بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فرنسا 1968

فرنسا مايو 1968

توجد لحظات في التاريخ يهتز فيها العالم بقوة، وينفض عنه غبار أحقاب طويلة سابقة، وتتفجر وسط ربوعه إمكانات وطاقات لم تكن أبدًا في الحسبان، وأحيانًا تتحول تلك الهزات إلى تغيرات كبرى في التاريخ كالذي حدث في فرنسا في 1798 أو ما حدث في روسيا 1917، وفي أحيان أخرى لا يتغير التاريخ بنفس الدرجة، ولكن الهزة ذاتها تكسر كثيرًا من القيود في عقول البشر وتجعلهم يؤمنون بإمكانية تغيير المجتمع وهذا بالتحديد ما حدث في العالم في عام 1968.

في ذلك العام اهتزت ثلاثة من حكومات البلدان الكبرى في العالم، وانفجرت موجة من الأمل في المستقبل لدى شباب تلك البلدان، ووقف فلاحو حرب العصابات في فيتنام إحدى أصغر دول العالم في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة عظمى في التاريخ. وفي نفس الوقت، ثارت جماهير السود الأمريكيين اعتراضًا على مصرع زعيم اللاعنف “مارتن لوثر كينج”. وفي نفس العام دخلت الدبابات الروسية براج التشيكية لتعزل حكومة “شيوعية” تنازلت كثيرًا أمام الضغط الجماهيري، بينما كان الطلبة في وارسو يمارسون أعمال عنف واسعة ضد الحكومة البولندية، وقامت الحكومة المكسيكية بقتل أكثر من مائة متظاهر لتوفر ظروفًا “سلمية” مناسبة لتنظيم الدورة الأولمبية. وفي البرازيل تفجرت أول تذمرات شعبية ضد الحكومة العسكرية، وشهدت الأرجنتين صعودًا واسعًا في الحركة الجماهيرية في أوساط الطلبة والعمال. وفي نفس العام، شن فدائيون فلسطينيون من فتح أول عملية عسكرية ضد القوات الإسرائيلية فيم سمي معركة الكرامة. وفي أيضًا كانت المظاهرات الطلابية في ذلك العام أول احتجاج جماهيري واسع ضد النظام العسكري الحاكم، والأهم من كل ما سبق، إن العالم شهد في 1968 أكبر إضراب عمالي عام في التاريخ، حدث هذا في فرنسا وأدى إلى شل حكومتها تمامًا.

وعلى الرغم مما سبق نجد الإعلام البرجوازي اعتاد أن يصف 1968 بأنه عام الطلبة، وتعمد دائمًا أن يتجاهل كل هزأته وبصورة كمجرد صراع للأجيال، والإعلام البرجوازي يفعل ذلك انطلاقًا من رؤية ضيقة تعتبر هذا العام شذوذًا في التاريخ ومجرد معركة شنها الشباب في عزلة عن ما حدث قبلها وما سوف يحدث بعدها، لكننا في هذا المقال سنحاول توضيح أن عام 1968 لم يكن نتيجة إلا لنمو العديد من التناقضات السابقة عليه، والتي استمرت فاعليتها حتى العقد التالي له، والتي استمرت فاعليتها حتى العقد التالي له، فأحداث مايو 1968 في فرنسا تلاها أحداث خريف 1969 في إيطاليا، وشغب الطلبة في وارسو في مارس 1968 تلاه تذمرات عمالية أكثر حدة في 1970 – 1971، ومظاهرات الطلبة في مصر تلاها احتجاجات طلابية واسعة في 1971 – 1972، وأحداث ربيع براغ هددت الستالينية في عقر دارها تلاها تهديدًا أكثر أهمية – حركة التضامن في بولندا. وننوي في هذا المقال أن نستعرض أحداث فرنسا 1968 نظرًا لأهميتها وعمق تأثير الإضراب العام الذي حدث في وعي الجماهير.

فما حدث هناك كان تجربة هامة في عملية الثورة العالمية ولذا نجد من الضروري دراستها بجدية، لأن فهم العالم شرط أساسي في عملية تغييره، ولأنه لا يمكن الحاضر بصورة صحيحة إذا لم نراه كنتيجة لماضي سابق عليه، ولأن ما حدث في 1968 قدم لنا خبرة ثورية ضرورية تساعدنا في عملية الفهم.

كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فترة نمو وإزهار رأسمالي على المستوى العالمي، صاحبها ركود للحركات العمالية والنقابية، وانعكس ذلك أيديولوجيًا في نظريات العديد من المثقفين اليساريين في العالم، الذين اتفقوا على أن الرأسمالية الغربية استطاعت أن تحل مشاكلها الاقتصادية الأساسية، وأن تدمج الطبقة العاملة نهائيًا داخل نظامها. وفي نياير 1968 نشر “أندريه جورز” وهو أحد أهم المنظرين الماركسيين في فرنسا في ذلك وقتها مقالاً قال فيه: “في المستقبل القريب لن توجد للرأسمالية الأوروبية أزمة كبيرة للدرجة التي تدفع جماهير العمال للقيام بإضرابات عامة ثورية أو عصيان مسلح دفاعًا عن مصالحهم الطبقية” ومن سخرية القدر أن تشهد فرنسا أكبر إضراب عام في التاريخ قبل مرور أربعة شهور على صدور هذا المقال.

فما تجاهله هؤلاء المنظرين الكبار هو أن تغيرات واسعة في بنية النظام العالمي صاحبت النمو الاقتصادي الحادث، وأن هذه التغيرات، آجلاً أو عاجلاً، كانت ستضع الاستقرار السياسي لذلك النظام موضع التساؤل.

ويمكن رصد تلك التغيرات الحادثة في بنية النظام العالمي في أربعة محاور رئيسية:

أولاً: إن صناعات السلاح كانت الدعامة الأساسية في الاقتصاد العالمي في ذلك الوقت، وهذا الوضع الذي فرض على دول مثل الولايات المتحدة أن تستثمر أموالاً طائلة في الصناعات الحربية، هو الذي أعطى لقوى أكثر ضعفًا مثل اليابان وألمانيا، لم من الضروري لها الإنفاق على السلاح، أن تشهد معدلات نمو هائلة في ظل الرخاء الاقتصادي العالمي، مما شكل في نهاية الأمر تهديدًا للهيمنة الأمريكية وجعل معركة فيتنام محاولة لاستعادة الهيمنة المهددة.

ثانيًا: إن هذا الازدهار الاقتصادي دفع بالكثير من الفلاحين للهجرة للمدن، وحولهم لعمال صناعيين، وهذه العملية أثرت بدرجة بالغة في الأجزاء الأكثر تخلفًا في الرأسمالية العالمية، فهؤلاء الفلاحين كانوا قد تقبلوا نظامًا ديكتاتوريًا كنظام ديجول، ولكن بعدما تحولوا لعمال صناعيين لم تعد تلك الأنظمة مقبولة بالنسبة لهم مما أجج نيران الثورة ضدها.

ثالثًا: على الرغم من الازدهار الاقتصادي وارتفاع الأجور في بلد مثل فرنسا، نجد شريحة كبرى من الطبقة العاملة كانت تحصل على أجور زهيدة للغاية وتعيش في ظروف عمل سيئة، وكان هذا نتيجة للضعف الشديد للحركة النقابية وقتها.

رابعاً: أدى الازدهار الاقتصادي وقتها إلى تغيير الوضع الاجتماعي للطلبة، ففي الماضي كانت الجامعات تقبل أعدادًا قليلة من الطلاب وتؤهلهم ليصبحوا مديري المستقبل، أي أن هؤلاء الطلبة كانوا جزءًا من البرجوازية، ومع النمو الاقتصادي ازداد الاحتياج إلى التكنوقراط، وتضاعفت أعداد المقبولين في الجامعات، لا ليصبحوا جزءًا من البرجوازية ولكن ليكونوا جزءًا من الطبقة العاملة، فالوضع الطبقي للطلبة كان قد تغير تمامًا، وخلق ذلك إمكانية أن تتحرك تلك الجماهير الطلابية في مواجهة البرجوازية.

وهناك سببًا آخر ساعد في انطلاق شرارة الثورة وسط الطلبة، فالطلبة نتيجة لعلاقتهم المؤقتة مع الطبقات الاجتماعية المختلفة كناقلين للأيديولوجية الحاكمة، يصبحون أكثر حساسية للأزمات الأيديولوجية في المجتمع ككل، فإذا ما اكتشفوا بتراكم خبراتهم، عمق التناقض بين تلك الأيديولوجية والواقع، دفعهم هذا سخط معنوي وأخلاقي ضد تلك الأيديولوجيا، وهذا ما حدث في فرنسا في مايو 1968.

الانفجار الطلابي:
على الرغم من ازدياد أعداد الطلبة الجامعيين، نجد أن اتحاد الطلبة القومي الفرنسي، الذي لعب دورًا مؤثرًا أثناء الحرب الجزائرية، قد انخفض أعضائه إلى ربع ما كانت عليه في مطلع الستينات، وفي ذات الوقت نشطت حركة طلابية جديدة، التفت حول قضايا متفجرة على المستوى العالمي والإقليمي، فمن جهة، نشأت حركة معارضة للحرب الأمريكية في فيتنام، ودفعت العديد من الشباب للحماس الشديد تجاه قضايا العالم الثالث، وساعد في ذلك مصرع تشي جيفارا في خريف 1967 وأحداث الثورة الثقافية في الصين. ومن ناحية أخرى، اشتد ضيق الكثيرين بالتوجهات المحافظة والتي سيطرت على الحياة الأكاديمية في فرنسا، ففي إحدى ضواحي باريس أنشأ الطلبة الجامعة الانتقادية “بهدف الهجوم على المحتوى الأيديولوجي للمناهج الدراسية، وكان المطلب الطلابي “حرية الانتقال”، أي حرية الطالبات والطلبة في زيارة بعضهم لبعض في السكن الجامعي هو الشرارة التي فجرت الأحداث بعد أن كان نفس المطلب سببًا في العديد من المظاهرات في العامين السابقين.

وفي صعود سريع تتالت الأحداث، فالمظاهرة كانت تتبع الأخرى، مرة عن فيتنام، ومرة دفاعًا عن مطالب طلابية، ومع ازدياد عنف الدولة ضد الطلبة كانت المظاهرات تشتد وتقوى، وفي مطلع مايو أصبح الوضع خارج نطاق السيطرة وفي يوم 3 مايو قررت السلطات إغلاق جامعة السوربون اعتقادًا منها أن انشغال الطلبة بالدراسة وباقتراب الامتحانات سيتيح للسلطات فرصة ضرب العناصر النشيطة داخل الطلاب. ولحسن الحظ، أثبتت الفكرة فشلها وشهد الأسبوع التالي مظاهرات يومية وصدامات بين الطلبة والبوليس.

وفي ليلة 10 مايو، قرر الطلبة أن يقفوا ويحاربوا، وبحلول منتصف الليل وجدوا أنفسهم مسيطرين على الحي اللاتيني، وفي إطار مواجهة الشرطة بدأوا في بناء المتاريس، كانت شوارع باريس لا تزال ترصف بالحجارة ويروي أحد الشهود أن عامل بناء كان مارًا بالصدفة وشاهد محاولات الطلبة في بناء المتاريس فقام بتعليمهم بسرعة كيف نزع أحجار الرصف واستخدامها في البناء. وتطور الموقف بسرعة مذهلة، وعندما أذاع الراديو أخبار ما يحدث، تنبه الكثيرين إلى الموقف وسارعوا بالانضمام للطلبة.

وروى أحد شهود العيان أن الآلاف قد شاركوا في عملية البناء وأن أكثر من ستين متراسًا تم بناءهم في مختلف الشوارع، نساء وعمال وأناس في ملابس النوم، سلاسل آدمية كانت تحمل الحجر والخشب والحديد في حركة هائلة، ورُوى أن المجموعة التي كان يعمل معها لم يكن أحدهم يعرف الآخر من قبل، وكانت تضم ستة من الطلاب وعشرة عمال وبعض الإيطاليين وبعض المارة وأربعة من الفنانين، وكانت تعمل في بناء متراس في أحد التقاطعات في الحي اللاتيني ووصل عددهم في النهاية إلى حوالي مائة شخص ساعدوا في حمل وتكوين هذا المتراس، وروي أيضًا أن أحدًا لم يكن يعرف ما يحدث في الأماكن الأخرى، لكنهم عرفوا فيما بعد أن كل هذه الأشياء حدثت في وقت متزامن وبنفس الطريقة في كل الحي اللاتيني، وروى أن المتراس الذي بنته مجموعته كان مزدوجًا في المقدمة متراس من الحجر بارتفاع ثلاثة أقدام، خلفه مساحة فضاء بعرض عشرون ياردة، ثم متراس آخر من الخشب وحطام السيارات والحديد بارتفاع تسعة أقدام، كان الحجر والمعدن الذي وجدوه في الشارع هي الأدوات التي استخدموها في بناء المتاريس.

لم يكن بناء المتاريس حركة رومانسية، فقد قامت قوات من الشرطة المنظمة اقتحامها واستخدمت القنابل المسيلة للدموع والغازات، وطاردت الطلبة في الأماكن التي فروا إليها، وأحرقت أفلام المصورين، وضربت النساء، وعند نهاية ذلك اليوم وجدت الحكومة نفسها في مأزق؛ فشجاعة الطلاب ووحشية الشرطة أدت إلى خلق تعاطف جماهيري واسع مع الحركة، ودعي الاتحاد العام للنقابات إلى إضراب لمدة يوم واحد في 13 مايو على أن يصاحب الإضراب مظاهرة جماهيرية في باريس. ولم يكن أمام الحكومة سوى التراجع، فقطع جورج بومبيدو رئيس الوزراء آنذاك رحلته في الخارج وعاد إلى باريس يوم 11 مايو، وأمر بإعادة فتح الجامعة وبالإفراج عن الطلبة المعتقلين، فضل بومبيدو أن يعطي الجامعة للطلبة بدلاً من أن يأخذوها بالقوة يوم 13 مايو.

وشارك في مظاهرة 13 مايو مليون شخص، وأضرب عن العمل يومها 9 مليون عامل. كان الاتحاد العام يحاول استخدام تكتيكه الدائم، تهدئة الحركة بيوم إضراب ثم الذهاب لمائدة المفاوضات والحصول على بعض المكاسب، ولكن هذه المرة لم تنجح الخطة، فبعد أن اكتشفت الجماهير مدى قوتها كان على الحركة أن تستمر.

الإضراب العام:
في بعض مراحل الصراع الطبقي تلعب الثقة دورًا أكثر أهمية من الوعي، هذا لا يعني أن العمال غير مدركين أن النظام متعفن وأنهم مستغلين، لكنهم كانوا فاقدين الإيمان بقدرتهم الجماعية على تغيير الأشياء، كان هذا وضع معظمهم قبل 13 مايو 1968، ولكن الوضع تغير في هذا اليوم، فقد أثبت الطلبة أن النظام يمكن إجباره على تقديم تنازلات، وإضراب 13 مايو أعطى العمال إحساس بالقوة لم يبلغوه من قبل.

بعدها انتقل مركز الأحداث إلى “نانت” في غرب فرنسا، وفي يوم 14 مايو، قرر مصنع عمال للطائرات هناك أن يستمر الإضراب لمدة غير محددة وأن يحتل العمال المصنع، كانت هذه الحركة عفوية بدرجة ما، حيث لم تدع لها أي نقابة أو حزب سياسي، لكن هذه العفوية لم تكن مطلقة، حيث كان لهذا الموقع تاريخه النضالي، وكانت هناك جماعة ثورية صغيرة تقوم بعمل دعاية أساسية داخل المصنع وفي البداية لم يحدث إضراب عمال الطيران أثرًا يذكر ولكن في غضون أيام قليلة قام العمال باحتلال المصانع في كل أنحاء فرنسا، وروى أحد شباب عمال السكك الحديدية، أنه في يوم 17 مايو كان ذاهبًا لدورية المساء وعندما وصل سمع أن زملائه في أحد المحطات قد أضربوا وروى أنهم لم يحتاجوا لأخذ تصويت على هذا القرار، فأضربوا على الفور، كانت وردية المساء كلها من الشباب، وفي أول يوم لم يفكروا في احتلال الموقع لعدم خبرتهم، لكن في الصباح التالي جاء عمال الوردية التالية وانضموا إليهم وعرفوا ساعتها أن عليهم احتلال الموقع وحمايته.

انتشرت الإضرابات واحتلال المصانع في كافة أنحاء فرنسا، وبطريقة عفوية انتقل الإضراب من مصنع لآخر في سرعة مذهلة، كانت حركة عفوية حيث لم توجد أي لجنة نقابية قد دعت إلى ذلك الإضراب، لكنها لم تكن أيضًا عفوية تمامًا، فهي تأثرت بدعاية عديد من المناضلين الثوريين الذين شاركوا العمال في صراعاتهم المستمرة، وكانوا في معظمهم من التروتسكيين والماويين. حاولت البيروقراطية النقابية، التي عرقلت دائمًا الحركات العمالية، السيطرة على الحركة حتى لا تخرج من أيديها، فتقدمت وشجعت العمال، لكن إضراب عام سوف يؤدي بالطبع إلى طرح أسئلة عن السلطة في المصنع والمجتمع والدولة، وهذا بدوره يهدد الحق المقدس للملكية وحق الإدارة في التحكم.

تسببت السلطة الهائلة التي اكتسبها العمال عن طريق الإضراب العام في خلق مشاكل عديدة لهم، فمن الطبيعي أن يكون هدف أي إضراب في جزء من الصناعة هو وقف الإنتاج لإجبار الإدارة على قبول بعض المطالب، لكن عندما تتوقف الطبقة العاملة بكاملها عن العمل فإنها تحكم على نفسها بالمجاعة، ولذلك فأي إضراب عام يواجه بسؤال التحكم في الإنتاج لأن العمل في بعض المواقع يجب أن يستمر، وعلى العمال تحديد أي موقع وبأية طريقة.

وفي آخر مايو 1968 أصبحت تلك الأسئلة في المقدمة، وفي بعض المواقع استمر العمال في تقديم عدد من الخدمات ولكن المهم في الأمر هو أن العمال أنفسهم وعبر تنظيماتهم هم الذين قرروا أي المواقع يجب أن تستمر في العمل، وذلك بعد أن حددوا ما هي ضروريات الحياة وبهذا ظهرت فجأة وبوضوح كحقيقة ملموسة، تلك الفكرة التي تعتبر في العادة من المسلمات، أن ضرورات الحياة ما هي إلا نتاج العمل البشري.

لا زالت للقصة بقية، فأحداث مايو 1968 في فرنسا قدمت مثالاً معاصرًا لتجربة عمالية ثورية كادت أن تطيح بالبرجوازية في دولة إمبريالية كبرى وفي ظرف ازدهار اقتصادي، ولكنها كشفت بوضوح أيضًا كيف تقوم البيروقراطية النقابية بشل حركة العمال، فقد صمم القادة النقابيون على ألا يخرج الإضراب عن سيطرتهم وينمو في اتجاه معاكس لمصالحهم السياسية، وأدت قبضتهم المسيطرة على الإضراب إلى تبديد القوى الهائلة الكامنة لدى العمال، ففي عدد قليل من المصانع انتخبت لجان الإضراب بشكل ديمقراطي، أما في معظم المواقع فكانت النقابات هي التي تعين لجان الإضراب فلم يكن لدى العمال المضربين والذين استمروا في الإضراب دور رغم نشاطهم وإبداعهم وفعاليتهم وتم تهميش أدوار الكثير من الاشتراكيين الثوريين المنظمين في مجموعات صغيرة وبذلك الأسلوب استطاعت البيروقراطية النقابية مثل الحركة العمالية وتحجيمها، ولم يكن من الغريب ساعتها أن ترى العديد من شباب العمال قد أداروا ظهورهم للمصانع وفضلوا المشاركة في مظاهرات الطلبة ونقاشاتهم في الجامعة بديلاً أن يبقوا محجمين في المصانع.

الفئات المضطهدة والإضراب العام
لم يهدد الإضراب العام أسس النظام الرأسمالي فحسب، لكنه أظهر على السطح الأشكال المختلفة للاضطهاد في المجتمع، وفي ذلك الوقت كان العمال المهاجرين والنساء هم الأكثر اضطهادًا في صفوف الطبقة العاملة، وكان يوجد في فرنسا وقتها ثلاثة ملايين عامل مهاجر من شمال أفريقيا وجنوب أوربا، وكانت ظروف عملهم تمنعهم دائمًا من المشاركة الحقيقية في الصراع الطبقي، فمعظمهم من كانوا أشبه بالمساحين، غير مسموح لهم بالزيارات في مساكنهم المكدسة، وغير مسموح لهم بتداول الصحف، وأحيانًا لم يكن يسمح لهم بالحديث أثناء تناول الطعام، وإذا ثبت لأي منهم نشاط سياسي كانت إدارة المصنع تلجأ فورًا للشرطة لسحب ترخيص عمله.

وعلى الرغم من كل تلك الظروف، فقد لعب أولئك العمال المهاجرون دورًا هامًا في الإضراب، ففي إحدى مصانع “رينو” للسيارات، كان جزء كبير من الإضراب من هؤلاء المهاجرين، وفي مظاهرة 13 مايو شكل العمال المهاجرون عددًا هائلاً من المتظاهرين. وفي تلك الفترة تشكلت لجنة الطلبة والعمال للدول الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي، وقامت تلك اللجنة باحتلال مقر الجهاز الحكومي المسئول عن تنظيم هجرة العمال إلى فرنسا، وتشكلت كذلك اللجنة المغاربية التي وزعت منشورًا يدعو عمال شمال أفريقيا للمشاركة في الإضراب، وهاجمة الدكتاتوريات التونسية والجزائرية والمغربية، وغير ذلك من لجان عديدة تشكلت وقتها.

وبالتأكيد فذلك الإضراب قد قوى العلاقة بين العمال الفرنسيين وزملائهم المهاجرين نتيجة لتضامنهم في الصراع ضد الرأسمالية الفرنسية، وقد ذكر أحد العمال المهاجرين الذين شاركوا في الإضراب، أنه يرحب بالإضراب حتى لو لم يكن له مكاسب من ورائه، فقبله “كان معزولاً تمامًا أما الآن، فهو يعرف كل الناس.”

وبعد شهر واحد وفي يونيو 1968 أعلن الإضراب مرة أخرى في أحد مصانع السيارات، شارك فيه كل العمال دفاعًا عن العمال المهاجرين المهددين بعدم تجديد عقودهم. فقد سادت في مايو 68 روحًا أممية عارمة، عبرت عنها إحدى شعارات الطلبة “سنكون جميعًا يهود ألمان ضد الضربة الموجهة لكون – بنديت” وكون – بنديت هو أحد أهم قادة الطلبة في تلك الحركة وكان يهودي من أصل ألماني.

وعلى الرغم من أن قضية المرأة لم تأخذ مكانة هامة في تلك الحركة مثل غيرها من قضايا المضطهدين، فقد اشتركت النساء وبأعداد كبيرة في كل مراحل الصراع، فقد أضربن وشاركن في بناء المتاريس، وكان لهن دورًا هامًا في لجان الإضراب، وربما ارتبط ضعف المكانة التي احتلتها قضية المرأة في الأحداث بعدم شيوع أفكار تحرر المرأة في فرنسا في ذلك الوقت، ولكن مما لا شك فيه أن الروح التي سادت في أحداث مايو والتي تركزت حول الحرية والتنظيم الذاتي قد مهدت لنمو الحركة النسوية في فرنسا في السنوات التالية.

الدولة في خطر:
تفاقمت الأزمة على جميع المستويات، فالحالة الاقتصادية أصبحت غاية في السوء وقام كثيرون بتهريب أموالهم للخارج في بلجيكا وسويسرا، وتم تهديد سلطة الدولة في كل مكان، في المصانع والشوارع والجامعات، حتى أن ديجول فر خارج البلاد ولم يعد إلا بعد انتهاء الأحداث، ولكن جهاز الدولة كان سليمًا لم يمس وظلت الرأسمالية في الحكم في فرنسا، ولكنها كانت تحكم في مواجهة سخط شعبي شديد، وحتى في داخل آلة القمع ذاتها – البوليس – ظهرت أشكال من الاحتجاجات وسط الجنود، وأثناء الإضراب تشكلت لجنة وسط الجنود وأصدرت منشورًا جاء فيه:

“إنهم يعدوننا لنكون أداة القمع، لكننا نعلن لكل العمال والطلبة أن الجنود لن يطلقوا الناس أبدًا عليهم، وأن هذه اللجنة ستمنع بأي ثمن اقتحام المصانع، وإننا نتوقع أن يتم إرسالنا في خلال أيام لحصار مصنع احتله 300 عامل لكننا سوف نقف مع هؤلاء العمال. أيها الجنود، شكلوا لجانكم”.

وعلى الرغم من كل ما حدث، يجب علينا ألا نقلل من شأن الدولة البرجوازية التي استطاعت الخروج من ذلك الموقف الصعب، نتيجة للتعاون الوثيق مع القوتين السياسيتين الأساسيتين؛ الرأسمالية الكبيرة، والبيروقراطية العمالية الإصلاحية. فالبيروقراطية والأحزاب الإصلاحية (والستالينية) وافقت على دعوة الحكومة لإجراء استفتاء على نظام ديجول، وبدلاً من أن تدعم الحركة العمالية والطلابية وتدفعها في اتجاه التغيير الثوري، دعت الأحزاب العمال والطلبة إلى إنهاء الإضرابات والاعتصامات واستبدالها بالتصويت في الاستفتاء الصالح بعض المكاسب والفئات. الإصلاحيون كانوا أمام أحد اختيارين الأول كان إنهاء الإضراب مع الحصول على بعض المكاسب والحقوق مع الحفاظ على الإطار السياسي للدولة. أما الثاني فكان إطلاق الفرصة لتشكيل لجان عمالية ثورية قادرة على دفع الحركة للأمام لإحداث تغيير حقيقي للمجتمع، وهوا ما لا يمكن أن يسمح به إصلاحيو الحركة النقابية ولهذا كان اختيارهم الأول ودعوتهم للجماهير للهدوء وللمشاركة في الاستفتاء الذي ضمن استقرار الدولة البرجوازية وتخطيها المحنة.

وإذا حاولنا البحث عن أسباب فشل هذه الحركية العمالية الباسلة التي زلزلت فرنسا والعالم عام 1968، فسوف نجد أهم الأسباب كان غياب حزب عمالي ثوري قادر على قيادة الحركة العفوية للعمال والسير بها في طريق الانتصار على الرأسمالية والقضاء على الاستغلال والاضطهاد نهائيًا. وفي غياب ذلك الحزب لم يكن هناك سوى القيادات النقابية الإصلاحية، والتي سارت بالحركة في طريق معاكس متفق مع إستراتيجيتهم البعيدة تمامًا عن أي خط ثوري، وساعد ذلك الرأسمالية في استعادة سلطتها ودحر الحركة.

فأثناء الأحداث كتب الطلبة على جدران جامعة السوربون مقولة هامة لليون تروتسكي: “إن الإنسان لن يتحرر قبل أن نشنق آخر رأسمالي بأمعاء آخر بيروقراطي”.

والدرس الذي نتعلمه من أحداث 1968 هو أن الطبقة العاملة كان بإمكانها أن تنتصر وأن تبني مجتمعها غير الطبقي لولا غياب حزبها الثوري فالأزمة العالمية الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية يمكنها أن تهيئ الظروف لعدد من الأفراد الثوريين للارتباط برسالة الاشتراكية، وغير تلك الأقليات العددية من الأفراد سيمكن بناء أحزاب عمالية ثورية سوف تضمن انتهاء الموجة الثورية القادمة بشكل مختلف تمامًا عما حدث في فرنسا عام 1968.