الفلاحون في الثورة الروسية

كانت الثورة الروسية أكثر الثورات تعقيدا في تاريخ حركة الطبقة العاملة، فقد واجهت عدة مشكلات شديدة التعقيد في آن واحد مثل مشكلة القوميات والتخلف الاقتصادي وغيرها. وتكتسب الثورة الروسية كذلك أهميتها من كونها أول ثورة ظافرة في تاريخ البروليتاريا، وكونها قامت في بلد متخلف غالبية سكانه من الفلاحين الفقراء. وقد انتبه البلاشفة إلى أهمية الفلاحين في الثورة الروسية وضرورة أن يلعبوا دورا داعما للبروليتاريا وتحت قيادتها، ونقدم في هذه السطور عرضا مختصرا لهذا الدور.
في الأسابيع الأولى بعد ثورة فبراير 1917، كانت تسود الريف تقريبا حالة من الهدوء التام، ولكن هذا الوضع لم يدم طويلا، فقد اندفع كبار الملاك في سباق محموم إلى بيع أراضيهم لأغنياء الفلاحين أو للأجانب خوفا من شبح الثورة. وكانت الحكومة المؤقتة بزعامة كرنسكى وأمثاله من التوفيقيين والبرجوازيين يهيمنون على جهاز الدولة ويدبرون المؤامرات من أجل تدمير حركة الطبقة العاملة في المدن والسيطرة على التمرد في أوساط الجيش. أدت عمليات بيع الأراضي إلى استفزاز الفلاحين وطالبوا بإصدار قانون لمنع كبار الملاك من بيع أراضيهم. واكتفت حكومة كرنسكي بتقديم الوعود للفلاحين الجوعى الذين استقبلوها بمزيد من التشكك بعد أن امتنع كبار الملاك عن زراعة محصول الربيع. “لقد تعبنا من الانتظار، فقد انتظرنا ثلاثمائة عاما، والآن بعد استيلائنا على السلطة لا نريد الانتظار أكثر من ذلك” بهذه الطريقة كان الفلاحون يعبرون عن نفاذ صبرهم. وردا على دعوة الحكومة لهم بالانتظار حتى تتشكل الجمعية التأسيسية، رد مندوبو الفلاحين قائلين “نحن نريد الأرض الآن، وفورا”.
لم يتوقف الفلاحون عند حدود الكلام والتفكير، وإنما بدأوا في التنفيذ. فمنذ نهاية مارس بدأت الأخبار تتسرب عن استيلاء الفلاحين على أراضي كبار الملاك. فقد بدأ صغار الفلاحين (الموجيك) بالاستيلاء على الأرض المشاع. ثم استولوا على المحاصيل التي حصدوها بأنفسهم. وبعدها استولوا على الآلات المملوكة لكبار الملاك، وتقدموا نحو الأراضي التي كان يسود فيها نمط استغلال شبه إقطاعي حيث عانى الفلاحون أشد حالات البؤس.
وتزايدت بالتدريج عمليات الاستيلاء على الأراضي إلى أن وصلت 236 حالة في يوليو 1917 وكذلك الاستيلاء على الآلات والتي بلغت 92 حالة في يوليو 1917، أما الاستيلاء على وتدمير منازل كبار الملاك فقد بلغت 106 حالة في سبتمبر 1917 و 274 حالة في أكتوبر من نفس العام.
وقد شهدت الشهور السابقة على أكتوبر تزايد أعمال العنف من قبل الفلاحين، فتزايد عدد الهجمات على أراضي الإقطاعيين بنسبة 30% في أغسطس – سبتمبر وتزايدت مرة أخرى بنسبة 43% في شهر أكتوبر. وقد امتدت هذه العمليات على نطاق واسع في الريف الروسي، فمن بين 624 مقاطعة ريفية في روسيا شهدت 482 مقاطعة هجمات عنيفة ضد كبار الملاك، في أغسطس، وقد تزايدت كذلك في حدتها خلال شهر سبتمبر، بينما شهد شهر أكتوبر وحده أكثر من نصف هذه العمليات. وفي أواخر الصيف وبدايات الخريف انتشرت الحرائق من مقاطعة إلى أخرى، فلم يكتف الفلاحون بالاستيلاء على الأراضي ولكنهم كذلك قطعوا الغابات ودمروا المحاصيل واستولوا على الماشية.
كانت الحكومة المؤقتة عاجزة تماما عن ردع الفلاحين الثائرين، فلم تستطع في البداية المغامرة بإرسال الجنود المتمردين إلى القرى والذين كانوا أنفسهم من أبناء الفلاحين المعدمين، وبعضهم كانوا يرغبون بشدة في العودة إلى قراهم، وفي مواجهة هذه الهجمات كان كبار الملاك وموظفي الحكومة يهربون إلى المدن للنجاة بأنفسهم.
الحكومة تماطل:
منذ صعود الحكومة المؤقتة إلى السلطة في 6 مارس، أعلنت أن مسألة الأرض في قائمة أولوياتها، بل في مقدمة هذه الأولويات، ولكنها مع ذلك أعلنت أن المصادرة العشوائية لأراضي كبار الملاك من قبل الفلاحين المعدمين لا تمثل حلا للمشكلة ولكنها تعتبر خطرا وتهديدا كبيرا “للثروة الوطنية”. ثم عقدت اجتماعا للوزراء وأصدرت توجيهات لوزير الزراعة بتشكيل لجنة لجمع المعلومات عن الحيازات المختلفة بالتفصيل الممل وإحصاء الفلاحين الحائزين وغير الحائزين وما إلى ذلك، حتى تتمكن من دراسة الموضوع. ولم تجد هذه الدعوة بالطبع قبولا لدى الفلاحين المعدمين الذين فضلوا الاستيلاء على الأراضي فورا وبالقوة، حيث أعلن مجلس الوزراء في نهاية الاجتماع أن أي حل للمسألة لابد من تأجيله حتى يتم انتخاب الجمعية التأسيسية وانعقادها.
وفي الحقيقة لم يكن لدى جوعى الفلاحين مانعا من الانتظار حتى انعقاد الجمعية التأسيسية ولكنهم كانوا يخشون من عمليات البيع المستمرة للأراضي وكمية الإعفاءات من المصادرة التي كانت تصدر لصالح المشترين والمزارع المتخصصة التي كانت تنتج الخضروات والفاكهة بالإضافة إلى المعاناة التي تكبدوها من جراء عدم زراعة محاصيل الموسم الجديد، وكانوا يطالبون بوقف عمليات البيع.
كان حزب الاشتراكيين الثوريين – الذي تشكلت غالبيته من الفلاحين – يتبنى في مؤتمراته وقف عمليات البيع، ولكن عندما تولى أحد قادته منصب وزير الزراعة، وهو فيكتور تشيرنوف، وكان مؤيدا لوقف عمليات البيع قبل انعقاد الجمعية التأسيسية، تحالف رجال الأعمال والرأسمالية الزراعية ضده خوفا من انهيار الهيكل الائتماني للبنوك وانخفاض قيمة الأرض، وضياع المدخرات، وكان الكاديت، وهم ممثلو الرأسمالية الزراعية الكبيرة وملاك الأرض، يعارضون هذه الإجراءات بشدة، فعدل تشيرنوف عن توجهاته، ثم أقصي عن منصبه الذي تولاه زميله في الحزب ماسلوف، الذي أعد مشروع قانون قدم العديد من الاستثناءات والامتيازات للمزارع الخاصة وأراضي الكنيسة وأراضي أغنياء الفلاحين، وحتى تلك الأراضي القليلة التي بقيت لتوزع على الفلاحين، والتي كانت في معظمها أراضي مشاع ومملوكة للدولة تفتقر إلى الآلات والخصوبة فلم تكن بدون مقابل، بل فرض على الفلاحين سداد إيجارات عنها للجان التي أسسها خصيصا لمتابعة الأمر، والتي ستقدمها بدورها بعد اقتطاع الضرائب، إلى “مستحقيها”.
لم يكتب لقانون ماسلوف أن يخرج إلى حيز التنفيذ فقد جاء شهر أكتوبر بثورة عارمة أطاحت بالحكومة المؤقتة وماسلوف وقانونه المقيت.
في ذلك الوقت لم يكن لدى الاشتراكيين الثوريين والمناشفة الذين كانوا يسيطرون على السوفيت سوى دعوة الفلاحين للانتظار حتى انعقاد الجمعية التأسيسية التي تأجلت عدة مرات وكان لدى الفلاحين أسبابهم في عدم الانتظار فقد أعلن مندوبوهم في السوفيت أن نيكولاس قد أزيح عن السلطة بدون وجود الجمعية التأسيسية فلماذا لا نطيح بالنبلاء أيضا دون وجودها، وكان البلاشفة يصدقون على قولهم بأن ديكتاتورية البروليتاريا كفيلة بتسوية الأمر.
في إبريل 1917 لجأت الحكومة إلى العنف لقمع تمرد الفلاحين. وتصاعدت الهجمات على الفلاحين من 17 حالة في مارس – يونيو 1917 إلى 105 حالة في سبتمبر-أكتوبر 1917 وفي 21 أكتوبر، أي قبل إسقاط الحكومة المؤقتة بأربعة أيام، كان نيكتين وزير الداخلية يحث مندوبي الحكومة على أن يبذلوا أقصى ما لديهم للقضاء على حركة الفلاحين. كانت الحكومة المؤقتة قد فقدت ولاء العديد من الجنود فقد أعلن نيكتين:
ولكن الحكومة المؤقتة لم يعد لديها قوات كافية يعتمد عليها للحفاظ على العاصمة، ناهيك عن الحفاظ على النظام على اتساع الريف الروسي.
بعد سنوات عبر تشيرنوف عن ندمه ولعن اليوم الذي استخدم فيه الجيش لقمع انتفاضات الفلاحين:
كان ذلك ضربا من الجنون. كانت أنجع وسيلة لإحباط جيش 90% منه من الفلاحين هي إرسالهم لقمع حركة الملايين من إخوانهم وذويهم.. ماذا تفعلون؟ تدافعون عن الأمراء؟ جئتم لتحاربوا إخوانكم؟ اقذفوا الشياطين إلى النهر.
هكذا كان الفلاحون يخاطبون الجنود، وانتشر التآخي بين الفلاحين والجنود وبدأوا في تقسيم الأرض دون وجل.
أما حزب الاشتراكيين الثوريين، والذي كانت غالبيته تتشكل من الفلاحين فقد انشق إلى جناحين أحدهما يمينى وضم قيادات الحزب والمثقفين المنعزلين عن الصراع الحقيقي، والآخر يساري ويضم تلك القيادات المرتبطة بحركة الجماهير والتي اتخذت موقفا مؤيدا لمطالبة الفلاحين بالأرض والمواجهة الآنية مع كبار الملاك.
لينين والبلاشفة:
وكان لينين قد تناول المسألة الفلاحية بتحليل دقيق خلال ثورة 1905 حتى أنه بحلول الثورة الثانية كان البلاشفة واضحين تماما حول المسألة. وكان أولى اهتماماته في المسألة الفلاحية هو بناء التنظيمات الجماهيرية الديمقراطية لسكان الريف كوسيلة وحيدة وفعالة لإجراء الإصلاح الزراعي والذي لن يتحقق بالقوانين وانتظار الجمعية التأسيسية، ولكن من خلال الدور الديمقراطي الثوري والمبادرة الثورية لجماهير الفلاحين. وفي إبريل 1917 كتب لينين:
إن التنظيمات الفلاحية القائمة من أسفل دون سيطرة أو وصاية من مسئولي الحكومة أو ملاك الأرض وتابعيهم، هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الثورة والحرية”. إن ما يهمنا هو المبادرة الثورية، ويجب أن يكون القانون نتاجا لهذه المبادرة، وإذا انتظرنا صدور القانون ولم نقم بالمبادرة الثورية من جانبنا، فلن نحصل على القانون ولا الأرض.
هكذا كرر لينين دعوته في تقريره حول المسألة الزراعية في مؤتمر الفلاحين في إبريل. وقد وجه الفلاحين إلى عدم الإصغاء لدعاوى التوفيقيين من أعضاء الحكومة المؤقتة بالانتظار حتى انعقاد الجمعية التأسيسية التي أجلوها بدورها حتى انتهاء الحرب، والتي ربطوا انتهاءها بتحقيق النصر الكامل. إنها مجرد خدعة من الرأسماليين وكبار الملاك. إن حزب البروليتاريا يجب أن يحث الفلاحين على إنجاز الإصلاح الزراعي في الحال بأنفسهم ومصادرة أراضي كبار الملاك فورا بناءا على قرارات مندوب الفلاحين.
وقد اقترح لينين إقامة منظمات مستقلة للعمال الزراعيين، فكانت سياسته بخصوص المسألة الزراعية محكومة بعاملين أساسيين: 1) أن الطبقة العاملة يجب أن تقود الفلاحين، 2) أن العمال يجب أن يكونوا مستقلين تنظيميا عن الفلاحين. فالبروليتاريا في دعمها للفلاحين الثائرين يجب ألا تغفل لحظة عن استقلالها الطبقي وأهدافها الطبقية الخاصة. إن حركة الفلاحين هي حركة طبقة أخرى… إنها ليست صراعا ضد دعائم النظام الرأسمالي. “نحن نقف إلى جانب الحركة الفلاحية إلى النهاية ولكن يجب أن نتذكر أنها حركة طبقة أخرى غير تلك التي تستطيع القيام بثورة اشتراكية” ومن الضروري تنظيم العناصر البروليتارية (العمال الزراعيين، وعمال اليومية …الخ) بشكل مستقل في سوفييتات الفلاحين، أو حتى تنظيم سوفييتات خاصة بالعمال الزراعيين.
وقد أعلن لينين ضرورة مصارحة الفلاحين الفقراء، بأن الزراعة القائمة على الملكيات والحيازات الصغيرة في ظل الرأسمالية لن تنتج سوى البؤس لهم ولأولادهم وأن هناك ضرورة لتجميع الأرض وتحويل أراضي كبار الملاك إلى مزارع نموذجية تديرها سوفييتات العمال الزراعيين بالاستعانة بالتكنولوجيا والخبراء الزراعيين. ولكنه كان على دراية تامة بأن ذلك لا يمكن تحقيقه بصورة فوقية وأنه يجب أن يكون باقتناع الفلاحين أنفسهم بفوائد الإنتاج الكبير في ظل الاشتراكية.
لينين يتبنى برنامج الاشتراكيين الثوريين:
في 19 أغسطس 1917 نشرت صحيفة إزفستيا النقاط التالية حول مؤتمر مندوبي الفلاحين:
· القضاء على الملكية الخاصة للأرض-بما فيها أراضي صغار الملاك- دون تعويض؛
· تحويل المزارع النموذجية إلى الدولة؛
· مصادرة الماشية والآلات -مع استثناء ممتلكات صغار الفلاحين- وضمها للدولة؛
· حظر العمل المأجور؛
· توزيع الأرض على العاملين بها مع إعادة توزيعها دوريا في الفترة الانتقالية حتى انعقاد الجمعية التأسيسية؛
· ويطالب الفلاحون بالتطبيق الفوري لقانون يمنع بيع أو شراء الأراضي وبقوانين لحماية الغابات والمصايد وغيرها..
كان لينين يؤمن بأن هذا البرنامج لا يمكن تحقيقه في ظل سيطرة الرأسمالية، وأعلن أن الاشتراكيين الثوريين يخدعون الجماهير ولكنه تبنى البرنامج مع إضافة أنه لن يتحقق إلا كجزء من ثورة الطبقة العاملة ضد الرأسمالية، وأعلن لينين:
نحن البلاشفة نعارض هذا البرنامج، ورغم ذلك وقعنا عليه، نحن لا نرغب في فرض إرادتنا على جماهير الفلاحين، فإرادة الغالبية تحكمنا دائما، ومعارضتها تعنى خيانة الثورة. نحن لا نريد أن نفرض على الفلاحين وجهة نظرنا بأن التقسيم المتساوي للأرض عديم الفائدة، فهذه الفكرة غير مفهومة بالنسبة لهم. والأفضل من ذلك، في رأينا، هو أن خبرة الفلاحين ومعاناتهم ستدفعهم إلى إدراك أن التقسيم المتساوي للأرض محض هراء، وعند ذاك فقط نستطيع أن نسألهم كيف يتجنبون الدمار وسيطرة وأغنياء الفلاحين الناتج عن تقسيم الأرض.
وردا على اتهام البلاشفة في الكومنترن عام 1920 بالتراجع إلى سياسة برجوازية صغيرة والتضحية بمصالح البروليتاريا من أجل الفلاحين، رد لينين:
إن لم نفعل ذلك، لما وجد الفلاحون فرقا بين ديكتاتورية البروليتاريا والحكومة السابقة، ولما تمكنت دولة البروليتاريا من الحفاظ على السلطة.
لقد كانت مفارقة تاريخية أنه في ظل الحكومة التي شارك فيها الاشتراكيون الثوريون كان على الفلاحين اتخاذ طريقا ثوريا لإنجاز برنامج الاشتراكيين الثوريين بقيادة ودعم البلاشفة الذين ناضلوا ضد الاشتراكيين الثوريين لمدة طويلة.
وفي مؤتمر سوفييتات الفلاحين حصل لينين على 20 صوت فقط مقابل 810 صوتا لتشيروف زعيم الثوريين الاجتماعيين، و804 صوتا لكيرنسكي التوفيقي، هؤلاء أصبحوا أعداء الحركة الثورية للفلاحين، بينما كان لينين زعيمها الحقيقي.
لم يكن لدى البلاشفة خيار حول تطبيق سياسة زراعية اشتراكية ثورية، وكان عليهم تبنى مطالب الفلاحين بتوزيع الأرض المصادرة من كبار الملاك، وشهد واقع عدم استقلال موقف العمال الزراعيين عن موقف الملاك الصغار على مدى تخلف الرأسمالية في روسيا، في نفس الوقت كشفت قوة الثورة الزراعية التي جذبت إليها قطاعات واسعة من الفلاحين واقع تطور الرأسمالية في روسيا.
إن حركة الفلاحين في البلدان المتخلفة أساسية في دعم الثورة العمالية تحت قيادة البروليتاريا، فلن تتحقق هذه الثورة إلا بدعم الفلاحين ولا يمكن حل مشاكل الفلاحين وإنقاذهم من البؤس والاستغلال الذي يعانون منه في ظل الرأسمالية إلا بتحقيق الثورة الاشتراكية.