البروفة العظمي: الثورة الروسية 1905

مع حلول الذكرى الـ 96 للثورة الروسية التي استطاعت فيها الطبقة العاملة الروسية أن تنتزع لسنوات قليلة السلطة لجماهير الفقراء والمضطهدين من أجل بناء مجتمع اشتراكي وانساني قبل أن تهزمها قوى الامبريالية الغربية والستاليينة، تنشر أوراق اشتراكية هذا المقال الذي يقدم تاريخ موجز للفصل الأول من الثورة التي هزت العالم.
في عام 1905، اتخذت الطبقة العاملة الروسية مركز الصدارة بالإضرابات والمظاهرات التي هزت سلطة القيصر الدكتاتوري.
وبالرغم من أنه عدم نجاح ثورة 1905 – ما سماها الثوري الروسي لينين “البروفة العظمى” – إلا أنها أنتجت لأول مرة في تاريخ العالم مجالس العمال، أو السوفييتات. ومن شأن هذه الأشكال الجديدة لتنظيم العمال في وقت لاحق أن تكون محورا لثورة ناجحة عام 1917. سيوافق 9 يناير القادم الذكرى الـ 88 ليوم الأحد الدامي، عندما أطلقت القوات النيران على المتظاهرين السلميين عند قصر الشتاء القيصري، بادئة عام من معارك ضارية بين النظام القديم والجديد. هنا تصف إليزابيث شولتي* أحداث هذا العام الثوري الهامة.
————————————————
إن ما أصبح عام الثورة للعمال الروس بدأ بعدد قليل من المطالب المتواضعة. نظم العمال اضرابا في أوائل يناير، ردا على فصل أربعة عمال في مصنع بوتيلوف في بطرسبورج. وتطلعوا إلى قيادة من مجلس عمال ورش المصانع الروسية، والذي يقوده الشرطة، وأحد قادتها، الأب جابون، وهو قس ملحق بالسجن. نظمت اجتماعات جماهيرية لدعم العمال المفصولين، وتم التخطيط لمسيرة يوم 9 يناير، حيث سيرفع العمال عريضتهم إلى القيصر.
بحلول التاسع من يناير، تزايدت مطالب المتظاهرين داخل الجمعية جزئيا بسبب النقاشات التي قام بها الاشتراكيون، والمعروفين في ذلك الوقت باسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وكان من بينها عمل ثماني ساعات يوميا، وحرية التجمع والتنظيم، وحرية الصحافة، والأرض للفلاحين، والفصل بين الكنيسة والدولة، ووضع حد للحرب الروسية اليابانية، والجمعية التأسيسية.
في يوم الأحد، 9 يناير، سار حوالي 200 ألف من العمال إلى قصر الشتاء القيصري في موكب سلمي، حاملين صورا للقيصر والرموز المقدسة. أُمِرت القوات بإطلاق النار على الحشد. أكثر من ألف شخص قتلوا وجرح ما لا يقل عن 2000.
في هذا اليوم الدموي، تحطمت أي أفكار او آمال سابقة لدى العمال حول القيصر كذلك “الأب الصغير” الذي اهتم لأمرهم.
وكانت هذه بداية عام من الاضرابات ومعارك الشوارع في المدن وحتى المناطق الريفية محرضة العمال والفلاحين وقطاعات من القوات المسلحة ضد نظام القيصر. قوات القيصر، بما في ذلك العصابات الموالية للحكومة والمعروفة باسم “المئة السود” التي نظمت المذابح ضد اليهود والأقليات الأخرى، قاتلوا في صف الرجعية.
في شهر أغسطس، عرض القيصر تنازلا للعمال -مجلس الدوما، وهي هيئة بدون أي سلطة خاصة بها للتشريع وبعيدة كل البعد عن الجمعية التأسيسية التي طالب بها العمال. وفقا لقواعد مجلس الدوما، فقط 13ألف، من أصل 1.4 مليون شخص في العاصمة بطرسبورج سيكون لهم الحق في التصويت.
جهز هذا الغضب الساحة لموجة ثانية كبيرة من الإضرابات في أكتوبر. ما بدأ بإضراب عمال المطابع -عمال رص الحروف- في موسكو من أجل يوم عمل أقصر ومعدل أجر اعلي، بما في ذلك أجور عن وضع علامات الترقيم، نما بسرعة إلى موجة اضراب عام. مثلما ذكر ليون تروتسكي في باكورة أعماله (الثورة الدائمة – نتائج وتوقعات) عام 1905، “لم يفجَّر هذا الحدث الصغير شيئا أكثر أو أقل من الإضراب السياسي الروسي -الإضراب الذي بدأ بعلامات الترقيم وانتهى بسقوط حكم ديكتاتوري مطلق”.
وفي أكتوبر، تأسس مجلس عمال (سوفييت) بطرسبورج. السوفييت، يتكون من مندوبين من المصانع وأماكن العمل المضربة، شكل هذا نوعا من حكومة العمال.
وأوضح تروتسكي، أحد قادة سوفييت بطرسبورج في عام 1905 “جاء السوفييت إلى حيز الوجود باعتباره استجابة لحاجة موضوعية -حاجة ولدت من مجرى الأحداث. لقد كان تنظيما موثوقا بالرغم من حداثته؛ استطاع على الفور أن يشمل كتل متناثرة من مئات الآلاف من الناس في الوقت الذي افتقد فيه عمليا إلى أي آليات تنظيمية؛ ووحد التيارات الثورية داخل البروليتاريا؛ وكان قادرا على المبادرة، وقيادة نفسه ذاتيا -والأهم من ذلك كله، كان قادرا على الظهور من تحت الأرض في غضون 24 ساعة “.
من أجل إنتاج صحيفة السوفييتات، لسفيستا، فإن العمال شكلوا فرق مداهمة للإستيلاء على مكاتب الصحف البرجوازية في منتصف الليل. وإذا احتاجوا للكهرباء، كان العمال يوصلونها “بناء على طلب من مجلس السوفيات من نواب العمال”.
في 17 أكتوبر، وعد القيصر بدستور، ولكن مرة أخرى، فإنه لم يرق إلى مطالب العمال. وردا على وعد القيصر الأجوف الخالي من الحريات المدنية، جعلت الحركة العمالية ببطرسبورج تشكل مطالب ملموسة يمكن أن تترجم إلى شيء الحقيقي -إقالة رئيس الشرطة، وسحب القوات 20 ميلا عن المدينة، وتشكيل ميليشيا وطنية من المواطنين، والعفو عن السجناء السياسيين.
وصف تروتسكي رد الفعل في شوارع بطرسبورج، كما سار العمال إلى اجتماع لمناقشة عرض القيصر: “ارتفعت الروح المعنوية بشكل ملحوظ. انتزع صبي علم من ثلاثة ألوان من فوق بوابة منزل، وانتزع الشرائط الزرقاء والبيضاء، ورفع ما تبقى من علم أحمر “وطني” عاليا فوق الحشود…وبعد بضع دقائق، كانت العديد من الأعلام الحمراء ترفرف فوق كتل الجماهير. ودهست الحشود ما تبقي علي الأرض من قصاصات بيضاء وزرقاء الملقاة في كل مكان.
كان هذا المشهد يبعد مليون سنة ضوئية عما كان في 9 يناير من صور موكب القيصر.
وجاءت الموجة التالية الكبيرة من الإضرابات في نوفمبر، مع المطلب الرئيسي، يوم العمل 8 ساعات. وترنحت بطرسبورج.
لسوء الحظ، لم يرق مستوي النضال والتنظيم لنفس المستوى في أماكن اخري من روسيا، وقمعت قوات القيصر المتشددين في بطرسبورج
واعتقلت اللجنة التنفيذية لنقابات العمال بأكملها، وتم حل الاتحاد الوطني للسكك الحديدية ووضعت اللوائح المضادة للإضراب.
في موسكو، رد العمال بموجة من الإضرابات، التي امتدت الى بطرسبورج. وأعقب ذلك تمرد المسلح في موسكو والذي تم سحقه من قبل القوات القيصرية. وفي يوم 3 ديسمبر التالي، حاصرت القوات سوفييت بطرسبورج.
وصف تروتسكي العمال وهم يدمرون أسلحتهم على عجل حتى لا تتسلح بها الشرطة: “في وطأة الاشتباك وتحت صرير إلتواء معادن الأسلحة، كنت لتسمع صرير أسنان البروليتاريا الذين وللمرة الأولى أدركوا تماما أن جهدا أكثر من هائل وأكثر قسوة أصبح ضروريا للإطاحة بالعدو وسحقه”.
ولم يغب هذا الدرس عن العمال الروس، الذي سيستولون على السلطة بعد 12 عاما. ومع كل معركة ظهرت معادن واختلافات المنظمات الاشتراكية آنذاك – البلاشفة الثوريين والأكثر وسطية، الاصلاحيين المناشفة. اعتقد كلا الطرفين أنه بسبب طبيعة روسيا المتأخرة، أن الثورة في روسيا سوف تنتهي إلى ثورة برجوازية، وخلق نظام مثل الغرب، ارتمى المناشفة في أحضان البرجوازية، في حين تطلع البلاشفة للعمال لقيادة النضال.
وبالرغم من أخطاء البلاشفة في عام 1905 – مثل موقفهم العصبوي في البداية تجاه السوفييتات – إلا أن تطلعهم للعمال لقيادة الثورة، ستثبت أنها علي حق.
وكما قال لينين في خطاب ألقاه في يناير كانون الثاني عام 1917، “قبيل 9 يناير 1905، تألف الحزب الثوري في روسيا من حفنة صغيرة من الناس، والإصلاحيين في تلك الأيام (مثل الإصلاحيين اليوم) أطلقوا عليهم تسمية “التيار” من قبيل السخرية منهم.. وبالرغم من ذلك، ففي غضون بضعة أشهر فإن الصورة تغيرت تماما. “فجأة” نمت المئات من الديمقراطيين الاشتراكيين الثوريين لتصبح آلافا، وأصبح الآلاف قادة لاثنين أو ثلاثة ملايين من البروليتاريين.. وبهذه الطريقة، تحولت روسيا النائمة إلى روسيا البروليتاريا الثورية والشعب الثوري “.
إن الخبرة والتنظيم الذي اكتسبه البلاشفة خلال ثورة 1905 لا يقدر بثمن في عام 1917.
في خطاب ألقاه لينين عن 1905 على مجموعة من العمال الشباب في يناير عام 1917، أشار إلى أنه “يجب ألا ننخدع من سكون كالقبر، القائم في أوروبا حاليا. أوروبا تحمل الثورة في أحشائها. فمن أهوال الحرب الإمبريالية الوحشية، والمعاناة التي تسببها ارتفاع تكلفة المعيشة في كل مكان يولد مزاج ثوري، والطبقات الحاكمة، البرجوازية، وخدمها، الحكومات، ينتقلون أكثر فأكثر الى طريق مسدود والتي لا يمكن أبدا يخلصوا أنفسهم منها من دون اضطرابات هائلة.
كما هو الحال في روسيا في عام 1905، بدأت انتفاضة شعبية ضد الحكومة القيصرية تحت قيادة البروليتاريا بهدف تحقيق جمهورية ديمقراطية، لذلك، في أوروبا، خلال السنوات المقبلة، وتحديدا بسبب هذه الحرب الضارية، سوف تؤدي هذه الحرب إلى انتفاضات شعبية بقيادة البروليتاريا ضد سلطة الرأسمال المالي، ضد المصارف الكبرى، ضد الرأسماليين، وهذه الاضطرابات لا يمكن أن تنتهي إلا مع انتزاع ملكية البرجوازية، مع انتصار الاشتراكية”.
* إليزابيث شولتي كاتبة اشتراكية بالولايات المتحدة
* نشرت هذه المقالة في جريدة العامل الاشتراكي الأمريكية عام 2005. والترجمة باللغة العربية منشورة بالعدد 24 من مجلة أوراق اشتراكية.