بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

حول أول حزب شيوعي في مصر (1921 – 1924)

كانت تجربة “الحزب الشيوعي المصري الأول” خصبة وملهمة في آن واحد. فلقد تأسس الحزب الاشتراكي المصري في أغسطس 1921. وخلال أقل من عام كانت قيادة الحزب قد انتقلت من فرع القاهرة الخامل والإصلاحي إلى فرع الأسكندرية النشيط والمناضل. وعلى مدى السنتين التاليتين راح الحزب ينجرف يسارا من ناحية، ويعمّق جذوره داخل الطبقة العاملة من ناحية أخرى. وكان الدور القيادي الذي لعبه الحزب داخل الحركة العمالية المشتعلة طوال عام 1923 وبدايات عام 1924، بعدما ارتبط بالأممية الشيوعية وغيّر اسمه إلى “الحزب الشيوعي المصري”، هو الذي دفع حكومة سعد زغلول الوفدية إلى سحقه في مارس 1924.

في السطور التالية سوف نتناول خبرة هذا “الوليد” الشيوعي بالتحليل والنقد. إذ من وجهة نظرنا أن تجربة شيوعيي مطلع العشرينات كانت، ربما، الأكثر أهمية وفاعلية في تاريخ اليسار المصري، أولا لقربها من حركة الطبقة العاملة، وثانيا لارتباطها الحقيقي والوثيق بالروح الثورية غير المهادنة للاشتراكية كما بلورتها الأممية الشيوعية الثالثة في سنواتها الأولى.

تطور الطبقة العاملة المصرية
ارتبطت نشأة الطبقة العاملة المصرية بالاندماج المتسارع لمصر منذ أوائل القرن التاسع عشر في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، على أساس زراعة القطن وتصديره لأوروبا. وأسفرت هذه العملية التاريخية، التي جرت في علاقة وثيقة مع الهيمنة الإمبريالية على مصر، عن تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في مصر، وإن يكن بشكل مشوّه وشديد التعقيد.

ورغم أن جذور الطبقة العاملة المصرية تعود إلى بدايات القرن التاسع عشر، فمن المهم أن نلحظ أن تجربة التصنيع التي قادها محمد على مثلت فجرا زائفا بالنسبة للطبقة العاملة المصرية. فعمال المصانع الجديدة التي أنشأها محمد على تم تجنيدهم بالسخرة، ولم يكونوا بالتالي عمالا “أحرارا” يبيعون قوة عملهم في السوق. إلا أن عصر محمد على مع ذلك مهّد الطريق لبزوغ طبقة عاملة حديثة من خلال التحولات العميقة التي أدخلها على المجتمع المصري وتفكيكه للعلاقات الاجتماعية التقليدية في ريف مصر وحضرها. ومع القضاء المتنامي على علاقات السخرة في الريف والمدن وهيمنة سوق العمل الرأسمالي المتزايدة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهرت للوجود الطبقة العاملة المصرية الحديثة.

كانت هناك ثلاثة روافد اجتماعية أساسية للطبقة العاملة المصرية. أول وأهم هذه الروافد كان جماهير الفلاحين المعدمين الذين لفظهم التطور الرأسمالي في الريف من أراضيهم لينضموا لقوة العمل الأجيرة في الريف أو المدن. كما وفر تراجع وانهيار الطوائف المهنية في الحضر مصدرا ثانيا لنشأة طبقة العمال الأجراء. وأخيرا كان تدفق آلاف العمال الأجانب على مصر في أوائل القرن العشرين تحت وطأة الظروف الاجتماعية القاسية في أوروبا الجنوبية مصدرا لشريحة صغيرة نسبيا من الطبقة العاملة، لكنها بالغة التأثير بحكم ما توفر لها من خبرات نقابية وسياسية سمحت لها بلعب دور قيادي في تلك المرحلة المبكرة من تطور الحركة العمالية.

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في 1914، كان قطاع الصناعة والنقل الحديث الذي تركزت فيه الطبقة العاملة الحديثة لا يزال صغيرا. حيث تكوّن بالأساس من منشآت تعالج المنتجات الزراعية، أو تنتج أنواعا محدودة من السلع لسكان المدن من الأجانب والمتمصرين، أو توفر خدمات عامة مثل الكهرباء والغاز والمواصلات العامة. ومع ذلك فقد استطاع عمال السجائر والترام والسكك الحديدية أن يشكلوا منذ بداية القرن طليعة مناضلة للطبقة العاملة، وراحت إضراباتهم تتوالي جنبا إلى جنب مع تنامي قوتهم التنظيمية ممثلة في الأشكال النقابية التي أبدعوها والتي كانت في الأغلب نتاجا لتحركاتهم النضالية. تراوحت مطالب الإضرابات بين رفع الأجور، وتخفيض ساعات العمل، وتحسين شروط العمل القاسية، فضلا عن الاعتراف بالنقابات وحقها في التفاوض باسم العمال. وكان طبيعيا في ظل هيمنة رأس المال الأجنبي على الاقتصاد المصري وخضوع مصر لسيطرة الإمبريالية البريطانية أن يتداخل الوطني مع الطبقي في وعي الطبقة العاملة الناشئة. وقد أتاح هذا الوضع للحزب الوطني (حزب مصطفي كامل) أن يلعب دورا مهما ويحظي بنفوذ معقول داخل الحركة العمالية، خاصة في ظل زعامة محمد فريد للحزب.

أدى تصاعد القمع خلال سنوات الحرب العالمية الأولى إلى تراجع حاد في الحركة العمالية. حيث انخفض عدد الإضرابات بشدة، كما تقلصت عضوية النقابات، بل واختفت كثير من النقابات. إلا أن هذا الوضع لم يكن ليستمر طويلا. فالحرب كان لها تأثير بالغ القسوة على مصر. لقد تراجع إنتاج الغذاء بشدة وارتفعت الأسعار فانخفضت مستويات المعيشة كثيرا. وفي حين تم تجنيد مئات الآلاف من المصريين للعمل بالسخرة في جيوش الحلفاء، فإن معدل البطالة ظل مرتفعا طوال سنوات الحرب. وفي مقابل تفاقم البؤس داخل صفوف الجماهير المصرية في الريف والمدن، انتعشت الرأسمالية المصرية بفعل انقطاع طرق التجارة وتراجع الواردات من السلع الاستهلاكية، مما نشّط حركة التصنيع المحلي.

وعلى الرغم من استمرار القمع البريطاني والافتقار إلى التنظيمات العمالية، فإن موجة عارمة من الإضرابات بدأت في أغسطس 1917 واستمرت حتى اندلاع انتفاضة مارس 1919 التي لعب عمال الترام والسكك الحديدية دورا بارزا في تفجيرها وإضفاء الطابع الجماهيري عليها من خلال الإضرابات التي شلت تماما المواصلات في القاهرة والأسكندرية.

وخلال النصف الثاني من عام 1919 راحت الإضرابات تنتشر خارج قطاع النقل، كما بدأت تكتسب طابعا طبقيا جذريا واضحا. ويمكن اعتبار إضراب عمال شركة قناة السويس الكبير في مايو ويونيو 1919 بمثابة نقطة تحول فارقة في مسار الحركة العمالية، حيث شهد درجة عالية من التضامن الطبقي بين العمال المصريين والأجانب. وعلى حد تعبير جويل بينين وزكاري لوكمان أهم مؤرخي الحركة العمالية المصرية: “كان الإضراب في قناة السويس في مايو ويونيو بشيرا بحدوث انفجار آخر للنزاع الصناعي في الصيف. والحق أنه لم يكن من الممكن ألا يكون لهذا الانفجار في مصر بعد وطني، ولكن بعده الطبقي كان أشد أهمية وظهورا مما اتصف به أي انتفاض سابق للحركة العمالية المصرية. وإذا كان ربيع 1919 قد شهد ميلاد حركة عمالية في قلب الثورة الوطنية، فإن صيف نفس السنة شهد كيف أصبح للطبقة العاملة صوتها المتميز ووقفت تناضل من أجل مطالبها الخاصة بها.”

اقترنت الموجة الإضرابية بموجة واسعة من الانضمام للنقابات حتى أن إحدى الصحف اليومية البارزة في احد أيام أغسطس 1919 أعلنت بشكل لا يخلو من الذعر: “السماء تمطر نقابات!” واستمر المد العمالي الصاخب خلال السنتين التاليتين، حيث وقع 24 إضرابا كبيرا بين أغسطس ونوفمبر 1919، بما في ذلك إضراب استمر 65 يوما لعمال السكك الحديدية بالقاهرة. كما وقع 81 إضرابا بين ديسمبر 1919 ومنتصف 1921 في كافة أفرع الصناعة، منها 67 إضرابا على مستوى صناعة بأكملها.

اليسار يلتقي بالحركة العمالية
كما أن سنوات ما بعد الحرب العالمية شهدت تطورا كيفيا في نضالية الطبقة العاملة وتنظيماتها النقابية، فقد شهدت كذلك تبلور اتجاه سياسي اشتراكي واضح المعالم ومنظم. وإذا كان العمال الأجانب قد لعبوا دورا مهما في قيادة الحركة العمالية خلال المرحلة المبكرة لتطورها، فإن المثقفين الأجانب أيضا كان لهم دور كبير في بلورة الاتجاه اليساري في مصر فكريا وتنظيميا، وفي إقامة روابط وثيقة بينه وبين عدد من أبرز النقابات وأكثرها نضالية من خلال اتحاد نقابي يساري جديد.

كان جوزيف روزنتال، وهو يهودي من أصل إيطالي ولد في فلسطين وعمل جواهرجيا وجاء إلى مصر في بداية القرن، هو الشخصية الرئيسية لا في الحركة الاشتراكية الوليدة فحسب وإنما أيضا في الجناح اليساري للحركة العمالية. لقد أسهم الرجل في تكوين نقابات عديدة خاصة بين صفوف العمال الأجانب في الأسكندرية وأكتسب نفوذا كبيرا بين الأجانب اليساريين في الثغر. وكان روزنتال هو صاحب فكرة تكوين اتحاد نقابي عمالي عام يوجه جميع النقابات القائمة، حيث قادته إلى هذه الفكرة تلك الموجة العارمة من الإضرابات وتشكيل النقابات بين العمال المصريين والأجانب في 1919. وعلى أثر المحادثات التي جرت بشأن هذا الاتحاد بين الزعماء النقابيين، لاحظ روزنتال أن أغلب زعماء النقابات من المصريين – وهم في أغلب الحالات من مثقفي الطبقة الوسطى ذوي الميول الوطنية – “شعروا بأن إقامة نقابات حقيقية تراعي مصالح العمال سوف يؤدي إلى فقدانهم لسلطتهم وإقامة عقبات أمام تحقيق أهدافهم السياسية.”

تأسس “الاتحاد العام للعمل” في أواخر فبراير 1921 بعد اجتماع تأسيسي عُقد في الأسكندرية وحضره عدد من قادة النقابات الراديكاليين (الجذريين) من المصريين والأجانب مثل روزنتال والمحامي اليساري المصري أمين عزمي وغيرهما تحت رئاسة الدكتور سكوفوبولس القائد الراديكالي لنقابة عمال السويس، وهو يوناني الجنسية. وكما يوضح بينين ولوكمان، فإن الاتحاد عند تكوينه “كان مشكلا بوضوح على نمط الاتحادات النقابية الأوروبية ذات القيادة الاشتراكية، ولم يكن يمثل إلا جزءا صغيرا من الطبقة العاملة المنظمة ذاتها. فقد التحقت بالاتحاد الجديد 21 نقابة وأغلب أعضائها الثلاثة آلاف كانوا عمالا أجانب بالأسكندرية. ولم تنضم النقابات المصرية المهمة التي كان روزنتال ينتقد قادتها. لم يكن الوفد ينوي على الإطلاق أن يسمح للتنظيمات العمالية الدائرة في فلكه أن تقع تحت نفوذ الأجانب الجذريين، ولا رأى قادة مستقلون – مثل محمد كامل حسين زعيم عمال ترام القاهرة – أنهم سوف يكسبون شيئا لو انضموا إلى الاتحاد.”

بعد مرور حوالي ستة أشهر على تأسيس الاتحاد العام للعمل، تأسس الحزب الاشتراكي المصري كنتاج لتلاقي مجموعتين: المثقفون اليساريون المصريون بقيادة سلامة موسى، والأجانب واليهود الجذريون بقيادة روزنتال. ورغم التعايش غير المتجانس داخل الحزب بين الميول الإصلاحية والفوضوية السنديكالية (النقابوية) والماركسية، فقد عكس برنامجه هيمنة الاتجاه الإصلاحي النقابي الذي يمثله سلامة موسى. نص البرنامج في المجال السياسي على العمل على “تحرير مصر من الاستعمار الأجنبي وإقصاء ذلك الاستعمار عن وادي النيل بأسره”، وفي المجال الاقتصادي على “العمل على إلغاء استغلال جماعة لأخرى ومحو الفوارق بين طبقات المجتمع في الحقوق الطبيعية وإخماد استبداد المستغلين والمضاربين والسعي إلى إنشاء مجتمع اقتصادي يقوم على دعائم المبادئ الاشتراكية”، وفي المجال الاجتماعي على “جعل التعليم حقا شائعا لجميع أفراد الأمة نساء ورجال وجعله مجانيا ملزما والعمل على نشر التعاليم الديمقراطية الصحيحة بين جميع طبقات الأمة، والعمل على تحسين حال العمال بتحسين الأجور وتقرير المكافآت والمعاشات حين العجز، والعمل على تحرير المرأة الشرقية وتربيتها تربية سليمة منتجة.” ولكن الحزب الواقع تحت هيمنة الإصلاحيين أكد على التزامه تحقيق هذه الأهداف بالوسائل السلمية مركزا على إنشاء النقابات، وإعداد النواب الاشتراكيين للبرلمان والمجالس النيابية المحلية والبلدية، والعمل على تعميم حقوق الانتخاب والنيابة بالنسبة للرجل والمرأة قدر المستطاع، والدعوة بطريق النشر والخطابة.

شهدت الفترة بين يوليو 1921 ومارس 1922 موجة إضرابات واسعة جديدة. حيث وقع 81 إضرابا في 50 مؤسسة مختلفة خلال هذه الشهور التسعة، بينها عدد من الإضرابات الطويلة في مؤسسات حيوية مثل إضراب عمال مصفاة تكرير البترول بالسويس الذي استمر 113 يوما، وإضراب ترام القاهرة الذي استمر 102 يوما، وإضراب الشركة الأهلية للغزل والنسيج بالأسكندرية الذي استمر 52 يوما، وإضراب شركة غاز القاهرة الذي استمر 45 يوما. كما شهدت نفس الفترة تضاعف عدد النقابات حيث بلغت 95 نقابة، أغلبها في القاهرة والأسكندرية.

وعلى رغم من ذلك، فإن الاتحاد العام للعمل والحزب الاشتراكي المصري لم يلعبا دورا بارزا في هذه الموجة النضالية. حيث شلّت الخلافات الداخلية قدرة اليسار على التفاعل مع النشاط النضالي للطبقة العاملة. وبشكل متزايد شعر كثيرون من أعضاء فرع الأسكندرية بأن جهودهم لإقامة علاقات أوثق بالطبقة العاملة المصرية يعوقها الميل التهادني لفرع القاهرة. وعلى أثر السجال الحزبي الداخلي الذي أفرزه ذلك الوضع قام فرع الأسكندرية ببلورة رؤية ماركسية ثورية، وحدث انشقاق داخل الحزب في منتصف يوليو 1922 تم بموجبه طرد العناصر الإصلاحية، وانتقلت القيادة إلى أيدي محمود حسني العرابي وأنطون مارون (وهو محامي سوري) وروزنتال الذي وقف، ومعه الأجانب الآخرون، خارج دائرة الضوء إدراكا منهم لأهمية تمصير الحزب.

حضر العرابي المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية الثالثة (الكومنترن) في أواخر 1922 (وهي الأممية التي تأسست في عام 1919 بعد انتصار ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية في روسيا)، وعاد ليشرف على تنفيذ الشروط الأربعة التي وضعتها اللجنة التنفيذية للكومنترن لقبول عضوية الحزب المصري في الأممية، وهي عقد مؤتمر للحزب، وتغيير اسمه إلى الحزب الشيوعي المصري، وصياغة برنامج للعمل وسط الفلاحين، وطرد جوزيف روزنتال (في الأغلب بسبب ميوله الفوضوية النقابوية). وفي ديسمبر 1922 أو يناير 1923 تأسس رسميا الحزب الشيوعي المصري.

الرؤية السياسية: ثورية يشوبها الغموض
تبنى الحزب الشيوعي المصري منظورا ثوريا للصراع الطبقي في مصر، كما أكد على تمسكه بالأممية بشكل لا هوادة فيه. ومع ذلك فمن المهم الإشارة إلى أن ثورية الحزب قد شابها قدر كبير من الغموض، وهو أمر يحتاج لبعض الشرح.

في أعقاب انضمام الحزب للكومنترن، نشر كراسة مهمة ضمت وثيقتين هما: الشروط الواحد والعشرون للكومنترن (التي تم إقرارها في المؤتمر الثاني للكومنترن في عام 1920)، وبرنامج الحزب الشيوعي المصري. بالنسبة للشروط الواحد والعشرون فهي استهدفت تحقيق أقصى درجات الوضوح في القطع ليس فقط مع الاشتراكية الديمقراطية اليمينية للأممية الثانية، وإنما أيضا مع الميول الوسطية داخل الأحزاب الشيوعية. كما استهدفت أيضا تكوين حزب عمالي عالمي له أفرع وطنية (وليس ائتلافا فضفاضا لأحزاب وطنية كما كان الحال في الأممية الثانية). ولقد وصف زينوفييف، أحد قيادات الثورة الروسية والكومنترن، الشروط الواحد والعشرين قائلاً: “مثلما أنه ليس من السهل على الجمل أن يمر من عين الإبرة، فآمل أنه بالقدر نفسه سيكون من غير السهل على أنصار الوسط أن يمروا خلال الشروط الواحد والعشرين”.

على أن المتأمل لبرنامج الحزب المنشور مع هذه الشروط، يلحظ غياب أية إشارة للاشتراكية فيه. إنه برنامج وطني ديمقراطي عام يتمثل المطلب الأساسي الذي يؤكد عليه في “استقلال وادي النيل بأسره استقلالا خاليا من كل شائبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا”. ويطرح البرنامج بعد ذلك مطالب وطنية مثل “جلاء الجنود الإنجليز عن مصر والسودان” و”عدم الاعتراف بالمعاهدات والاتفاقات التي أجريت خلسة من الشعب وعلى كره منه” و”جعل قناة السويس ملكا للأمة” و”طلب محاكمة أذناب الاستعمار من كبار المصريين ممن تقع عليهم مسؤولية الإرهاب والاستبداد ومعاونة الأجنبي على إخماد نهضة الشعب”. ويطرح البرنامج أيضا مطالب ديمقراطية مثل “تعديل الدستور وقانون الانتخاب حتى تصبح الأمة مصدر السلطة الحقيقية” و”إلغاء القوانين الاستثنائية والرجعية كقانون الاجتماع والأحزاب”. ويضم البرنامج أيضا مطالب طبقية خاصة بالعمال والفلاحين مثل الاعتراف بالنقابات العمالية وتنظيم العمال غير المنظمين وإقرار قانون الـ8 ساعات عمل في اليوم وتنظيم فقراء الفلاحين في نقابات وإلغاء نظام ملكية العزب وإلغاء ديون الفلاحين الذين يملكون أقل من عشرة أفدنة من الضرائب.. الخ. ومن الواضح أن هذه المطالب الطبقية لا تنطوي على تجاوز للنظام الاجتماعي الرأسمالي.

هناك إذن فجوة واسعة بين الشروط الواحد والعشرين بتأكيدها الصارم على آنية الثورة الاشتراكية العالمية، والبرنامج المعلن للحزب الشيوعي المصري. وفي مجال تفسير هذه الفجوة، فإننا في الواقع إزاء أحد احتمالين. أما الاحتمال الأول فهو أن الحزب الشيوعي المصري قد قطع بالفعل مع التراث الإصلاحي للحزب الاشتراكي المصري المتمثل في النص على تحقيق الأهداف الاشتراكية بالوسائل السلمية، إلا أنه قد اقتنع بأن خضوع مصر للاستعمار البريطاني يقتضي منه أن يؤجل النضال من أجل الاشتراكية وأن يجعل هدفه المرحلي هو إنجاز ثورة وطنية ديمقراطية. ربما كان هذا هو الاحتمال الذي يلمح إليه بينين ولوكمان عندما يقولان “كانت الحركة الشيوعية المصرية قد اتخذت قبل عودة عرابي من المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية الموقف المتزمت القائل بأن التعاون مع الوطنية البرجوازية أمر ليس ممكنا ولا مرغوبا فيه. كانت قوة الدفع الرئيسية للحزب معادية للرأسمالية أكثر منها معادية للإمبريالية… أتت عودة محمود حسني العرابي من موسكو في اليوم الأخير لعام 1922 بتغيير في موقف الحزب الشيوعي المصري إزاء القوميين وفي العلاقات مع القوى السياسية الأخرى بصفة عامة. ففي مؤتمرها الرابع، أوصت الأممية الشيوعية بأن تقوم الأحزاب المنضمة إليها في البلدان المستعمرة بالسعي للتحالف مع القوى البرجوازية وبأن تتبنى هذه الأحزاب تكتيكات أكثر مرونة للتغلب على عزلتها عن الجماهير.”

والواقع أننا نستبعد هذا التفسير لثلاثة أسباب. أول هذه الأسباب هو أن موقف المؤتمر الرابع للكومنترن من المسألة الوطنية في المستعمرات لم يكن جديدا. فقد أكد المؤتمر الثاني في 1920 على نوع من التحالف المشروط بين الأحزاب الشيوعية وحركات التحرر الوطني البرجوازية. وكل ما أضافه المؤتمر الرابع هو أنه حض الأحزاب المنتمية له في الدول المتقدمة والمتخلفة على حد سواء على إعطاء عناية أكبر لكسر عزلتها عن الجماهير من خلال مرونة تكتيكية أعلى. والسبب الثاني هو أن موقف الكومنترن هذا لم ينطو أبدا على تأجيل الثورة الاشتراكية وتخفيف وتيرة الصراع الطبقي، بل أكد هذا الموقف على أن “الأممية الشيوعية عليها أن تتعاون مؤقتا مع الحركة الوطنية الثورية في المستعمرات وشبه المستعمرات، بل وأن تتحالف معها، لكن عليها ألا تندمج فيها؛ عليها أن تحافظ بشكل غير مشروط على استقلال الحركة البروليتارية حتى لو كانت في مرحلة جنينية”. أما السبب الثالث والأهم، فهو أن الحزب الشيوعي المصري في تلك الفترة لم يشر في أي من وثائقه إلى تبنية نظرية المراحل (التي لم يتبناها الكومنترن إلا في ظل هيمنة ستالين عليه في وقت متأخر عن ذلك).

أما الاحتمال الثاني الذي نرجحه فهو أن الحزب الشيوعي المصري قد نظر لبرنامجه باعتباره يتضمن مطالب آنية ينبغي الكفاح من أجلها في إطار الهدف الاستراتيجي المتمثل في الثورة الاشتراكية. على أن هذا الاحتمال لا يعفي الحزب من النقد، بل يؤكد أن ثوريته قد شابها غموض وارتباك خطيران. لقد كان من عادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (الإصلاحية) أن تقسم برنامجها إلى مطالب الحد الأدنى، التي يمكن إنجازها في ظل الرأسمالية، ومطالب الحد الأقصى المتمثلة في بناء الاشتراكية. ففي الحاضر ستدافع الاشتراكية الديمقراطية عن المصالح الفورية للعمال، وفي المستقبل سينتخب العمال ممثليهم من الاشتراكيين الديمقراطيين وستحل الاشتراكية محل الرأسمالية. وفي هذا التصور لا يوجد أي فهم لعملية الوصول للسلطة في سياق النضال من أجل مطالب العمال الآنية. أي أن هناك حائطا فاصلا بين الحاضر والمستقبل. أما الثوريون، ففي حين أنهم لا يهملون بالطبع مطالب الحد الأدنى الفورية، فإنهم يرفضون حصر هذه المطالب فيما يمكن تحقيقه في ظل الرأسمالية كما يرفضون فصلها بشكل ميكانيكي عن برنامج الاشتراكية. بل يصرون على وصل الجسور بين المطالب الآنية والهدف الثوري على أرضية النضال الطبقي وتثويره لوعي العمال.

ولعل الحزب الشيوعي المصري قد قبل ضمنا مسألة الفصل بين مطالب الحد الأدنى والحد الأقصى، واعتبر الشروط الواحد والعشرين للكومنتون تعبيرا عن مطالب الحد الأقصى، ثم عبر عن مطالب الحد الأدنى من خلال البرنامج، دون أن يجتهد في بيان الصلة بين الاثنين، وهو ما يلقي ظلالا على مدى تماسك الحزب حول رؤية سياسية ثورية. وأيا ما كان الأمر، فمن المؤكد أن التجذير الذي شهده الحزب الشيوعي المصري في نهاية 1922 وبداية 1923، وبغض النظر عما شابه من قصور على صعيد الرؤية السياسية، قد عكس نفسه في ممارسة نضالية متميزة على مدار عام 1923، على صعيد التفاعل مع الصراع الطبقي ونضالات الطبقة العاملة.

المواجهة مع العدو الطبقي ودروسها
في بداية 1923 لعب الحزب دورا مهما في مساندة وتنظيم واحد من أوسع الإضرابات، وهو إضراب عمال الغاز والكهرباء بالأسكندرية في فبراير. طرح العمال في هذا الإضراب مطالب تتعلق بإقرار مبدأ مكافأة نهاية الخدمة والتعويض عن إصابات العمل وتوفير الخدمات الطبية. كما شن الحزب في الشهر التالي حملة ضارية ضد لجنة التوفيق في المنازعات العمالية التي أعتبرها أداة لحماية مصالح أصحاب الأعمال بتضليل العمال. وكانت هذه الحملة والمظاهرة التي تضمنتها بمثابة العذر الذي استندت إليه السلطات لإلقاء القبض على قائدي الحزب: العرابي ومارون، وإغلاق مقر الحزب ومصادرة أوراقه.

ورغم القمع والتنكيل استطاع الحزب أن يواصل نشاطه (خاصة بعد الإفراج عن العرابي ومارون)، وأخذ تأثيره ونفوذه في صفوف الطبقة العاملة يتزايد بفضل “تلك الحركة الدائبة التي كان يحدثها كل يوم. فمقر الحزب كان خلية نمل نشيطة بالاجتماعات الحاشدة للعمال والنقابيين. ومطبوعاته توزع على أوسع نطاق، وبياناته في المناسبات المختلفة تصدر بانتظام وتجد مكانا لها في الصحافة اليومية”.

استمر عداء غالبية قيادات النقابات المصرية للاتحاد العام للعمل القريب من الحزب الشيوعي. ومع ذلك فإن النشاط المحموم للحزب والاتحاد أسفر خلال عام 1923 عن توسيع صفوف الاتحاد بدرجة كبيرة حيث صار يضم ما بين 15 و20 ألفا من الأعضاء في الأسكندرية، دائرة نفوذه الرئيسية. وهكذا فإن الذراع النقابي للحزب الشيوعي صار القوة الأكبر في الحركة العمالية بالأسكندرية. وكما يؤكد المؤرخ العمالي أمين عز الدين، فإن “الحزب تمكن في عام 1923 على وجه التخصيص، من أن يجعل من وجوده ومن امتلاكه لزمام الأمر في الاتحاد قوة مؤثرة في حركة الطبقة العاملة ضعفت أمامها حركة الحزب الوطني التي كانت تعمل – بقدر محدود – من خلال نقابة الصنائع اليدوية وما بقي من فروعها في الأقاليم. كما ضعفت في مواجهته أيضا تلك الحركة الدائبة للمثقفين والمحامين المصريين الذين نشطوا خلال عام 1920 وما بعده في نقابات القاهرة.”

كان هذا إيذانا بالصدام الوشيك بين الشيوعيين وحكومة سعد زغلول التي أتت إلى السلطة على أثر النصر الانتخابي الكبير للوفد في بداية 1924. وقد جرى هذا الصدام في سياق موجة نضالية جديدة اندلعت بين صفوف عمال الأسكندرية. ففي نوفمبر 1923 بدأ عمال الشركة الأهلية للغزل إضرابا تباطؤيا احتجاجا على تخفيض أجورهم. وإزاء تسويف الإدارة بعد فك الإضراب، أضرب العمال مرة أخرى في 22 نوفمبر 1923. شجع هذا الإضراب عمال شركة إيجولين للزيوت على الإضراب بعد شهر من الشكوى بلا جدوى من تزايد حالات الفصل. وكانت الشركة الأخيرة من مناطق نفوذ الشيوعيين بالإسكندرية. وقد امتدت هذه الموجة لتشمل عمالا آخرين في دوائر نفوذ الشيوعيين في الإسكندرية وكفر الزيات.

تزامنت هذه الموجة الإضرابية مع الموعد الذي قررت فيه قيادة الحزب الشيوعي المصري عقد مؤتمر عام للحزب لمناقشة وتعديل برنامجه وانتخاب مندوبين لمؤتمر الأممية المقبل. ولما كانت حكومة الوفد قد حظرت عقد هذا المؤتمر، فإنها اعتبرت موجة الإضرابات التي اشتعلت في أواخر فبراير وأوائل مارس بمثابة مؤامرة شيوعية ينتقم بها الحزب من الحكومة. واتخذت حكومة الوفد من ذلك ذريعة للتنكيل الشديد بالعمال المضربين وكذلك بالاتحاد النقابي والحزب الشيوعي المصري. وقد نجحت هذه الحملة القمعية في القضاء شبه التام على الوجود المنظم للشيوعيين، الذين لم تقم لهم قائمة بعد ذلك، رغم محاولات الإحياء في أواخر العشرينات، إلا في النصف الثاني من الثلاثينات في ظروف مختلفة.

خلال التطور اللاحق للحركة الشيوعية المصرية، ساد بين الشيوعيين تصور مؤداه أن مشكلة الحزب الشيوعي المصري الأول تمثلت في عدائه غير المبرر للبرجوازية الوطنية وحزبها الوفد. وراحت الحركة الشيوعية تندفع يمينا نحو مستنقع التحالفات مع مختلف القوى البرجوازية، وتم استبدال سياسة المواجهة الطبقية بسياسة “التعاون الطبقي لمصلحة الوطن الأم”. إن هذه الاستراتيجية قد قادت اليسار المصري إلى الإفلاس التام وفقدان المصداقية. أما الحزب الشيوعي المصري الوليد فإن مشكلته الحقيقية في أوائل العشرينات تمثلت ليس في عدائه للبرجوازية، وإنما في إفراطه في الثقة في “ديمقراطية الوفد” وغموض استراتيجيته الثورية، مما أوقعه في مواجهة مبكرة غير متكافئة مع عدو طبقي شرس عازم على القضاء على أي تهديد للبنية الطبقية للمجتمع المصري. كان مقتل الحزب في عدم إدراكه لأهمية العمل السري في ظل مناخ سياسي لا تتوفر فيه من الديمقراطية البرجوازية إلا أكثر مظاهرها سطحية.

ولكن ما ينبغي التأكيد عليه في النهاية هو أن الحزب الشيوعي المصري استطاع في تلك الفترة القصيرة جدا من عمره أن يقيم علاقة وثيقة مع القطاع المتقدم من الطبقة العاملة المصرية لم تتكرر بعد ذلك في مصر (ربما باستثناء فترة محدودة في أواخر الأربعينات) على الرغم من النمو الكبير في حجم الطبقة العاملة المصرية ووزنها الاستراتيجي في الاقتصاد والمجتمع المصري وفي خبرتها النضالية أيضا.