طلابية مناضلة تحدت نظامًا فاسدًا بشكل متزايد في الهند، وبدايات الحركة الاحتجاجية الجماهيرية ضد الحكم العسكري الفظ في البرازيل، وشبه انتفاضة طلابية عمالية في الأرجنتين، وتهاوي الحكومة المسيحية الديمقراطية في شيلي تحت وطأة الإضرابات العمالية وحركة احتلال أماكن العمل. أما في الشرق الأوسط، فإن عام 1968 هو العام الذي استطاعت فيه حركة فتح (المناضلة وقتها) أن تتولى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وخاضت أول مواجهة عسكرية ناجحة مع القوات الإسرائيلية في معركة الكرامة، واندلعت حركة عمال وطلبة مصر التي عبرت عن خيبة الأمل في الناصرية والتجذير في صفوف الجماهير، وبدأ اليسار الجديد “يتبلور كقوة فاعلة في مصر ولبنان وفلسطين في محاولة جادة لتجاوز إفلاس الستالينية العربية. وقبل كل شيء، ففي 1968 شنت الطبقة العاملة الفرنسية أكبر إضراب عام في التاريخ حيث رفعت الصراع السياسي إلى مستوى أعلى كيفيًا بعد أيام من النضال الطلابي، وسببت ارتباكًا شديدًا للحكومة الفرنسية.
سنتناول في بقية هذا المقال الأحداث الثورية في فرنسا 1968. ولكن دعنا في البداية نجيب باختصار على سؤال: لماذا كان 1968 عامًا ثوريًا على مستوى العالم؟
1968 لم يأت من فراغ:
عادة ما يصور الإعلام أحداث 1968 على أنها تمرد طلابي قاده نفر من الشباب المتطرف غريب الأطوار (الهيبيز والخنافس… الخ) ما لبثوا أن عادوا إلى جادة الصواب عندما كبروا واحتلوا مواقع محترمة ومرموقة في المجتمع، فصاروا ينظرون لمغامرات شبابهم بحنين مغلف بالسخرية والتنصل. كما تصور تلك الأحداث باعتبارهم منبتة الصلة بما قبلها (أو مرتبطة فقط بحرب فيتنام) وما بعدها.
والحقيقة أن الحريق الثوري في 1968، وهو أكبر كثيرًا من مجرد تمرد طلابي، له جذوره الاجتماعية والتاريخية العميقة، وأسبابه المادية المتصلة بتطور الرأسمالية العالمية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إن السنوات العشرين السابقة لعام 1968 شهدت “الهدوء الطويل” في مستوى الصراع الطبقي والذي ارتبط بانتعاش اقتصاد ما بعد الحزب. وقد انعكس ذلك الهدوء أيديولوجيا على طبيعة الفكر السائد في العالم خلال هذه الفترة، حيث اتفق أغلب المفكرين الكبار من مختلف ألوان الطيف السياسي على قضايا أساسية أبرزها أن الرأسمالية الغربية قد حلت مشكلاتها الاقتصادية الأساسية وأنها احتوت الطبقة العاملة بشكل نهائي. استند هذا الرأي إلى وقائع حقيقة، إلا أن النظرة العميقة للتطورات تحت السطح كانت كفيلة بدحضه. فالانتعاش الاقتصادي الطويل ذاته أدخل تغييرات متراكمة على بنية النظام العالمي كان من شأنها، إن آجلاً أو عاجلاً. أن تطيح بدعائم الاستقرار السياسي. ويمكن تبين ذلك على مستويات ثلاثة على الأقل.
أولاً: أعتمد الانتعاش الطويل على معدلات الإنفاق الهائلة على السلاح في ظل الحرب الباردة، فيما يعرف باقتصاد السلاح الدائم. وقد انطوى اقتصاد السلاح الدائم هذا على تناقضات عميقة سمحت للقوى الأصغر نسبيًا (مثل ألمانيا واليابان) بالاستفادة من ظروف الانتعاش التي كفلها الإنفاق الأمريكي غير المسبوق على السلاح دون أن تتحمل عبء تلك الظروف، وبالتالي استطاعت هذه الدول تحقيق طفرة هائلة في الإنتاجية والتمتع بمعدلات نمو مذهلة ما لبثت أن قوضت الهيمنة الأمريكية. وكان هذا بدوره هو ما دفع الإمبريالية الأمريكية لمزيد من الشراسة في فيتنام وغيرها في محاولة يائسة لإعادة تأكيد سيطرتها.
وثانيًا: أنتج الانتعاش الاقتصادي الطويل في الغرب عملية تحضر وبلترة (أي تحول جماهير الفلاحين إلى بروليتاريا حديثة) هائلة كان لها تأثير تدريجي كبير على مجمل بنية المجتمع. فعلى سبيل المثال، انخفض عدد العاملين في الزراعة في فرنسا من 30 % من قوة العمل في 1950 إلى 16،7 في 1967؛ وقفي إيطاليا من 40 % على أقل من 25 % في نفس الفترة؛ وفي أيرلندا من 40،1 إلى 30 % وكان معدل التناقص أسرع كثيرًا في بلدان أخرى كاليابان مثلا. وكان لذلك تأثير كبير بشكل خاص في القطاعات المتخلفة نسبيًا داخل الرأسمالية المتقدمة (جنوب أوروبا، وجنوب الولايات المتحدة، وأيرلندا.. الخ) حيث راحت تتقوض بالتدريج روح الانصياع الريفي والطبيعة المحافظة لصغار المزارعين التي استند إليها الاستقرار السياسي والاجتماعي خلال سنوات ما بعد الحرب. هكذا شهدت فترة “الهدوء الطويل” ذاتها إقامة دعائم الصعود اللاحق في نضالية الطبقة العاملة ضد العنصرية الفجة في الجنوب الأمريكي وسلطوية ديجول في فرنسا والطائفية البغيضة في أيرلندا ودكتاتوريات شمال البحر المتوسط في أسبانيا والبرتغال واليونان.
وأخيرًا، فإن الدور البارز الذي لعبه الطلاب في أحداث 1968 يجد جذوره أيضًا في العملية نفسها، حيث تغير وضع الطلاب في المجتمع يفعل ظروف الانتعاش الطويل، فارتعت أعدادهم وانخفضت مكانتهم وساءت ظروفهم، ولم يعودا – بحلول الستينات – “أبناء البرجوازية” سواء من حيث أصولهم الطبقية أو مصائرهم الطبقية بعد التخرج. تاريخيًا، كان التعليم الجامعي هو حقل تفريغ وتدريب أبناء الطبقة الحاكمة وشريحة ضيقة من الطبقة الوسطى تلبي بشكل مباشر الاحتياجات الثقافية والأيديولوجية للطبقة الحاكمة، مثل المحامين وكبار الموظفين.. الخ. أما في ظل رأسمالية النصف الثاني من القرن العشرين، فقد احتاجت الرأسمالية الحديثة لآلاف مؤلفة من التكنوقراط والبيروقراطيين، وهكذا انفتحت أبواب الجامعات بشكل لا سابقة له. ليس معنى ذلك بالطبع أن الطلاب صاروا عمالاً، لكنه يعني أن الطلاب من حيث أصولهم الطبقية ومصائرهم الطبقية صاروا يكونون خليطًا طبقيًا غير متجانس يغلب عليه طابع الطبقة الوسطى. وهم عرضة لضغوط شديدة تتصل مثلاً بنظام الامتحانات الذي كثيرًا ما يحدد مصيرهم الطبقي، وهي ضغوط تدفعهم نحو النضالية السياسية، خاصة أنهم بسبب الصلة الوثيقة التي تربطهم بالأفكار (بحكم طبيعة دراستهم) يكونون بالغي الحساسية إزاء الأزمات الأيديولوجية للمجتمع وخوائه الفكري.
مهدت إذن التغيرات المتراكمة في بنية المجتمع خلال فترة الانتعاش الطويل وما صحبه من هدوء نسبي في الصراع الطبقي للحريق الثوري اللاحق. وصارت أدنى شرارة كفيلة بإشعال الحريق الثوري، مثلما حدث في 1968. وإذا كانت أحداث 68 وثيقة الصلة بما قبلها، فإن أصداؤها استمرت لسنوات عديدة بعدها. هكذا فإن مايو الفرنسي (الذي سنعرض له بقدر من التفصيل) قد تلاه الخريف الساخن في إيطاليا في 1969. كما أن خيبة آمال إدارة الرئيس جونسون في أمريكا بفعل الهزيمة المذلة في فيتنام قد تلاها السقوط المريع لخليفته نيكسون الذي أجبرته فضيحة ووترجيت على “الوقوف عاريًا”. وفي أوربا الشرقية، فإن تحدي الستالينية المتمثل في ربيع براج قد تلاه تحدي أكبر كثيرًا تمثل في حركة تضامن البولندية في أوائل الثمانينات ثم الثورات السياسية التي عصفت بالستالينية في أواخرها. وأخيرًا فإن سنوات أواخر الستينات حتى منتصف السبعينات شهدت صعودًا كبيرًا في مستوى الصراع الطبقي في أوروبا، وهو ما أسفر عن إسقاط حكومة المحافظين في بريطانيا في 1974 تحت وطأة الإضرابات العمالية واندلاع الانتفاضات والثورات التي أسقطت الأنظمة الديكتاتورية اليمينية في اليونان والبرتغال وأسبانيا خلال بضع سنوات.
ولننظر الآن إلى الأحداث مايو 1968 الملتهبة في فرنسا، والتي كانت بمثابة القلب داخل مجمل أحداث ذلك العام العظيم.
مايو الفرنسي:
حتى مايو 1978، كانت الحركة الطلابية في فرنسا أصغر حجمًا وأقل تأثيرًا من مثيلاتها في إيطاليا وألمانيا وبعض جامعات أمريكا وبريطانيا. وإذا أردنا أن نفهم لماذا كان حجم الحريق الثوري في فرنسا 1968 أكبر منه في غيرها فإن علينا أن ننظر لبعض السمات المميزة لتطور المجتمع الفرنسي. إننا عادة ما نفكر في فرنسا كمجتمع رأسمال متقدم. ومع ذلك فإن هذا المجتمع قد أتخذ في ظل رئاسة الجنرال ديجول بعض الخصائص السلطوية، أو حتى برأسماليات الدولة البيروقراطية في أوروبا المتوسطية، أو حتى برأسماليات الدولة البيروقراطية في أوروبا الشرقية.
جاء ديجول للسلطة في 1958 وسط أزمة سياسية بالغة متعلقة بكيفية تعامل الطبقة الحاكمة مع النضال الجزائري من أجل التحرر الوطني. وسرعان ما وصل ديجول لتسوية “عقلانية” للحرب الكولونيالية في الجزائر ثم عكف على تحديث الرأسمالية الفرنسية من خلال برنامج سياسي سلطوي يحاول تلبية حاجات وأهداف تلك الرأسمالية طويلة المدى على حساب الميول والتوجهات المختلفة داخل البرجوازية الفرنسية نفسها. فإذا كانت الفترة السابقة (1947 إلى 1958) قد شهدت تهميش التأثير السياسي لممثلي منظمات الطبقة العاملة، ففي ظل ديجول تم أيضًا تهميش وإبعاد الأحزاب التقليدية الممثلة للبرجوازية والبرجوازية الصغيرة وتركزت السلطة في يد رجل واحد هو الجنرال ديجول نفسه.
نجح ديجول في تحقيق هدفه المتمثل في تحديث الرأسمالية الفرنسية وزيادة تنافسيتها على المستوى العالمي من خلال خليط من السلطوية السياسية والتدخل واسع المدى في الاقتصاد على حساب بعض المصالح البرجوازية الفردية. ولكن هذا النجاح كان له ثمن مزدوج. فمن ناحية تشددت معدلات استغلال الطبقة العاملة الفرنسية التي صارت أكثر اغترابًا وبؤسًا من الطبقة العاملة في بريطانيا أو ألمانيا مثلاً. ويكفي أن نذكر أنه بحلول 1966 حصل العمال الصناعيون الفرنسيون على ثاني أسوأ الأجور في دول السوق الأوروبية المشتركة وكانت ساعات عملهم هي الأطول بين دول السوق. كما دفعوا أيضًا أعلى الضرائب. وكان لسياسات “التقشف” ذاتها تأثير سلبي على أوضاع الطلاب الجامعيين الذين ارتفعت أعدادهم من 200 ألف إلى 550 ألف بين 1960 و 1968 في حين تدهورت كثيرًا الأوضاع في جامعاتهم من حيث التسهيلات والإمكانات والزحام.. الخ.
ومن ناحية أخرى، فإن حكم ديجول السلطوي أضعف كثيرًا الأبنية الوسيطة بين السلطة والجماهير مثل الأحزاب والنقابات ووسائل الإعلام. ومع تزايد السخط الاجتماعي في ظل غياب هذه الأبنية الوسيطة أو تهميشها، فإن القمع صار الأداة الأساسية لتعامل السلطة مع الجماهير بشكل لم يكن يختلف كيفيًا عما هو مألوف في بلدان العالم الثالث.
هكذا صارت الأجواء ممهدة للانفجار.
شهد عام 1967 والأشهر الأولى من 1968 موجة واسعة من الإضرابات العمالية، إلا أن الغالبية العظمى من تلك الإضرابات انتهت بانتصار أصحاب الأعمال بسبب التوسع في استخدام يد القمع الثقيلة من جانب الدولة. وعندما التقت عدوى النضال من العمال إلى الطلبة كان طبيعيًا أن يفكر ديجول في استخدام الأداة نفسها التي أثبتت كفاءتها من قبل مع العمال: القمع. أما ما فاجأ النظام فهو أن الطلاب ردوا على القمع البوليسي بتصعيد النضال والدفاع عن أنفسهم بالمتاريس كما سنرى، حيث صاروا بؤرة جاذبة للعمال الذين أعجبوا بشجاعتهم وسعوا لتقليدهم.
كانت السنوات الثلاث السابقة على 1968 قد شهدت احتجاجات ومظاهرات طلابية متفاوتة القوة والتأثير. ودارت هذه الاحتجاجات حول قضايا عالمية وأخرى محلية. فمن جهة كان الطلاب يعبرون عن رفضهم للحرب الأمريكية في فيتنام؛ ومن جهة أخرى، كانوا ساخطين على الطابع المحافظ للمناهج التعليمية، كما كانوا يطالبون بحق الاختلاط بين الطلبة والطالبات داخل دار إقامة الطلاب بالجامعة.
وخلال الشهور الأربعة الأولى من عام 1968 وقعت عدة تحركات طلابية قادها الطلاب اليساريون، إلا أنها كانت على نطاق أصغر من مثيلاتها في إيطاليا وألمانيا أو حتى بريطانيا. ومع ذلك، فإن هذه التحركات كانت كافية لكي تصدر السلطات قرارها الغبي في 3 مايو بإغلاق جامعة باريس بأكملها. أدى هذا القرار إلى اندلاع مظاهرات يومية ووقوع صدامات شديدة مع البوليس وصلت للذروة في 10 مايو. ففي ذلك اليوم احتل الطلاب الحي اللاتيني وأقاموا المتاريس دفاعًا عن أنفسهم أمام اعتداءات البوليس؛ وانضمت إليهم أعداد كبيرة من المارة. وعند هذا الحد، صدر الأمر للبوليس باستخدام أقصى القوى ضد الطلاب. وإزاء الشجاعة الكبيرة التي أبداها طلاب باريس في مواجهة القمع الوحشي للبوليس، انتشر التعاطف الجماهيري مع الطلاب، حيث قررت الاتحادات النقابية العمالية الثلاثة الدعوة للإضراب لعدة يوم واحد، هو 13 مايو، على أن تصحب الإضراب مظاهرة جماهيرية في باريس.
الطبقة العاملة تأخذ المبادرة:
أشعر إضراب 13 مايو العمال بقوتهم الجماعية، وأصبح بالتالي – وعلى عكس إرادة الاتحادات النقابية – بداية لحركتهم الثورية المتنامية. وفي 14 مايو، وتحت تأثير مجموعة صغيرة من العمال التروتسكيين، قرر عمال مصنع طائرات “سود أفياسيون” بمدينة نانت في غرب فرنسا الاستمرار في الإضراب وقاموا باحتلال المصنع. وخلال أيام قليلة، انتشرت العدوى وقام العمال باحتلال مواقع العمل في كافة أنحاء فرنسا ومع اقتراب نهاية شهر مايو، كان أكثر من 9 مليون عامل قد انضموا للإضراب؛ وباحتلالهم مواقع العمل، أعطى العمال بعدًا جديدًا للإضراب حيث وجهوا ضربة عنيفة لحقوق الملكية والإدارة “المقدسة”.
يطرح الإضراب العام بالضرورة مسألة السلطة – سواء على مستوى المصنع أو على مستوى الدولة والمجتمع. فعندما يقع إضراب في مصنع واحد، عادة ما يوقف العمال الإنتاج تمامًا. أما في حالة الإضراب العام، فإذا توقفت الطبقة العاملة بأكملها عن العمل، فإنها تكون قد حكمت على نفسها بالمجاعة. ومن هنا، ففي مايو 1968 كان لا بد لبعض أنواع الإنتاج والخدمات أن تستمر؛ ولكن كان لا بد للعمال أن يتخذوا بأنفسهم القرارات المتعلقة بذلك. وبالتالي فلم يكن الأمر الجوهري في الإضراب العام هو الوقف التام للإنتاج، وإنما كان الأمر الجوهري في الإضراب العام هو الوقف التام للإنتاج، وإنما كان الأمر الجوهري هو اتخاذ العمال للقرارات الخاصة باستمرار الإنتاج أو توقفه. وعلى سبيل المثال، قرر عمال باريس استمرار إمداداتهم لباريس ولكن تحت إشراف لجنة الإضراب التي كونوها. وقررت لجنة إضراب عمال البريد في وسط باريس مواصلة نقل التلغرافات بالغة الأهمية التي تمس الحياة الإنسانية. وفي بعض الحالات تجاوز العمال مسألة توفير خدمات كاملة أو جزئية، وحاولوا السيطرة على العملية الإنتاجية بأسرها. ففي مصنع سي. إس. إف للأجهزة الإلكترونية في برست مثلاً، قرر العمال الاستمرار في الإنتاج، إلا أنهم أنتجوا ما اعتقدوا هم أنفسهم بأهميته، وهو أجهزة الووكي توكي التي تساعد المضربين والمتظاهرين على الدفاع عن أنفسهم أمام قوى القمع.
مع نهاية مايو 1968، كان المجتمع الفرنسي في حالة اختمار ثوري. في نانت، التي كانت أول مدينة تنتقل فيها الحركة من أيدي الطلبة إلى العمال، كانت السيطرة الفعلية على المدينة خلال الأسبوع الأخير من مايو في أيدي المنظمات العمالية. وتضمن فلاحو الريف المحيد بنانت مع عمالها وطلابها الثائرين. هكذا ففي 24 مايو وضع الفلاحون الحواجز على الطرق الرئيسية المؤدية إلى المدينة، ثم قاموا بتسليم هذه المتاريس لعمال النقل الذين سيطروا على المرور داخل المدينة وخارجها على مدى الأسبوع التالي. وقد سمحت الصلات التي أوجدها عمال نانت مع المنظمات الفلاحية في المنطقة المحيطة بالتخلص من دور الوسطاء في عملية توزيع إمدادات الطعام مما أسفر عن انخفاض كبير في الأسعار. وعلى سبيل المثال، انخفض سعر لتر اللبن من 80 إلى 50 سنتيما؛ كما انخفض سعر كيلو البطاطس من 70 إلى 12 سنتيما.
وكان من العلامات البارزة في أحداث 1968 في فرنسا روح التضامن الأممي التي ظهرت بين العمال الفرنسيين والأجانب. كان هناك حوالي 3 مليون عامل أجنبي يعملون في فرنسا. وعلى الرغم من أنهم كانوا تحت التهديد الدائم بسحب تصاريح العمل منهم، إلا أنهم لعبوا دورًا بارزًا في حركة الإضراب جنبًا إلى جنب مع زملائهم الفرنسيين.
وأثمرت ثورة العمال والطلبة ما يشبه الثورة الثقافية في المجتمع الفرنسي. انتشرت الإضرابات والمظاهرات في صفوف الموسيقيين والممثلين والراقصين والكتاب. وتم احتلال مسرح أوديون وتحويله إلى ساحة دائمة للحوار. كما بدأت الحركة الثورية تخلق الأشكال الثقافية التي تعبر عنها مثل جرائد الحائط والمراسم الشعبية والأفلام التي أنتجها العاملون بالتلفزيون المشاركون في الإضراب.
الإصلاحية تخرب الحركة:
إذا كان مايو 68 قد أعطى أمثلة عظيمة على قوة الطبقة العاملة، إلا أنه أظهر أيضًا الأثر المعوق للبيروقراطية داخل الحركة العمالية. كانت القيادات النقابية – وخاصة الاتحاد العام للعمال الموالي للحزب الشيوعي الفرنسي – مصدرة على ألا يخرج الإضراب عن نطاق سيطرتها وألا يتطور في اتجاهات تناقض نواياها السياسية. هكذا، ففي أغلب مواقع العمل تم فرض لجان إضراب بواسطة الجهاز النقابي؛ وفي حالات قليلة جدًا فقط كان الإضراب يدار بواسطة لجنة إضراب منتخبة ديمقراطيًا. وقد روعي بعناية استبعاد أعضاء المجموعات الاشتراكية الثورية الصغيرة التي لعبت دورًا مهمًا في إشعال الإضراب في العديد من أماكن العمل من لجان الإضراب. وبذلك تمكنت البيروقراطية النقابية من خنق الإضراب العام تمهيدًا للقضاء عليه.
شكل الإضراب العام تهديدًا حقيقيًا للدولة. وفي 24 مايو لجأ ديجول إلى الإجراء الذي كان قد استخدمه أكثر من مرة منذ 1958 لكي يحتفظ بسلطته: الدعوة لاستفتاء حول سلسلة من الوعود الغامضة بالإصلاح التعليمي والاجتماعي والاقتصادي، إلا أن المعارضة العمالية الشديدة أجبرته على التراجع وتأجيل الاستفتاء. وبذلك فشلت هذه الخطة في إنهاء الإضراب العام. ومع ظهور مؤشرات مهمة على حالة السخط في صفوف البوليس والقوات المسلحة، تفاقم الإضراب في الأوساط الحكومية حيث وقع توتر كبير في العلاقات بين الرئيس ديجول ورئيس الوزراء بومبيدو. وفي 29 مايو سافر ديجول فجأة إلى بادن – بادن بألمانيا الغربية حيث اعتزم كما قيل “الانسحاب من الحياة السياسية”. إلا أن مستشاريه السياسيين أقنعوه بضرورة العودة إلى فرنسا حيث عاد مقترحًا هذه المرة إنهاء الإضراب العام وإجراء انتخابات برلمانية.
كان مضمون ما طرحه ديجول هو الآتي: أن تتخلى الطبقة العاملة عن الإضراب العام؛ أن تتنازل طوعًا عما حققته من قدرة من السيطرة على عملية الإنتاج؛ أن تطرح جانبًا تضامنها الطبقي العظيم مع جماهير الفلاحين بما أفرزه من مكاسب عظيمة، وأن تنبذ بالطبع حلم تغيير المجتمع. كان المطلوب باختصار هو أن يقلي الجيش العمالي ذي التسعة ملايين جندي سلاحه المتمثل في الإضراب العام مقابل أن يتكرم الجنرال ديجول فيقبل الاستمرار على كرسي العرش، ثم يتفضل فيجري انتخابات برلمانية تجري في ظروف تراجع وإحباط الجماهير فيحوز اليمين النصر فيها على طبق من فضة! فماذا كان موقف اليسار الفرنسي من هذا الاقتراح الكارثة؟
لا شك أن أكبر أحزاب اليسار الفرنسي في 68 كان “الحزب الشيوعي الفرنسي”. فقد توفر للحزب نفوذ ضخم داخل الطبقة العاملة. ولم يقتصر تأثير الحزب الشيوعي على مئات الآلاف من أعضائه أو المليون ونصف عامل الأعضاء في الاتحاد العام للعمال الموالي له، بل أمتد إلى عمال آخرين كثيرين لم يكونوا أعضاء بالحزب أو الاتحاد وإنما رأوا فيهما القسم المناضل والنشط داخل الطبقة العاملة، والذي يستحق أن تصغي له بقية الطبقة. وقد سيطر الحزب الشيوعي على عدد كبير من البلديات في المناطق العمالية.
على مستوى الرؤية السياسية، كان للحزب الشيوعي الفرنسي شديد الولاء لموسكو. وتمثلت إستراتيجيته في العودة للسلطة من خلال البرلمان بعدما تم استبعاده من الحكومة في 1947. ولم يكن ممكنًا تحقيق هذا الهدف إلا من خلال تكوين حكومة ائتلافية. وتطلب ذلك أن يثبت الحزب الشيوعي التزامه بالوسائل البرلمانية واحترامه للإجراءات الدستورية. ومن هنا، فمنذ أوائل مايو حرص الحزب على إدانة الطلاب اليساريين متهمًا إياهم بالتطرف والمغامرة. وإزاء المظاهرة الجماهيرية في 13 مايو التي أظهرت تعاطفًا واسعًا مع الطلاب، اضطر الحزب لتغيير نبرته بعض الشيء. ومع اندلاع الإضراب العام العالمي، أضطر الحزب لتأييده بحذر في نفس الوقت الذي اندفع فيه – من خلال الاتحاد العام للعمال – لوضع الحركة تحت سيطرته. كانت سياسة الاتحاد تقوم على تعيين لجان الإضراب من العناصر الموالية له، واستبعاد العناصر الثورية من أماكن العمل وإلغاء الاجتماعات الجماهيرية الدورية اكتفاء بدور لجان الإضراب وحدها في ضمان استمرار احتلال أماكن العمل.
وعندما دعي ديجول في 30 مايو لإجراء انتخابات برلمانية، لم يكن بوسع الحزب الشيوعي رفض الاقتراح، إذ أن ذلك كان سيعني تجاوز إستراتيجية الحزب البرلمانية. ومن هنا بدأ الحزب الشيوعي ومعه الاتحاد العام للعمال يدعو لإنهاء الإضراب. وقد أدت هذه السياسة في نهاية المطاف – ومعها مزيج من القمع البوليسي والتنازلات الاقتصادية من جانب الدولة وأصحاب الأعمال – إلى العودة للعمل في الغالبية العظمى من مواقع العمل خلال الأيام الأولى من يونيو عن انتصار كبير للقوى اليمينية حيث حصل الديجوليون وحلفاءهم على 358 مقعدًا من بين 487 في مقابل 240 مقعدًا كانت لهم في البرلمان السابق، في حين انخفض نصيب الحزب الشيوعي من 73 إلى 34 نائيًا. لقد أدى إنهاء الإضراب العام مقابل مكاسب هزيلة إلى إحباط شديد في صفوف الطبقة العاملة كما أن القيادات الإصلاحية كانت لا تزال في حالة تراجع وقت إجراء الانتخابات. هكذا أثبتت الإصلاحية مرة أخرى أنها الخادم الوفي للبرجوازية عندما تحتدم الأزمة الثورية في المجتمع.
أين كان الثوريون؟
لم يمر خيار الحزب الشيوعي والاتحاد النقابي التابع له – إنهاء الإضراب العام لأغراض انتخابية – بلا تحدي ومقاومة. فبعد يومين من إلغاء ديجول لخطابة الذي دعا فيه لإلغاء الإضراب، تظاهر 30 ألف شخص في شوارع باريس هاتفين “الانتخابات خيانة” و”لتستمر المعركة”. وفي حين قد يبدو هذا الرقم ضخمًا في الأحوال العادية فإنه في ظل أزمة سياسية بالحجم الذي كان المجتمع الفرنسي يمر به لم يكن كافيًا للتأثير بفعالية في مجرى الأحداث. لم يكن ذلك يعني أن العمال المضربين كانوا يرغبون في العودة للعمل. فعلى الرغم من التنازلات الاقتصادية الضخمة التي قدمها أصحاب الأعمال لعمال الكهرباء والغاز والسكك الحديدية والمترو، فإن العمال ترددوا كثيرًا قبل قبول التسوية. وكما شرح أحد المسئولين النقابيين في وقت لاحق: “على الرغم من المال (الذي عرضه أصحاب العمل لإغراء العمال بإنهاء الإضراب) والصعوبات الأخرى… فإن الإضراب كان قد تحول إلى ما يشبه الاحتفال. لمدة أسبوعين أو ثلاثة عاش المضربون في جو من الحرية الكاملة: لا أصحاب عمل، لا رؤساء، اختفاء التسلسل الهرمي للسلطة. لذلك تردد الناس قبل إنهاء الإضراب.
لم تكن مشكلة العمال هي ضعف الروح النضالية، وإنما غياب القيادة المتجانسة والمتبلورة التي تستطيع تعبئتهم ضد الموقف الخانع والخائن للحزب الشيوعي الفرنسي.
والواقع أن عناصر ما يمكن اعتباره يسارا ثوريًا لم تكن غائبة. فقيادة الحركة الطلابية منذ البداية كانت في أيدي عناصر من الطلاب اليساريين الرافضين لإصلاحية الحزب الشيوعي (الذي أدان المظاهرات الطلابية بشكل قاطع كنوع من التطرف اليساري)، والمنادين “بالثورة”، والممثلين لاتجاهات تتراوح بين الماركسية الثورية والتروتسكية والماوية. وكما رأينا، فقد لعبت مجموعة من التروتسكيين دورًا قياديًا في قرار عمال مصنع الطائرات في نانت بمواصلة الإضراب وهو القرار الذي أشعل الإضراب العام الذي أصاب بدوره الحكومة الفرنسية بالشللِ. ومع ذلك فإن اليسار الثوري بالمعنى الواسع عجز عن توفير قيادة بديلة فعالة تسحب البساط من تحت أقدام الإصلاحيين لثلاثة أسباب أساسية.
يتصل أول هذه الأسباب بحجم الثوريين وتأثيرهم. كان اليسار الثوري بالغ الضعف عندما بدأت الضعف عندما بدأت أحداث مايو. لم تتجاوز عضوية أي من التنظيمات التروتسيكة أو الماوية الـ 400 عضو، ولم تتضمن هذه العضوية عمالاً. وحتى مجموعة “الصوت العمالي” (التي سميت لاحقًا النضال العمالي) والتي رفضت العمل وسط الطلاب، فقد تكونت إلى حد كبير من طلاب وطلاب سابقين وزعوا المنشورات على المصانع من الخارج. ورغم النمو الهائل للمنظمات الثورية خلال الأحداث، حتى بلغت عضويتها عشرات الآلاف، فإن تأثيرها ظل مقصورًا على حد كبير على الطلاب بسبب قوة قبضة الإصلاحية والبيروقراطية على المصانع.
السبب الثاني والأكثر أهمية يتعلق بالتوجهات السياسية لليسار الثوري. تأثر غالبية الطلاب الثوريون بالأفكار الفوضوية والعالمثالثية، ورأوا أن الطبقة العاملة قد تم شراؤها بواسطة النظام، وأن العدو الذي ينبغي النضال ضده ليس الرأسمالية وإنما المجتمع الاستهلاكي. وكان طبيعيًا أن تخلق أفكار كهذه فجوة واغترابا بين اليسار الثوري والطبقة العاملة.
وأخيرًا فحتى في حالة عناصر اليسار الثوري التي تبنت منظورًا صحيحًا للصراع ورأت محورية دور الطبقة العاملة في تغيير المجتمع، فإن افتقاد تلك العناصر للخبرة والحنكة الثورية بسبب ظهورها المفاجئ في خضم الأحداث وافتقارها لتراث طويل من العمل الثوري جعلها عاجزة عن مخاطبة العمال باللغة التي يفهمونها والتواصل معهم بفعالية.
كانت مشكلات كهذه قابلة للحل. إلا أنها احتاجت لوقت يستطيع فيه الثوريون تصحيح مسارهم واكتساب الخبرة داخل مدرسة الصراع الطبقي المتأجج. ولكن الوقت لم يكن متاحًا بلا حدود. فالخيارات المتاحة في نهاية مايو كانت أن تسير الحركة للأمام أو تعود للخلف. أما الوقوف محلك سر فلم يكن ممكنًا. وكان معنى السير للأمام هو إنشاء لجان إضراب ديمقراطية تمثل القاعدة العمالية في جميع أماكن العمل، والربط بين هذه اللجان في هيئة مجالس لممثلي العمال على المستوى المحلي ثم الإقليمي ثم الوطني. وكان تحقيق هذه المهمة سيطرح بدوره مهام أخرى مثل الدفاع عن أماكن العمل، ومعاودة الإنتاج في ظل السيطرة العمالية. ومع تصاعد الحركة، كان من الممكن للوعي الطبقي للعمال أن يرتفع بسرعة حيث تصبح مسألة الانتفاضة المسلحة مطروحة بالنسبة لجماهير العمال باعتبارها الأفق الطبيعي لحركتهم الثورية. لكن تحقيق هذا المسار كان يتطلب وجود فعالة من الثوريين في مواجهة التخريب الإصلاحي، وهذا هو بالضبط ما افتقدته الطبقة العاملة الفرنسية في نهاية مايو. وإزاء الفراغ السياسي الناشئ عن ضعف الثوريين وتشوشهم، بأن من السهل نسبيًا على الإصلاحيين أن يحتووا الحركة، وتحقق بذلك خيار العودة للخلف.
دروس 1968 من أجل الحريق القادم:
كان مايو الفرنسي في قلب أحداث 1968 الثورية. لكن زلزال 68 كان عالميًا بحق، وكانت له توابع مهمة في أنحاء عديدة من العالم لسنوات. وكما رأينا فإن الانتفاضية الثورية المعممة في 1968 وما بعدها لم تكن بلا جذور، بل عبرت عن تناقضات التطور الرأسمالي خلال العقدين السابقين عليها. وفي كل مكان تمثلت قوة الحركة في عفويتها واندفاعها، وفي الدور المركزي الذي لعبه حفارو قبر مجتمع الاستغلال والقهر – العمال. وفي كل مكان أيضًا، كانت القيادة هي كعب أخيل الذي عوق مسار الحركة وحكم عليها في النهاية بالهزيمة. فقد ملأ الإصلاحيون الفراغ الناتج عن عدم وجود تنظيمات ثورية مناضلة عميقة الجذور داخل الطبقة العاملة.
هل سينجح الإصلاحيون في المرة القادمة في احتواء الحريق الثوري وإطفائه كما فعلوا في 68 وما بعدها؟ إلى حد كبير سيعتمد الأمر على ما يفعله الثوريون أو لا يفعلونه. علينا أن نبني الآن المنظمات الثورية المناضلة والمؤمنة بالاشتراكية من أسفل. لكي تكون هذه المنظمات قادرة على دفع الحريق الثوري الآتي حتمًا للأمام. ومن حسن الحظ أن التاريخ لا يسير في صالح الإصلاحيين. فهم نجحوا في احتواء حريق 68 تحديدًا لأن الإصلاحات كانت ممكنة بفعل انتعاش الرأسمالية العالمية. أما اليوم ففي ظل أزمة للرأسمالية العالمية تكاد تكون متصلة لأكثر من ربع قرن، فإن الطبقات الحاكمة ببساطة لم تعد قادرة على تقديم الإصلاحات. وإذا كان ذلك يدعم فرص الثوريين عن الحريق القادم سيترك الطبقة العاملة حتى بدون الحماية الهشة التي وفرها الإصلاحيون في المرة السابقة.
لنشرع الآن في بناء المنظمة الثورية التي كان غيابها السبب الرئيسي في هزيمتنا في 1968. إذا فعلنا ذلك يكون التاريخ بحق سلاحًا في أيدينا وعقولنا من أجل المستقبل، وليس شيئًا يجثم على الصدور.