دردشة عن المظاهرات (4)
كوميديا المظاهرات
سلسلة مقالات للمناضل الاشتراكي كمال خليل، الذي شارك في وقاد مئات المظاهرات على مدار ما يزيد عن الثلاثين عاماً، يطرح فيها رؤيته للحركة الجماهيرية منذ السبعينات وحتى الآن.
عزبة أبو قتاتة:
أول مظاهرة أسير فيها كانت في عزبة أبو قتاتة. كانت مظاهرة انتخابات مجلس أمة (م اللي عايزينه همه). كان قائد المظاهرة رجل وقور في سن الأربعين، وكنا نسير وراءه حوالي 200 شخص متحمسين لشعاراته وهتافاته. وكان الرجل يسير على قدميه في مقدمة المظاهرة ويعطي وجهه ناحية المتظاهرين، وظهره للشارع، وكان يسير بالمقلوب ويهتف بحماس شديد:
“بكره الانتخاب يا زين .. ليك الحق تختار اثنين .. والنخلة منهم يا زين .. أول رمز على اليمين .. رمز حسني الأمين .. وحسني بيمثل مين .. العمال والفلاحين.. طب ما احنا صعايدة وفلاحين.. طب ما احنا صعايدة وفلاحين”. وفجأة لم نجد قائد المظاهرة أمامنا. اختفى الرجل. لقد كان يسير بظهره. لقد سقط الرجل في مطبق للمجاري عميق كان بدون غطاء في منتصف الشارع، سقط بكامل جسده في المطبق الممتليء بالمجاري ولم يتبقى منه إلا رأسه وصدره. وانقلبت المظاهرة من حالة حماس إلى حالة ضحك وإلى محاولة إنقاذ قائد المسيرة الذي خرج من البلاعة يلعن الانتخابات والمظاهرات والعمال والفلاحين والصعايدة. إن لعنة أبو قتاتة جزء من لعنة الفراعنة.
أبو قتاتة بين الاشتراكيين والناصريين:
في عام 1976 كنا مجموعة من الاشتراكيين بحي داير الناحية وعزبة أولاد علام نؤيد مرشحي حزب التجمع (كمال رفعت ومحمد خليل). وكان كمال رفعت (رحمه الله) يتغنى دائماً بإنجازات ثورة يوليو للعمال والفلاحين والفقراء. ولذلك فقد تعمدنا أن ندخل بالمظاهرة إلى أعماق أعماق أبو قتاتة حيث المجاري الطافحة وأكوام القمامة العالية. وكان المرشحان يسيران وسط المظاهرة، وكلما توجهنا إلى عمق العزبة كانت الدهشة تعلو وجه كمال رفعت (وهو كان رجلاً صادقاً وشجاعاً)، إلى أن وجدنا الرجل يصرخ بحرقة وانفعال: “يا محمد يا خليل، أنا مش شايف أي إنجازات لثورة يوليو في أبي قتاتة. الناس عايشة في المجاري دي إزاي. يبدو أن الثورة كانت تعتقد أن أبي قتاتة جزء من جمهورية كوالالمبور وليس جزء من جمهورية مصر العربية”!!!!!!
ما تصدقش ما تصدقش .. علي سعيد لسه مامتش:
يبدو أن حي داير الناحية بالدقي (موطني الأصلي) كان حياً مولعاً بالمظاهرات. فعندما عرف “سلامة” الكهربائي أن جاره العجلاتي “علي سعيد” سيقفل محله غداً ليأخذ أجازة على غير العادة، قام “سلامة” بتعليق ورقة على دكان “علي سعيد” تدعي وفاة “علي سعيد” وتنعيه للأمة العربية والإسلامية. كما أعطى للمنادي بالحي، الذي يسير بطبلة أشبه بطبلة المسحراتي، بعض المال ليدور في كافة الحواري والأزقة ليعلن وفاة “علي سعيد”. انتشر الخبر بسرعة شديدة حتى وصل إلى أهل وأقارب “علي سعيد” والذين أيقظوه من النوم ليعلموه بخبر وفاته. وهنا يأتي الفصل الثاني بعد انتشار إشاعة الوفاة بساعتين، حيث بدأت مظاهرة (من تدبير سلامة الكهربائي) مكونة من خمسين طفل تلف الحي هاتفة:
“ما تصدقش ما تصدقش .. علي سعيد لسه مامتش ما تشمتش يا ديان .. علي سعيد في الدكان”
وفي 18 و19 يناير حاصرت دبابات الحكومة حي داير الناحية لأن الأهالي كانوا في هذه الأيام يهتفون، لا من أجل علي سعيد ولكن من أجل الخبز والحرية:
“عايزين حكومة حرة .. العيشة بقت مرة” “إيه راح تاخد يا سي قيسوني .. وانا غارقان في همومي وديوني” “طالعين طالعين .. نخبز من بعد الجوع .. عيش الحرية” 3 يناير 1973 وأنا وحبيبي في الغرام:
في يوم 3 يناير 1973 تعاهدت أنا ومحبوبتي على أن نلتقي غداً الواحدة ظهراً في أحد الكازينوهات بالقرب من الجامعة، وظللت طوال الليل ساهراً أحلم باللقاء، “وأنا وحبيبي في الغرام.. مفيش كده”. وجاء الغد، ولم يكن يوماً حافلاً بالغرام، بل كان يوماً حافلاً بالمظاهرات والقنابل المسيلة للدموع. في يوم 3 يناير خرجت أكبر مظاهرة من الحرم الجامعي إلى الشارع. آلاف الطلاب خرجوا هادرين يطالبون بالإفراج عن الطلاب المعتقلين (فلقد اعتقل السادات في صبيحة 29 ديسمبر 1972 أكثر من مائة طالب من الجامعات المصرية واعتبرهم قيادات الصف الأول للحركة الطلابية)، كنت محمولاً على الأعناق، لسان حال المتظاهرين يقول: “يا حرية فينك فينك”، ولسان حالي يكاد أن يقول: “يعني حبكت عليكو المظاهرات النهاردة .. وطبعاً ألغي الميعاد .. ومفيش كده”.
أخي ضابط جيش وليس ضابط أمن الدولة:
قلت في أعماقي “يعوض عليك الله هذا الميعاد الذي طار، وخليك في يا حرية فينك فينك، حيث اندلعت معارك وصدامات مع الشرطة. واتجه جزء كبير من المظاهرة نحو تمثال نهضة مصر للخروج من على كوبري الجامعة، واتجه جزء آخر نحو كلية الفنون التطبيقية ونحو حي بين السرايات. وانهمرت علينا القنابل المسيلة للدموع من كل اتجاه. كانت القنابل تطلق من داخل حديقة الأورمان من منصات إطلاق قذائف. سرت مع مجموعة من الطلاب وعند الباب الرئيسي لحديقة الأورمان تمكنا من الإفلات من الحصار الذي تم فرضه حول جامعة القاهرة. كنا حوالي 300 طالب، واتجهنا ناحية شارع الدقي حتى وصلنا إلى تقاطع شارع جابر بن حيان (مقر مباحث أمن الدولة) مع شارع الدقي مرددين الهتاف:
“سرقوا الكستور عروا الملايين .. سرقوا الدوا من العيانيين” “يا عمال أنا وانتم واحد .. اللي سارقني وسارقكم واحد” “يا عمال خطوه لقدام .. ف الصف مكانكم قدام” “آل يا أمي وآل يا أبي .. هايحررها في مولد النبي” “إنت إن سكت مت .. إنت إن نطقت مت .. فقلها ومت”
كان لي أخ ضابط في القوات المسلحة، وكان هذا اليوم في أجازة، وكان يسكن في شارع الدقي. وكان لا يعرف أنني أشترك في المظاهرات، وكل ما يعرفه أنه قد قبض علي ظلم في عام 1972. لم يكن يدري أنني بدأت في الانخراط في العمل السياسي. كان يرتدي ثيابه المدنية، وأصابه الذهول حينما شاهدني وأنا أقود المظاهرة!!!!!
وبطيبة وشهامة الأخوة، أخذ يقترب مني حتى وصل إلي وكنت محمولاً على كتف أحد زملائي. أخذ أخي يشدني من قدمي قائلاً بصوت عالي وبلهجة جادة:
“انزل.. تعالى هنا.. انزل تعالى معايا”. كان يشدني وأنا في حالة ذهول وخوف، ولم أقدر على النطق. وفي هذه اللحظة توجهت كتلة من المتظاهرين نحو أخي لأنها اعتقدت من المشهد العام ولقرب المظاهرة من شارع جابر بن حيان أنه ضابط أمن دولة جاء ليقبض علي. وأخذ المتظاهرون يضربون في أخي بالأيادي والأقدام، وأنا أصرخ فيهم: “سيبوه .. دا أخويا .. ده ضابط جيش .. مش ضابط أمن دولة”. لكن مين يسمع؟ لقد أوسعوه ضرباً، وأخرجوه خارج المظاهرة، وانتابتني حالة من الحزن والهلع. حاولت أن أذهب إلى أخي لأشرح له الأمر، لكن في نفس اللحظة جاءت قوه من البوليس وطاردتنا. وأنا وأخويا مفيش كده..
مطاردات في الموسكي وشارع الجيش ومحل الكفتة:
تركت أخي وجريت نحو كتلة المتظاهرين، طاردونا حتى مدرسة الأورمان الإعدادية. تمكنا من إخراج المدرسة للتظاهر معنا، أخذوا يطاردونا ويفرقونا. تقلص عدد الكتلة، وخلف وزارة الزراعة وبالقرب من نادي الصيد جاءنا خبر مفاده أن جامعة القاهرة محاصرة، أما جامعة عين شمس فقد خرجت بمظاهرة ضخمة ووصلت إلى ميدان العتبة. اتفقنا على ركوب المواصلات العامة متفرقين وأن نلتقي في ميدان العتبة لإبلاغ طلاب عين شمس بما حدث في جامعة القاهرة. وبعد حوالي ساعة وصلنا على دفعات إلى ميدان العتبة، ولم نجد به أي طالب من جامعة عين شمس. كنا حوالي مائة طالب، صممنا على المواصلة والاستمرار. تجمعنا أمام محطة الترام القديم بميدان العتبة. أخذنا نردد الهتافات، ونكتب بيانات مختصرة (البيان من ثلاث أو أربع سطور) واشترينا ورق كربون لنسخ البيان. أبلغني أحد الطلاب أنه معه علم مصر لفه على جسمه تحت القميص بعد مطاردات الأمن. أخرج الطالب العلم ورفعناه. تجمعت كتلة المائة طالب، وتوجهنا نحو محطة الأتوبيس القديمة بميدان العتبة لأنها كانت أكثر الأماكن ازدحاماً. وفي وسط الميدان جاءت قوة من البوليس. أخذنا نردد الشعارات، وقال قائد الشرطة: سنضربكم إن لم تنصرفوا خلال خمس دقائق. التف الناس حول شعارات وهتافات الطلاب. وبعد عشرة دقائق إنهالوا ضرباً بالعصي على الجميع، فجرينا نحو الموسكي. قام الباعة داخل السوق بحمايتنا ورفعوا العصي والشوم في وجه البوليس، وقالوا لهم: الطلبة في حمايتنا.. البوليس لو دخل السوق هنبهدله. (حيث أنه منذ شهر قبل المظاهرة كان هناك صدام بين بائعي الموسكي والشرطة لأنها كانت تريد اقتلاعهم من المكان). تجمع معنا بعض المواطنين، وبلغت الكتلة حوالي 300 متظاهر. وحرصاً على الباعة وبضائعهم خرجنا من خلف سوق الموسكي إلى شارع الجيش. وبدأت الكتلة في التحرك، ليتزايد عددها كلما سارت في شارع الجيش. كان الناس يلتفون حول شعارات الطلاب وخاصة الشعارات الاجتماعية. كانوا يطاردوننا بعساكر أقسام الشرطة، حيث أن قوات الأمن المركزي كانت مشغولة بحصار الجامعات المصرية وكانت تدور بينها وبين الطلاب معارك طاحنة حيث احتمى الطلاب بأسوار الجامعة.
ظللنا سائرين في شارع الجيش حتى وصلنا إلى أحد الميادين بالقرب من باب الشعرية، حيث استطاعوا تجميع قوات كافية من الأمام ومن الخلف، وطاردونا بعنف وتفرقت الكتلة ثانية بعد أن كانت قد وصلت إلى 500 متظاهر.
تفرقنا بعد المطاردة في الشوارع والأزقة. وكنا نحتمي بالصعود إلى شقق البيوت والعمارت فيستضيفنا الأهالي وأصحاب المحلات، ويقومون بتهريبنا من الشرطة. دخلت أحد محلات التصوير الفوتوغرافي، فأدخلني صاحب المحل وأكرمني وخبأني بالغرفة الداخلية. وحينما جاء بعض أمناء الشرطة وسألوا صاحب المحل: “فيه طلبة دخلت عندك”؟ قال لهم: “محدش دخل، ولو جه حد مهم أنا هاسلمه بنفسي”. عند المغرب شكرت صاحب المحل وانصرفت بعد إلحاح شديد منه أن أظل حتى الصباح. ظللت أسير في الشوارع والحواري في خط متعرج حتى أتأكد أنني غير مراقب، أطلع أتوبيس وأنزل من أتوبيس، حتى تأكدت تماماً أنني دون رقابة. ووصلت إلى حي الطالبية بالهرم، وجلست بجوار عربة تبيع الكباب والكفتة. كان الجوع ينهشني، فطلبت طلب كفتة وسلاطات وجلست أاكل بجوع شديد. وبعد أن فرغت من الطعام جاء صاحب المحل وقال لي: “أنا مارضيتش أزعجك وانت بتاكل .. سمعني بقى الشعارات اللي كنت بتقولها في المظاهرة”. نظرت إليه وأنا أحاول أن أفهم ما يدور حولي. ظننت أنني مراقب، لكن الرجل بادرني بالقول: “أنا كنت باشتري حاجات من العتبة النهاردة.. ووقفت أتفرج عليكو وانتوا بتهتفوا.. انتوا طلبة حرين .. احنا لقمة العيش مكتفانا”. أصر الرجل على عدم أخذ أي نقود، وطلب لي شاي. وأخذت أقول له الشعارات، وأخذ يحفظها. وعند شعار “سيد مرعي يا سيد بيه .. كيلو اللحمة بقى بجنيه” قال لي: “في الشعار ده انتوا مغالطين الحكومة في عشرة صاغ. كيلو اللحمة لسه بتسعين قرش، بس عشرة صاغ مش مهم .. دول ماصين دم الشعب”.
ذهبت إلى أحد الأصدقاء، نمت نوماً عميقاً، لكنني لم أحلم بالغرام. كنت أحلم بباعة سوق الموسكي، وبائع الكفتة والعشرة صاغ. كنت أحلم بأخي الذي ضرب ظلماً من الطلاب، وبصاحب محل التصوير الذي حماني. وفي الصباح علمت أنه بعد معركة حامية بين الطلاب وقوات الأمن طوال الليل قررت الحكومة إغلاق الجامعة لمدة شهر.
حزنت كثيراً .. لأنني لا أعرف عنوان سكن من أحبها.