فيتنام: كيف تحول الحلم إلى كابوس
لقيت الإمبريالية الأمريكية هزيمة مدوية في فيتنام. وحتى اليوم، فإن شبح هذه الهزيمة لا يزال يطارد الطبقة الأمريكية رغم “نجاحها” في حرب تدمير العراق القذرة. إلا أن تاريخ فيتنام اللاحق على الاستقلال كان بمثابة صدمة لأولئك الذين اعتبروا انتصار جبهة التحرير في جنوب فيتنام عام 1975 وتوحيد فيتنام تحت قيادة الحزب الشيوعي إيذانًا بقيام “مجتمع اشتراكي”. فكيف ولماذا تحول الحلم إلى كابوس؟
الميراث المر
ورثت قوات التحرير التي استولت على فيتنام الجنوبية في 1975 مجتمعًا دمرته 30 سنة من الحرب. قُتل 3 ملايين إنسان وتعرض عدد مماثل لجروح خطيرة منذ 1965 فقط. ألقت الطائرات الأمريكية 8 مليون طن من القنابل على فيتنام منها كميات غير محصورة من النابلم والأسلحة الكيماوية. كما ألقت 11 مليون جالون من “العامل البرتقالي” (وهو مبيد حشري قاتل) قضت تمامًا على ثلث غابات فيتنام مما سبب دمار بيئي هائل ممتد المفعول.
وإلى جانب الخسائر البشرية والمادية الجسيمة، تعرض المجتمع الفيتنامي لزلزال في الجنوب، اضطر 10 مليون إنسان (نصف السكان) لهجر منازلهم كلاجئين، حيث اكتظت بهم المدن دون أن توفر لهم فرص عمل أو الحد الأدنى من الحياة الكريمة. إن الغالبية العظمى من هؤلاء اللاجئين تعرضوا لويلات بطالة لا ترحم أو اضطروا للعمل في خدمة الجيش الأمريكي – بلغ عدد العاهرات وحدهن نصف مليون وفقًا لتقديرات رسمية. وبالطبع تعرض اقتصاد الجنوب لتشويه ضخم، سواء من جراء الدمار الناتج عن الحرب أو نتيجة للكميات الهائلة من “المساعدات” الأمريكية التي ابتلعتها الطبقة الحاكمة. كانت صادرات فيتنام التقليدية تتمثل في الأرز والمطاط. ومنذ 1965، صار الجنوب مستوردًا صافيًا للأرز في حين انخفضت صادرات المطاط إلى الثلث بين 1962 و1973. وفي 69 – 1970 غطت حصيلة الصادرات 3 % فقط من الإنفاق على الواردات. وبلغ الانهيار الصناعي حد أنه في 1970 كانت أربع شركات فرنسية فقط – مصنعان للخمور واثنان للسجائر – تنتج 43 % من إجمالي الإنتاج الصناعي لفيتنام الجنوبية!
أما في الشمال، فرغم أن الدمار كان أقل إلا أنه أدى أيضًا إلى حالة من الشلل. قُتل عدد أقل كثيرًا من الجنوب بفضل الإخلاء المنظم للمدن وشبكة المخابئ الهائلة. إلا أن الدمار الاقتصادي كان شاملاً. تعرضت أغلب قرى الشمال لقصف جوي مكثف جعلها تعتمد على الأرز الصيني لإطعام سكانها، كما شهدت أهم الصناعات تراجعًا حادًا في الإنتاج خلال سنوات الحرب.
التراكم الأولي بعد 1975
كان الحكام الجدد على وعي تام بالوضع الاقتصادي البائس. وفي 1971 وضع المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي الفيتنامي هدفًا بسيطًا يتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الطعام في عام 1980، وكانت كافة خطط الإنعاش الاقتصادي معتمدة بالكامل على المعونات الأجنبية. لم تكن فكرة التنمية الاقتصادية المستقلة واردة على الإطلاق، حيث أقر أمين عام الحزب الشيوعي لودوان بأن “التراكم من المصادر الداخلية غير قائم” لسبب بسيط هو ندرة هذه المصادر. وقد قامت الخطة الخمسية الثانية التي أقرها المؤتمر الرابع على أساس وعود ريتشارد نيكسون وزير الخارجية الأمريكي الشهير بتقديم معونات اقتصادية سخية لفيتنام – وهي وعود لم يتم الوفاء بها.
فعلت الحكومة الجديدة كل شيء لاجتذاب الاستثمارات والمعونات الغربية، حيث انضمت إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي في أواخر 1975. وأكدت عزمها العمل مع الرأسمال الغربي بلا شروط. إلا أنه بحلول عام 1977 لم تكن فيتنام قد حصلت سوى على قطرات قليلة من بحر المعونات الموعودة من بعض حكومات أوربا الغربية وأمريكا. وامتنع صندوق النقد والبنك كالدولي عن تقديم أية معونات لفيتنام بفعل الاعتراض الأمريكي. أما الصين فقط خفضت معوناتها إلى النصف في 1976 – ثم أوقفتها تمامًا في 1978 مع تفاقم صدامها مع فيتنام (والذي أدى إلى حرب قصيرة ولكن مدمرة في 1979). الاتحاد السوفيتي فقط كان مستعدًا لتوفير المعونات الضرورية حيث وافقت موسكو في أكتوبر 1975 على تمويل حوالي 60 % من الخطة الخمسية الثانية (إلا أن هذه المعونات لم تكن بلا ثمن، حيث فرض عبء تسديد أقساطها وفوائدها ضغوطًا كبيرة على الاقتصاد الفيتنامي). هكذا اندفعت فيتنام، مثل كوبا وبدرجة أقل مصر الناصرية قبلها، نحو الاعتماد على الاتحاد السوفيتي بسبب الرفض الأمريكي. وفي حالة فيتنام، كان الوضع أكثر تعقيدًا بسبب التحالف المتنامي بين الصين والولايات المتحدة.
لم تكن المعونات الروسية كافية لتعويض المعونات الغربية الموعودة التي تبخرت في الهواء ومع اتضاح أبعاد الأزمة، اندفع النظام الفيتنامي سريعًا نحو ما كان يحاول تجنبه: سيطرة الدولة على الاقتصاد وتحقيق “التراكم من المصادر الداخلية” مهما بلغت ندرتها. أدى هذا التوجه إلى إنشاء “المناطق الاقتصادية الجديدة” في الجنوب بدءًا من أواخر 1976. كانت هذه بالأساس مزارع دولة كان يتعين بناؤها من لا شيء بواسطة أناس تم نقلهم بالقوة من مدن الجنوب. ومع أوائل 1978، كان قد تم نقل حوالي 750 ألف إنسان إلى “المناطق الاقتصادية الجديدة”. كانت الفكرة هي استخدام أية موارد متوفرة في دفع الإنتاج وبدء عملية “التراكم الداخلي” لتمويل التنمية الصناعية. من وجهة نظر قيادات الحزب الحاكم وبيروقراطية الدولة الموحدة الوليدة، كان “التراكم الداخلي” وسيلة ضرورية للتنمية الصناعية وخلق اقتصاد وطني قوي يستطيع الصمود داخل الاقتصاد الرأسمالي العالمي. أما بالنسبة لمئات الآلاف، بل الملايين، الذين أجبروا على الهجرة إلى “المناطق الجديدة”، فإن “التراكم الداخلي” لم يكن يعني سوى اعتصار لحمهم الحي وإهدار آدميتهم.
وسرعان ما تعرضت “المناطق الجديدة” لحملات إعلامية صارخة في الغرب باعتبارها معسكرات اعتقال. كان أنصار الإمبريالية الأمريكية خلال الحرب قد أكدوا مرارًا أن انتصار فيتنام الشمالية سيؤدي إلى حمام دم في الجنوب، والآن اعتبروا “المناطق الجديدة” دليلاً على صحة توقعاتهم. والواقع أن ذلك كان بعيدًا عن الحقيقة. فظروف الحياة والعمل القاسية المفروضة في مزارع الدولة هذه لم تكن عقوبات مقصودة: بل كانت نتيجة لمحاولة الدولة تحقيق “التنمية” في ظل عدم توافر الحد الأدنى من الموارد اللازمة لذلك. كان هناك بالطبع معسكرات اعتقال حقيقية أقامها الحكام الجدد لأولئك الذين حاربوا إلى جانب الإمبريالية الأمريكية، إلا أن الحزب الشيوعي الفيتنامي كان متسامحًا بالمقارنة مع القوات الأمريكية. فوفقًا للمصادر الأكثر عداءًا للنظام الفيتنامي كان عدد المعتقلين في نهاية 1975 حوالي 340 ألف شخص غالبيتهم العظمى ضباط وضباط صف ومسئولين حكوميين من دولة فيتنام الجنوبية السابقة. ووفقًا لهذا الرقم (وهو في الأغلب مبالغ فيه كثيرًا)، فإن أغلب الضباط والمسئولين السابقين لم يسجنوا.
ولكن إذا كان من الخطأ اعتبار “المناطق الجديدة” معسكرات اعتقال، فلا بد أن نشير إلى أنه بالنسبة لمن عاشوا في المناطق لم يكن الفارق كبيرًا بين الاثنين. فكثير من “المناطق الجديدة” أقيمت في أماكن لم تكن الأراضي فيها صالحة على الإطلاق للزراعة، كما أنها قامت جميعًا في مناطق غير مأهولة حيث كان يتعين على السكان الجدد بناء مساكنهم ذاتها دون أن تتوفر لهم الأدوات والمواد اللازمة لذلك.
أما في الريف الجنوبي، فقد اكتفت الحكومة في البداية بطرح أهداف لكميات الحبوب التي يتم تسليمها جبريًا مقابل أسعار منخفضة، إلا أنها اندفعت منذ 1977 نحو التجميع الزراعي (انتزاع الأرض من الفلاحين وتحويلها إلى مزارع جماعية) إلى نحو ما كان قد تم في الشمال في الخمسينات. كان الهدف هو زيادة ما يتم انتزاعه من الريف حيث أكد أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي أن الضرائب المحصلة من المزارع الفردية لم تكن تزيد عن 10 % في حين أنها يمكن أن تصل إلى حوالي 30 إلى 40 % في المزارع الجماعية. كانت الحاجة ماسة لزيادة الفائض المنتزع من الريف. ففي 1976 لم تتحقق سوى نصف أهداف التسليمات الإجبارية في دلتا ميكونج ذات الأراضي الخصبة.
تفاوتت استجابة الفلاحين لسياسة التجميع في الجنوب. ففي بعض المناطق التي كان بها تقليد عميق من الملكية الجماعية للأرض، وخاصة السهول الساحلية حيث كان الفلاحون أفقر ويتفقدون للآلات والمواشي، سار التجميع على قدم وساق. أما في دلتا ميكونج فقد قاوم الفلاحون بقوة الانضمام للمزارع الجماعية كما قاوموا أوامر التسليم الإجباري للمحاصيل. وبحلول عام 1980 كان أقل من نصف المنازل في دلتا ميكونج قد انضمت للمزارع الجماعية، وأسفر ذلك عن نقص خطير في الطعام المتوفر للمدن في الشمال والجنوب على السواء (إلا أن المشكلة كان أفدح في الجنوب).
مع تفاقم الأزمة رغم محاولاتها الحثيثة لاعتصار العمال والفلاحين، راحت الطبقة الحاكمة تبحث عن كبش فداء لسياسات الفاشلة. وسرعان ما وجدت ضالتها في الأقلية الصينية في فيتنام، التي واجهت إجراءات عنصرية بغيضة. في أوائل 1979، تم إجراء إحصاء للسكان استعدادًا للانتخابات. طُلب من الناس إعلان جنسيتهم، وكان واضحًا أن كل من سيتمسك بالجنسية الصينية سيتم حرمانه من كافة الحقوق المدنية، بما فيها الحق في مخصصات الطعام. هكذا تم إجبار أغلب أبناء الأقلية الصينية على اتخاذ الجنسية الفيتنامية، وفي نهاية العام تم إغلاق كافة الجرائد والمدارس الصينية بالإضافة إلى جميع الجمعيات الأهلية الصينية. وفي مارس 1978 شهدت سايجون (عاصمة الجنوب التي اتخذت الآن اسم هوشى منه) عملية مصادرة شاملة للأعمال المملوكة لصينيين حيث تم تأميم حوالي 30 ألف شركة (أغلبها شركات صغيرة جدًا) في ظل حملات إعلامية بغيضة عن “الدولة داخل الدولة” التي يقيمها الصينيون في فيتنام.
تحت وطأة مناخ الرعب الذي أوجدته العنصرية الرسمية ضد الأقلية الصينية، شهد عامي 1978 و1979 هروب مئات الآلاف من الصينيين من فيتنام عن طريق البحر والبر، وانتشر الحديث عن “شعب القوارب” وصفًا للفيض المتدفق من اللاجئين الذين وصلوا إلى مختلف مواني جنوب شرق آسيا من فيتنام على متن قوارب مكتظة ومتداعية. وبقدر ما أن قصة “شعب القوارب” هذه كانت مأساة إنسانية حقيقية بقدر ما أن تعامل الغرب مع الظاهرة اتسم بالنفاق الشديد. فالإمبريالية الأمريكية (ومعها صديقاتها في أوربا الغربية) تغاضت مؤقتًا عن عنصريتها الثابتة ضد المهاجرين من العالم الثالث وراحت ترحب “بشعب القوارب” لأغراض إعلامية رغم أنها كانت تبيدهم قبل سنوات قليلة! وبعد زوال الضجة الإعلامية المبكرة المصاحبة لهجرة لاجئي فيتنام، راحت الولايات المتحدة تغلق أبوابها أمام هؤلاء اللاجئين كما منحت تأييدها الضمني للإجراءات المضادة في الدول الأسيوية الحليفة لها، حيث كان يتم دفع القوارب مرة أخرى إلى عرض البحر عند لجوءها إلى سواحل تلك الدول. واتخذت السلطات البريطانية إجراءات مماثلة في هونج كونج، بل بدأت أيضًا تسلم اللاجئين بالقوة إلى فيتنام. هكذا تعرض “شعب القوارب” لغدر مزدوج: غدر آمال “التغير” في فيتنام، وغدر الوعود الوهمية “العالم الحر”.
بحلول عام 1980 لم تكن أي من أهداف الخطة الخمسية الثانية قد تحققت، وظن أقل من نصف الطاقة الإنتاجية الصناعية الفيتنامية مستخدمًا بسبب نقص الوقود أو المواد الخام أو المكونات. وكان مما فاقم سوء الأوضاع اشتعال الحروب مع “الشقيقتين الاشتراكيتين”: كمبوديا والصين! ولكي نفهم ملابسات تلك الحروب، ينبغي أن نلقي الضوء سريعًا على تلك البلد المنكوب في الهند الصينية، كمبوديا.
حتى 1970 كانت كمبوديا بلدًا زراعيًا بالأساس، يتسم بانقسامات طبقية هائلة، حيث اشتغلت المنافسة بين ملاك الأراضي والمرابين والتجار والمسئولين الحكوميين على اعتصار الفلاحين. واتسم النظام السياسي تحت قيادة الأمير سيهانوك بالاستبداد الشديد. كان سيهانوك قد وضع على العرش في 1941 بواسطة الإدارة الاستعمارية الفرنسية الموالية لحكومة فيتشي التي أقيمت في فرنسا أثناء الحرب حيث تعاون مع اليابان حتى عام 1945 ثم مع الفرنسيين مرة أخرى حتى حصلت كمبوديا على الاستقلال في 1953. وبعد الاستقلال، حاول سيهانوك أن يجمع بين سياسة داخلية رجعية ويمينية وسياسة خارجية “حيادية” (نسبة إلى مبادئ الحياد الإيجابي العالمثالثية). هكذا سمح لجبهة التحرير بتنظيم قواعد إمداد داخل كمبوديا وأدان الدور الأمريكي في فيتنام. أراد سيهانوك أن يكسب ود الإمبريالية الأمريكية بسياسته الداخلية، وأن يكسب فيتنام الشمالية بسياسته الخارجية.
كانت حسابات سيهانوك على صواب بالنسبة لفيتنام الشمالية التي أيدته بثبات ضد الحزب الشيوعي الكمبودي (المعروف باسم الخمير الحمر)، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة للإمبريالية الأمريكية فمع تدهور وضعها في فيتنام لم تعد الولايات المتحدة مستعدة للتسامح مع دعم سيهانوك النضال الفيتنامي. هكذا تم إسقاط الأمير في انقلاب دعمته المخابرات المركزية وقادة رئيس وزراءه، لون نول. وسرعان ما قامت القوات الأمريكية والفيتنامية الجنوبية بغزو كمبوديا بترحيب من النظام الجديد لسحق قواعد جبهة التحرير، وهكذا انتقل دمار الحرب الفيتنامية إلى كمبوديا.
على أثر الانقلاب ثم الغزو الأمريكي، أقام الخمير الحمر “جبهة تحرير وطني” تحت رئاسة سيهانوك. وسرعان ما تم الاعتراف بهم باعتبارهم القوة الوطنية الوحيدة القادرة على استعادة الاستقلال. وكان اختيار سيهانوك لرئاسة جبهة التحرير على الرغم من أنه كان قد قتل أغلب كوادر الخمير الحمر أثناء توليه السلطة، انعكاسًا لمنطق “الوحدة الوطنية” السائد داخل اليسار الكمبودي، كما أنه كان يعكس أيضًا احتفاظ الأمير السابق بشعبية كبيرة في الريف. فكما في روسيا القيصرية والصين الإمبراطورية انتشر شعبيًا الاعتقاد بأن الحاكم مخلص لبلاده وحريص على رخاء الشعب، وأن بؤس الحياة اليومية يعود إلى فساد البطانة المحيطة به. هكذا احتفظ سيهانوك بشعبية حقيقية ولاقت دعوته للتمرد ضد الانقلاب والغزو استجابة واسعة. على أن القوة المحاربة المنظمة ضد الإمبريالية الأمريكية ونظام لون نول تمثلت في الخمير الحمر.
فاقت وحشية الحرب الأمريكية في كمبوديا كل تصور. وفي عام 1973 وحده – وهو العام الذي شهد التوصل لاتفاقات السلام في باريس التي أخرجت الأمريكيين من فيتنام – تم إلقاء أكثر من 250 ألف طن من القنابل على كمبوديا. وفي “حادثة” واحدة، تم إلقاء 30 طن من القنابل على ضاحية سكنية بالعاصمة بنوم بنه، مما أسفر عن مقتل 137 إنسان وجرح 250، وتدمير المستشفى المحلي. وهنا تجلت إنسانية قيادات الجيش الأمريكي حيث تم تغريم قائد الطائر 700 دولار بسبب الإهمال.
لا أحد يعرف على وجه الدقة عدد من قتلوا في الحرب لكن التقديرات تتراوح بين 600 ألف ومليون، قتل أغلبهم بواسطة القصف الأمريكي المتصل. وأدى هذا القصف المجنون إلى تحول نصف السكان تقريبًا إلى لاجئين. هكذا أنهت الإمبريالية الأمريكية سجلها المخزي في الهند الصينية بعملية إبادة منظمة في كمبوديا. وكانت النتيجة المباشرة للحرب الأمريكية هي وصول الخمير الحمر للسلطة.
زحف الخمير الحمر إلى بنوم بنه في إبريل 1975 حيث تولوا حكم بلد تحول إلى خراب. كان نصف السكان قد لجأوا إلى المدن التي ارتفع سكانها من أقل من 600 ألف نسمة قبل الحرب إلى أكثر من 2 مليون نسمة بعدها. في الوقت ذاته، كان إنتاج الأرز (الطعام الأساسي) قد انخفض من 3.8 مليون طن في 69 – 1970 إلى حوالي 762 ألف طن في 73 – 1974. وكان هذا الوضع يهدد بمجاعة فظيعة وشياكة. فكيف واجه الخمير الحمر هذا الوضع؟
خلال أيام قام الخمير الحمر بإجلاء جميع سكان المدن بالقوة إلى الريف. وقد برروا هذا الإجراء بالقول بأن المدن كان بها طعام يكفي لأسبوعين فقط (وكان ذلك صحيحًا)، وأن الوسيلة الوحيدة لتجنب المجاعة هي تعبئة الجميع في موسم الزراعة الربيعي. هكذا تم الدفع بالقوة بسكان المدن نحو مزارع جماعية ريفية بائسة.
لماذا أقدم الخمير الحمر على ذلك؟ جزئيًا كان الهدف هو تجنب المجاعة الوشيكة عن طريق تعيم الفقر المدقع على الجميع. إلا أنه كان هناك دافع آخر أهم. لقد وصل الحكام الجدد للسلطة على أثر ثورة وطنية، وكانوا منجذبين لنموذج ستاليني للتنمية يركز على التصنيع. إلا أن الخراب الناتج عن الحرب جعل التركيز الفوري على التصنيع مستحيلاً. إن المزارع الجماعية التي أجبر سكان المدن على العيش فيها كانت وسيلة أكثر فاعلية لانتزاع الفائض من الزراعة الفردية (قارن مع فيتنام). هكذا فإن إجلاء المدن لم يكن مجرد عمل انتقامي مجنون كما تم تصويره في الغرب، بل كان نتاجًا طبيعيًا للسياسة الوطنية للخمير الحمر في ظل ظروف قاسية.
أدت هذه السياسة إلى أهوال إنسانية، حيث تعرض مئات الآلاف من المنفيين من المدن للقتل، في الأغلب على يد قوات الخمير الحمر وأحيانًا بواسطة الفلاحين أنفسهم. فمن وجهة نظر الفلاحين، كانت المدن طفيلية. فهي لا تفعل سوى إرسال المسئولين والمرابين والتجار إلى الريف لنهبه وإرهابه. وبالطبع كان هناك سببًا ماديًا للمعاملة القاسية التي تعرض لها المنفيين في الريف. فقد تعين على القرى أن تطعم أفواه أكثر من ذي قبل، وفرض ذلك ضرورة أن يعمل المنفيين في الحقول (وأغلبهم يجهل الزراعة) بسرعة وكفاءة. وصار القهر المنظم – إعطاءهم مخصصات طعام أقل من سكان القرى الأصليين وضربهم بل وإعدامهم – وسيلة ضرورية لتحقيق الهدف. أما بالنسبة للخمير الحمر، فإن المفهوم المأوى الخاص بجيش الفلاحين الذي يحاصر المدن قد تحول في أذهانهم إلى حرب منظمة ضد المدن، وهو ما أعطى دفعة وزخمًا للقسوة المفرطة ضد سكان المدن المنفيين.
ومع ذلك ينبغي الإشارة إلى أن معاملة الريف للوافدين إليه تفاوتت بشدة من منطقة لأخرى وفقًا للظروف المادية لكل منطقة وكل قرية، وكذلك وفقًا للظروف المادية لكل منطقة وكل قرية، وكذلك وفقًا للتوجهات المختلفة لحكام المناطق، حيث أن حكم الخمير قد اتسم بدرجة عالية من اللامركزية. وعلى وجه الإجمال، كانت معاملة المنفيين أفضل كثيرًا في المناطق الشرقية الأكثر خصوبة منها في المناطق الغربية حيث تنتشر الأراضي القاحلة.
بحلول عام 1987، كان واضحًا للحكام الجدد في كل من فيتنام وكمبوديا أن المهمة التنموية الملقاه على عاتقهم أصعب من أن تنجح رغم كل الأهوال التي فرضوها على جماهير الكادحين من أجل التراكم الأولى. وراحت الطبقة الحاكمة في كل من البلدين تحاول تصدير الأزمة إلى الخارج. هكذا تبادلت الدولتان الاتهامات بالميول التوسعية. وعندما شن الخمير الحمر بقيادة بول بوت هجمات عسكرية شاملة داخل الأراضي الفيتنامية في عام 1977 على أمل خلق عدو خارجي يصرف الأنظار عن الأوضاع الداخلية، فإن الطبقة الحاكمة الفيتنامية اغتنمت الفرصة وردت بغزو شامل لأراضي كمبوديا.
استمر الاحتلال الفيتنامي لكمبوديا قرابة عشر سنوات وأسهم القتل المتواصل في تفاقم البؤس في البلدين معًا. وكان من نتائج ذلك تلك الحرب القصيرة، بين فيتنام والصين (التي تدخلت باسم الانتصار لكمبوديا) التي أسفرت عن مقتل حوالي 60 ألف جندي فيتنامي وصيني في 1979. وراح الغرب ينتشي بأخبار القتال بين الدول “الاشتراكية” المزعومة وفي الوقت نفسه فإن وصف نظام بول بوت الكمبودي بالنازية في الغرب لم تمنع تدفق المعونات الأمريكية إليه في إطار الصراع الأمريكي الروسي على النفوذ في المنطقة فقد تولت الولايات المتحدة والصين دعم بول بوت في حين تولي الاتحاد السوفيتي مساندة فيتنام في حرب مجنونة كان وقودها هو جماهير الكادحين في البلدين.
خاتمة
تمخضت تجربة فيتنام (وكذلك كمبوديا) بعد الاستقلال عن كارثة حقيقية. فالمحاولات التنموية على طريقة رأسمالية الدولة في البلدين لم يكن فقط بربرية في وسائلها القاسية (إقامة “المناطق الاقتصادية الجديدة” في فيتنام، وإجلاء سكان المدن في كمبوديا، وإقامة المزاع الجماعية الجديدة في البلدين حيث الاستغلال المضاعف للفلاحين) ولكنها أيضًا كانت فاشلة. فهذه السياسات لم تنجح في تحقيق التراكم الأولي الذي حققته مثلاً الطبقة الحاكمة الروسية في الثلاثينات (على أنقاض الثورة الروسية). في التجربة الروسية، نجحت رأسمالية الدولة في تحويل الاتحاد السوفيتي من بلد أوربي متخلف إلى القوة العظمى الثانية في العالم في غضون أقل من عقدين. أما في فيتنام وكمبوديا، فإن شيئًا من ذلك لم يتحقق لأن الحكام في البلدين اضطروا لخوض تجربة التنمية المستقلة والتراكم الأولى في ظل وضع جديد للرأسمالية العالمية لم يعد يسمح بالانغلاق الاقتصادي والاعتماد على الذات، خاصة في ظل الخراب الناتج عن الحرب الأمريكية في البلدين.
أن تجربة فيتنام قد أكدت الإفلاس الأخلاقي والسياسي للإمبريالية. كما أكدت أيضًا أن الإمبريالية يمك هزيمتها. لكنها بينت كذلك أن حلم التحرر بالنسبة لملايين الكادحين لا يمكن أن يتحقق في ظل استمرار الرأسمالية. فيتنام وكمبوديا دليل ساطع على صحة الفكرة الماركسية القائلة بأن البديلين المطروحين أمام البشرية هما: الاشتراكية أو البربرية.