عشرة أعوام على انتفاضة ميدان السلام السماوي..
كابوس يطارد حكام الصين
شهدت المدن الصينية خلال الشهر الماضي موجة من المظاهرات احتجاجا على قصف سفارة الصين في بلجراد بواسطة طائرات حلف الأطلنطي. وتعد هذه المظاهرات العنيفة الأولى من نوعها منذ أحداث انتفاضة ميدان (السلام السماوي) منذ عشر سنوات مضت والتي كانت قد وصلت إلى ذروتها في نفس الشهر أيضا. لم يتعرض حكام الصين في البداية لهذه المظاهرات، ولكن سرعان ما بدءوا يحاولون احتواءها وتهدئتها، إذ عبر (هو جيثاو) نائب الرئيس عن قلقه باحتمال جذب المظاهرات لعناصر “قد تستغل الحدث للإخلال بالنظام الاجتماعي”.
لم يسلم الاقتصاد الصيني (وهو سابع أكبر اقتصاد في العالم) من تأثيرات وعواقب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالنمور الآسيوية في العام الماضي. فقد ارتفعت البطالة إلى أعلى معدلاتها منذ عام 1949، وترجح بعض الإحصائيات وصول أعداد العاطلين إلى 100 مليون شخص. ولذا فإن حكام الصين يجلسون فوق بركان، فهم في حالة من الرعب الشديد من أن يتحول غضب الجماهير من الأزمة الاقتصادية والقمع السياسي إلى انفجار يطيح بعروش البيروقراطية الصينية الحاكمة. وليس هناك شيء يدعو إلى العجب، فإن ذكرى أحداث “ميدان السلام السماوي” ما زالت تطارد الطبقة الحاكمة الصينية كالكابوس.
بدأت الأحداث في مايو 1989 بمظاهرة قوامها 150 ألف طالب عقب جنازة (هو ياو بانج) أحد الساسة الداعين إلى الإصلاح، وسرعان ما تحولت المظاهرة إلى احتلال ميدان (السلام السماوي) أكبر ميادين بكين والاعتصام به. وبالرغم من أنه قد جرت العادة على تصوير الانتفاضة على أنها حركة طلابية، إلا أن ذلك غير صحيح بالمرة. فالانتفاضة بالفعل بدأت بالطلاب، ولكنها سرعان ما جذبت إليها ملايين من العمال، وبعد مدة قليلة من بدء الاعتصام حاول حكام الصين إعادة إرساء دعائم حكمهم وسيطرتهم على العاصمة التي بدأت تشهد حركات تضامن من المواطنين مع الطلبة، فأعلن رئيس الوزراء (لي بنج) الأحكام العرفية وأمر بإرسال قوات الجيش لقمع الاعتصام يوم 19 مايو. ولكن أتى ذلك بنتيجة عكسية إذا اشتعلت الأحداث على أثر ذلك.
وبدأت الطبقة العاملة الصينية في التحرك، فأضرب جزء كبير من عمال مصانع العاصمة وفي طليعتهم عمال مصانع الحديد والصلب البالغ عددهم 70 ألف عامل. وقام عمال مترو الأنفاق بقطع الكهرباء عن المترو حتى لا تستخدمه قوات الجيش، ولعب العمال دورا حيويا في بناء الحواجز حول المدينة. لم تصمم تلك الحواجز لوقف الجنود بل لتعطيلهم وإبطاء تقدمهم حتى يمكن للعمال والطلبة الاتصال بهم ومحاولة كسبهم لصفوف الانتفاضة. وبالفعل نجح العمال والطلبة في كسب قطاعات واسعة من الجنود، وكانت هذه نقطة تحول خطيرة، فقد بدا لأول مرة إمكانية تحول الانتفاضة إلى ثورة جماهيرية حقيقية.
ويصف أحد شهود العيان الأحداث بقوله “لقد امتلكت الجماهير زمام الأمور في مدينة بكين لمدة 48 ساعة، ووقع قلب المدينة تحت سيطرة العمال والطلبة، ويتحدث البعض عن خروج خمسة ملايين مواطن في الشوارع، والجميع آخذ في إنشاد نشيد الأممية بلا توقف.”
بدأت المظاهرات العمالية تشتعل في أرجاء المدن الصينية للتضامن مع عمال وطلبة بكين. وفي هونج كونج قام أكثر من مليون مواطن (أي سدس سكان المقاطعة) بمسيرة تضامنية. ولكن للأسف لم تكن لدى المنتفضين استراتيجية واضحة لدفع الحركة للأمام. بل عارض قادة الطلبة قيام العمال بإضراب عام لتعارضه مع “مصلحة الصين القومية”! ورفضوا قيام الجنود بتسليح العمال.
لم يكن ممكنا أن يبقى الأمر ساكنا على ما هو عليه، فإما التقدم لانتزاع السلطة من البيروقراطية الصينية وإقامة سلطة العمال، أو التراجع والسماح لحكام الصين بانتهاز الفرصة والسيطرة على الوضع مرة أخرى، وهذا ما حدث للأسف.
إن فشل قادة الحركة في التقدم بها في منحى ثوري وفشلهم في استغلال الإمكانيات الجبارة المتاحة لهم والتي وضحت جليا عندما نجحوا في كسب الجنود لصفوفهم، سهل على حكام الصين قمع الحركة مستخدمين موجات جديدة من القوات. وفي 3 يونيو بدأت مذابح بكين باقتحام دبابات الجيش للحواجز المحيطة بالعاصمة، ويصف مراسل جريدة التايمز ذلك المشهد بقوله: “إن أبسط ما يقال عن الأساليب التي اتبعت أنها وحشية، فقد شكلت العربات المدرعة الحاملة للجنود رأس الحربة في الهجوم، يتبعها جنود مترجلين يفتحون النار على الجانبين.”
ورغم ذلك، لم يستطع الجيش تحطيم مقاومة العمال إلا بعد 4 أيام كاملة، نتج عنها مقتل الآلاف. وكان من أشهر رموز المقاومة وقوف (وانج وايلن) البالغ من العمر 19 عاما – وهو ابن لعامل صناعي – في وجه طابور من المدرعات ليسد طريقهم، وقد تم اعتقاله وإعدامه لاحقا في سرية تامة. وفي النهاية نجح حكام الصين في استعادة زمام الأمور مستخدمين قوات من مناطق ريفية لم تتأثر بعواقب النمو السريع للاقتصاد الصيني.
والآن تدخل الصين أزمة اقتصادية أخرى مع تضاؤل قدرة الطبقة الحاكمة على تقديم إصلاحات للجماهير. وتحاول الحكومة الآن تخفيض إنتاجها الصناعي بصورة مرعبة، فطبقا لمجلة (تشاينا إيكونوميك تايمز) الاقتصادية يصل “فائض الإنتاج” إلى ما يعادل 67% من المنتجات الصناعية الصينية، ويعني ذلك انعدام ربحية تلك المنتجات. ولذا تخطط الحكومة لإغلاق 25800 منجم فحم مما سيؤدي لفقدان 400 ألف عامل لوظائفهم، كما سيتم إغلاق العديد من مصانع الغزل والنسيج والأسمنت والزجاج. وتتعرض مكاسب العمال الاجتماعية مثل التأمين الصحي والخدمات المقدمة للأمهات العاملات وأطفالهن لتخفيض شديد. وتقول إحدى الصحف العمالية المستقلة بهونج كونج: “إن نتائج الأزمة ستؤدي إلى جعل الصراع الطبقي حقيقة يومية واضحة في الصين. ويطل صيف غاضب بسبب الضغوط الداخلية والخارجية على الاقتصاد الصيني ذات التأثير المدمر على الطبقة العاملة الصينية.”
وفي حين يرزح الملايين من العمال الصينيين تحت نير الأزمة تختلف الصورة تماما إذا نظرنا إلى قمة المجتمع، فحكام الصين “الشيوعيون” في حقيقتهم يمثلون طبقة حاكمة مثلهم مثل أي طبقة حاكمة في باقي أنحاء العالم، يعيشون حياة رغدة ومرفهة، ويمتصون دماء الكادحين من العمال والفلاحين، بالإضافة إلى تورط معظمهم في شبكات فساد لا نهاية لها. أما أبناء القادة السياسيين وجنرالات الجيش ورؤساء شركات القطاع العام فيعيشون حياة ماجنة ويحصلون على عمولات ضخمة من الشركات الغربية لتسهيل دخولهم السوق الصينية.
وبالرغم من الظروف القمعية الشديدة بدأت تلوح في الأفق مؤخرا علامات تشير إلى تصاعد التحركات الاحتجاجية الجماهيرية. ويشير تقرير الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية إلى نمو متصاعد في عدد الإضرابات العمالية منذ عام 1994. وطبقا لتقرير رسمي من وزارة العمل ووزارة الأمن العام، شهد العام الماضي 216750 إضرابا ومظاهرة، وشهدت مدينة جواندونج وحدها 740 ألف يوم إضراب، وأصيب أكثر من 2230 شخص في 459 صداما عنيفا مع الشرطة. وفي مقاطعة (هونان) خرج مئات العمال من مصانع حكومية في مسيرة بشوارع العاصمة رافعين شعارات “نريد أن نأكل” و”نريد أن نعيش”، وسدوا الطريق لمدة ساعتين، كما انضم إليهم العديد من العمال الذين فقدوا وظائفهم بدون تعويض.
وقد تأثرت المناطق الريفية بدورها من وقع الأزمة، وتشير بعض التقارير إلى قيام الفلاحين بشن هجمات ضد مفتشي الضرائب الحكوميين. كما أن ملايين الفلاحين يهاجرون إلى المدن باحثين عن عمل ومستوى حياة أفضل، ولكنهم ينضمون لجيش العاطلين وفقراء المدن، وقد شهد الشهر الماضي اعتصاما سلميا قام به 10 آلاف شخص أمام مبنى قيادة الحزب الشيوعي الصيني.
لا يمكن لأحد أن يتنبأ بشكل أو موعد انفجار الغضب الجماهيري في الصين، وعن إمكانية تحوله في المستقبل القريب إلى انتفاضة ثورية، ولكن هذا السيناريو لا يمكن استبعاده أو إهماله، وهو الكابوس الذي يؤرق مضاجع حكام الصين.