بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

هل كانت الثورة الكوبية ثورة اشتراكية؟

مناقشة وتحليل خبرة الثورة الكوبية أمر شديد الأهمية بالنسبة للثوريين. وذلك لأن هذه الثورة بالذات (وربما أيضًا الثورة الصينية) قد خلقت في سنوات الستينات وما بعدها موجة واسعة من التعاطف والتأييد في أوساط جموع من الشباب من ذوي النزعات الثورية والاشتراكية. وحتى يومنا هذا – وبالرغم مما جرى – نجد الكثيرين ممن يحلمون بـ”العدل والحرية” وبـ”سقوط الإمبريالية الأمريكية” يسوقون المثال الكوبي كمصدر للإلهام ومعين للخبرة. ساهم في الوزن الأدبي للثورة الكوبية مناهضتها المستمرة للإمبريالية، والشخصية التي اتخذت أبعادًا أسطورية للثوري أرنستوتشي جيفارا، واستمرار كاسترو كوبا حتى اليوم في ترديد شعارات الاشتراكية.

على أن الثورة الكوبية لم تكن ثورة اشتراكية، والنظام الذي خلقه لم يكن بالتبعية اشتراكيًا. وواجب الاشتراكيين الثوريين في التأييد (النقدي) لمناهضي الإمبريالية لا ينبغي أن ينسيهم ما هو أهم وهو أن الثورة الاشتراكية لا بد ولا يمكن إلا أن تكون الفعل التحرري الذاتي لجماهير العمال. وبهذا المقياس يمكن أن نرى حقيقة ما حدث في كوبا. هل يمكن أن يخفي الهوس بجيفارا – الثوري النقي والمقاتل حتى الموت – حقيقة أن حرب العصابات وغارات حفنة من الثوريين المقاتلين لإسقاط نظام باتيستا الاستبدادي القمعي، لم تكن أبدًا ثورة جماهيرية عمالية؟ هل يمكن أن ينسينا الهوس والتأييد المبدأ العمالي الثوري الأساسي في التغيير من أسفل وبواسطة الجماهير وليس بواسطة أقلية من الثوريين تفعل بدلاً منهم؟ أن طريق جيفارا – كاسترو لم يكن طريق الثورة العمالية، والنظام الذي خلقوه في كوبا لم يكن اشتراكيًا. وجوهر الحفاظ على الخط العمالي الثوري يقوم على نقد بديل حرب العصابات وعلى فهم مضمونه وجذوره وكيفية التعامل معه. وهذا ما سنحاول القيام به في هذا المقال.

كوبا عشية الثورة:
كانت كوبا هي آخر حصن من حصون الإمبراطورية الإسبانية المتهاوية. وفي عام 1898، وعندما حررت كوبا نفسها من الحكم الإسباني، حل الأمريكيون محل الأسبان. دخل الأمريكيون كوبا – كما ادعوا – “لحماية مواطنيها”(!). وكانت هذه هي الجائزة الكبرى للولايات المتحدة التي طالما حلمت بالهيمنة الإمبريالية على وسط أمريكا والكاريبي. وبسرعة، سخرت الولايات المتحدة الاقتصاد الكوبي لمصالحها. وأصبح السكر – الذي تخصصت كوبا في إنتاجه على مدى القرن التاسع عشر – هو المحصول الرئيسي الذي ينهبه الأمريكيون. ففي عام 1926 أصبح الرأسماليون الأمريكيون يسيطرون على 63% من إنتاج السكر الكوبي. وبذلك رضخت عملية الإنتاج في كوبا لمصالح بارونات السكر من الولايات المتحدة.

وفي الأربعينات بدأ نظام باتيستا – وقد كان وقتها مرحلة وطنية جذرية – في تحويل اقتصاد السكر المحلي للسيطرة الكوبية وبذلك تراجعت الهيمنة المباشرة للأمريكيين. ولكن تحكمهم في السوق العالمي للسكر عني أنهم كانوا قادرين على مواصلة إدارة دفة الاقتصاد الكوبي. ولذا في الخمسينات أصبحت 80% من الواردات الكوبية تأتي من الولايات المتحدة، بينما استثمر الرأسماليون الأمريكيون ما قيمته بليون دولار في الأراضي الكوبية. واستمرت سيطرة السكر على الاقتصاد تتعاظم حيث مثل السكر 36% من الناتج المحلي الإجمالي، 83% من الأراضي المزروعة. هذا بينما كان التطور في الصناعة والخدمات محدودًا ومعظمه في يد أجنبية. فقد مثلت الخدمات مثلاً فقط 20% من قوة العمل. وعلى خلفية ذلك كله كانت تعمل آلة دولة أخطبوطية فاسدة ومرتبطة بألف خيط بالمصانع الأمريكية، وتمتص حوالي ربع الناتج المحلي. يمكن القول إذن أن كوبا كانت في الخمسينات تمثل نموذجًا كلاسيكيًا للدولة المختلفة شبه المستعمرة.

وقد عكس تطور الاقتصاد الكوبي نفسه على الخريطة الطبقية للبلد. فبينما كان 1% من ملاك الأراضي يملكون أكثر من 50% من الأراضي، كان 71% يملكون 11% فقط، وكان الملاك الأجانب (الأمريكيون غالبًا) يملكون 690 فدانًا. أما الأغلبية، وهي 63% ممن يعملون في الأرض، فقد كانت لا تملك شيئًا على الإطلاق. وعلى الجانب الآخر كان العمال في الصناعة والخدمات أقلية، بالرغم من كونهم أقلية شديدة التأثير في السياسية والاقتصاد. أما البرجوازية المحلية فقد ميزها ضعفها وخضوعها المذل للإمبريالية الأمريكية. وذلك لأن ميلادها المتأخر والعقبات في طريق التصنيع وروابطها بالقوى القديمة وبالامبريالية الأمريكية، قد فككوا أوصالها وجعلوها شريحة ضعيفة ومتخاذلة.

البدائل الثورية في كوبا:
كان السادة السياسيون في المجتمع الكوبي قبل ثورة 1959 هم مجموعة من السفاحين الطفيليين، ولم يكونوا يملكون في أيديهم أي سلاح سوى القمع والبطش. وفي مواجهة هؤلاء السفاحين برز تياران للمعارضة والمقاومة. أولهما كان يجد قاعدته في الطبقة العاملة. فقد كان النضال العمالي هو الذي أسقط جيراردوماشادو الذي حكم كوبا بدءا من عام 1924. ففي عام 1933 أضرب سائقو الأتوبيسات في هافانا. وكانت هذه هي إشارة البدء لانتفاضة عامة ضد النظام من قبل العمال والطلاب. لعب الحزب الشيوعي دورًا ضعيفًا وهامشيًا في بداية الانتفاضة. ولكنه سرعان ما أصبح يلعب دورًا قياديًا، وأعلن تكوين السوفييتات والسيطرة العمالية. بعد ذلك بعام واحد – في 1934 – وبسبب التجنيد الواسع، أصبح الحزب هو القيادة الفعلية للطبقة العاملة. ولكن الحزب الشيوعي – المتأثر تخط موسكو التهادني – لم يكن يسعى فعلاً لإسقاط النظام. ولذلك حينما وصل القومي جراو سان مارتان للسلطة في 1933 بعد الانتفاضة، حاول الحزب استخدام قاعدته الجماهيرية كورقة لعقد موازنة معه. وحينما أسقط سان مارتان بواسطة الجيش وباتستا في 1934، كانت الفورة العمالية قد خبت وأضعف الحزب الشيوعي. وفي 1935 أعدم باتستا المئات من الكوادر المناضلة وأعلن حرب شعواء على الحزب.

وقد تجلت الطبيعة التواطئية للحزب الشيوعي في عام 1938، عندما قرر التعاون مع باتستا اتباعًا لخط موسكو في التحالف مع “القوى التقدمية”! ففي 1940 أعد دستور جديد، وبدأ باتستا سياساته في تمكين البرجوازية المحلية المتعفنة من تحقيق سيطرة أكبر على اقتصاد السكر في البلاد. وبالتزامن مع هذا أدمج باتستا اتحاد عمال كوبا في جهاز الدولة وأعطى اثنين من الشيوعيين مناصب وزارية، بينما أصبح ثالث هو رئيس اتحاد العمال! وهكذا تخلى الحزب الشيوعي عن السياسة العمالية المستقلة ووقع في مستنقع التوافق الوطني مع باتستا. ولذا، لم يجد باتستا صعوبة في الإطاحة بالشيوعيين بعد ذلك بأعوام قليلة. في عام 1947 حظر الحزب الشيوعي، وطرد القادة الشيوعيين لاتحاد العمال.

في ظل هذه الإفلاس وهذه الخيانة يمكننا أن نفهم كيف كانت الظروف مهيأة لنمو وتوسع تأثير البديل الثوري الآخر في كوبا: بديل النضال المعزول لحفنة من المثقفين الراديكاليين البرجوازيين الصغار. لقد عنت السيطرة الأمريكية على الاقتصاد الكوبي أن القطاعات الأضعف في الطبقة الوسطي الكوبية لم يكن بمقدورها أن تأخذ حطها من التطور والرقي. وقد مثل هؤلاء مع الطلاب والفلاحين المتوسطين والصغار، العمود الفقري للمعارضة “الوطنية”.

من بين هذه القوى نشأ كاتسترو ورفاقه. لقد نما هؤلاء من تراث معارض لا صلة تذكر بالمعارضة لا صلة له تذكر بالمعارضة العمالية. وكانت خلفيتهم هي إيديولوجية النمو الوطني المستقل الذي خذله وخانه الحكام المستبدين والتابعين. ولأن المعارضة العمالية فقدت قوتها وسطوتها، بسبب سياسات الحزب الشيوعي، فقد أخذ هؤلاء يتوسعون. ففيدل كاسترو، المحامي الشاب الذي ارتبط بالحزب الأرثوذكسي (حزب البرجوازية الأساسي)، يقرر – بعد إستيائه من الحزب وقادته – أن يغير النظام بقوة السلاح. في 1953 يقرر كاسترو وآخرون الهجوم على ثكنات مونكادا، ولكن الهجوم يفشل ويسجن كاسترو ويحاكم. وفي دفاعه يظهر الطابع الإصلاحي الجذري لسياسات كاسترو. طالب زعيم المستقبل في “خطابه” هذا بإصلاح زراعي، وبتخفيض الإيجارات وبخدمات اجتماعية وبالتخلص من سيطرة الإمبريالية الأمريكية – ولم يذكر شيئًا عن الإطاحة بالرأسمالية.

في عام 1954 أفرج عن كاسترو وذهب إلى المكسيك. هنا بدأت القصة التي تحولت إلى أسطورة. تم تجميع 82 شاب في مزرعة بالمكسيك لتدريبهم على أساليب حرب العصابات على يد محارب أسباني متقاعد. ثم تحرك الجيش الصغير ذاهبًا إلى كوبا على متن سفينة ستدخل التاريخ اسمها “جرانادا”، ليصل إليها في 2 ديسمبر 1956. وعلى مدي أكثر قليلاً من عامين، حارب جيش كاسترو (الذي توسع ليصبح بالآلاف) نظام باتيستا على طريقة حرب العصابات التي تبدأ من القرى والجبال لتصل في النهاية إلى المدن الكبرى والعاصمة.

ويقوم أسلوب حرب العصابات على أيديولوجيا مثالية قوامها هو نقاء وشجاعة الثوري الفرد. وقد شرح جيفارا هذه الأيديولوجية في كتابه حرب العصابات الذي كتبه عام 1960. أكد جيفار أن “القوى الشعبية” يمكنها أن تنتصر في حرب ضد الجيش، وأنه ليس من الضروري وجود غليان ثوري في المجتمع وذلك لأنه من الممكن إستبداله بنواة ثورية مخلصة. وهي النواة التي ستبدأ معركتها من أفضل ساحة وهي المناطق الريفية المتخلفة حيث الجبال والهضاب الوعرة (في أمريكا اللاتينية)، وحيث يوجد جموع المستغلين من الفلاحين الذين يعدون القوة الثورية الأساسية في الدول المتخلفة. والجيش الثور الصغير لابد أن على قواعد نقية وصارمة حيث لا مكان لخائن أو مرتد أو سارق، وحيث لا مكان لغير المنضبط أو لمن لا يطيع أوامر قادته. هذه القواعد التي لا تناقش ويقابل من يخافها بأقصى العقوبة: الإعدام. إن سلوك المقاتل في هذه الحرب يعده لأن يطبق العدالة والقانون فيما بعد. عندما يتم الإستيلاء على السلطة – حيث يعاقب الخونة ويصادر الفائض من الأرض والثروة الحيوانية لإعادة توزيعهما المزارعين المحتاجين.

دخل جيش كاسترو هافانا منتصرًا لثورته في 8 يناير 1959. وحتى نفهم بدقة طبيعة هذه الثورة ومضمونها علينا أن نقارن بين أسلوبي تياري المعارضة الأساسين: العمالي والبرجوازي الصغير. لقد كانت حركة 26 يوليو بقيادة كاسترو – وهي الحركة التي أسست جيش حرب العصابات – بعيدة كل البعد عن مراكز الطبقة العاملة. ولم يكن للطبقة العاملة مكان في جوهر إستراتيجية حرب العصابات. وفي تناقض واضح مع نشاط الإضرابات العامة والجماهيرية الذي أسقط ديكتاتورية ماشادو في 1933، لم يلعب العمال أي دور في ثورة 1958 / 1959. هذا بالرغم من أنهم شاركوا في إضرابين عامين في 1957 وفي أبريل 1958. الإضراب الأول كان عفويًا وناجحًا، وكنتيجة لنجاحه حاولت حركة 26 يوليو تنظيم إضراب ثاني على غراره لتصعيد النضال في المدن وذلك على هامش سياسة حرب العصابات. ولذا نظم الإضراب الثاني في 1958. وكان تنظيمه فاشلاً بواسطة حركة 26 يوليو (حيث أن الحزب الشيوعي رفض دعمه). فبالرغم من التأييد الكبير له خارج هافانا، إلا أهنه لم يؤدي إلى تعبئة المعارضة ضد باتيستا وإنما إلى تفتيتها وإضعافها. والنتيجة كانت أن كاسترو أهمل تمامًا أي تدخل في الحركة العمالية، وركز على حرب العصابات حتى إنتصرت ثورته.

لماذا فشلت الإضرابات في تعبئة المعارضة ضد باتيستا؟ السبب هو أن العمال، بالرغم من كراهيتهم لديكتاتورية باتيستا، لم يستطيعوا أن يربطوا مطالبهم بإسقاط الديكتاتور بأي مطالب اجتماعية أخرى أكثر جذرية. فلقد كانت النقابات مدجنة، وكانت الحركة العمالية مقيدة بأفكار التوافق الطبقي بسبب سياسات الحزب الشيوعي. وقد فشل العمال في خلق أشكال نضالة مستقلة عن النقابات الصفراء بعد أن أحبطتهم التجارب السابقة . ولذلك فالإضرابات العامة التي تمت سواء الناجح تنظيمًا منها أو الفاشل – لم تجد أشكالاً قاعدية تطورها وتجعلها أكثر جذرية، ولم تجد أحزابًا اشتراكية ثورية تقودها إلى ثورة. العكس تمامًا هو الذي حدث. فلقد توسعت الإضرابات العامة ثم تمت قيادتها بواسطة المنظمات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة (المنظمات الطلابية. المهنية، والدينية،، وغيرها). ولعبت الحركة العمالية دور الذيل لحركة توافق طبقي. وفي حالة الإضراب الذي قادته حركة 26 يوليو كان الأمر كذلك تمامًا. فبالرغم من الرطانة الثورية للحركة، إلا أن بعدها عن العمال واعتمادها على وسيط التنظيمات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة لإرادة الإضراب، قد عنيا أن القيادة الفعلية للإضراب كبحت طاقته ومنعت أي تطور في اتجاه ثوري خشية انفجار غير محمود العواقب. والنتيجة بالطبع كانت تشتت المقاومة العمالية وترجعها.

النظام الجديد:
سقط باتيستا في يناير 1959. وكان سقوطه نتيجة نشاط جيش حرب العصابات. ولكن لم يكن لم يكن أحدًا – عدا الحاشية وجهاز الدولة – يريد استمرار الديكتاتور في السلطة. ولذلك، فعندما دخل كاسترو هافانا كان في الحقيقة يملأ فراغًا في السلطة. فكل الطبقات ترفض باتيستا، ولكن واحدة منهم لم يكن بمقدورها إسقاطه: البرجوازيون بسبب الضعف المزمن والتخاذل، والطبقة العاملة بسبب هيمنة سياسات التواطؤ والإحباط.

انتصار الثورة وضع كاسترو وجهًا لوجه أمام مهمة بناء نظام جديد. ولكن لم يكن لدي هذا الثوري الشاب حركته المنظمة الجماهيرية أو القاعدة الطبقية للانطلاق. في الشهور الأولي قام كاسترو بتكوين حكومات متعاقبة من البرجوازيين المعتدلين أو الليبراليين – الكهول ذوي السمعة الطيبة من معارضي باتيستا – مثل القاضي يوريويتا الذي أصدر حكمًا بأن مقاومة نظام باتيستا بالسلاح عمل دستوري ومشروع، أو أسفالدو دورتيكوس الذي كان نقيبًا للمحاميين ومحاميًا للثوار. أما الشيوعيون فقد تولوا مناصب في الإدارة المحلية.

لم يكن هناك شك في أن حركة 26 يوليو تمتعت بتأييد شعبي جارف. ولكن السؤال كان أي نوع من التأييد؟ فعلى العكس مما حدث في 1993 لم يكن في حوزة العمال أي أجهزة للمقاومة والتعبئة والسلطة. السلطة الفعلية كانت في يد “الباربودوس” وهم رجال جيش حرب العصابات من الشباب ذوي اللحى الشهيرة. هؤلاء الرجال الثوريين “المخلصين الأشداء” تولوا المناصب الإدارية الهامة في جهاز الدولة. وفي نظر كاسترو كان هذا كافيًا لإحداث ثورة في المجتمع! أما الجماهير المؤيدة بحماس للباربودوس، فقد كان دورهم هو الفرجة وتلقي ثمرات التغيير الثوري الذي يتم بمعزل عنهم وبواسطة الثوريين “المحترفين الذين يرتكن إليهم”.

وما الذي فعله الباربودوس عندما أصبحوا في السلطة؟ في البداية كان الهدف – على الأقل في أذهانهم – واضحًا: تنفيذ البرنامج الإصلاحي الراديكالي الذي وضعه كاسترو مع أثنين من قادة أحزاب المعارضة في عام 1957 والشهير باسم بيان السييرا. ذلك كان برنامجًا جذريًا للإصلاح، ولكنه لا يتضمن أي أهداف اشتراكية، ولا يشير على الإطلاق إلى مسألة التأميم والتجميع. وعلى الجانب السياسي كان المطلوب هو الوصول إلى شكل حكم ليبرالي التقليدية خلقت أزمة للنظام الجديد. المضمون الأساسي للأزمة كان اقتصاديًا. الإصلاحات التي تمت في العام الأول للثورة كانت مكلفة اقتصاديًا. ارتفعت أجور العمال بنسب كبيرة، وانخفضت البطالة بأكثر من الثلث، وانخفضت الإيجارات إلى نصف قيمتها، بينما أصبحت خدمات الكهرباء والتليفونات وغيرها أرخص بكثير. من ناحية أخرى كان للإصلاح الزراعي في 1959 – وهو حجر الزاوية في برنامج كاسترو الإصلاحي – تأثيرات هامة على الوضع في الريف. فبالرغم من أنه مس فقط الملكيات الكبيرة، ولم يحل مشكلة مديونية الفلاحين، إلا أنه وزع 25% من الأراضي على الفلاحين الفقراء وهو ما أدى إلى زيادة مساحة الرقعة الزراعية المستخدمة في إنتاج محاصيل للاكتفاء الذاتي وتقليص الرقعة المستخدمة في زراعة القصب.

في ظل هذا الوضع الجديد أصبح لدى العمال نقودًا أكثر لينقوها على السلع الاستهلاكية – وهي سلع كان لا بد من استردادها – وعلى الغذاء. ذلك بالضبط في الوقت الذي كان القصب – مصدر العملة الأجنبية الأساسي – يخضع لضغوط تؤدي إلى تقليل مساحته المزروعة. وهكذا خلقت الإصلاحات وضعًا صعبًا من الناحية المالية ومن ناحية الاكتفاء الذاتي في الغذاء، وهو وضع لم يكن من الممكن أن يستمر كثيرًا. وفقط التصنيع وتوزيع مصادر دخل الدولة كان بمقدورها حل المعضلة.

رفع النظام الجديد شعار التصنيع. وفي الأيام الأولى لم يكن هذا الشعار – الذي نبع من الضغوط الاقتصادية – مقترنًا بأي إجراءات جذرية. ولكن شهور قليلة من محاولة تطبيقه بالطريقة التقليدية أثبتت أنه لا مفر من التأميم والتجميع. فمن ناحية أولى عنى الاعتماد التام لكوبا على السكر كمصدر للعملة الأجنبية، وما يؤدي إليه ذلك من تذبذب شديد في الدخل بين عام وعام، أن السوق المحلي (الصغير والمتقلب بشدة) لم يكن أبدًا يمثل أساسًا متينًا ويمكن الاعتماد عليه حتى يبدأ الرأسماليون المحليون بعد الثورة ارتفاع معدلات الأجور ارتفاعًا كبيرًا إلى الحد الذي جعل كوبا الدولة صاحبة أعلى أجور في أمريكا اللاتينية كلها. وهذا أمر أدى إلى تفضيل الرأسماليين للهروب إلى الخارج.

ومن ناحية ثانية، كانت العلاقات مع الولايات المتحدة تسير في طريق التأزم. فبعد شهور من التعايش الحذر بين الثورة وبين الولايات المتحدة وشركاتها متعددة الجنسيات، بدأ الصراع مع الإصلاح الزراعي في 1959، ذلك أنه بالرغم محدوديته، إلا أن جزءًا كبيرًا من الأراضي الأمريكية كان خاضعًا له. وفي المقابل طلبت الولايات المتحدة تعويضات كاملة، وأعلنت رفضها أن تدعم النظام ماليًا، بل ودعمت أنصار باتيستا الذين هربوا إليها.

ولذا فبدءًا من خريف 1959 وحتى نهاية 1960 تحركت الأحداث بسرعة شديدة. لمواجهة الرفض الأمريكي لتمويل المشاريع الطموحة للنظام، ولحل معضلة رفض البرجوازية المحلية في الإطار التقليدي للسوق الحر للقيام بالتصنيع، اضطر كاسترو إلى استخدام جهاز الدولة ذاته بشكل أكثر فاعلية في الاقتصاد. في سبتمبر 1959 أعلن كاسترو أن التنمية الاقتصادية ستتم تحت قيادة الدولة. وفي نهاية العام صودرت الأراضي التي كانت مملوكة لأتباع باتيستا، وأنشئت تعاونيات زراعية محلها.

الخطوة الثانية كانت في عام 1960 عندما وافق الإتحاد السوفيتي على تصدير نفط خام لكوبا في مقابل واردات من السكر. وعندما حاولت الدولة تكريره في المعامل على الأرض الكوبية، رفضت الشركات الدولية المالكة للمعامل. وهذا ما دفع النظام للاستيلاء على المعامل في يونيو 1960. وعندما قررت الولايات المتحدة توجيه ضربة قاصمة للثوار بفرض حظر تجاري شامل على كوبا – وهي ضربة تستمد قوتها من الاعتماد الكوبي على الولايات المتحدة – قام النظام بتأميم معظم المؤسسات الاقتصادية وإخضاعها بشكل مباشر لإدارة الدولة.

هذه هي قصة التأميم في كوبا، وهي قصة – كما نرى – ليس للعمال أو الجماهير عمومًا مكان فيها. إذ لا يوجد دليل واحد أن إجراءات كاسترو الجذرية كانت نتيجة لضغوط جماهيرية من أسفل. بل ربما يكون العكس هو الصحيح. فبعد استيلاء حركة 26 يوليو على السلطة في يناير 1959 اندلعت موجة واسعة من الإضرابات. ولكن المطالب التي رفعتها تلك الإضرابات كانت اقتصادية فقط، ولم يكن من ضمنها مطالب جذرية لتغيير المجتمع الرأسمالي. وبعد الاستجابة لهذه المطالب، برفع الأجور وغيرها من الإجراءات كما ذكرنا، تراجعت الحركة الإضرابية ثم ماتت كلية في حوالي 1959. وعلى هذا، فإن الإطاحة بباتيستا في يناير 1959 لم تؤد إلى خلق شروط تغيير اجتماعي ثوري من أسفل، وإنما إلى تقوية النظام الجديد الذي استبعد الجماهير من عملية التغيير، وقام منفردًا – ولأسباب تتعلق بالضغوط الاقتصادية التي واجهته – بالإطاحة بالرأسمالية الخاصة وبالاحتكارات الأمريكية في الاقتصاد الكوبي.

ولا يمكن فهم هامشية دور العمال في سنوات 1958/1959 بدون الرجوع إلى تاريخ الصراع الطبقي في كوبا. كانت السنوات السابقة على الثورة الكوبية من أعلى سنوات فاصلة. فعلى الرغم من احتدام الأزمة الاجتماعية ومن تعفن وفساد نظام باتيستا، إلا أن الطبقات الاجتماعية الأساسية كانت من الضعف بحيث أنها لم تستطع أن تطيح بالنظام الهش. وبالنسبة للعمال فإن دور الحزب الشيوعي كان حاسمًا. فمع مقدم النصف الثاني من الخمسينات كانت الحركة العمالية قد فقدت كل أسلحتها وأضعفت سياسيًا بسبب سياسات التوافق الطبقي التي اتبعتها قادتها من الشيوعيين. فقد أدان هؤلاء منظمي الهجوم على ثكنات مونكادا بوصفهم “إنقلابيين برجوازيين”. وفي عام 1956 و 1957 أهملوا حرب العصابات واعتبروا أنها شيئًا هامشيًا. وفقط في 1958 بدأوا في فتح صلات أولية مع كاسترو. وعلى الجانب الآخر كان الشيوعيين يرون أن الثورة الكوبية لن تكون اشتراكية في حاضرها ولكنها لا تؤيد الرأسمالية!. الثورة الكوبية – هكذا رأى الشيوعيون – هي ثورة شعب العمال والفلاحين ضد الاستعمار والإقطاع. ولذلك عندما فوجئوا بالإجراءات الجذرية الصغيرة تقود عملية تغيير جذري على نطاق أشمل مما دافعوا هم عنه! وهكذا أصبح الشيوعيون نتيجة لعدائهم لخط الثورة الاشتراكية ونتيجة لتذبذبهم ذيلاً للقوى البرجوازية الصغيرة التي تجاوزتهم.

على هذه الخلفية يمكننا أن نفهم تدجين الحركة العمالية واستيعابها الكامل في نظام كاسترو. فحينما تحبط الحركة العمالية وتخان من قادتها المفترضين، تصبح البدائل الجذرية الانقلابية التي تحقق المطالب الاقتصادية للعمال مقبولة. وبالطبع فإن ما حدث في كوبا لم يكن حتميًا. فقد كان من الممكن بالتأكيد أن يفتح تغيير سياسي محدود الباب لثورة شاملة من أسفل كما حدث في شيلي، ولكن هذا يعتمد على حالة الحركة العمالية عشية التغيير السياسي. وهنا يكمن الفرق بين شيلي وكوبا، حيث كان العمال في شيلي يثبون إلى الأمام بينما كانت حركة عمال كوبا تنحسر وتتهاوى بعد مرحلة من التقييد والإحباط والخيانة.

كوبا والثورة من أعلى:
في أوائل الستينات بدأت “الثورة” الكوبية التي تمت بمعزل عن الجماهير في التقارب مع الحزب الشيوعي الذي حطم حركة العمال، وفي الدوران في فلك الإتحاد السوفيتي. وعلى الرغم من بعض التقلبات، ومن مرحلة مؤقتة من التقارب مع الصين، إلا أن كوبا اقتفت خطى الإستراتيجية السوفيتية في التنمية وأصبحت أسيرة للإمبريالية الروسية التي وإن كانت أقل وطأة من الإمبريالية الأمريكية الأكبر إلا أنها أيضًا وظفت علاقتها بكوبا لمصالحها الاقتصادية والجيو-ستراتيجية. باختصار، أنتج اللقاء الثوري للبرجوازيين الصغار فاقدي الثقة في حركة العمال الثورية، نظامًا يقوم على أساس رأسمالية الدولة البيروقراطية التي سادت في أوروبا الشرقية وبعض دول العالم الثالث.

بدأت كوبا في مشروعها الطموح للتصنيع في عام 1961، وذلك بعد سلسلة التأميمات والمصادرات التي هدفت إلى تعبئة الموارد. وقد توازى ذلك مع نوع من الصفقة مع الشيوعيين الذين عرضوا نقص خبرة الباربودوس في قيادة دفة الشئون الاقتصادية. وبدأ كاسترو في ذلك الحين في صنع حركة 26 يوليو بالصبغة الماركسية، ومد نفوذه إلى الحزب الشيوعي الذي أصبح أداة النظام الجديد وجهازه في الحكم. في نفس الوقت كانت محاولات التصنيع مرتبطة باستقطاب لبيروقراطية النقابات العمالية إلى صفوف النظام. وعلى قاعدة ارتفاع الأجور وتحسن مستويات المعيشة أصبحت النقابات مندمجة في جهاز الدولة.

وفي إطار الاندفاع المحموم وراء التصنيع وضعت خطط مركزية للدولة على غرار نمط التنمية السوفيتي. وقد سعت هذه الخطط لتوجيه الطاقات والحماسة في اتجاه رفع معدلات التراكم وزيادة الإنتاجية. وهذا ما أدى إلى التركيز على انضباط العمال. ففي 1960 بدء العمل ببطاقات الهوية للعمال، وزادت العقوبات على التغيب عن العمل. وبعد ذلك في 1963 نفذ إصلاح زراعي أكثر جذرية من الإصلاح الأول وذلك لمواجهة الأزمة الطارئة في محصول السكر. وفي هذا الإطار انتقل التركيز من الصناعة إلى الزراعة مؤقتًا، لأن التدهور الزراعي هدد بتحطيم مجهودات التنمية الرأسمالية كلية. على أن المهم في سياق فهم مضمون مشاريع وخطط التنمية في كوبا في الستينات هو أن نؤكد أن نتيجتها كانت باستمرار سيطرة السكر على الاقتصاد، مع انتقال السيطرة من الولايات المتحدة إلى الإتحاد السوفيتي. والأمر ذو الدلالة هذا هو أن الاندفاع وراء التصنيع والفشل المتكرر في تحقيق قفزات فيه قد دفعا النظام من آن لآخر إلى إتباع سياسات لا يمكن أن توصف إلا بأنها رجعية، حتى من وجهة نظر الرأسمالية التقليدية. فلأن الهدف هو زيادة الإنتاج، فقد كان التراكم هو الشعار والدافع الرئيسي. ولتحقيق ذلك اتبعت الدولة سياسات أجور تقوم على زيادة الفوارق بين العمال: الأجر بالقطعة، حوافز على الإنتاجية…الخ.

وبينما كان النظام الكوبي يكتسب هيبة وجاذبية متزايدتين في أوساط الثوريين في العالم في النصف الثاني من الستينات، كانت سماته الحقيقية تتضح أكثر وأكثر. بغض النظر عن الرطانة الثورية، وعن رومانسية جيفارا الذي ترك السلطة ليحارب من أجل ثورة أمريكا اللاتينية، إلا أن خلف ذلك كله يكمن الواقع الحقيقي وهو أن كوبا تحت زعامة كاسترو أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المعسكر السوفيتي وأنها وظفت طاقات عمالها وكادحيها لتحقيق وثبة اقتصادية كتلك التي حققها الاتحاد السوفيتي في الثلاثينات بطرق أكثر وحشية وبإمكانات أكبر بكثير.

خاتمة:
ليس هناك شك في أن جاذبية كوبا قد تقلصت في العقدين الآخيرين، وأن نظام كاسترو فقد كل مقومات نقائه الثوري بعد عقود من الفشل والانهيارات. ولكن السياسات التي مثلها جيفارا وكاسترو والتي فتنت الكثيرين – السياسات التي تستبدل دور الجماهير بدور حفنة من الثوريين – لا تزال تمثل خطرًا. ربما لا يكون هذا واضحًا اليوم وفي ظل فقدان الثقة في أي إمكانية للتغيير في أوساط المثقفين الذين كانوا يومًا ما جذريين. ولكن مع بوادر مرحلة جديدة في الصراع الطبقي على الصعيد العالمي سيظهر من يرفعوا صورًا لجيفارا وهم يسيرون في مظاهرات الشوارع، وسيظهر البرجوازيين الصغار المفتونين بدور الفرد البطل الثوري في التغيير. وفي مواجهة هذا ليس هناك واجب على الثوريين أهم من النضال قولاً وفعلاً دفاعًا عن مركزية دور الطبقة العاملة في التغيير الجذري الشامل. والفهم الثوري الجيد للتجربة الكوبية هو بالتأكيد سلاح إضافي في الترسانة الثورية علينا شحذه واستخدامه – فالمستقبل ملئ بالآفاق الثورية ولكنه ملئ بالمخاطر، ودروس التاريخ تعيننا على التقدم في الآفاق وتجنب المخاطر.