في ذكرى الثورة المجرية: روح الماركسية تبُعث من جديد

“لقد نثرت الستالينية الرياح والآن ترتكز الزوابع في المجر. بينما أنا أكتب، لا يزال الدخان يتصاعد فوق بودابست … صحيحٌ أن الدولارات قد نُثِرَت أيضًا في هذه التربة المريرة، لكن المحصول النامي لن يصبح بالتأكيد ذلك الذي ينتظره وزير الخارجية الأمريكي السيد دالاس … بانعطاف غاضب للتاريخ، يبدو أن المحصول قد نبت في مجالس الطلاب والعمال والجنود، كسوفييتات مضادة للحكومة السوفييتية” – إدوارد طومسون، خلال دخان بودابست، 1956.
تدين معظم الأحزاب والتنظيمات التي تتخذ اسم الاشتراكية، خاصة التيارات التي تنسب نفسها للماركسية اللينينية، بوجودها اليوم للثورة الروسية في أكتوبر 1917. ولهم الحق في ذلك بالطبع، فالثورة الروسية لا تزال حتى اليوم تمثِّل المثال الأهم لإمكانية انتصار ثورة عمالية حقيقية. ولكن إذا أردنا التحدث عن التيار الاشتراكي الثوري، وكل التيارات اليسارية الثورية بوجه عام، فالدين الحقيقي هو للثورة المجرية التي بدأت في 23 أكتوبر 1956 ضد ديكتاتورية البيروقراطية السوفييتية، قبل أن تنتهي في 10 نوفمبر والدبابات الروسية تقف فوق جثث الثوار المجريين من طلاب وعمال وجنود.
لفهم الأهمية التاريخية لكفاح جماهير المجر، لابد من فهم أسباب ونتائج هذه الثورة.
“عن عبادة الشخص وعواقبها”
أدَّت وفاة ستالين في مارس 1953 إلى اضطراباتٍ قوية في قيادة النظام السوفييتي، وفتحت الفرصة لبعض التحركات العمالية في الكتلة الشرقية، مثلما حدث وقتها في برلين الشرقية. لم تجد البيروقراطية السوفييتية حلًّا لأزمتها إلا في خليفة ستالين، نيكيتا خروتشوف.
في فبراير 1956، في المؤتمر العشرين للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي، فاجأ خروتشوف الجميع بما كانت القيادة تعرفه وتسكت عنه، بتقريره المسمى “عن عبادة الشخص وعواقبها” أو ما عُرف بـ”الخطبة السرية –التي سُرِّبَت لاحقًا– حيث أطلق هجومًا فاضحًا لكلِّ السياسات القمعية للستالينية، من معسكرات العمل الجماعي وسياسات القمع الفكري والإعلامي والمذابح التي طالت معظم البلاشفة القدامى وعمليات الإعدام المستمرة، ونَسَبَ هذه الكوارث لستالين، مؤكدًا على أهمية موجة جديدة من الإصلاحات تعيد الديمقراطية للحزب و”تعيدنا إلى لينين”، على حد قوله.
هل كان هدف خروتشوف هو العودة إلى لينين بالفعل؟ هل كان ينتوي الرجوع إلى المسار الماركسي الحقيقي ودعم الثورة الاشتراكية وتمكين العمال من السلطة؟ لا بالطبع، فهدف خروتشوف الحقيقي هو مصلحة البيروقراطية الحاكمة، فقد وجد أن سياسة التمادي في القمع والتقييد وسحق المعارضة لا تؤدي سوى إلى الانفجار والاضطرابات، مثلما شهد فور سقوط ستالين، بالإضافة إلى إعاقة النمو الاقتصادي. ولذلك فإن اتباع سياسة الإصلاح وتخفيف القبضة على العمال، بالإضافة للاتجاه للتعايش السلمي مع الدول الرأسمالية بدلًا عن نشر الدعاية الاشتراكية، هي وسيلة البيروقراطية للحفاظ على استقرارها في السلطة واستكمال استغلالها للعمال لمراكمة رؤوس الأموال، ومصلحته الشخصية في الهيمنة على مفاصل الحزب في مواجهة الموالين لستالين. وكما سنرى الآن، لم تمنعه هذه الوعود الإصلاحية من العودة إلى القمع المباشر وقتما تأجَّجَت الحركة الجماهيرية.
على عكس توقعات خروتشوف، كانت الوعود الإصلاحية هي شرارة الحراك الثوري ضد البيروقراطية وليست نهايته؛ فقد أشعلت هذه الوعود آمال الآلاف من البولنديين، إذ خرجت انتفاضة عفوية لعمال صناعة السيارات في أواخر يونيو 1956 في مدينة بوزنان، حيث بدأت بجمع توقيعات على عريضةٍ من أجل ظروف عمل أفضل، تحوَّلَت إلى إضرابٍ ثم مظاهراتٍ حاشدة، دخل فيها المتظاهرون في معركةٍ قوية مع قوات النظام، واتجهوا لتدمير أقسام الشرطة والإفراج عن مسجونيهم السياسيين. سنتحدَّث عن تأثير هذه الانتفاضة على سكان المجر، ولكن يجب أولًا أن نفهم الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلد آنذاك.
جمهورية المجر “الشعبية”
ظهرت جمهورية المجر الشعبية إلى الوجود ليس على يد أيِّ قوى “شعبية”، بل على يد الاتحاد السوفييتي. أثناء الحرب العالمية الثانية، دخلت القوات السوفييتية العديد من دول أوروبا الشرقية كقوةٍ مُحرِّرة من الحكم البشع للاحتلال النازي. تقبَّلَت الجماهير الجيش الروسي بسعادةٍ في البداية، ولكن هذه السعادة لم تستمر كثيرًا بعد انتهاء الحرب، فقد فرضت السلطة السوفييتية وصول الحزب الشيوعي المجري، التابع لها، بقوة السلاح، وهو ما بُرِّرَ في أوساط الشيوعيين على أنه “نشر للاشتراكية”، لتصبح المجر قسريًا جزءًا مما سُمِّيَ وقتها بـ”الكتلة الشرقية”، وليبدأ عهدٌ جديد من الحكم القمعي والاستغلال البشع للعمال في ظلِّ رأسمالية الدولة.
كانت المجر، المُدمَّرة بالكامل نتيجة الحرب، مضطرةً لدفع تعويضات لروسيا مقابل تحريرها وصلت لربع ميزانية المجر في 1948، وانطلقت روسيا في نهب ثروات المجر عن طريق اتفاقياتٍ تجارية غير عادلة، قلَّلَت من أسعار السلع المجرية ورفعت من أسعار السلع الروسية. بدأت الحكومة المجرية في إجراء تأميمات واسعة -تأميمات فوقية معزولة بالكامل عن إرادة العمال- تقودها البيروقراطية السلطوية للحزب الشيوعي الحاكم، وتزايد التصنيع بسرعةٍ رهيبة مقارنةً بالزراعة، مما تسبَّب في أزماتٍ غذائية. العمال بدورهم أصبحوا عبيدًا في آلةٍ اقتصادية جديدة، لم تختلف كثيرًا عن مثيلاتها في غرب أوروبا، رغم رفض الجميع الاعتراف بذلك.
بحلول يوليو 1956، كانت المجر قد غيَّرَت قيادتها للمرة الثالثة في بضع سنوات. كان ماتياش راكوشي، الستاليني المعروف بوحشيته، هو رئيس المجر الذي عيَّنه الاتحاد السوفييتي في 1945، وقد قضى على كلِّ منافسيه في فترة حكمه بتهمة العمالة للديكتاتور اليوغوسلافي جوزيف تيتو، حتى استبدلته موسكو بعد وفاة ستالين في 1953 وأحلَّت محلَّه قياديًا أقل ديكتاتورية هو إيمري ناجي، على أمل أن ينجح في منع تكرار ما حدث في برلين الشرقية، ليعود راكوشي مرة أخرى في 1955، فقط ليُستَبدَل من جديد مع انفجار المظاهرات في بولندا، وهذه المرة يأخذ مكانه أحد رجاله المخلصين، إرنو جيرو. كما نرى، فإن التغييرات الحكومية كانت كلها تأتي من موسكو، ولم تكن للجماهير أيُّ سلطة في هذه الجمهورية “الشعبية”.
بعد الخطبة السرية، كوَّن المثقفون من شباب الحزب الشيوعي المجري حلقاتٍ نقاشية نقدية لمناقشة مواضيع مثل الثقافة المجرية والفلسفة الماركسية. كان غرض الحزب هو أن تكون هذه الحلقات محكومةً، لكن النقاشات النقدية بالتدريج تطرَّقت إلى نقد الحكومة البيروقراطية والقمع ونقاشات حول من الأنسب للحكم. هذه المساحة الصغيرة من حرية التعبير اتسعت بشدة بعد وصولها للعمال، لتشمل نقاشاتهم الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة.
شرارة الثورة
في 23 أكتوبر، دعا الطلاب المجريون إلى مسيرة في بودابست، عاصمة المجر، للتضامن مع رفاقهم البولنديين ورفع مطالب مشابهة لمطالبهم. في البداية سمحت لهم حكومة جيرو بذلك وأعلنت عن المسيرة قبلها بأيام، لكنها سحبت هذه الموافقة في يوم المسيرة نفسها. لم تكن لهذا الفعل قيمةٌ بالطبع، فقد حشدت المسيرة بالفعل قرابة المائة ألف وبدأوا التحرك معلنين عدة مطالب إصلاحية بسيطة، على رأسها عودة ناجي للرئاسة، وإصلاح السياسة الزراعية، والمساواة بروسيا وطرد جنودها من المجر، والحصول على قانونٍ يقرُّ الحريات النقابية، والسماح بعقد انتخاباتٍ حرة.
تحدَّث جيرو في الراديو الرسمي واصفًا هذه المطالب بالقومية والشوفينية والمهينة للاتحاد السوفييتي، مما دَفَعَ جزءًا من المتظاهرين للتوجُّه لمبنى الراديو لإعلان الرد على جيرو، بينما اتجه جزء آخر إلى حديقة المدينة لتحطيم تمثال ستالين الموجود هناك. كان في انتظار المتظاهرين أمام مبنى الراديو 500 من الـ AVH، بلطجية راكوشي وجيرو المنظمين، الذي يحصل الفرد منهم على 10 أضعاف مرتب العامل، وتحوَّلَت المسيرة إلى معركةٍ بالأسلحة النارية راح ضحيتها كثيرون.
في اليوم التالي، أُعلِنَت حكومةٌ جديدة بقيادة ناجي، وصَدَرَ بيانان بأن الأمن والنظام قد استتبا وبتطبيق الأحكام العرفية. كلُّ هذا والثورة تنتشر. انضمَّ العمال إلى الطلاب بعد أن اقتنعوا بمواجهة النظام القائم على استغلالهم، وانضم الجنود المجريون الذين أُرسِلوا لقمع الانتفاضة إلى صفوف الثورة، بل وانضم بعضٌ من الجنود الروس الذين استدعتهم الحكومة الجديدة إلى صفوف الثورة أيضًا، وحتى الفلاحون بدأوا بدعم الثورة وتوفير الغذاء للثوار، وانتشرت الثورة في كلِّ مدن المجر.
المجالس الثورية تحكم
بينما كانت الدعاية الروسية تتهم الثورة المجرية بأنها مُخطَّطٌ للفاشيين والرجعيين والإمبريالية وغيرها من التهم (“عكاشية” الطابع كما هو الحال في مصر)، وبينما حاولت بعض الحكومات الغربية تحسين صورتها بتصوير الثورة أنها ثورةٌ ضد الاشتراكية، كان الطلاب والعمال والجنود المجريون يمارسون الاشتراكية الحقيقية على أرض الواقع، حيث سقطت إدارة الدولة في يد مجالس العمال والجنود وبرلمانات الطلاب، التي تولَّت تنظيم الاحتجاجات والإضرابات وحمايتها، والتحكُّم في الإذاعة، وأيضًا تنظيم استمرار الصناعات الغذائية والطبية الأساسية.
لا يعني هذا أنه لم تكن هناك عناصر مشاركة تهدف إلى العودة إلى رأسمالية السوق، لكن هذه العناصر كما يظهر لنا في مسار الثورة، وكما يظهر حتى فيما آلت إليه اﻷمور بعد هزيمة الثورة، لم تتعدَّ كونها مجرد ضوضاء لا حجم حقيقي لها سوى في أذهان من يستمعون إلى أبواق البروباجاندا الروسية والغربية الرأسمالية. كانت معتقدات الثوار المجريين بعيدةً كلَّ البعد عن ذلك، فهكذا كان رد أحد ممثلي المجالس العمالية على التهم القادمة من موسكو:
“ليس حقيقيًا أن النضال الحالي –البعض يسميه ثورة مضادة– قد بدأه إمبرياليون. لقد علَّمنا لينين، ولا تزال أطروحته سليمة، أن الثورات لا يمكن استيرادها أو تصديرها. هذه ليست ثورة مضادة. إنها الانفجار المتحرك للجماهير المضطهدة المكافحة من أجل الحرية”.
كانت قيادة الثورة الحقيقية في يد الطلاب الثوريين؛ قطاعٌ كبير منهم كان منخرطًا في الحزب الشيوعي المجري، بالإضافة إلى العمال والجنود الذين بنوا معًا مُكوِّناتٍ لسلطة الطبقة العاملة الحقيقية، ولم تكن من أهدافهم بالتأكيد إعادة الأراضي والمصانع والمناجم للطبقة الرأسمالية. أصبحت المجر جنينًا لمجتمعٍ اشتراكي حقيقي، يُذكِّرنا بكوميونة باريس، وتحقَّقَت ازدواجية سلطة حقيقية بين السلطة القاعدية وحكومة ناجي وقراراتها المائعة والراغبة في تعطيل الثورة، والتي كانت أضعف كثيرًا من سلطة العمال. للأسف، حملت تجربة المجر مشاكل شبيهة بمشاكل كوميونة باريس، كانت من الأسباب المهمة في هزيمة الثورة وعدم استيلاء المجالس الثورية على السلطة.
عقبات أمام السلطة العمال
كانت المشكلة الرئيسية، التي منعت المجالس الثورية من اقتناص السلطة وحدها، هو غياب الحزب الثوري المنظم، المؤمن بسلطة الطبقة العاملة، ليدعو لإعلاء سلطة الجماهير الديمقراطية في الوقت المناسب، مثلما فعل البلاشفة في 1917. يمكننا تخيُّل الصعوبة الشديدة في ظهور كيان مماثل في المجر في 1956، حيث أكبر كيان منظم للماركسيين هو نفسه الحزب الحاكم التي قامت الثورة ضده، بعناصره المُتعدِّدة، بين قيادات ديكتاتورية أو إصلاحية وبين شباب مشارك في الثورة، وبالتالي لم تُطرَح فكرة حزب اشتراكي جديد بين قيادات المجالس الثورية في هذا الوقت.
أدَّى هذا الظرف الخاص إلى عدم تماسك المجالس الثورية على أهدافٍ ثابتة، بل تباينت من مكانٍ لمكان، وأجمع أغلبها في مسألة السلطة على بعض الأهداف الأقل راديكالية بكثير من قدراتهم، تتمثَّل في أهمية الاستقلال الوطني والتساوي مع روسيا، وتعيين الأكثر إصلاحية من قيادات الحزب الشيوعي وهو ناجي، رغم أنه هو نفسه صنيعة روسيا وكان في صدامٍ مع الثورة منذ بدايتها. كان ناجي يحلم بتحقيق استقلالٍ اقتصادي وسياسي للمجر عن روسيا تحت حكم الحزب الشيوعي المجري، مُمَثِّلًا لأحلام التحرر الوطني الفوقية، ولكن بعد أن وجد نفسه عاجزًا بين الثورة المتصاعدة من ناحية والتدخل الروسي من الناحية الأخرى، وَقَعَ في فخ الاستنجاد بالدول الغربية، وكان هذا ما يحتاجه الاتحاد السوفييتي ليثبت اتهاماته للثورة المجرية ويبدأ في القضاء عليها بشكل نهائي.
الهزيمة
في الرابع من نوفمبر، بدأت الدبابات الروسية المحاصِرة لبودابست منذ نهاية أكتوبر تَحرُّكها لتسحق الثورة العمالية. أمرت البيروقراطية الدبابات فقط بالهجوم خوفًا من تعاطف الجنود الروس مع نظرائهم من العمال المجريين أثناء المواجهة المباشرة. كان على الجنود الروس ممارسة مهمتهم من داخل دروع دباباتهم ومن خلف الستار الذهني الذي فرضته البروباجاندا الروسية، ووصلت تقديرات الوفيات إلى ما يقرب من 20 ألف قتيل. كانت هذه الحرب هدفها تدمير فكرة أن العمال في المجر، أو في أيِّ مكانٍ في الكتلة الشرقية، يمكنهم حقًا أن يتحكَّموا بمصيرهم.
كان مهندس هذه المذبحة هو جوناس كادار. كان كادار من قيادات الحزب الموجودة في الحكومة منذ عام 1949، والذي خان أقرب أصدقائه المنافسين لراكوشي للحفاظ على منصبه، وكان هذا الفعل هو السمة الرئيسية في أسلوبه على مرِّ السنوات. في بداية الثورة المجرية دعمها كادار بشدة وأعلن أنها خطوةٌ نحو الاستقلال والصحوة الوطنية للمجر، وأفصح عن رغبته في تشكيل حزب جديد أقوى من الحزب الشيوعي ليقود نجاح هذه الثورة، ثم اختفى فجأة ليعود لاحقًا ومعه آلاف من الدبابات الروسية ليدمر ما سمَّاه بـ”الثورة المضادة الفاشية”!
بعد هزيمة العمال المجريين عسكريًا، خُدِعَ ناجي ورجاله بدعوتهم لجلسة تفاوض مع الروس كانت نتيجتها اختطافهم وإعدامهم سرًا، ليُقضى على الجناح الآخر المؤيِّد ولو بشكل ظاهري للثورة. لجأ العمال بعدها لتنظيم ثلاثة إضرابات عامة متتالية بهدف إعاقة حكومة كادار من إحكام قبضتها على البلاد، مع السماح فقط بعمل الصناعات الغذائية الأساسية والوحدات الطبية، لكن الإضراب لم يستمر طويلًا مع حصار الدبابات الروسية لمدن المجر، فقد بدأ نقص الغذاء والموارد يؤثِّر على شعب المجر، واضطر العمال وقتها للاستسلام والعودة للعمل مرة أخرى، وبدأت المجالس الثورية بحلِّ نفسها، مسدلةً الستار على هذا الحدث التاريخي المأساوي.
الحياة تعود للماركسية
سبَّبَت أحداث ثورة المجر على وجه التحديد انفجارًا مدويًا داخل الأحزاب الشيوعية، خاصة في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية. والحقيقة أن هذه لم تكن المرة اﻷولى التي يولِّد فيه الاتحاد السوفييتي صدمةً للكوادر الشيوعية في كلِّ مكان، فمثلًا، فقدت الأحزاب الشيوعية في أوروبا عددًا لا بأس به من كوادرها بعد اتفاق مولوتوف – ريبنتروب في 1939 بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية، وكان معظم المنشقين ينحدرون يمينًا إلى الاشتراكية الديمقراطية أو الليبرالية، فقد كان صوت الماركسية المعارض لستالين، كالأممية الرابعة التي أسَّسَها ليون تروتسكي في 1938، خافتًا للغاية ومشوَّهًا في أذهان كلِّ من تربوا في الأحزاب الشيوعية، وكانت قيادات هذه اﻷحزاب، مثلما رأينا مع الحزب الشيوعي المجري، مجرد بيادق تُحرِّكها موسكو كيفما تشاء، تؤيِّد كلَّ قرارٍ وتعيد نشر البروباجندا دون نقاش.
المختلف هذه المرة أنه في نفس وقت الانشقاقات الضخمة اعتراضًا على قمع ثورة المجر، تلك الانشقاقات التي شملت مئات الآلاف، كان الشيوعيون في العالم أجمع يشاركون في مسيراتٍ ضخمة اعتراضًا على العدوان الثلاثي لكلٍّ من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر للاستيلاء على قناة السويس! وبالتالي لم يكن الاتجاه لليمين أمرًا مقبولًا في أذهان المنشقين، فلم تبدو ادعاءات الغرب بخصوص الحرية والديمقراطية والمساواة أكثر مصداقية من ادعاءات المعسكر الشرقي، وبالتالي كان لابد من البحث عن بديلٍ من داخل الماركسية.
هنا ظهرت مدارس عدة تهدف لإعادة اكتشاف الماركسية وتطوير استخدامها، مثل الماركسية الإنسانية التي تبنَّاها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، والنقد البنيوي الذي تبنَّاه الفرنسي الآخر لوي ألتوسير وتلاميذه، وظهرت كذلك تياراتٌ ماركسية مثل اليسار الجديد، وبالطبع التيار الاشتراكي اﻷممي الذي أسَّسَه المناضل الاشتراكي الثوري توني كليف، وهنا أقتبس من الصحفي الماركسي كريس هارمان في حديثه في الذكرى الخمسين للثورة عن شعور الشيوعيين في تلك الفترة:
“كان الإحساس قد أدَّى إلى خلق “يسار جديد” من داخل الكارثة الأيديولوجية –ومعه إعادة إحياء الماركسية كقوة حية وخلاقة. بعدما كان تعريف الماركسية مرتبطًا بعقائديةٍ ميكانيكية جامدة وخانقة، أصبح هناك جدالٌ واسع بين مدارس وتحليلات مختلفة. وباﻷخص، وُلِدَت مجلة “New Left Review – اليسار الجديد”، ومجلة “International Socialism – الاشتراكية الأممية” في خضم نهاية أحداث 1956″.
لقد ألهمت الثورة المجرية وجودنا، ألهمت صحوة الأفكار الماركسية الثورية، وعلَّمتنا دروسًا قيِّمةً عن أهمية الحزب الثوري في إنجاح الثورة، وتوجهيها نحو تسديد الضربة النهائية في المعركة، وعن ضرورة فضح كلِّ الأنظمة الديكتاتورية التي تنسب نفسها للاشتراكية، وتحليل طبيعتها الطبقية الحقيقية، والأهم أن ثورة المجر علَّمتنا أن روح الماركسية تحيا ما دامت رغبة الملايين من المقهورين في التحرُّر حية، وأن هذه الرغبة قادرةٌ على تحطيم حتى أكثر الأنظمة قمعية وديكتاتورية.