بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خبرات ثورية

الثورة الفرنسية الكبرى: معين لا ينضب

الجزء الأول من الثورة الفرنسية الكبرى: التحليل الطبقي للمجتمع الفرنسي ومقدمات الثورة

إذا سلمنا أن الثورة هي الساحة التي تتصارع فيها الطبقات من أجل الاستيلاء علي السلطة، وأن اكتمال الثورات لا يتحقق إلا باستمرارها حتي تحقق الطبقة الثورية سيطرتها الكاملة علي النظام السياسي والاجتماعي، لعرفنا لماذا لا تزال الثورة الفرنسية الكبري ( 1789- 1799) تتنسم ذروة عليا في تاريخ النضال الاجتماعي للشعوب. وإلى أى مدى سيكون فهمنا لأى من الثورات التي عايشها البشر في القرنين الماضيين أو هذه التي نشارك بأنفسنا في صناعتها الان منقوصا ما لم نضع تاريخ الثورات الكبري (قاطرات التاريخ) كما أسماها ماركس، و في مقدمتها الثورة الفرنسية بكل انعطافاتها وحركتها الداخلية والخارجية وصيرورتها نصب أعيننا دائما.

صحيح أن الصراع الطبقي المحوري في فرنسا الملكية كان أصلا بين طبقة النبلاء والطبقة البرجوازية الصاعدة والتي كانت تستطيع شريحة منها في ذلك الوقت أن تلعب دورا ثوريا وان تقود النضال الاجتماعي ضد طبقة النبلاء والنظام الاقطاعي برمته نتيجة لظروف الصراعات الداخلية والخرجية التى حكمت مسار الثورة وهو الدور الي كفت البرجوازية- بسبب من الشروط المادية لتطورها – عن أدائة منذ قرابة قرن ونصف القرن من تاريخ الشعوب تحت حكم الرأسمالية.

في حين أن الثورات والانتفاضات التي يشهدها العالم الآن إنما حفزهتا أساسا أزمة النظام الرأسمالي العالمي الأخيرة والتي كشفت بشاعة الليبرالية الجديدة وحركت قطاعات اجتماعية كبيرة من الطبقة العاملة والطبقة الوسطي ضد انحطاط الطبقة البرجوازية العالمية وأسلوب إنتاجها الرأسمالي.

ومع كل ما سبق، فان تتبع مسار الثورة الفرنسية بعناية ما زال يطرح خبرات هامة عن تفاعل القوى وصراعاتها فى وقت الأزمات الثورية وقبل الثورية وعن مظاهر ووسائل النضال الطبقي والاشكال والمصائر المختلفة التى لهذا النضال وكيف تتفاعل وتتشكل وفقا للضرورات المادية التاريخية التى يفرضها تطور قوى الإنتاج الاجتماعية فى عصر معين، أن أهم درس فى دراسة أى من الثورات هو الفهم الحى للمادية الجدلية .

وليس فى وسعنا هنا إلا أن نعرض بإيجاز لأهم اللحظات فى مجمل هذه الحركة، آملين أن يحفز هذا العرض الرفاق والرفيقات إلى العودة إلى الدراسات والمراجع التى تناولت بالبحث التفصيلى مقدمات هذه الثورة وأحداثها ونتائجها.

أزمة النظام القديم

كان النظام الاجتماعي في فرنسا القديمة يقوم علي تنظيم الإنتاج الزراعي وما يعنيه هذا من علاقات إنتاج اجتماعية بين الأفراد تتحدد علي أساس ملكية الأرض كوسيلة للإنتاج والريع العقاري كمصدر للربح أساسيين، وتتحدد علي هذا الأساس الطبقة الحاكمة أو المستغلة (الأرستقراطية) والتي تسيطر علي الأراضى وعائداتها وعلي الناحية الأخري الطبقات المستغلة – السواد الأعظم من الشعب من الفلاحين والأجراء الزراعيين الذين يفلحون هذه الأرض لصالح الأولي. وتظهرنا دراسة البنية الطبقية للمجتمع الفرنسي قبيل الثورة علي مدي التناقضات الاجتماعية الصارخة التى كان تقوم عليها كل البنية الفوقية للنظام القديم والذي كانت تكفي أزمة من أزماته الاقتصادية تصعد خلالها طبقة جديدة منسجمة المصالح ومنظمة بعض التنظيم لتبدأ في تهديم الأجزاء الزائدة والضارة من هذه البنية القديمة بالكامل بما يلائم التطور الذي أحدثته الطفرة الكبري في قوي الإنتاج الاجتماعية لصالح الطبقة البرجوازية الصاعدة.

كانت طبقة النبلاء تتربع علي رأس النظام القديم وهي وريثة طبقة امراء و فرسان العصور الوسطي والتي كانت قديما تستمد حقها في الحكم من كونها الطبقة المحاربة والحامية وفي مقابل هذا تتمتع بسلطة حكم مطلقة علي أراضي المملكة واقطاعياتها. إلا أن تناحراتها الداخلية وتزايد نفوذ الدولة المركزية مكن الأسر المالكة في فرنسا ابان القرنين السادس عشر والسابع عشر من فرض سطوتها الكاملة علي القوة العسكرية والسياسية في كل أرجاء المملكة، واصبح الملك هو الحاكم المطلق، بالأمر الإلهي، وبصلاحيات شبه مطلقة.

ورغم أن هذه الطبقة التي عرفت ب(نبلاء السيف) لم تعد تؤدي بعد ذلك أي دور نافع للملكة. الا أنها كانت تمثل سطوة الطبقة الحاكمة وسلطة الملك الموروثة عن الاباء والاجداد. ولهذا احتفظت بعدد كبير من الامتيازات الإقطاعية وحافظت علي نمط من حياة البذخ الشديد. وقد راكمت هذه الطبقة ثروات طائلة من وراء ريع أراضي المملكة والتي كانت بالكامل تحت تصرفها والضرائب والحقوق الإقطاعية وشبه الإقطاعية المباشرة وغير المباشرة التى تجبيها بقوة القانون والسوط من كدح جموع الفلاحين المعدمين. وهى في نفس الوقت معفاه من أي ضرائب أو التزامات أمام الدولة.

أما (نبلاء البلاط) فهم حاشية الملك الذين يعيشون في كنف العطايا الملكية ولا يقومون بأي عمل.

بينما النبلاء الذين اكتسبوا امتيازات الطبقة الأرستقراطية عن طريق شراء الوظائف الحكومية وبالأخص القضائية – والتي كانت قابلة للبيع في ذلك الوقت – فقد عرفوا ب (نبلاء الرداء). وقد فتح هذا البيع للوظائف الحكومية الباب للمطامح الطبقية لعدد محدود من كبار أثرياء البرجوازية.

و الي جانب طبقة النبلاء وعلي نفس مستواها يأتي الاكليروس من أساقفة ورؤساء الاديرة والذين كانوا يبسطون نفوذهم علي مساحات شاعة من الأراضي عن طريق الريوع والضرائب والأعشار والحقوق الكنسية ويتمتع أصحاب الدرجات الكبيرة منهم بثراء فاحش وويتلقون العطايا والمناصب من القصر ويعيشون حياة بذخ لا تختلف عن حياة النبلاء. وليس الاكليروس شيئا واحدا فكثير منهم وبالأخص من يعيشون في أديرة القرى والذين لم يكن حالهم بأحسن من حال الفلاحين المعدمين.

أما الطبقة البرجوازية فقد تكونت ونمت في كنف النظام القديم عبر قرون لعبت فيه الرأسمالية التجارية دورا هاما في نقل الثروة الاجتماعية واستحوذت علي القوة المادية في المجتمع. كما أصبح الجهاز الاداري للدولة يعتمد علي البرجوازية بدرجة كبيرة. ويمكن تصنيف البرجوازية اقتصاديا الي برجوازية كبيرة تضم كبار التجار وأصحاب المصارف وكبار المستثمرين العقاريين وبعض رجال الصناعة. وبرجوازية متوسطة وصغيرة وهي تعيش من التجارة ومن عائدات الملكيات الزراعية الصغيرة والمتوسطة ومن المهن العامة كالمحاماة والطب والصحافة وغيرها.

وكان وضع البرجوازية متناقضا قبيل الثورة : فمن ناحية كانت تسيطر علي مفاتيح القوة الاقتصادية لفرنسا، ومن ناحية أخري لا تتمتع بأي من الحقوق القانونية التي استأثر بها الأرستقراط.

لقد أسهمت الاكتشافات العلمية والصناعية وتطور طرق النقل ووسائل الاتصال (وسائل الإنتاج) و نمو التجارة مع انجلترا في نمو الصناعة في فرنسا وظهور برجوازية صناعية جديدة خرجت من عباءة البرجوازية التجارية التي اعتمدت لعقود طويلة علي الإنتاج الحرفي والمنزلي المرتبط بجذوره في الريف. وبدأت صناعات كبيرة في الظهور مثل صناعة الغزل والنسيج واستخراج الفحم الذي يصدر إلى انجلترا.

و رغم أن هذه التطورات وضعت الطبقة البرجوازية والأمة برمتها علي نقطة انطلاق لا رجوع منها إلا أن علاقات الإنتاج الاجتماعية في فرنسا ظلت أسيرة لنمط العلاقات الإقطاعية القديمة. وهكذا كانت الثورة البرجوازية ضرورة تاريخية بعد أن أصبحت بقايا علاقات الإنتاج الإقطاعية تعوق التطور المادي للأمة. ان ربح الرأسمالي يعتمد علي استغلال العمل المأجور للعمال الذين لايملكون أي وسيلة للإنتاج، وبعني آخر يعتمد علي فائض القيمة والذي يمكن الرأسمالي من مراكمة الثروات الاجتماعية وتوسيع رأس المال، كما أن الرأسمالية لا يمكن أن تحقق نموا سريعا الا بتوجية كل ثروات المجتمع لإنتاج واعادة إنتاج فائض القيمة، وهذان الشرطان لم يكن ممكنا تحققيقهما في ظل النظام القديم الذي يقوم علي قانون الريع الاقطاعي الذي يركز جل الثروة الاجتماعية بين أيدي قلة من الأرستقراطيين ينفقونها علي حياة البذخ الشديد ولايوظفون الجزء الأكبر منها في أي إنتاج اجتماعي حقيقي، ومن ناحية أخري فسيادة نمط الإنتاج السلعي البسيط (الإنتاج الصغير) والتي يمتلك فيها المنتج وسيلة إنتاجه – كما في المشاغل والمانيفاكتورات – ولايضطر لبيع قوة عملة عند الرأسمالي، أدي الي صغر حجم العمالة المأجورة وبالتلي تقليص امكانات تراكم موسع لفائض القيمة لدي الرأسمالي، وتكفي نظرة سريعة الي درجة نمو وتوطد الرأسمالية الصناعية بعد بضعة أعوام من انتهاء الثورة مقارنة بالوضع قبيل الثورة وفي بدايتها لكي ندرك المهام التاريخية الضخمة التي كان علي الثورة أن تنجزها .

كان يقوم علي الإنتاج الحرفي في المدينة شريحة اجتماعية كبيرة من العمال الحرفيين و(المعلمين) الذين مازالوا يرتبطون بوسائل الإنتاج التي يعملون عليها وبالنقابات الحرفية التى كانت تجمع أصحاب الصنعة الواحدة وكان ممنوعا علي أي فرد أن يمارس هذه الصنعة أو تلك دون إذن نقابتها. وكانت القوة الاقتصادية لهذة الشريحة الاجتماعية الكبيرة تعتمد بشكل كبير علي القيود والرسوم الجمركية الإقليمية والقومية التي تحد من المنافسة، ولا شك أن هذ القيود المحلية علي كانت عائقا أمام تطلعات البرجوازية الي اقتصاد السوق الذي يسمح بالتنافس ومراكمة الأرباح علي نطاق أوسع كما ظل نمط الإنتاج الحرفى والفلاحى الصغير منافسا للرأسمالية حتى تمكنت البرجوازية الكبيرة بطرق متعددة من القضاء على هذه المزاحمة من جانب الأنماط الاقتصادية القديمة لانطلاقة الإنتاج الرأسمالى الكبير.

كما زخرت المدن والقري بكتل بشرية هى الأبأس حالا من السان كيلوت (تسمية اصطلاحية بها نبرة من السخرية للذين لايجدون ما يرتدون من ملابس لائقة) والعاطلين والمشردين ومن الشحاذين واللصوص المعدمين، وقد كان لهذ الجموع دورا ثوريا هاما سنأتي إليه فيما بعد.

أما الغالبية الساحقة من الأمة فقد كانت من الفلاحين وهؤلاء لم يكونوا طبقة واحدة متجانسة المصالح ، فمنهم من كانوا أصحاب الملكيات الزراعية والذين مع ذلك كانت تثقل كواهلهم الضرائب والحقوق الإقطاعية وتجعلهم بدرجة كبيرة تحت رحمة تقلبات السوق وسوء المحاصيل.

أما الشريحة الأكبر من الفلاحين فكانت من المزارعين المستأجرين والذين كان عليهم دفع ايجارات والتزامات مالية أو حصص مباشر فى شكل نسب ثابتة من المحصول لكبار الملاك. أى الأرض حقيقة لم تكن ملكا لمن يفلحونها، فالديون وخطر الافلاس أشباح تظل تطارد الفلاح طوال حياته ويورثها لنسلة من بعده أكثر توحشا، كانت الغابية عائلات الفلاحين تعمل فى أراضيها مباشرة وقد تستعين بعدد من العمال الزراعيين الأبأس حالا والذين كان ينضم إلى صفوفهم باستمرار مزيد من الفلاحين الذين نزع الافلاس منهم أراضيهم وأصبح عليهم العمل كأجراء فى أراضى الغير.

هذا يعني أن حياة الفلاح في فرنسا ظلت صورة من حياة فلاحي العصور الوسطي وظل التخلف والجهل والفقر والمرض والمجاعة مرادفات لحياة القرية.

حتي الميزة الوحيدة التي تمتع بها الفلاحون وهي حق استخدام الأراضي المشاع، كانت عرضة للاعتداء المستمر من جانب كبار الملاك والنبلاء الذين عملوا علي تجزئتها وتحويلها الي ملكية خاصة علي غرار ما حدث في انجلترا.

هذه العوامل جميعا أدت إلى تجزئة كبيرة للملكيات الزراعية الصغيرة من ناحية وإلى تركيز كبير للأراضى الصالحة للزراعة بين يدى عدد متناقص من كبار الملاك من الناحية الأخرى .

و ترتب على هذا أمران :
1- انخفاض مطرد فى الإنتاجية الزراعية للأرض وعجزها عن أى تحديث لوسائل الإنتاج الزراعى.

2- بروز المسألة الفلاحية كمهمة رئيسية وأولى على أجندة أى ثورة مطروحة.

وكان للأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها فرنسا في العقد الاخير من القرن الثامن عشر دور الشرارة التي حفزت الانفجار الثوري. وترجع جذور الازمة الي فيض المحاصيل نهاية حكم لويس الخامس عشر الذى تسبب في انخفاض اسعار الكروم والذي كان يعتمد علي أرباحه قطاع كبير من المزارعين والذين بدورهم انخفضت قدرتهم الشرائية التي تمثل جزءا كبيرا من قدرة السوق. وهكذا بدأت معدلات الاجور الحقيقة في الانخفاض في الريف والمدينة مما أدى بالاجراء والفئات الشعبية إلى مجاعة حقيقية عندما حلت أزمة نقص المحصول عام 1787 ومع الارتفاع المطرد في أسعار الخبز والحبوب.

و قد عمق من الازمة اشتراك فرنسا في حرب السنوات السبع وحرب التحرير الامريكية ضد انجلترا، ثم الصلح ومعاهدة التبادل التجاري الحر مع انجلترا التى كانت تفوق فرنسا صناعيا بمراحل وهكذ فقد كانت المنافسة دائما لصالح رأس المال الانجليزي، مما أعاق بدرجة كبيرة تطور الصناعة الفرنسية.

وبدأت الازمة تفعل فعلها التاريخي المعتاد في زيادة درجة التوتر بين الطبقات وتأجيج حدة الصراع الطبقي حتى يطل الاخير بوجهة الحقيقي الذي طالما تحاول الطبقات الحاكمة اخفاءه أو تبريره بالأكاذيب.

وأخذ الغضب الشعبي يتصاعد في موجات متفرقة من التمرد اجتاحت المدن والقري الفرنسية، ولم يكن من سبيل أمام ملكية ال بوربون لتخفيف حدة الازمة وتجنب ثورة شعبية تطيح بالنظام الا أن تقدم علي اصلاح النظام الضريبي بما يعني تحميل الطبقة الأرستقراطية مزيدا من الضرائب، ولهذا الغرض كلف لويس السادس عشر عام 1786 (نيكر) الانجليزي مهمة وضع برنامج انقاذ اقتصادي.

غير أن الأرستقراطية لم تقبل بأي تنازل ورفضت كل اقتراحات نيكر، فاقدام الدولة على اصلاحات من هذا النوع استجابة لضغط الجماهير يعنى بداية النهاية بالنسبة لها، هذا ما أدركته الطبقة الأرستقراطية منذ البداية عن حق.

أما لويس فكان يأمل حتى ذلك الوقت فى انقاذ ملك ال بوربون بأقل قدر من التنازلات، الأمر الذى أدرك سريعا لا جدواه.

في سعيها للحد من السلطة لويس السادس عشر، دعت شريحة كبيرة من الأرستقراطية الي عقد مجلس للطبقات كالذى عرفته فرنسا عام 1614 تكون لها الغلبة فيه. لكن التاريخ لا يعيد نفسه. فلم يكد لويس السادس عشر يعلن موافقته علي دعوة مجلس الطبقات، حتي بدأت تتولد تحركات اجتماعية كبيرة لم تشهدها فرنسا من قبل. انعقدت الاجتماعات والمؤتمرات الشعبية في المدن والقري، وبدأت الجماهير تصوغ قوائم بمطالبها وتستمع الي برامج مرشحي الطبقة الثالثة والذين كان معظمهم محامين وخطباء مفوهين أمثال روبسبيير ودانتون. وبدأت تتبلور في باريس وغيرها من المدن حركة شعبية كان لها أكبر الأثر في دفع الثورة للأمام وحسم المعارك علي مدي أعوام الثورة.

وهكذا فقد انعقدت آمال الجماهير حول الطبقة الثالثة والدور الذي يمكن أن تؤديه في المجلس كممثل سياسى لها ومدافع عن حقوقها المنهوبة من طرف الأرستقراطية. ويبدو أن الجماهيرالشعبية في البداية كانت تطمح الي حياة جديدة تتعايش فيها مع البرجوازية في مجتمع وفرة دون مساس بالملكية.

لكن قوة دفع الازمة الثورية وتفاعل وعي الجماهير التى – لم تطلع على أى من كتابات المفكرين الثوريين الانجليز – معها تجاوزا هذه الرؤية في غضون بضعة أشهر.

لم يكن أمام الأرستقراطية في مواجهة احتدام الأزمة الاجتماعية وغياب قاعدة اجتماعية حقيقية لها الا أن تحاول ايقاف التغييرات الجذرية التي كانت فرنسا علي عتبتها وهكذا جهدت في تهميش البرجوازية سياسيا في المجلس واحباط كل تطلعاتها.

وعلي الجانب الاخر وجدت الطبقة الثالثة نفسها لأول مرة في وضع قوة سياسية، فانتفاضات الجماهير ضد استئثار الأرستقراطية بالثروات الاجتماعية وفسادها السياسي والاقتصادي وبالأخص أوقات المجاعة ، مكنت لها قاعدة اجتماعية بدات تنتظم بشكل أو باخر في المدن الكبري حيث أقيمت النوادي السياسية وانتشرت الصحف المتكلمة بلسان حال الطبقة الثالثة فانفتحت لها أفاق سياسية واجتماعية جديدة لم تكن تقدرها في البدء.

وهنا تكمن الجدلية الأساسية التي ظلت تحكم المواقف السياسية للطبقة الثالثة وتفرز قواها وجمعياتها السياسية، فالجماهير الشعبية والقروية المعدمة قد أدركت حقيقة أن الثراء الفاحش والاحتكارات والملكيات الكبيرة سببا مباشرا في بؤسها وهددت انتفاضات المدن والقري حق الملكية الخاصة (المقدس)، مما أثار لدى كبار الملاك البرجوازيين ذعرا كبيرا من هذه الانتفاضات التي تقودها الطبقات الدنيا وتطالب بالخبز والعدالة الاجتماعية ولا تعادي النبلاء وحسب بل تعادي الأثرياء سواء من الأرستقراط أو البرجوازية الكبيرة.

لكن الطبقة الثالثة من ناحية أخري تواجه خطر الثورة المضادة الأرستقراطية داخليا وخارجيا والتي تنذر بانتزاع كل مكاسب البرجوازية وعودة النظام القديم ، وقد أدركت الطبقة الثالثة أنها تحتاج الي هذه الطبقات الشعبية التي تندفع وحدها ببسالة لتوقف محاولات الثورة المضادة وتحسم المعارك الكبري علي المتاريس.

وها ظل هذا التناقض الذي أخذ يتعمق كلما تزيدادت قوة تدخل الجماهير الشعبية بمطالبها الاجتماعية في معارك الثورة واشتدت وطأة الأزمات الاقتصادية قاسما أساسيا يحكم المواقف السياسية للبرجوازية ويستقطب كتلها السياسية ويقسمها باستمرار حسب مصالحها المادية بين تلك التي ترضي بمواقف وسطية وتصالحية تعارض بها تمرد الجماهير وتريد أن توقف مد الثورة مثل (الجيروند )، بل وحتي تلك التي ترتد الي معسكر النظام القديم لقمع النضال الاجتماعي للحشود الفقيرة خشية علي مصالحها وممتلكاتها من هذه الأخيرة. وعلي الطرف الآخر القوي والشرائح التي تؤيد استمرار الثورة والتي كانت تتناقص باستمرار كلما تجذرت الثورة والتي أدت دورا هاما في ذروة الصراع الثوري كممثلة للبرجوازية الصغيرة الثورية (اليعاقبة).