بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

فيتنام.. كسب الحرب وخسارة السلام

ربع قرن مضى على الهزيمة المدوية للإمبريالية الأمريكية في فيتنام، حيث انسحبت آخر قوات القوات الأمريكية المقاتلة من فيتنام الجنوبية في 29 مارس 1973 تاركة النظام الفيتنامي الجنوبي الديكتاتوري العميل أمام مصيره المحتوم. وبقدر ما كانت حرب فيتنام دليلاً صرفًا على وحشية الإمبريالية وإفلاسها في آن واحد، وبالتالي مصدر الهام هائل وقوة دفع معنوية تقوي اليسار في العالم، فإن فيتنام ما بعد الاستقلال، فيتنام للبناء الاشتراكي المفترض، صارت بحق (ومعها كمبوديا المجاورة) كابوسًا مزعجًا وخيبة أمل مروعة لقوى اليسار، وهدفًا سهلاً لأبواق الدعاية اليمينية الرجعية.

إذا كان للتجربة الفيتنامية ككل إذن أن تحتل موقعها السليم في “ذاكرة الطبقة” بحيث تلعب دورًا إيجابيًا في المعارك المستقبلية للطبقة العاملة، فإن علينا أن نجيب على مجموعتين من الأسئلة. تدور المجموعة الأولى منها حول تاريخ الإمبريالية في فيتنام: كيف انهزمت قوة إمبريالية عظمى كالولايات المتحدة أمام دولة صغيرة من العالم الثالث في حرب مركزية مفتوحة؟ وما هو الدور الذي لعبته المقاومة الفيتنامية وكذلك الحركة المضادة للحرب في الولايات المتحدة نفسها في تحقيق هذا النصر على الإمبريالية؟ وما هي العلاقة بين هزيمة الإمبريالية الأمريكية في فيتنام وأزمة الاقتصاد الأمريكي؟ أما المجموعة الثانية من الأسئلة فتدور حول مأساة فيتنام وكمبوديا بعد الاستقلال: لماذا فشل البناء الاقتصادي في فيتنام بعد 1975؟ وكيف تحول حلم الثورة الكمبودية إلى كابوس مخيف؟ ولماذا اندفعت الطبقة الحاكمة الفيتنامية بكل قوة نحو اقتصاد السوق منذ أوائل الثمانينات؟

أن هيمنة “العالم ثالثية” على أغلب قوى اليسار الراديكالي الجديد الذي ازدهر بعد 1968 أدت إلى عجز كبير عن الإجابة على الأقل على المجموعة الثانية من الأسئلة التي نطرحها هنا، وهو ما أسفر عن تخبط وإحباط واسعين في صفوف اليسار. وفقط التيار الاشتراكي الأممي الذي ننتمي له استطاع في السابق ويستطيع اليوم أن يفهم التجربة الفيتنامية في انتصارها وانكسارها فهما يدفع نحو تجاوز هذا الإحباط والتخبط في اتجاه العمل الدءوب الواعي من أجل انتصار الثورة الاشتراكية العالمية.

الإمبريالية الفرنسية في فيتنام
أصبحت فيتنام مستعمرة فرنسية في 1883، في نفس الفترة التي شهدت تقسيم الصين إلى “دوائر نفوذ” تابعة لعدة قوى إمبريالية متنافسة. بالنسبة لفرنسا كانت السيطرة على الهند الصينية (وهو الاسم الذي أطلقته على فيتنام ولاوس وكمبوديا) ضرورية لمنع السيطرة البريطانية على جنوب شرق آسيا وطرقها التجارية البحرية من جهة، وكنقطة اتصال بدوائر النفوذ الفرنسية في جنوب غرب الصين من ناحية أخرى.

مع بدء القرن العشرين كانت الإمبريالية قد دمرت تمامًا الاقتصاد الفيتنامي التقليدي. أقام الفرنسيون مزارع أرز ومطاط كبرى ومناجم فحم ومشروعات بناء عملاقة. ومن خلال القهر المباشر وفرض الضرائب الباهظة على الفلاحين، تم إجبار مئات الآلاف على ترك أراضيهم والعمل في هذه المشروعات في ظل ظروف مفرطة في القسوة. ويكفي أن نعلم على سبيل المثال أن 30 % من العمال لاقوا حتفهم أثناء مد السكك الحديدية من هانوي إلى الحدود الصينية. ومع الدمج المتزايد لفيتنام في بنية الاقتصاد الرأسمالي العالمي، راح الاستقطاب الاجتماعي يتزايد في الريف، حيث ظهرت طبقة من كبار ملاك الأراضي الزراعية (كثير من أفرادها كانوا أيضًا جامعي ضرائب لصالح السلطات الاستعمارية) مثلت في عام 1939 حوالي 2 % من السكان وسيطرت على 45 % من أراضي دلتا ميكونج (أكثر أراضي فيتنام خصوبة).

وفي حين أن الحكم الإمبريالي أفرز أيضًا طبقة متوسطة متعلمة صغيرة أراد لها الفرنسيون أن تتولى مسئوليات إدارية، فإن المدارس والكليات الجديدة التي نشأت لإفراز هذه النخبة المطيعة من المسئولية المحليين قد أفرزت أيضًا وطنيين ناقمين على الاستعمار الفرنسي بفعل ما لسوه من تناقض واضح بين مثل الثورة الفرنسية التي تعلموها في المدارس وواقع الاستعمار الفرنسي. وبالمثل أدى التطور الرأسمالي المتنامي – رغم تعرجات مساره وتشوهاته – إلى إفراز طبقة عاملة جديدة زاد حجمها في نهاية العشرينات عن 200 ألف عامل (من بين سكان يبلغ عددهم حوالي 17 مليون نسمة)، وهي طبقة خاضت سلسلة من الإضرابات الكبرى خلال الفترة من 1928 إلى 1931 شنها عمال النسيج ومصافي البترول ومعامل الخمور ومزارع المطاط ومصانع الأسمنت فضلاً عن سائقي الشاحنات. وفي عام 1930 امتدت الحركة الإضرابية إلى أغلب أقسام الطبقة العاملة كما شملت الريف – حيث شهد إقليمان تكون إدارات ثورية صمدت حتى منتصف 1931.

ومع ذلك فقد كانت الفجوة كبيرة بين انتشار السخط ومستوى التنظيم. فالحزب الوطني الأساسي تم القضاء عليه تمامًا في 1929 بعد تنظيمه لتمرد في حامية عسكرية شمالية. واقتصر وجود باقي القوى الوطنية على حلقات النقاش الصغيرة أو مجموعات المهاجرين في الخارج. أما الاستثناء الوحيد فكان الحزب الشيوعي الفيتنامي الذي وحد ثلاث مجموعات شيوعية صغيرة في أوائل 1930 حول شخصية هوشي منه الكاريزماتية (تغير اسم الحزب في أكتوبر 1930 بناءًا على إرشادات الكومنترن إلى الحزب الشيوعي للهند الصينية حيث حاول أن ينشط في لاوس وكمبوديا، وبعد ذلك تغير الاسم أكثر من مرة، لكننا سنشير إليه بالحزب الشيوعي الفيتنامي منعًا للتعقيد). أن هذا الحزب الذي بدأ بما يزيد قليلاً عن 200 عضو، استطاع خلال سنوات الثلاثينات المشتعلة – وفي ظل عدم وجود بدائل جدية – أن يقود أعدادًا واسعة من العمال والفلاحين في النضال ضد الاستعمار الفرنسي.

كانت استراتيجية الحزب الشيوعي الفيتنامي وطنية صرفة. وكان ذلك جزئيًا نتاجًا لهيمنة الكومنترن الستاليني على كافة الأحزاب الشيوعية في العالم وتسييده لنظرية المراحل التي تؤكد أن النضال من أجل الاشتراكية في المستعمرات وأشباه المستعمرات يتعين تأجيله لما بعد تحقيق التحرر الوطني. إلا أن هذه الوطنية كانت لها أيضًا جذورها العميقة في تكوين هوشي منه ذاته. فقد بدا هو نشاطه السياسي في فرنسا وسط مجموعات وطنية صغيرة في 1917. وفي 1920، انضم إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي وكان مندوبًا لمؤتمر الحزب الذي صوت للانضمام للأممية الثالثة. ولعل روايته لهذه الواقعة في عام 1960 تكشف عن مدى وطنيته وبعده عن الماركسية: “لقد أحببت واحترمت لينين فقط لأنه كان وطنيًا عظيمًا حرر بني وطنه، ولم أكن حتى هذا الوقت قد قرأت أي عمل له. وكنت قد انضممت للحزب الاشتراكي الفرنسي فقط لأن هؤلاء السادة والسيدات (كما كانت أسمى كوادر الحزب) قد أظهروا التعاطف مع حال الشعوب المقهورة”.

بدأ القمع الذي أعقب انتفاضة 30 – 1931 يتراجع مع انتخاب حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا في 1936، واستطاع الحزب الشيوعي الفيتنامي أن يعمل لفترة بشكل شرعي، بل وأن يدخل لفترة قصيرة في جبهة متحدة مع التروتسكيين الفيتناميين ذوي النفوذ وقتها. وقد شهدت الفترة الممتدة من أكتوبر 1936 إلى أغسطس 1937 سلسلة من الموجات الإضرابية كانت الأوسع في أي مستعمرة فرنسية، وهي موجات وصلت للذروة في منتصف 1937 باندلاع إضراب عام جمع بين مطالب اقتصادية وسياسية – يوم عمل من ثماني ساعات، حقوق نقابية، حرية الصحافة، إلخ – ولعب فيه التروتسكيون دورًا قياديًا. شنت الإدارة الاستعمارية حملة قمع شديدة، حيث حظرت النقابات والصحف السياسية واعتقلت مئات المناضلين. ومع هبوب رايح الحرب العالمية الثانية، قضى القمع على النشاط السياسي في المدن تمامًا.

خلال سنوات الحرب، صار الحزب الشيوعي الفيتنامي قوة تحمل إمكانيات الاستيلاء على السلطة. وفي 1941 أسس الحزب منظمة للمقاومة الوطنية المسلحة هي “الفيتمنة” (اختصار رابطة استقلال فيتنام). ورغم أن الفيتنمة لم تقد حرب عصابات شعبية ضد الفرنسيين واليابانيين (الذين احتلوا فيتنام أثناء الحرب)، إلا أنها صارت القيادة المعترف بها لثورة شعبية استطاعت أن تعلن استقلال فيتنام. وكان ذلك لسببين:

السبب الأول كان فراغ السلطة. ففي 1940 أيدت الإدارة الفرنسية في فيتنام حكومة فيشي المتواطئة مع النازية. وبالتالي فقد استمرت السيطرة الفرنسية على فيتنام رغم الاحتلال الياباني. وفي مارس 1945 اعتقل اليابانيون جميع الإداريين والقوات الفرنسية، وأعطوا السلطة الاسمية لإمبراطور تابع لهم بلا قوات مسلحة. هكذا فعندما استسلمت اليابان في أغسطس 1945، لم يكن هناك من يستطيع منع الفيتمنة من الاستيلاء على السلطة.

أما السبب الثاني والأهم فكان اندلاع ثورة من أسفل. فقد دفع فلاحو فيتنام ثمنًا باهظًا للاحتلال الياباني والمجهود الحربي. كان عليهم أن يسلموا الأرز لمخازن الجيش وأن يحولوا أراضي واسعة من زراعة القوت الأساسي إلى المحاصيل الصناعية. وفي شتاء 44 – 1945 أضيف إلى المجاعة الفيتنامية فيضان مدمر، مما أدى إلى مقتل ما بين مليون ومليوني شخص (من بين 10 مليون نسمة). كان لدى الفيتمنة حل بسيط وعبقري معًا: “أغيروا على المخازن”. واستجاب ملايين الفلاحين لهذه الدعوة. وفي الوقت ذاته خرج مئات الآلاف إلى الشوارع في كافة المدن الكبرى. وفي حين شكلت الفيتمنة حكومة مؤقتة، راحت اللجان الثورية تتكون في الريف. أما مدينة سايجون، فظهرت فيها الميليشيات العمالية، وكان تأثير التروتسكيين عليها واضحًا. وعندما وصلت القوات البريطانية إلى سايجون في أواخر سبتمبر 1945 وبدأت تطلق سراح القوات الفرنسية واليابانية لكي تساعدها في “استعادة النظام” ظهر التناقض الكبير بين الفيتمنة والجماهير العمالية. فقد رحبت الفيتمنة بالقوات البريطانية باعتبارها حليف مضاد للفاشية؛ أما الطبقة العاملة فكان موقفها مختلفًا. اندلعت انتفاضة مسلحة عفوية على امتداد الأحياء العمالية في سايجون. وانتشرت المتاريس في الشوارع في ظل أجواء حرب أهلية طبقية عند هذا الحد، حسمت الفيتمنة موقفها، حيث رأت الخطر الأساسي متمثلاً في سلطة العمال التي لاحت بوادرها. هكذا تعاونت الفيتمنة مع القوات الفرنسية وبقية القوات في سحق الانتفاضة العمالية المسلحة (التي كان التروتسكيون أصغر من أن يوفروا لها قيادة فعالة) تمهيدًا لاستعادة النظام والوصول للسلطة على أثر المفاوضات مع الفرنسيين.

أسفرت المفاوضات عن تنازلات كبيرة من جانب الفيتمنة ففي مارس 1946 تم الاعتراف بدولة مستقلة في فيتنام الشمالية والوسطى في إطار الاتحاد الفرنسي، في حين تقرر تحديد مصير الجنوب بواسطة استفتاء يتم إجراؤه في تاريخ لاحق غير محدد. كما وافقت الفيتمنة على بقاء 25 ألف جندي فرنسي لمدة خمس سنوات ورغم كل تنازلات الفيتمنة، فقد فشل الاتفاق لأن الحكومة الفرنسية كانت مصرة على استعادة النظام الاستعماري القديم. وبحلول نوفمبر 1946 كانت الحرب الشاملة قد اشتعلت في فيتنام، حيث سيطر الفرنسيون على المدن والطرق الرئيسية في حين سيطرت الفيتمنة على أغلب الريف وراحت تشن منه حرب عصابات خاطفة لإنهاك الفرنسيين واستنزافهم. وكان عام 1949 نقطة تحول في مسار الحرب. فقد وفر انتصار الثورة الصينية بقيادة ماو قواعد خارجية وإمدادات سلاح كبيرة للفيتمنة، وهو ما أدخل الولايات المتحدة أيضًا في الحرب إلى جانب الفرنسيين. وبحلول عام 1954 كانت “المعونة الأمريكية توفر حوالي 80 % من الميزانية العسكرية في فيتنام.

الولايات المتحدة والحرب البشعة
انتهت الحرب رسميًا من خلال اتفاقات جنيف التي تم التوصل إليها إثر مفاوضات شاركت فيها كل من اللاويات المتحدة وروسيا والصين إلى جانب فرنسا والفيتمنة. ومرة أخرى قدمت الفيتمنة تنازلات كبيرة. قسمت اتفاقات جنيف البلاد مرة أخرى حيث اعترفت بجمهورية فيتنام الديمقراطية بقيادة الفيتمنة في الشمال، كما أقرت جمهورية فيتنام المعينة من قبل فرنسا باعتبارها السلطة الوحيدة في الجنوب. وتقر إجراء انتخابات في الجنوب لتحدد الوضع المستقبلي، يتم بعدها انسحاب الفرنسيين. وحيث أنه كان واضحًا تمامًا للجميع أن الفيتمنة ستكتسح أي انتخابات حرة، فإن الانتخابات لم يتم إجراؤها أبدًا.

ضخت الولايات المتحدة المعونات بسخاء لجمهورية فيتنام بقيادة الديكتاتور دييم الذي راح يقمع بقسوة منقطعة النظير كافة أشكال المعارضة. ومع نهاية 1958 كان نظامه قد قتل 12 ألف شخص على الأقل كما اعتقل 40 ألفًا آخرين أغلبهم من الأعضاء الجنوبيين للحزب الشيوعي الفيتنامي. ولم تكن المعونات الأمريكية موجهة لدييم فقط وإنما أيضًا للقوات الفرنسية المساندة له، ويقدر أن هذه المعونات غطت 85 % من ميزانية فيتنام الجنوبية بين 1955 و1958.

في 1960 وافق الحزب الشيوعي الفيتنامي بناءًا على إلحاح أعضائه الجنوبيين على تأسيس الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (سنسميها اختصارًا جبهة التحرير) لتوحيد المجموعات الفدائية المتناثرة. ومثل الفيتمنة، تبنت جبهة التحرير إستراتيجية وطنية بحتة استهدفت إقصاء الحكومة الموالية للولايات المتحدة وتحقيق الوحدة والاستقلال الوطنيين. وسرعان ما اكتسبت جبهة التحرير شعبية واسعة على امتداد الريف من خلال دعوتها الفلاحين لتحطيم القلاع الإستراتيجية (وهي قرى محصنة قام النظام بتهجير الفلاحين بالقوة منها لأغراض عسكرية على نمط الإستراتيجية البريطانية في الحرب الماليزية). وفي يناير 1960، تم تحرير إقليم جنوبي بالكامل بواسطة العمل الفلاحي الجماهيري بقيادة جبهة التحرير في انتفاضة مسلحة. ورغم أن هذه الانتفاضة لم تصمد كثيرًا وما لبثت أن سحقت، فقد كانت بمثابة جرس إنذار لديكتاتورية دييم. وكان رد النظام هو تكثيف القمع والمطالبة بمزيد من المعونات الأمريكية.

وعلى عكس ادعاءات كثيرة، فإن تصاعد الدور الأمريكي في فيتنام لم يكن مجرد تورط غير مقصود أو سلسلة من ردود الأفعال العاجلة لأزمات محددة. فمنذ الحرب الكورية نظرت الإستراتيجية الأمريكية لآسيا على أنها ساحة المعركة الرئيسية في الحرب الباردة، واعتمدت السياسة الأمريكية على ما عرف بنظرية الدومينو – إذا سقطت (تحررت) فيتنام، ستتلوها تايلاند، ثم بورما، وهكذا. كما أن الولايات المتحدة عانت في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات سلسلة من النكسات في الحرب الباردة، كان أبرزها انتصار كاسترو في كوبا ثم تحالفه مع الاتحاد السوفيتي. وبعد الفشل المذل لعملية خليج الخنازير (محاولة أمريكية عقيمة لغزو كوبا) في 1961 أعلن الرئيس كيندي: “لدينا الآن مشكلة أن نجعل قدرتنا ذات مصداقية، وفيتنام هي المكان المناسب”. هكذا كانت فيتنام مهمة لينس لقيمتها في حد ذاتها للإمبريالية الأمريكية، وإنما بوصفها مكان تؤكد فيه أمريكا قدرتها العسكرية في مواجهة الروس. وكما هو معروفًا. فإن المنافسة العسكرية والاقتصادية مع الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي كانت القوة الدافعة للسياسة الخارجية الأمريكية في ظل الحرب الباردة.

مع نهاية 1962 كان هناك 11 ألف مستشار عسكري أمريكي في فيتنام. ومع تصاعد الحرب غير المعلنة، ازدادت بكراهية الديكتاتور دييم، حتى بين صفوف زملائه من الحكام. وفي 1962 تمت الإطاحة به في انقلاب عسكري دعمته وكالة المخابرات المركزية، إلا أن الحكام الجدد لم يكونوا أكثر منه قدرة على احتواء جبهة التحرير. وفي العام التالي، 1964، بدأ التدخل العسكري الأمريكي الرسمي في الحرب حيث شنت الطائرات الأمريكية غارات جوية على فيتنام الشمالية ردًا على هجمات مزعومة على قطع بحرية أمريكية في خليج شونكن، وهي هجمات تثبت بعد ذلك أنها لم تحدث.

خلال عام واحد، بلغ عدد القوات البرية الأمريكية في فيتنام 120 ألف جندي، وارتفع الرقم إلى 300 ألف في يوليو 1966. وقد شن الجيش الأمريكي الحرب بوحشية غير مسبوقة. فقد استمر القصف الوحشي لشمال فيتنام من فبراير 1965 إلى نهاية 1967 دون توقف ليوم واحد. أما في الجنوب فقد أسقطت قطع المدفعية الثقيلة وقاذفات القنابل والطائرات الهليكوبتر ملايين الأطنان من المتفجرات. وما فيها النابالم المحظور دوليًا، على أي منطقة مشتبه فيها. ويكفي أن نذكر أنه خلال معركة واحدة حول قاعدة خيه سانه الأمريكية، تم إسقاط 110 ألف طن من القنابل خلال 11 أسبوعًا في أواخر 1967 وأوائل 1968، وهو ما يعادل خمس أضعاف ما تعرضت له هيروشيما خلال الحرب العالمية الثانية.

لم تكن هذه البربرية كلها كافية لتأمين النصر للإمبريالية الأمريكية في هذه الحرب. فقد أشعلت وحشية العدوان الإمبريالي روح المقاومة لدى الفيتناميين، وتحول الريف الفيتنامي في الشمال والجنوب إلى ماكينة هائلة لإمداد كل من الفيتمنة وجبهة التحرير بالمقاتلين، وراحت الظروف البشرية والطبيعية المواتية لحرب العصابات الشعبية تجر الأمريكيين جرًا إلى مستنقع العنف الدموي الذي انتهى بهم إلى إفلاس سياسي وأخلاقي تام جلب شعورًا عميقًا بالخزي والمرارة. وإلى جانب النضال البطولي للمقاومة الفيتنامية – المدعومة من جانب كل من الصين والاتحاد السوفييتي – كان هناك عاملان أسهما في النهاية في هزيمة الإمبريالية الأمريكية، وهما تفاقم أزمة الاقتصاد الأمريكي وتصاعد العداء الشعبي لحرب فيتنام داخل الولايات المتحدة.

مثلت سنوات الستينات بداية التراجع النسبي للاقتصاد الأمريكي. انخفض نصيب الولايات المتحدة من التجارة العالمية من 48 % في نهاية الأربعينات إلى 25 % في 1964 ثم 10 % فقط في 1969. ومع تنامي واردات أمريكا بسرعة أكبر كثيرًا من صادراتها منذ أوائل الستينات تزايدت الضغوط في اتجاه خفض قيمة الدولار الأمريكي، وهو ما أدى إلى فقدانه مكانته كدعامة النظام النقدي العالمي وركيزة للتجارة الدولية. على الصعيد العالمي كانت هذه هي بوادر الكساد العظيم الذي حل على العالم في أوائل السبعينات. وعلى الصعيد الأمريكي، تعمقت الأزمة الاقتصادية بفعل تأثير حرب فيتنام. ففي حين أن موازنة الولايات المتحدة لعام 1967 خصصت ما بين 11 و17 بليون دولار لحرب فيتنام، فإن النفقات النهائية بلغت 21 بليون دولار. وأدى التنامي السريع للإنفاق العسكري في ظل اقتصاد بدأ بالفعل يعاني من أعراض الأزمة وتراجع معدلات الربح، إلى زيادة مفاجئة في التضخم وهو ما عني مزيد من الضغوط على الدولار وعلى عجز الموازنة. هكذا راح قطاع هام من الطبقة الحاكمة الأمريكية يتشكك في جدوى وإمكانية الاستمرار في الحرب لفترة أطول. وكان للحركة المضادة للحرب داخل أمريكا دور هام في تعميق هذه الشكوك والمخاوف.

الحركة المضادة للحرب
بدأت الحركة المضادة لحرب فيتنام داخل الولايات المتحدة في الجامعات، وظلت الحركة – حتى في أوج مجدها وازدهارها – أقوى ما تكون بين الطلاب. ورغم أن هذا الطابع الطلابي للحركة كان له أساسه الموضوعي، فإن عدم اتساع الحركة بالقدر الكافي لتشمل تلك القطاعات من المجتمع الأمريكي صاحبة القدرة الحقيقية على إنهاء الحرب – جماهير السود والطبقة العالمة – كان انعكاسًا للأخطاء السياسية لقيادة الحركة.

أن الحركة التي بدأت في ربيع 1965 بسجلات منظمة في الجامعات بين أنصار الحرب وخصومها راحت تتجذر وتزداد جماهيرية على مدى السنوات التالية. وكان مما غذى الحركة أن التصاعد المتواصل للحرب خلال هذه السنوات أدى إلى استدعاء الطلاب بأعداد متزايدة للخدمة العسكرية، وهم المعفيون قبل ذلك من التجنيد. ومثل إبريل 1968 إحدى الذرى التي بلغتها الحركة عندما أقدم أكثر من مليون طالب على الإضراب ليوم واحد اعتراضًا على الحرب. وشاركت أعداد واسعة من طلاب المدارس في هذا الإضراب، كما امتد إلى أكثر المناطق محافظة – في جامعة أريزونا في الجنوب مثلاً اشتراك 50 % من الطلاب في الإضراب.

كان الخط السياسي السائد داخل الحركة هو خط اليسار الجديد الداعي لوقف الحرب فورًا من خلال العمل الجماهيري الذي يجبر الحكومة على التراجع. وقد عكس هذا التيار المرارة العميقة في أوساط الطلاب وفقدانهم الثقة في النظام السياسي الأمريكي وفي نزاهة ومصداقية كبار السياسيين. وقد كان لفقدان الثقة هذا أساسه العميق: ألم يتم انتخاب الرئيس جونسون في 1964 (والذي شهد عصره تصعيدًا كيفيًا للحرب) على أساس وعود بإنهاء الحرب؟ هكذا راح نشطاء اليسار الجديد ينظرون للحرب باعتبارها أجد أوجه نظام يتعين تدميره كليًا، وراحوا يدعون لمزيد من النضالية في الجامعات وفي الشوارع. وكان لهذه الدعوة صداها الواسع بين صفوف جماهير الطلاب.

تلك إذن كانت جوانب القوة في خطاب وحركة اليسار الجديد: رفض العمل من خلال آليات النظام السياسي الرسمي في الولايات المتحدة؛ الدعوة للإنهاء الفوري للحرب؛ والحرص على تجذير الحركة من خلال إظهار المزيد والمزيد من النضالية في الشوارع. إلا أن هذا الخط كان يتضمن عيبًا فادحًا. فذلك الخليعة الغامض من العالمثالثية والماوية والفوضوية الذي ميز اليسار الجديد، لم يكن لديه الرؤية اللازمة لربط النضال ضد الحرب الإمبريالية في فيتنام بقضايا التغيير السياسي والاجتماعي الأوسع في المجتمع الأمريكي بشكل فعال.

أصرت قيادات الحركة المضادة للحرب – وعلى رأسها حزب العمال الاشتراكي الأمريكي بقيادة جيمس كانون – على اقتصار الحركة على قضية واحدة، وهي الحرب. وأضعف ذلك إلى حد كبير من جاذبية الحركة بالنسبة لجماهير السود رغم تزامن التمرد العظيم لحركة السود مع صعود الحركة المضادة للحرب. وكان مما أسهم في ضعف مشاركة السود نسبيًا في الحركة المضادة للحرب إصرار قيادات الحركة على أن السود وحدهم يستطيعون تنظيم سودًا آخرين في الحركة. وقد حدث ذلك رغم أن جماهير السود في الولايات المتحدة قد عانوا معاناة هائلة مباشرة من جراء الحرب، سواء على صعيد التراجع الكبير في برامج الرفاه تحت وطأة نفقات الحرب المتزايدة أو على صعيد النسبة البالغة الارتفاع للسود بين المجندين وضحايا الحرب، وهو ما كان أحد أوجه التمييز العنصري المنظم في الولايات المتحدة ضد السود. وانعكس ذلك في أن المعارضة الصريحة للحرب أصبحت جزءًا أساسيًا من التمرد الأسود منذ 1967.

وإذا كان قيادات الحركة المضادة للحرب قد تعاملوا على استحياء مع توسيع حركتهم بين صفوف السود، رغم السخط الواضح على الحرب في أوساطهم منذ 1967، فإنهم – بفعل رؤيتهم السياسية – قد تعاملوا مع الطبقة العاملة الأمريكية باعتبارها جزءًا من المعسكر الآخر. وحيث أن اليسار الجديد بميوله العالمثالثية قد رأى أن العمال الأمريكيين تم شراؤهم بواسطة الإمبريالية، فإن غالبية نشطاء الحركة المضادة للحرب نظروا للطبقة العاملة كجزء من المشكلة لا كجزء من الحل.

لا بد أن نشير هنا إلى أن هذه النظرة للطبقة العاملة كان لها، من الناحية الظاهرية، ما يبررها. فالنقابات العمالية الأمريكية كانت مفرطة في الرجعية، وأظهرت تأييدًا كبرًا لحرب فيتنام. وحتى 1970 كانت أغلب المظاهرات التي حظيت بتأييد البيروقراطية النقابية هي تلك المؤيدة للحرب. إلا أن هذا التأييد النقابي للحرب كان بمثابة ظاهرة سطحية تخفي ورائها حقيقتين بارزتين. الأولى هي أنه في نهاية المطاف، كانت الطبقة العاملة، بمن فيها من سود وبيض معًا، هي التي تحملت الجانب الضخم من أعباء الحرب، والتي قدمت الغالبية العظمى من القتلى والجرحى. أما الحقيقة الثانية فهي أن قطاعات متزايدة ليس فقط من العمال القاعديين وإنما أيضًا من المستويات الدنيا من البيروقراطية النقابية بدأت منذ 1967 تعبر عن غضب عميق إزاء الحرب ورفض للموقف النقابي المؤيد لها. وقد تزامن هذا العداء العمالي للحرب مع المد في الصراع الطبقي خلال سنوات ما بعد 1968. إلا أن الحركة المضادة للحرب لم تسع بجدية، بفعل رؤيتها السياسية، للارتباط بهذا المد.

أدى فشل الحركة المضادة للحرب – بسبب أخطائها السياسية – في تجذير نفسها داخل الطبقة العاملة وبين جماهير السود إلى عجزها عن تحقيق هدفها المتمثل في الإنهاء الفوري للحرب. ومع ذلك، فإن هذه الحركة قد أسهمت في تعميق الشكوك التي انتابت قطاعات متزايدة من الطبقة الحاكمة الأمريكية حول جدوى استمرار الحرب. أما ما حسم هذه الشكوك والمخاوف بالفعل في اتجاه الانسحاب من فيتنام فهو العمل الرائع للمقاومة الفيتنامية. والهزيمة القاسية التي تعرضت لها الإمبريالية الأمريكية على أرض فيتنام.

هزيمة الإمبريالية الأمريكية
في 30 يناير 1968، مع بدء احتفال العام الجديد في فيتنام، شنت جبهة التحرير بمعاونة قوات جيش فيتنام الشمالية هجومًا شاملاً على القواعد الأمريكية في فيتنام الجنوبية. كان هذا الهجوم بمثابة نقطة تحول جوهرية في مسار الحرب، وقضى على البقية الباقية من ثقة الطبقة الحاكمة الأمريكية بشأن كسب الحرب. شمل الهجوم على المدن الكبرى في فيتنام الجنوبية. وأظهر مقاتلو جبهة التحرير قدرة فائقة على المناورة والخداع في مواجهة ترسانة الحرب الأمريكية المتقدمة.

من الناحية العسكرية، كان هجوم العام الجديد هزيمة لجبهة التحرير، حيث فاقت الخسائر ما كان متوقعًا بكثير. ووفقًا لقائد القوات الأمريكية في فيتنام، الجنرال ويستمور لاند، فقد تم قتل أو أسر أكثر من نصف مقاتلي جبهة التحرير في هذا الهجوم. واضطرت جبهة التحرير بعد ذلك للاعتماد بشكل متزايد على مقاتلي جيش فيتنام الشمالية. ومن الناحية السياسية أيضًا، لم يحقق الهجوم أهم أهدافه، وهو إشعال انتفاضات جماهيرية كبرى في المدن ضد نظام فيتنام الجنوبية.

ورغم ذلك فمن الناحية الكلية كانت الولايات المتحدة هي التي خسرت هذه المعركة. على الصعيد الاستراتيجي، تعرضت القوات الأمريكية لخداع كبير. كانت القيادة الأمريكية قد نقلت أغلب قواتها المقاتلة لفيتنام الوسطى تحسبًا لهجوم عبر الحدود بين الشمال والجنوب، فإذا بها تواجه هجمات شاملة في العمق داخل المدن الكبرى. أما على المستوى السياسي، فقد فضح الهجوم كذب التصريحات الروتينية الأمريكية عن قرب القضاء على جبهة التحرير وتحقيق النصر. فالجيش الذي يشن هجمات منسقة على أكثر من 60 مدينة داخل العمق الاستراتيجي لعدوه لا يمكن القول بأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة. كما أن الوحشية المفرطة التي واجهت بها القوات الأمريكية الهجوم أثارت الاستهجان على نطاق واسع، وقوت من تأثير الحركة المضادة للحرب داخل الولايات المتحدة. في دلتا ميكونج مثلاً تم تسوية العاصمة الإقليمية بنتري بالأرض، وعندما ألح الصحفيون على القائد الأمريكي لتقديم تفسير لهذه الفظاعة، كأن رده معبرًا: “كان علينا أن ندمر المدينة لكي ننقذها”. وصارت هذه إحدى العبارات التي يتم اقتباسها كثيرًا في خطاب الحركة المضادة للحرب.

أدى هجوم العام الجديد إلى تحول قطاعات مهمة من الطبقة الحاكمة الأمريكية ضد الحرب. واضطر الرئيس جونسون لأول مرة لرفض طلبات الجنرال ويستمور لاند بإرسال المزيد من القوات إلى فيتنام، بل واضطر لسحب أعداد من القوات لإرضاء الرأي العام. وفي صيف 1968 أعلن جوسنون عن إستراتيجية جديدة عرفت باسم الفيتمنة، وهي إستراتيجية قام بتنفيذها خليفة ريتشارد نيكسون، الذي كسب الانتخابات – مثل جونسون من قبله – على أساس وعود بإنهاء الحرب.

تضمنت الفيتمنة سحب القوات الأمريكية تدريجيًا مع زيادة المعونات العسكرية لنظام فيتنام الجنوبية وتكثيف القصف الأمريكي في نفس الوقت. كما عنت أيضًا بدء مباحثات السلام في باريس بمشاركة ممثلين لحكومة الولايات المتحدة وفيتنام الشمالية والجنوبية بالإضافة لممثل لجبهة التحرير. كانت الطبقة الحاكمة الأمريكية قد توصلت لقناعة بأنها لن تكسب الحرب، وصار هدفها هو تجنب الهزيمة. وقد حاول نيكسون استخدام الشقاق الصيني السوفييتي المتزايد لممارسة الضغط على فيتنام الشمالية لقبول تسوية تحفظ ماء وجه الإمبريالية الأمريكية. وكان هذا الشقاق قد وصل في 1969 إلى درجة الصدامات العسكرية على الحدود الشمالية الشرقية للصين، وكان كلا الطرفين يسعى لتحسين علاقاته بالولايات المتحدة. وكما هو معروف فقد أدى هذا الوضع إلى مكاسب دبلوماسية كبيرة للولايات المتحدة كان مهندسها هنري كيسنجر، حيث قام نيكسون بزيارته الشهيرة للصين في فبراير 1972 وأعقبها بثلاثة أشهر اجتماع قمة مع بريجنيف. إلا أنه فيما يتعلق بفيتنام لم يؤد النزاع الصيني – السوفييتي لأية مكاسب حقيقية للأمريكيين. فالصراع بين الصين والاتحاد السوفييتي كان معناه ببساطة أن كل من الطرفين لم يكن مستعدًا أن يكون البادئ بتخفيض معونته لفيتنام الشمالية.

ومع استمرار تزايد أعداد القتلى الأمريكيين خلال 1969، اكتسبت الحركة المضادة للحرب دفعة جديدة. وفي نوفمبر 1969 تم تنظيم أكبر المظاهرات في تاريخ الولايات المتحدة، وهي مظاهرات حشدت أكثر من 750 ألف شخص في واشنطن و250 ألف شخص في سان فرانسيسكو. وهنا وجد نيكسون أن عليه أن يوسع نطاق الحرب لكي يتم حسمها بأسرع ما يمكن. كانت الغارات على قواعد جبهة التحرير وجيش فيتنام الشمالية في شرق كمبوديا قد بدأت في مارس 1969. ومع انتقال هذا القواعد غربًا جنبًا للقصف، اتسع نطاق القصف ليشمل كمبوديا بأكملها. وفي مارس 1970 تم إسقاط الأمير سيهانوك حاكم كمبوديا منذ استقلالها في 1954 في انقلاب عسكري مدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية ردًا على سياسة الحياد التي كان يتبعها. وأعقب ذلك غزو أمريكي بربري لكمبوديا شارك فيه 12 ألف من القوات الأمريكية.

أدى هذا الغزو إلى التصاعد الأكبر على الإطلاق في الحركة المضادة للحرب في الولايات المتحدة، حيث انضم مئات الآلاف من الطلاب الجدد للحركة احتجاجًا على غزو كمبوديا. وتم إرسال الحرس الوطني إلى الجامعات لقمع المظاهرات وهو ما أسفر عن مقتل أربعة طلاب في جامعة كنت بأوهايو وطالبين في جامعة جاكسون بميسيسبي، وهما جامعتان حكوميتان. وبالطبع فإن عمليات قتل الطلاب هذه أشعلت الحركة أكثر حيث انضم أكثر من 4 ملايين طالب جامعي وأعداد غير محصورة من طلبة المدارس للمظاهرات. وفي مواجهة مسيرة مؤيدة للحرب لقادة نقابيين يمينيين، نظمت نقابات نيويورك أول مسيرة نقابية رسمية معادية للحرب، وضمت أكثر من 25 ألف شخص. وفي مواجهة هذا التصاعد الهائل في الحركة الاحتجاجية اتجهت إدارة نيكسون إلى مزيد من السرية وانتهاك القانون. فقد كان نيكسون يقول إنه ينهي الحرب في حين أنه في الواقع كان يوسعها من أجل إنهائها. وكان ذلك يعني إخفاء الحقائق ليس فقط عن الكونجرس بل أحيانًا عن وزارتي الدفاع والخارجية. ومع تزايد الشقاق في أوساط الطبقة الحاكمة ذاتها، راحت إدارة نيكسون تتجسس على خصومها وتغير على منازلهم، وهي عملية أدى تفاقمها إلى فضيحة ووترجيت الشهيرة التي تفجرت في عام 1973 وأدت إلى الإطاحة بنيكسون خارج البيت الأبيض.

تزامن هذا التصاعد في الحركة المضادة للحرب أيضًا مع تفاقم مظاهر الانهيار داخل الجيش الأمريكي في فيتنام. بدأت الأعمال المضادة للحرب بين القوات الأمريكية في فيتنام في 1967، وبحلول 1971 أدى تأثير الحركة المضادة للحرب واقتناع الجنود الأمريكيين باستحالة الانتصار في الحرب إلى انتشار حالات التمرد الصريح داخل صفوف القوات. لقد شبه ضابط أمريكي كبير حالة الجيش الأمريكي في فيتنام بحالة الجيوش القيصرية الروسية خلال 1916 و1917. ولم يكن هذا من قبيل المبالغة. فبحلول 73 كان حوالي 20 % من القوات الأمريكية مدمني هيروين، كما أن تعاطي الماريجوانا كان متفشيًا. كما أن الجنود السود (وهم ربع القوات المقاتلة) وقعوا بشكل متزايد تحت تأثير حركة القوة السوداء ومنظمة الفهود السود. والأخطر من كل ذلك كان تزايد حالات رفض القتال بل وقتل الجنود لضباطهم. كانت هناك أكثر من ألف حالة مسجلة لمحولة جنود قتل ضباط بين 69 و72. والأغلب أن الرقم الحقيقي كان أكبر بكثير. وأدى شعور الضباط بالتهديد إلى إهمالهم حالات رفض تنفيذ الأوامر، وتجنبهم إصدار أوامر يعلمون أنها لن تحظى بالشعبية بين الجنود. ولم تكن روح التمرد هذه مقتصرة على القوات الأمريكية في فيتنام، ففي 1972 أشارت الأرقام الرسمية إلى أن واحد من كل أربعة من الجنود الأمريكيين على امتداد العالم كانوا هاربين من الجندية.

تحت وطأة انهيار الجيش وتنامي الأزمة الاقتصادية والضغط المتواصل للحركة المضادة للحرب، فضلاً عن صلابة وبطولة المقاومة الفيتنامية الباسلة، اضطر نيكسون للانسحاب. هكذا انسحبت آخر القوات القتالية الأمريكية من فيتنام في 29 مارس 1973، في الوقت نفسه الذي تصاعد فيه الدعم العسكري الأمريكي لنظام فيتنام الجنوبية. ويقدر أن جيش فيتنام الجنوبية استخدم في عام 1973 40 % من مجمل إنتاج صناعة الذخائر الأمريكية. إلا أنه في غياب الحماية الجوية الأمريكية كانت هزيمة جيش فيتنام الجنوبية حتمية.

كان تقدير الحزب الشيوعي الفيتنامي أن الهجوم الأخير سيستغرق سنتين على الأقل. إلا أنه عندما تم شن هذا الهجوم في مارس 1975 تمزق جيش فيتنام الجنوبية سريعًا، وراح كبار ضباطه يهربون بغنائم الحرب تاركين مدينة بعد أخرى. وسرعان ما وصلت قوات التحرير إلى سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية حيث اقتحمت إحدى الدبابات أبواب القصر الرئاسي في صباح 30 أبريل 1975 وتم رفع علم جبهة التحرير على سارية العلم.

وبالرغم من هزيمة الإمبريالية إلا أن المجتمع الاشتراكي المنشود الذي توقع قيامه كثير من اليساريين الذين أيدوا الثورة الفيتنامية بطريقة غير نقدية لم يتحقق، بل أن ما تحقق بالضبط كان نقيض هذا المجتمع. فكيف كان ذلك؟ ولماذا؟ هذا ما سوف نتناوله في مقال تالي.