بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خبرات ثورية

الثورة الفرنسية الكبرى: معين لا ينضب

الجزء الثاني من الثورة الفرنسية الكبرى: الثورة والصراع الطبقي

بعد نشر الجزء الاول من " الثورة الفرنسية الكبرى : معين لا ينضب " ، نواصل نشر الجزء الثانى من احداث الثورة و استعراض احتدام الصراع الطبقى و دوره فى تجذير الثورة و دفعها للامام.

الثورة والجماهير الشعبية

لم يكن نواب الطبقة الثالثة في البداية يطمحون إلى إسقاط السلطة المطلقة لكن تصاعد الأزمة الاجتماعية والسياسية وانعقاد مجلس الطبقات وانقسام النبلاء وضعهم فى وضع يسمح للبرجوازية أخيرا بفرض مطالبها السياسية ، كان الهدف الأساسى لإنعقاد المجلس من وجهة نظر الملك ومستشاريه هو عمل نظام ضرائبى يحمل جزءا من العبء الاقتصادى للدولة علي الأرستقراط ليخفف من غضب الجماهير وينقذ الملكية من خطر ثورة شعبية من اسفل، ولم يكد المجلس يعقد أولى جلساته حتى انبرت الطبقة الثالثة تطالب بإعطائها صلاحيات سياسة وتصويتية اكبر (أن تساوى قوتها التصويتية بقوة النبلاء والإكليروس).

وأمام معاندة الملك والأرستقراطيين لهذه المطالب وإغلاقهم أبواب المجلس فى وجه نواب الطبقة الثالثة اجتمع هؤلاء النواب مع من ايدهم من فقراء الأكليروس واقلية من الملكيين الليبراليين فى ( ملعب التنس) وأعلنوا انعقاد (المجلس الوطنى) وأقسموا ألا يكف المجلس عن الانعقاد إلا بانتخاب جمعية تأسيسية ووضع دستور ينظم علاقات السلطة الجديدة فى وجود الملك.

و تجدر الإشارة هنا إلى الطريقة التى بدأ بها نواب الطبقة الثالثة حركتهم، فبينما كانت الجماهير الشعبية تندفع فى المدن والقرى متحدية امتيازات الطبقة الأرستقراطية وتطالب بالخبز والحرية، لم تتعد خطوات نواب البرجوازية في هذا نطاق المطالبة بـ (ملكية دستورية) تنظم علاقات الحكم والانتخاب دون المساس بحق الملكية المستند إلى سلطة الحكم المطلق المستندة إلى سلطة السماء ، وبحيث تسمح – وهذا هو الأساس – بليبرالية السوق والمنافسة.

كان المحامون والتجار وأصحاب المصارف والبنوك وكبار الملاك الذين شكلوا عناصر الطبقة الثالثة فى المجلس يمثلون مصالح البرجوازية الصاعدة والتى تدرك أن قوتها ترتكز على قوة وبطش الدولة المركزية ذات الجهاز الإدارى الضخم والتى كانت تتخذ شكل الدولة الملكية فى فرنسا. بدون هذه الدولة لم يكن من الممكن للبرجوازية كطبقة أن تنمو، وهكذا ففى المجتمع الطبقى الذى تحلم به البرجوازية، فى المجتمع الذى يصبح فيه غالبية افراده اجراءا لصالح الرأسماليين دون منافسة من طبقة طفيلية أرستقراطية، لا تستطيع البرجوازية ان تحيا دون قمع الطبقات المُستغلة بواسطة جهاز الدولة العريق ولهذا فهى أبدا لم تطالب إلا بأقل تغيير ممكن فى هيكل هذا الجهاز يلائم توازن القوى الجديد.

ومن ناحية أخري كان على البرجوازية أن تجد لها أشكالا للنتظيم السياسى وتكسب لصفها قواعد اجتماعية تقف معها علي نفس الارضية الاقتصادية والسياسية فساعدها على ذلك موجة الحراك السياسي التي اجتاحت جماهير الطبقة الوسطى والجماهير الشعبية التى أتاح لها المناخ الثورى أن تعقد اجتماعات ولقاءات سياسية في الأماكن العامة وعدد من الصحف السياسية الناطقة بلسان حال النخب السياسية البرجوازية كما ظرت صحف تنحاز للطبقات الشعبية مثل (صديق الشعب ) لمارا، وبدأت التيارات السياسية تتبلور خلال النوادى السياسية التي أسسها القيادات السياسية البرجوازية لتنتشر بسرعة في المدن كمراكز لمناقشة التطورات السياسية والقاء الخطب ووقراءة الصحف والمنشورات والتشاور والتصويت على القرارات والمواقف، وقد لعبت هذه النوادى دور اشكال أولية للتنظيمات السياسية فهى منابر لنشر الأيديولوجيا البرجوازية ولحشد الجماهير في المعارك المختلفة، ولم تتقتصر عضوية هذه النوادى علي أثرياء البرجوازية وحسب بل أن بعض النوادي لم تشترط إلا اشتراكات زهيدة مما أتاح لشرائح كبيرة من الجماهير الشعبية المتعطشة للمشاركة الانضمام لعضويتها مثل نادى الكودليية الذي أسسه (دانتون) وأفرز فيما بعد حزب الجبل. ومن هذه النوادي أيضا نادي (اليعاقبة) والذي ترأسه روبسيبير ولعب دورا قياديا وجذريا فى أعوام الثورة، ونواد أخرى أقل أهمية سياسيا واجتماعيا مثل نادى (الفوريان) والذي وضع شروطا لعضويته تستبعد أبناء الشعب من الانضمام، وغيرها.

من جهة أخرى بدأت تزداد مقاومة الطبقة الحاكمة لمطالب الإصلاحية الجذرية ونحت خلافاتها الداخلية جانبا بعد ان احست بالخطر الذي يهدد مصالحها كطبقة حاكمة فى ظل الانتفاضات الشعبية المشتعلة فى انحاء فرنسا وبالأخص الحرب الفلاحية الدائرة يوميا في القري حيث تتعرض أملاكها التاريخية للاستيلاء عليها يوميا بواسطة الفلاحين وحيث يرفض الأخيرون دفع الايجارات ، وهكذا دفع الملك بالاف من القوات العسكرية لتحاصر فرساى بعيد اقالته (نيكر) لاعادة فرض النظام وحل المجلس.

لكن رد الفعل كان سريعا وقويا، فلم تكد الجماهير الشعبية والسان كيلوت تستشعر بداية الهجمة الارسقراطية الدموية حتي عمت حالة استنفار قصوى جماهير المدينة وأخذوا يسلحون أنفسهم بكل أنواع السلاح المتاحة لهم وأنبرت ورش الحدادة تصنع الاف المناجل والمحاليش وتوزعها على سكان المدينة وحمل بعضهم بنادق الصيد ونصبت المتاريس علي الطرق، ولم تنجح فرق الجيش في احكام السيطرة علي المدينة. لكن المقاومة لم تقف عند حدود رد الفعل الدفاعي فبعد اخفاق المحاولة الأولى لقمع الثورة بأيام قليلة خرجت مظاهرة شعبية كبيرة وتوجهت إلى حصن الباستيل – رمز القمع الاستقراطى والذى كان في هذا الوقت واحدا من أبشع السجون في التاريخ حوى بين جدرانه عددا مهولا من سجناء الرأي ومعارضى النظام والمنبوذين- وبعد معركة طاحنة استغرقت ثلاث ساعات بين حرس القلعة السويسري المسلح بالبنادق والمتظاهرين المسلحين بأسلحة بدائية سقط فيها ما يقرب من 83 قتيلا استسلم حرس القلعة وسلم قائد حرس الباستيل القلعة للحشود بعد أن هددت بدك القلعة بواسطة مدفع انتزعته من أحد القصور.

كان اقتحام الباستيل انتصارا كبيرا للارادة الثورية، واثبت بما لا يسمح بالشك قدرة الجماهير الشعبية على حسم المعارك الثورية والتصدى الثورة المضادة والتى تعجز البرجوازية الكبيرة عن مواجهتها بسبب من حرصها وترددها النابعين من الأسلوب الذي ترعى به مصالحها المادية كطبقة. وهكذا سنجد عددا من أهم الجولات علي امتداد الثورة خاضتها حشود الفقراء علي الارض بقيادات منها أفرزتها المعارك نفسها وقدمت لها النوادي السياسية والصحف الثورية للبرجوازية الراديكالية أيديولوجيا ثورية وأشكالا تنظيمية قاعدية لها. وهكذا كانت الجولات الأولي من الثورة عفوية بشكل أو باخر، الا أن العملية الثورية أفرزت من قلب استقطابات القوى السياسية وتفاعلها مع تجذر الحركة الاجتماعية وتحديات الثورة المضادة حزبها الثورى الذى كان على أقصى يسار البرجوازية والذى نجح في أداء دورالقيادة السياسية الثورية الحاسمة للجماهير الشعبية فى ذروة المعركة بين قوى الثورة والثورة المضادة.

كانت الجماهير قد سئمت بؤسها ورأت أن لا سبيل إلى تحمل بقاء العلاقات الاجتماعية القائمة، وأصبحت تري في كبار الملاك والمحتكرين سببا في بؤسها وشقائها و سببا فى غلاء الأسعار والبطالة وتناقلت الانباء عن احتكارات للسلع الغذائية هنا ومؤامرات هناك تترصد بها هذة الطبقات الممتازة لجموع الشعب من الفقراء والعاطلين.

لم تكد تمر بضعة أيام على أقتحام الباستيل، حتى قاد عدد من النساء من أفقر أحياء باريس مسيرة كبيرة إلى فرساى التى كانت قد انتقلت اليها العائلة الملكية مؤخرا، وتقدمت النساء ما يقرب من 20000 من الرجال المسلحين وحاصرت المسيرة القصر الملكي بل واقتحمته مطالبة بعودة الملك معهم إلى باريس، وبالفعل نجحت الحشود بعد التفاوض مع حرس القصر فى اخراج الملك وارجاعه إلى باريس ليظل تحت سمع الشعب وبصره.

بالطبع لم تسع هؤلاء النسوة الفقيرات للاطاحة بالملكية في هذة المرحلة من الثورة، فقد كان أمام الجماهير معارك دموية وطريق من الالام عليها أن تسيرة قبل أن تدرك ضرورة إسقاط الملكية وتحققها.

و من أهم مكاسب هذه الموجة الثورية :

1- انتزاع المجلس قرارا بالغاء الامتيازات الإقطاعية – وان كان الغاءا شكليا فقط – واعلان حقوق الانسان والمواطن.

2- شكلت البرجوازية أول جهاز مسلح لها – الحرس الوطنى- من متطوعى الطبقة الوسطي.

لا شك أن المجلس الوطنى فى ذلك الوقت حقق مكاسب كبيرة من وراء هذا النضال الشعبى، لكن نوابه من البرجوازية والملكيين الدستوريين بزعامة (لافييت) رئيس المجلس انذاك، كانوا حريصين علي توجيه هذه المكاسب بالأساس الي طبقتهم وحدها. وهكذا نجد أن اعلان حقوق الانسان والمواطن رغم اقراره بالمساواة الطبيعية بين البشر الا أنه يعود ويؤكد علي حرية التملك بلاقيد. وفي قرارات الغاء الامتيازات الإقطاعية شروطا تفرغها من أى مضمون لضمان عدم المساس بملكيات البرجوازية الكبيرة ،كما ضمن المجلس للملك حق الرفض الفيتو علي قراراته، كذلك فقد قصر المجلس حق التصويت وحق حمل السلاح علي أصحاب الاملاك ودافعى الضرائب من المواطنين، وكل هذا في الوقت الذى تضع فية البرجوازية أسسا جديدة لدولتها التى تدعى تساميها علي الطبقات وتمثيلها للمصلحة العامة في مقابل مصالح الافراد والجماعات المتضاربة.

الحرب الطبقية والحرب الثورية

أصابت هذه الموجة الثورية الأرستقراطية في مقتل، فبدأت تعيد تنظيم صفوفها، فى الداخل والخارج بمساعدة النبلاء الفرنسيين الذين هاجروا للخارج حاملين معهم كل ما استطاعوا حمله من الثروات، وبدأت تحيك المؤامرات والمخططات مع أعوانها في الداخل، وعلي رأسهم المللك وزجته اللذان راسلا سرا ملوك أوروبا الأرستقراطية لدفعهم للحرب ضد فرنسا الثورية واعادة الأمور إلى نصابها قبل أن تتنتشر عدوى الثورة فى كل أوروبا.

رغم أن قرارات المجلس لم تمس الأوضاع الأقتصادية المتردية وغلاء أسعار السلع الأساسية، تلقف الفلاحون والفقراء في الريف قرارات الغاء الإقطاعية وبدأوا فى تفعيلها بشكل ملموس، وانفجرت انتفاضات فلاحية كبيرة في صيف 1789 عرفت فيما بعد ب (الخوف الكبير)، حركتها مشاعر الخوف والدفاع لدي الفلاحين ضد أى اعتداء من النبلاء، اندفع القرويون يقتحمون قصور النبلاء ويحرقون عقود ملكيتهم وسندات امتيازاتهم الإقطاعية. أما فى المدن فكثرت عمليات نهب مخازن السلع ومصادرتها لصالح الشعب، وتحرك الحرس الوطنى محاولا قمع هذه الانتفاضات واستيعابها.

لاشك أن هذه الاحداث استقطبت القوى الاسياسية والاجتماعية داخل المجلس وخارجه ، فقد وقف الملكيون الدستوريون الذين سيطروا علي المجلس حتى ذلك الوقت صراحة أمام ديمومة الثورة التى اعتبروها فوضي لابد أن تجابه بحسم، لكن الحادثة التي انهت هيمنة هذا المناخ التوفيقى داخل المجلس جاءت أيضا هذه المرة من طرف الثورة المضادة، فقد حاول لويس السادس عشر الهروب متنكرا ليلا من باريس فى يونيو 1791 ليلتحق بجيوس النمسا المحتشدة علي الحدود الشمالية لفرنسا لكن أمره ينكشف وقبضت عليه القوات المحلية لتسوقه لباريس في موكب شبهه المؤرخون بجنازة للملكية الفرنسية.

لا غرو أن هرولت أغلبية المجلس تشيع أكذوبة عن اختطاف الملك من قبل جهات أجنبية، فقد اعلنت بصراحة أن الحصانة الملكية لابد أن لا تمس، لأن المساس بها يعنى المساس بحرمة الملكية الخاصة، وأقر المجلس بعيد هذه الحادثة عددا من القوانين والمراسيم القمعية، منها فرض الرقابة على الصحف ومصادرة عددا من الصحف الثورية، كما أقر قانون (لوشابيليه) الذى يجرم تشكيل أى تنظيم نقابى أو سياسى للعمال كما يجرم الاضرابات العمالية.

و فى مذبحة ميدان (الشام دو مارس) فتح الحرس الوطنى النار علي تظاهرة حاشدة قادها حزب (الجبل) طالبت بمحاكمة الملك واعلان الجمهورية. لكن كل هذه الاجراءات القمعية من قبل البرجوازية الاصلاحية التي خشيت من تدخل أكبرللجماهير فى الصراع وخشيت أكثر من مطالبها التي تتجاوز بمراحل سقف مصالح البرجوازية لم تنجح فى كبح قوى الدفع الثوريه بين صفوف السان كيلوت والعمال والحرفيين والفلاحين التي مازال أمامها وقتا كبيرا حتى تستنفد.

فمن ناحية لم يحدث أى تحسن فى الأزمة بل عم الجوع والفقر وارتفعت معدلات البطالة وبينما أحجم المجلس عن اتخاذ خطوات حقيقية لوقف الممارسات الاحتكارية أو نزع ملكية النبلاء ومصادرة ثرواتهم، تسارعت وتيرة التسييس والتجذر وسط جماهير الفقراء والسان كيلوت التى بدات في تنظيم صفوفها عن طريق النوادي السياسية الراديكالية ومن خلال اللقاءات والمؤتمرات الشعبية في الأقسام الباريسية. ومن هذه الخلايا الثورية انطلقت انتفضات الفقراء فى يناير وفبراير 1792ونجحت فى اجبار عدد التجار على خفض أسعار الحبوب. وتشكلت للمرة الأولي منظمة نسائية ثورية تزعمتها الممثلة السابقة (كلير لاكومب) وضمت عددا من النساء الفقيرات في باريس.

أما حزب الملكيين الدستوريين فقد تحلل سريعا فى الصراع بين الثورة المضادة والشعب الثائر بعد أن أدرك الأخير أن الملكية ليست الا حارسا لشبكة مصالح النبلاء والبرجوازية الكبيرة، وأن لويس هو أكبر قادة الثورة المضادة. وجاء دور حزب (الجيروند) ليمثل مصالح التجار المحليين الليبرلليين من الطبقة الوسطى بعد أن خلت له الساحة من خصومه من أتباع لافييت من الملكيين الدستوريين، وسعيا منهم لكسب شعبية فى المجلس والشارع حرض الجيروند على اعلان الحرب علي جيوش الثورة المضادة، ولم يكن هذا الموقف بالطبع نابعا من حرص هولاء التجار علي المكاسب الشعبية للثورة بقدر ما كان نابعا من خوفهم على مصالحهم، على الليبرالية الاقتصادية وحرية السوق إذا عاد النبلاء لفرض سيطرتهم، والأهم أن الأوضاع على الجبة كانت قد دخلت فى منعطف خطير يفرض علي الممثلين السياسين للبرجوازية التدخل، كان رفع نواب الجيروند شعار الحرب الثورية – الذى أيده المجلس معلنا دخول فرنسا الحرب ضد التحالف فى أبريل من عام 1792- رد فعل سياسى، لا فعل. ولن نعجب أن الملك كان من أشد المحرضين على الحرب إذا عرفنا أنه كان يأمل فى هزيمة الثورة سريعا بمساعدة حلفائه واستعادة عرشة بكل سلطاته المطلقة.

كانت جيوش تحالف الثورة المضادة الأول (النمسا وبروسيا) تحقق انتصارات متتالية على جيش فرنسا نتيجة ضعفه وخيانة قادته الملكيين، وكان لزاما علي القوى الثورية أن تبنى بسرعة جيشا قوميا ثوريا قويا، ومرة أخرى أخذت جماهير الطبقات الشعبية المبادرة الثورية، ومرة أخرى أدت موجة الثورة المضادة إلى موجة ثورية جديدة، وبدأت نوبة جديدة من غليان اجتماعى كبير يتناسب وحجم دفاع الجماهير الشعبية علي المكاسب التى انتزعتها فى العامين الماضيين، والأهم خوفها من الانتقام الدموى الذى ينتظرها إذا نجحت الثورة المضادة. وأدركت أحزاب البرجوازية الراديكالية (اليعاقبة) و(الجبل) أن الحل الوحيد لوقف الخطر هو الاستعانه بجماهير الثورة فى المدن القرى، وعلت أصوات دانتون وروبسيبيير تستنفر أبناء الشعب الذين لا أملاك لهم والسان كيلوت الذين توافدوا أفواجا من الأقسام الباريسية والمدن الاخري والقرى طالبين حمل السلاح والسماح لهم بالتطوع فى الجيِش.

ازدواجية السلطة

وفي العاشر من أغسطس عام 1792 قادت النوادى اليعقوبية والأقسام الباريسية عشرات الآلاف من السان كيلوت والجمهوريين واقتحمت بهم قصر التوليرية، وأوقفت الملك وعائلته، بعد معركة سقط فيها نحو1000 فرنسى، وفرض القوى الشعبية الثورية سيطرتها على باريس بالكامل وأصبحت السلطة الآن للكومونة المنتخبة من الأقسام الباريسية بالاقتراع الحر العام التى أجبرت المجلس على اعلان إسقاط الملكية ،الاعتراف بسلطة الكومونة ، و انتخاب جمعية تشريعية جديدة بالاقتراع العام لكل الذكور دون تمييز على أساس الملكية أو دفع الضرائب.

و اصبح المشهد السياسى الباريسى مركبا، فالسلطة السياسية بعد انتفاضة اغسطس أصبحت مقسمة بين كومونة باريس المنتخبة مباشرة من جماهير باريس الثائرة وللفقراء حق التصويت والترشح فيها، والتى يمثل اليعاقبة والجبل جزءا كبيرا من قوته السياسية والتى منحت مندوبيها ولجانها الثورية التى شكلتها تنفيذ قرارتها فى كل أرجاء فرنسا بقوة الجمهورية والكومونة، أكثر أشكال الديمقراطية القاعدية جذرية ومباشرة حتى ذلك التاريخ. ومن ناحية أخرى الجمعية التشريعية التى يطغى عليها الصوت السياسى للجيروند المحافظين المعتدلين الذين أصبحوا يخشون الجماهير أكثرمما يخشون الثورة المضادة. وغير بعيد على الجبهة تتقدم قوات التحلف حثيثا نحو باريس بفضل خيانة عدد من القادة والمؤامرات التى يحيكها الملكيون حتى فى سجونهم تحت حراسة ضعيفة.

وبينما وقف الجيروند عاجزين أمام المذابح علي الجبهة والمؤامرات الداخلية لتجويع الشعب وخنق الثورة، لم يكن أمام الجماهير الا أن تتولى زمام المبادره، فقامت الميليشيا ثورية بالقبض علي عدد كبير من مؤيدى الملكية كما قامت باعدام عدد من المسجونين الملكيين المتامرين فيما عرف فيما بعد ب(مذابح سبتمبر)، والتى اعتاد المؤرخون البرجوازيون على تضخيمها وربطها بخطورة الغوغاء والفقراء الدمويين والتخويف من الثورة عامة. لكن الرجوع إلى حقيقة الاحداث يكشف أان الثوار لم يستخدموا القتل الا فى أضيق الحدود وعندما كان التسهل مع رعاة الثورة المضادة مذابح أكبربمراحل لأبناء الشعب على أيدى الأرستقراطيين.

واضطرت الجمعية الجديدة فى البداية تحت ضغط الكومونة للاستجابة لمطالب الشعب بالغاء كل مظاهر الاقطاع تماما وتمليك الأراضى للفلاحين الذين يزرعونها، وقف أى نفقات للدولة علي الكنيسة وفصلها عن أى دور سياسى، والاهم من هذا وذلك السماح للجنود من النظاميين والمتطوعين بانتخاب ضباطم، ادى هذا إلى هدم التراتبية القديمة فى الجيش وبناء جيش ثورى من الفلاحين والعمال المدافعين عن الثورة والذين مع كونهم اسوأ تسليحا وتدريبا من نظرائهم النظاميين الا أننا لاننسى الدرس التاريخيى المهم ان الانتصار فى المعارك لايحسم بحساب الامكانات العسكرية الالية عند الطرفين وحسب بل هناك عدة عوامل سياسية وتاريخية مركبة ترجح كفة النصر لأحد الطرفين على الاخر. فالجنود والضباط مثلا أكثر التزاما واخلاصا للضباط والقادة الذين ينتخبونهم لولائهم للثورة من الضباط المفروضين عليهم والذين تفصلهم عنهم مسافة اجتماعية وسياسية كبيرة. كما أن سياسة اقتصاد الحرب الموجه التى نفذتها لجنة السلامة العامة فيما بعد دعمت بشدة الموقف العسكرى لجيش الثورة الفرنسية.

وبتوالي مؤامرات الثورة المضادة والهزائم علي الجبهة وخيانة القادة العسكريين من جهة ، وتسارع الثورة المضادة فى الداخل مع اندلاع تمرد معادى للثورة حرض عليه النبلاء فى (فانده) لعبت الكنيسة دورا تحريضيا فيه وسط الفلاحين الذين طحنتهم الازمة والذين كانوا منعزلين بدرجة كبيرة فى ريف غرب فرنسا عن روح الثورة ومعاركها في الحواضر الكبرى، فاستغل النبلاء الوضع وبدأ رجال الدين يستخدمون الخطاب الديني الذى له الغلبة والتأثير السريع على نفوس الفلاحين بسبب الاوضاع المتخلفة التى عاش فيها القرويون من قرون، والذين كانت خسائرهم تزداد يوميا بسبب الفساد والاحتكار الذى لم تكن الثورة قد حدت منه بعد، مما أدى بكثيير منهم إلى الهروب من التجنيد وبخاصة بعد أن نجح قادة الثورة المضادة ورجال الدين فى اشاعة رأى يعزو كل الشرور للثورة.

أعدم الملك فى 21 يناير 1793، وأعلنت فرنسا الحرب علي بريطانيا وهولندا فى فبراير وفى نفس الشهر انفجرت انتفاضات شعبية فى باريس مطالبة بالخبز.

نهاية التيار الاصلاحى

كان الجيروند عاجزين عن مواجهة هذه التحديات الكبيرة، فقد كانوا من نمط السياسيين الليبراليين الذين يخشون أكثر ما يخشون سلطة الجماهير وقوتها باعتبارها (فوضى) ويحذرون من خطر(الغوغاء)، قاوم الجيروند حتى النهاية محاكمة الملك واعدامه وطالبوا باستفتاء الفرنسيين كلهم على مسألة الأعدام لكن اليعاقبة بدعم من أقسام باريس رفضا هذا الاستفتاء رفضا قاطعا واعدم لويس السادس عشر بعد محاكمة ثورية 21يناير عام 1793 ، حاول الجيروند من داخل الجمعية التشريعية تقويض سلطة الكومونة وصوتوا بالرفض لمطالب لجنة السلامة العامة المنبثقة عن الأخيرة والمنوط بها ادارة الاقتصاد الحربى بوضع حد أقصى للأسعار والسيطرة على مصادر الحبوب لمنع الاحتكارات وتجريم السوق السوداء وفرض الارهاب الثورى ضد فلول النظام. بالرغم من هذا فرضت لجنة السلامة العامة حدا أقصى لأسعار الخبز.

لكن هذا الضعط من جانب اليعاقبة الذين كانت لهم الغلبة فى لجنة السلامة العامة ومن جانب الجماهير المطالبة بسيطرة الدولة على السوق، قابله الجيروند بموجة قمع سياسي، فألقى القبض على (هيبيرت) صاحب جريدة (بيير دوشين) وقدم (مارات) للمحاكمة بتهمة اشاعة الفوضى والتحريض على مذابح سبتمبر.
كانت حالة ازدواجية السلطة هذه، ككل حالات ازدواجية السلطة فى تاريخ الثورات، غير مستقرة وغير قابلة للاستمرار، فلابد فى النهاية أن يحسم أحد الاطراف مسألة السلطة بكامها لصالحة. واشتداد الأزمات وعجز احد الطرفين عن بدئ تفعيل حلول ثورية لها يعجلان بهذا الحسم لصالح الطرف الآخر عندما يقدم على تقديم الحلول الثورية التى تتجاوب مع نضال الطليعة الثورية وجماهير الثورة.

وبالفعل حان الوقت الذى لابد للراديكالية الثورية الممثلة فى اليعاقبة بزعامة (روبسيبيير) أن تتجاوز تردد وجبن البرجوازية الكبيرة وأن تفرض سلطتها وتقود وراءها جماهير الثورة فى المدن والقرى فى معركة حياة أو موت مع الثورة المضادة الداخلية والخارجية.

فى 27 مايو انتفضت جماهير اقسام كومونة باريس بدعوة من النوادى اليعقوبية، وفى يوم 2 يونيو حاصر الجمعية 800,000 من الثوار الشعبيين المسلحين، يحملون أمرا من الكومونة بتوقيف 29 نائبا جيرونديا، وهكذا نجحت الاتنتفاضة الشعبية المسلحة فى فرض ديكتاتورية السلامة العامة اليعقوبية.

الاأن الدور السياسى للجيروند لم ينته عند هذا الحد، فقد تحالفوا مع الأرستقراطيين فى الاقاليم، واستخدموا شبكة مصالحهم الاقتصادية والعسكرية لخنق الثورة والزود عن مصالج البرجوازية الكبيرة فى مواجهة ديكتاتورية البرجوازية الصغيرة الثورية (اليعقوبية).

وصل الصراع الطبقى إلى ذروته، فالعاصمة تغلي بوقود الثورة تشعله الجماهير والمطالبة باجراءات قصوى وبتطبيق الارهاب الثورى ضد فلول النظام القديم وأصبحت مسألة منح صلاحيات مطلقة للجنة السلامة العامة أمرا ضروريا، وعلي الطرف المقابل ينمو سرطان الثورة المضادة الملكية الجيروندية فى الفانده وفى أقاليم الجنوب والغرب مما سمح للبحرية البريطانية بالتقدم نحو السواحل الفرنسية.

و كانت على لجنة السلامة العامة مسؤلية الادارة السياسية والاقتصادية للحرب إضافة إلى التطهير وتفعيل الإرهاب الثورى الذى بادرت به الجماهير الثورية.

ولانجاز هاتين المهمتين العاجلتين، أقر اليعاقبة عددا من القوانين والمراسيم بعد إقرار دستور جديد فى 27 يونيو 1793 له بعد اجتماعى وثورى يتفق وأفكار اليعاقبة المستوحاة من كتابات روسو، واتفقت القوى الشعبية الثورية على ضرورة ضمان تثبيت اللجنة وعدم تجديد انتخابها إلا بعد النصر.

لتمويل الحرب أصدر اليعاقبة قانون الحد الأقصى للأسعار، وقانونا لتجريم الاحتكار، وفرضت ضرائب تصاعدية، كما صودرت الأراضى والاملاك الخاصة بالنبلاء المهاجرين، كما أممت قطاعات إنتاجية واسعة، وأسست صناعات حربية متطورة، إجمالا أدرت الدولة اقتصادا موجها بدرجة كبيرة، ونقول بدرجة كبيرة، لان معظم هذه الاجراءات كانت محدودة الأثر، كما أعطى اليعاقبة قدرا من السماحية للتبادل التجارى الخارجى ، و للسوق السوداء، ارضاءا لصغار الفلاحين والتجار الذين استاءوا من قانون الحد الأقصى، والذين تربطهم بهم علاقات اقتصادية واجتماعية وطيدة.

و على المحور العسكري الغيت الفوارق بين النظاميين والمتطوعين وأقر نظام انتخاب الضباط، كما صدر قانون يقر التجنيد العام الالزامى لكل العازبين الائقين من سن 18 لـ25 دون تقيد بشروط أخرى كالملكية أو غيرها.

وعلى المحور التطهيرى والمؤسسى : تكونت لجان حماية الثورة من السان كيلوت والثوار الشعبيين ومنحتها الجكومة اليعقوبية سلطة التصرف لقمع الثورة المضادة ومؤيديها فى الاقاليم وتفعيل الارهاب الثورى فى مواجهة المؤامرات الدموية للملكيين والجيروند. كما بدأت الحكومة الثورية فى عزل الجيروند واتباعهم من كل المناصب الحكومية.

لكن حقبة الارهاب الثورى لم تبدأ فعليا الا بضغط من القوى الشعبية فى الاقسام والنوادى الباريسية التى خرجت في مظاهرات حاشدة يومى الرابع والخامس من سبتمبر مطالبة بتقنين الارهاب الثورى وتفعيله فورا لحماية الثورة، وساعد فى التحريض على هذا الارهاب عدد من الكتاب الثوريين المنحازين للطبقات الشعبية مثل هيبيرت، والقس جاك رو الذى جمع حوله مجموعات من السان كيلوت وأسموا أنفسهم (الحاقدين)، وبالفعل صدر فى 11 سبتمبر قانون المشتبه فيهم إلى يمنح مندوبى لجنة السلامة واللجان الثورية سلطة المحاكمة العاجلة والثورية للمشتبة فى تورطهم مؤامرات الثورة المضادة وتفيذها فورا إذا ثبتت الإدانة.

يروق للمؤرخين البرجوازيين تصوير حقبة الارهاب الثورى على أنها تجسيد للهمجية والتعطش للدم الذى يميز الجماهير الشعبية العاشقة للمقصلة، لكن الحقيقة أن هذه النظرة تزييف بين، ففى ظروف الحرب الاهلية كان تنفيذ احكام الاعدام أبعد ما يكون عن كونه عملا انتقاميا. فبعد أن أطلق سراح نواب الجيروند لم يضيعوا ساعة واحدة من أجل التآمر على الثورة ودعم قوات التحالف الثانى، ويوميا ترد الاخبارعن ذبح الجنود والثوار الفرنسيين على الجبهة. لقد كان عدد الفرنسيين المعرضين للانتقام والتصفية من الثورة المضادة أضعاف من نفذ فيهم حكم الاعدام بواسطة المحاكم الثورية، وقد أثبت الارهاب الثورى أنه وسيله ناجحة لاحباط مؤامرات كثيرة كان سيسقط فيها عدد كبير من الفقراء.

أما هؤلاء المنظرين البرجوازيين فيروق لهم كتابة البكائيات والمراثى على حفنة من الامراء والملوك والسادة المستغلين، أما عندما يذكر الاف الضحايا من العمال والفقراء الذين يموتون جوعا ويقتلون فى الحروب الثورية بل وحتى فى فترات الهدوء من حكم هؤلاء السادة، لا تسمع لهم صوتا.