الثورة الفرنسية الكبرى: معين لا ينضب
الجزء الثالث من الثورة الفرنسية الكبرى: أفول نجم الثورة و ظهور الديكتاتورية البونبارتية

نختتم فى هذا المقال ما سبق نشره فى الجزء الاول و الجزء الثانى من " الثوة الفرنسية الكبرى : معين لا ينضب " ، حيث نستعرض التناقضات الداخلية لليعاقبة و أفول نجم الثورة مما ادى الى ظهور الديكتاتورية البونبارتية .
التناقضات الداخلية لليعاقبة
لا يمكن النظر إلى مسألة التطهير الذى ناضلت فى اتجاهها الجماهير الثورية والسان كيلوت على أنها مجرد معركة بين قوى سياسية لاعادة اقتسام السلطة فى جهاز الدولة، ففى ظروف الثورة التحرك الاجتماعى الكبير إلذى يصاحب المعارك التى تبدو أنها سياسية صرفة، يحفز موجات قوية من النضال الاقتصادى والطبقى كما تقول روزا لوكسومبرج، وهذا ما حدث في حقبة الارهاب فى الثورة الفرنسية، فكما كان الثوار الشعبيين حريصين على ملاحقة المناصرين السياسيين للجيروند والملكيين، كانوا أكثر حرصا على ملاحقة التجار ورجال الاعمال المحتكرين ومصادرة أملاكهم ومخازن الحبوب التى تحت ايديهم لتوفير الخبز للفقراء والجنود على الجبهة، كما انطلقت اللجان الثورية ومندوبى الاقسام الباريسية تشكل مع الأجراء والفقراء أجهزة قاعدية للرقابة الشعبية على الاسعار ومصادر الحبوب ومنع الممارسات الاحتكارية، كما اندلعت موجة من الاضرابات العمالية المطالبة برفع الأجور بما يتناسب ومعدلات التضخم، ما يعنى أن مطلب التطهير فتح الباب لمعركة طبقية واسعة لا تقتصر هذه المرة على النضال ضد الطبقة الأرستقراطية بل تطال مصالح المستغلين والمحتكرين عموما، ما يعنى أن استمرار تجذر الثورة وتنظيم الجماهير الشعبية والاجراء لنضالها عبر منظمات شعبية مستقلة على هذا النحو أصبح يضرب مصالح الطبقة البرجوازية – حتى البرجوازية الصغيرة التى ينتمى اليعاقبة لها من صغار التجار والفلاحين وأصحاب الورش والمشاغل والذين خسروا بسبب إجراءات مركزة الاقتصاد والرقابة الشعبية ضد الاحتكارات- فى مقتل.
و كما كشف تجذر المعركة الثورية حدود الجيروند الليبراليين عندما بدأ الصراع الطبقى يمس المصالح الاقتصادية للبرجوازية الكبيرة والمتوسطة، كذلك ظل اليعاقبة محدودين بمصالح البرجوازية عامة والبرجوازية الصغيرة خصوصا، وبطبيعة هذه البرجوازية الصغيرة المأسورة – كشريحة اجماعية انتقالية وغير منسجمة المصالح – بأوهامها عن المجتمع المثإلى الذى تتعايش فيه الطبقات فى تضامن طبقى وعدالة اجتماعية بعيدا عن مظاهر استغلال رأس المال الكبير والاحتكارات، المجتمع إلذى يظل فيه المنتجين أحرارا يمتلكون وسائل إنتاجهم ولا يضطرون لبيع قوة عملهم للرأسمالى، بعبارة أخرى مجتمع صغار المنتجين والفلاحين أصحاب وحدات الإنتاج المستقلة، وهم فى سعيهم لهذا المجتمع لا ينفذون إلى علاقات الإنتاج الرأسمالية وطبيعة الإنتاج الرأسمالى القائم على استغلال العمل المأجور ويغفلون عن الصيرورة المادية للتاريخ التى أصبح الإنتاج الرأسمالى هو المستقبل الذى لايمكن ايقافة أو منعه ، ولهذا رأى مثقفيهم أمثال روبسيبير ان السبيل إلى مجتمع الفضيلة يكمن فى تنوير الشعب والرقى بأخلاقه ومثله وهى المهمة التى على مثقفى البرجوازية الاضطلاع بها، هذا هو غرور البرجوازية الصغيرة وتذبذبها على مر العصور، وهذا هو ما يجعلها تسللك مسلكا ديكتاتوريا إذا كانت فى السلطة عندما تعجز عن تحقيق حلمها بمجتمع التعاون الطبقى الموحد تحت راية المصالح العليا للوطن، لتصحو على واقع الصراع الطبقى المرير وهى لهذا أيضا تبحث دائما عن ملاذ من مجتمع المادة والفقر فى عقيدة دينية سماوية أو فسلسفية مثالية تتبعها وتسعى لفرضها على الجماهير لترقى بها إلى مجتمع الفضيلة فوق الأرضية المزعوم، لهذا ابتكر روبسيبيير (الكائن الأسمى) وأقام له احتفالات أسطورية فى 18 مايو 1794 وجسد فيه القيم العليا التى نادت بها الثورة بعد أن اهتزت صورة الكنيسة فى وجدان الفرنسيين إبان الثورة.
و كالعادة أصطدمت أوهام البرجوازية الصغيرة اليعقوبية بالواقع المادى (المنحط)، وشعروا بالقلق من المطالب الاجتماعية المتزايدة للسان كيلوت ومن منظماتها الشعبية التى خرجت عن سيطرة اليعاقبة وبدأت تنادى بالمساواة الاجتماعية وتهدد الملكية الخاصة، لهذا بدأ اليعاقبة فصلا جديدا من قمع السان كيلوت والثوار الشعبيين وقادتم وكتابهم وصحفهم ونواديهم ورفع اليعاقبة الحظر عن السوق السوداء والاحتكارات كما أصدروا مرسوما بوضح حد أقصى لزيادة الأجور للعمال. وهكذا صدرت المراسيم بحل منظمات السان كيلوت واغلاق النوادى الباريسية، واستدعى مندوبيها من الاقاليم واعفوا من مسؤلياتهم ،كما حظرت عدة صحف راديكالية، وخظرت جمعية النسوة الجمهوريات الثوريات، والقى القبض علي هيبيرت وجاك رو وعدد من اتباعهما وعلى كل القادة الشعبيين الثوريين، وأعدموا بالمقاصل دون محاكمة فى 24 مارس 1794.
و بهذا أسفرت ديكتاتورية روبسيبير عن وجهها الحقيقى، وفقدت أي قاعدة اجتماعية شعبية كانت منحازة لها، كما كانت قد قفدت تأييد أوساط البرجوازية بسبب اضطرارها لتنفيذ اجراءات اقتصادية قصوية اثناء الحرب، وتضاعف هذا العداء لليعاقبة بحلول صيف 1794 عندما تكرست انتصارات الجيش الفرنسى العسكرية بفضل اجراءات حكومة الحرب اليعقوبية، كما أن كل محاولات الثورة المضادة فى الاقاليم قد أخمدت، وأصبح بقاء ديكتاتورية السلامة اليعقوبية أمرا لا مبرر له ومرفوضا بشدة وسط دوائر البرجوازية. رأت البرجوازية أن اليعاقبة أدوا دورهم فى منع الردة الارستفراطية فى الظرف التاريخى الذى فرض هذا الدور، وبما أن هذا الظرف قد انتهى الان – فى رأيهم- فعلى اليعاقبة أن يختفوا من المشهد السياسى فورا وللأبد.
الردة التريميدورية وأفول نجم الثورة
سهلت العزلة السياسية التى وضع روبسيبيير واليعاقبة أنفسهم فيها لخصومهم السياسيين فى الجمعية التشريعية التآمر عليهم، وهكذا صوتت الجمعية بالاغلبية على قرار بتوقيف روبسيبيير وعدد من أتباعه فى 27 يوليو1794 واعدم هو و21 من اتباعه فى اليومين التاليين دون أن تطلق طلقة واحدة للدفاع عنهم، وأى قوى ثورية عساها تفعل ذلك، إذا كان اخر ما فعله اليعاقبة هو حظر المنظمات والقوى الثورية التى كان يمكن أن تنتفض للدفاع عن حكومة الثورة وعندما دعا اليعاقبة الجماهير الباريسية للانتفاض، كانت الجماهير قد فقدت أى ثقة فى اليعاقبة فلم تحرك ساكنا.
وعرفت هذه الأيام بالردة التريميدورية، نسبة إلى شهر تريميدور (يوليو) حسب التقويم الجمهورى. وكانت بمثابة أعلان لبداية حقبة جديدة رجعية في تاريخ الثورة.
فى هذه الحقبة عادت البرجوازية الكبيرة الليبرالية منفردة بالساحة السياسية عازمة أن تنهى كل مظاهر الجمهورية اليعقوبية لعام 1794 وأن تمنع منعا باتا أى محاوالة لاستعادة اى من هذه المظاهر وأن تستعيد الاستقرار والأمن علي مصالحها وينعم المواطنون (المحترمون) بمناخ هادئ ينتعش فية الاسثمار وتعود حرية السوق، فى الطرف المقابل ساد جو من الاحباط والتخبط القوى الاجتماعية الثورية اثر خيانة اليعاقبة للثوار الشعبيين وما تلاها من تصفية للزعامات السياسية اليعقوبية، إلا أن ما لا يحسب اليبراليين له حسابا هو أن فشل القوى الاجتماعية الثورية فى فرض ديكتاتوريتها الثورية والقبض عليها فى ذروة الحرب الأهلية الطبقية وبعدها يعنى حتما اخلاء الساحة لسطوة لقوى اليمينية الرجعية، أو للمغامرات العسكرية الانقلابية التى يمكن أن تستغل الانهاك المتبادل المؤقت لطاقة القوى الاجتماعية المتناحرة وعجز أى منها عن حسم الصراع الطبقى لصالحها، وتتولى الاستحواذ على كل السلطة السياسية بدعوى استعادة الاستقرار ولم شمل الجميع تحت راية الأمة الواحدة التى يحكمها –فعلا- ويستحوز على اجمإلى فائض القيمة فيها كبار الملاك البرجوازيين.
بدأت مظاهر استعادة البرجوازية الليبرالية لسطوتها باغلاق النوادى اليعقوبية واحدا تلو الاخر واعادة فتح الكنائس التى اغلقتها اللجان الثورية لبثها سموما مضادة الثورة مغلفة بخطاب الدينى مخدر، وبدأت تظهر إلى حيز الوجود عصابات من الشباب المنحدرين من أسر برجوازية ثرية والذين كانوا يرتدون ثيابا فاخره ويتعطرون بأفخر أنواع العطور حتى عرفوا بين العامة بـ(الشباب الذهب)، وكانوا يتحرشون بالفقراء عموما وبكل من يتفوه بكلمة دفاع عن الثورة أو اليعاقبة، حتى أن مجموعة منهم ظلت تحاصر اجتماعات نادى اليعاقبة فى باريس بالسلاح الابيض إلى أن أغلق النادى، أما الجمعية التشريعية فلم تتحرك للسيطرة على هذه العصابات اليمينية المسلحة بل بالعكس، أسعدها هذا (الإرهاب الأبيض) الذى بلغ مداه فى حركة واسعة من الإعدامات والاغتيالات لثوريى السان كيلوت ولكل من كانت له صلة باليعاقبة، آملة أن يعيد هذا الارهاب الأبيض الاستقرار للشارع ويقضى على العناصر الراديكالية الشعبية.
لكن هذا الإرهاب الابيض جنبا إلى جنب مع التضخم الشديد آثارا انتفاضتين ثوريتين فى شهرى مايو وأبريل عام 1795، وإن كانتا أضعف بكثيرمن الانتفاضات الشعبية التى اندلعت فى الأعوام المسابقة إثر كل تصعيد من قوى الثورة المضادة، وبالرغم من هذا مضافا اليه افتقادهما للتنظيم والقيادة والخطة والبرنامج ما أدى إلى نجاح الحرس التابع للمجلس فى قمع الانتفاضتين بسهولة، فقد نجحتا فى كبح عصابات الشباب المذهب المسلحة إلى حين.
كما عادت أصوات تنادى بعودة الملكية وتنسب كل أهوال أعوام الثورة إلى غضب الإله على العصاة الذين أطاحوا بالملك المفوض من المشيئة الإلهية، وبدأ هؤلاء الملكيون يخططون للانقلاب على الجمهورية وتنصيب لويس الثامن عشر الوريث الشرعى للعرش والذى كان فى المهجر ملكا على فرنسا.
وسط كل هذا المناخ المشحون بالمحاولات الارتدادية الرجعية كان المجلس التشريع التريميدوري يعلن مرارا تمسكه بموقف الاعتدال، فلا ديكتاتورية اليعاقبة الثورية ولا ديكتاتورية الملكية، هذ هو الشعار الذى حكمت تصرفا المجلس فى هذه الشهور كما أعلن أحد النواب. الترجمة الواقعية لهذا الشعار كانت التذبذب السياسى بين اليمين واليسار وبالتإلى فقدان المجلس لأى وزن سياسى بمرور الوقف. وكعادة البرجوازية الديقراطية العاجزة فى مثل هذه اللحظات من التاريخ لا تألو جهدا لنسج كيانات وأطر وحدود تشريعية دستورية للحفاظ على وضع سياسى وشكل للسلطة هش فى حقيقته وغير قابل للبقاء. يقر المجلس دستورا جديدا ارتداديا يقصر حق التصويت لانتخاب أعضاء الجمعية التشريعية على الملاك فقط ، مترسخا مبدأ جمهورية يحكمها الملاك .و معيدا لحرية الاستثمار والتجارة أولويتها بالنسبة للبرجوازية الكبيرة ، ومتشبثا بفصل وهمى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو وهم ينكشف تاريخيا بالاخص عندما تجد الطبقة الحاكمة أن الأحوط والأجدى لمصالحها الطبقية فى ظروف الصراع الطبقى والسياسى الداخلية والوضع الخارجي اللآني أن تركز السلطة وتمنح عن طيب خاطر مزيدا من الصلاحيات للسطة التنفيذية أو أن تخطوا خطوة أخرى للوراء وتخلى الساحة لديكتاتورية بمضمون برجوازى.
فى أكتوبر 1795 نفذ الملكيون محاولة انقلابية فى باريس، فهرع النواب يستنجدون بالجماهير الشعبية واليعاقبة ويسلحونهم لإحباط الانقلاب، وبالفعل تمكنت الجماهير بمساعدة قوات من الجيش فى إحباط المؤامرة، وذاعت شهرة الضابط الشاب نابليون بونابارت الذى برز فى هذا اليوم كقائد قوى.
انعكس المشهد التريميدورى هذا مكثفا على الجيش الفرنسى الذى أصبح فى هذا الوقت مختلفا عن الجيش الوطنى الثورى الأول الذى خاض حروبا ثورية فرغم أن تقاليد الجيش الوطنى ومظاهرة ظلت قائمة كما أن نصيبا كبيرا من العقيدة العسكرية الثورية لم ينفد بعد، فالتجنيد ظل اجباريا وعاما، مغنائم المعارك توزع بالتساوى كما كان، الا أن تحولا حدث بدخول رجال الأعمال بقوة مجال التمويل العسكرى والاستثمار فى صناعة التسليح والطلبيات الحربية مع الحكومة خصوصا بتوسع وتعدد جبهات القتال، فانحرفت الحروب من ثورية ترفع شعار حرية الشعوب إلى حروب توسعية لفرض النفوذ والسيطرة على رءوس الأموال وجباية الضرائب الأجنبية لصالح حفنة من كبار الممولين والوكلاء، كان نظام انتخاب الضباط قد أوقف العمل به منذ مدة واعيد ترتيب الجيش طبقيا بحيث تظل المناصب القيادية حصرا على الضباط المنتمين للطبقة البرجوازية، اصبحت العسكرية مهنة تمتهن بدخل مرتفع نسبيا أى أصبح الجيش ذا طابع نظامى وبدأت تظهر روح المغامرة وحب الظهور وسط عدد من القادة بعد انحراف الحرب عن الاهداف الثورية، وبعد ساحات المعارك عن الأراضى الفرنسية، وتركز ولاء الجنود فى شخص قائدهم. برز نابليون بونابارت فى هذا المناخ كقائد وكمفاوض محنك بامكانة أن يضع حدا للحرب التى دامت أعواما أصبحت مكلفة بالنسبة للبرجوازية، مع الحفاظ على أكبر رقعة من الأراضى التى فتحها الجيش.
وبينما كان بونابارت يبنى أمجادا عسكرية ودبلوماسية لنفسه كقائد للجيوش الفرنسية فى إيطاليا، كنت البرجوازية الليبرالية الجمعية التشريعة تعمل على قمع الحركة الشعبية التى حفزتها محاولة الملكيين الانقلابية والمؤيدين لليعاقبة داخل الجمعية، وهنا وجدت أن الحل الأءمن لهل هو منح كل السلطة لـ(حكومة مديرين) بصلاحيات مطلقة، فصوتت أغلبية الجمعية – مخالفة بذلك الدستور الذى وضعته بنفسها منذ أسابيع – بالموافقة على انفضاضها وقيام ديكتاتورية حكومة المديرين فى السادس والعشرين أكتوبر 1795 ولتبدأ نوبة جديدة من القمع السياسى.
و مضت أعوام أربع رسمت ملامحاها متغيرات ثلاثة:
1- تراجع عام فى الحركة الثورية للجماهير، وتراجع كبير فى ثقتها فى قدرتها على التغيير رغم استمرار ضغط الازمة عليها بعد تكرر احباط عدد محدود من الاتفاضات الشعبية وفشلها كان أبرزها مؤامرة المتساوين بقيادة (بابيوف) التى انتهت بالقبض عليه ورفاقة واعدامهم فى 27 مايو 1797، وسيادة اتجاه عام يؤثر الهدود والاستقرار خاصة بين جماهير البرجوازية الصغيرة من فلاحين وحرفيين.
2- استمرار سياسات التخبط والتذبذب من قبل الممثلين السياسيين للبرجوازية سواء فى الجمعية التشريعية أو حتى فى حكومة الادارة فى الوصول إلى أى حالة استقرار سياسى، وسط جلبة فارغة من الصراعات السياسية الواهية داخل القاعات، ودستور منتهك. وبوادر ضيق بهذا الوضع وسط دوائر البرجوازية الكبيرة التى لايعنيها الا الاستقرار السياسى وانهاء الحرب حتى تتفرغ لصفقاتها ومضارباتها المالية وتنعم بالمكاسب المادية للثورة والحرب، والارتياح لحل حكم الفرد الديكتاتور.
3- سطوع نجم بونابارت كرجل سياسة وحرب قادر على كسب ثقة بعض الدوائر البرجوازية الكبيرة وكذلك قطاع من الفلاحين المفتقدين للهدوء الاجتماعى ،خاصة بعد تمكنه من التوسط فى عدد من الاتفاقيات الخارجية من شأنها انهاء الحرب.
لم يمض وقت طويل من فعل هذه العوامل والمقدمات التاريخية لصعود الدكتاتورية، حتى توالت النتائج تباعا.
فمن انتخابات أتت بأغلبية ملكية فى مايو 1797 كرد فعل لمؤامرة المتساوين المجهضة، ثم فى العام التإلى بنتائج مزاحة لليسار أكثر، فتدخل حكومة الادارة بالغاء هذه الانتخابات، لتفقد الجمعية التشريعية أى شرعية أو سلطة لها فى أعين البرجوازية كما فقدتها فى أعين الشعب من قبل، وبهذا أصبحت معلقة فى الهواء دون أى قاعدة اجتماعية أو سياسية تستند اليها وتدافع عنها إذا استلزم الأمر. وفى التاسع من نوفمبر (18 بروميير) 1799 بمساعدة من مؤيدية فى الجمعية، يقتحم نابليون بونابارت مقر الجمعية معلنا حل الجمعية وتأسيس القنصلية الأولى برئاستة وبسلطة مطلقة لشخصه، فيهرب النواب من القاعة بعد اقتحام قواته لها هاتفين "تحيا الجمهورية".
الطبقة العاملة والثورة
رأينا كيف أن تحرك الجماهير الشعبية ونضالها فى المعارك الاجتماعية والسياسية كان القوة الكبرى الدافعة للثورة للأمام، وكيف أن هذا الضغط المستمر من أسفل نقل الهيمنة السياسية يسارا من الملكيين الدستوريين إلى الجيروند ثم فى النهاية إلى اليعاقبة التنظيم البرجوازى الأكثر ثورية.
السؤال إلى يفرض نفسه هنا، لمذا لم تتمكن هذه الجماهير الشعبية من تجاوز الدور اليعقوبى وخلق بدائل وتنظيمات ثورية قادرة على دفع الثورة أكثر وإسقاط سلطة البرجوازية لتحل سلطتها الثورية مكانها ؟
بمعنى اخر لماذا منيت كل المحاولات على هذا الطريق بالفشل؟
بالعودة إلى التحليل الاجتماعى لهذة الجماهير الشعبية، نجد أن الغالبية العظمى منها كانت تحتل دورا عضويا هاما فى أسلوب الإنتاج الذى يمكن وصفه بقبل الرأسمالى أو شبه الاقطاعى الذى كان يسود المدن الفرنسية فى ذلك الوقت، فصاحب المانيفاكتورة والعامل الحرفى ظلا هما المكون الاجتماعى السائد لهذه الجماهير فى المدن، وظل نمط الإنتاج القديم هذا يزاحم الإنتاج الرأسمالى الكبير المركز حتى بعد أعوام من سيطرة البرجوازية على السلطة، فالتحول الكامل فى مسار قوى الإنتاج الاجتماعية لا يحدث فجأة بل قد يتأخر عن الثورات السياسية الكبرى، وفى هذا الوقت تستخدم الطبقة الحاكمة الجديدة كل السلطة (الديكتاتورية) لتسييد نمط الإنتاج الجديد الذى ترتكز عليه مصالحها.
انعكاس هذا الوضع على حجم الطبقة العاملة وقوتها له أهمية قصوى، فالعامل الحرفى والفلاح الذى ظل يمتلك استقلاله بامتلاك وسيلة إنتاجه السلعى الصغير ،لم يكن مضطرا لبيع قوة عمله للرأسمالى ليعيش فى بؤس العامل بالأجر الذى ليس له الا قوة عمله ليتعيش منها، هذا يعنى أن العوامل التاريخية الموضوعية التى كانت تعيق النمو المادى للبرجوازية وللإنتاج الرأسمالى الكبير كانت كذلك تعيق نمو الطبقة العاملة وتطورها والأهم من كل هذا تركزها.
إن هذا التركيز للطبقة العامله لا يتحقق إلا بسواد الإنتاج الرأسمالى الكبير، ففى هذا الوضع دون غيرة يمكن للعمال أن ينظموا أنفسهم للنضال انطلاقا من الوضعية العضوية الضرورية التى تحتلها الطبقة العاملة فى علاقات الإنتاج الاجتماعية للمجتمع الرأسمالى، هذه الوضعية التى تفتقر اليها كل الشرائح الاجتماعية المضهدة الأخرى من حرفيين وصغار فلاحين وصغار تجار وغيرهم من فقراء ومهمشى الريف والمدينة، والذين وان كانوا جميعا ضحايا رأس المال الا أن مصالحهم ليست منسجمة بحيث يمكنهم وضعهم الاجتماعى من تنظيم انفسهم والثورة على علاقات الإنتاج القائمة والطبقات بهدف الغائها جميعا. وحدها طليعة الطبقة العاملة (البروليتاريا ) يمكنها من خلال حزبها الثورى السياسى الضارب بجذورمتعشبة فى الطبقة العاملة والقادر على قيادتها وكافة الشرائح المضهدة فى المجتمع الرأسمالى أن تنجز هذه المهمة – مهمة الثورة الاشتراكية.
فى هذا الإطار يمكننا أن نفهم لماذا لم يكن لأفكار هيبيرت وبابيوف حظا من الحياة؟ لقد حاولا مقاومة البؤس والفقر وغياب العدالة الاجتماعية ،ورفعا شعار حق الحياة أقدس من حق الملكية، إلا أن أطروحات أى منهما لمجتمع العدالة والكفاية ظلت أسيرة لنمط لإنتاج الصغير، ففى مجتمع المتساوين الذى اقترحه بابيوف مثلا الكل يعمل ما يقدر وناتج العمل يوزع على الكل بالتساوى، دون أن تمتد رؤيته إلى طرح الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج كأساس وحيد وأول لالغاء الطبقات. العجز عن تقدير اتجاه تطور قوى الإنتاج فى المجتمع الرأسمالى نحو التركز والتوسع هو السبب فى قصور هذه البرامج والمحاولات.
رغم الدور البطولى الذى لعبته الطبقة العاملة الفرنسية فى الثورة الكبرى، إلا أن الظروف التاريخية الموضوعية حالت بينها وبين دفعها لاستمرار الثورة للقضاء على الرأسمالية. أما الآن بعد مرور أكثر من قرنين على اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى، تجاوزت فيها الرأسمالية الحدود القومية وأصبحت نظاما عالميا متشابك المصالح تتحكم فيه احتكارات عالمية كبرى وشركات عابرة للقارات، تستغل طبقة عاملة عالمية بالملايين، وتفرض البؤس والحرب والمرض على العالم وتهدد حضارة البشر. أصبح لا مناص للطبقة العاملة من بناء أحزابها الاشتراكية الثورية الأممية، وأصبح الاختيار الوحيد هو الذى صاغه إنجلز في مقولته الشهيرة: "إما الاشتراكية أو البربرية".
لمتابعة سلسلة تاريخ الثورات اضغط هنا