بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خبرات ثورية

سلسلة تاريخ الثورات:

العراق 58 – 1963

* تم نشر المقال لأول مرة في 12 ديسمبر 2011 بالموقع الإلكتروني لمنظمة البديل الاشتراكي الأسترالية

للمرة الأولى منذ عقود تصبح الثورة على جدول الأعمال، والفضل يرجع للجماهير في العالم العربي. ولذلك فإن تطوير فهم للعملية الثورية، أمراً ضرورياً لأن تنتصر الثورة على التحديات التي تواجهها الآن.

لقد مرت المرحلة الأولى من الثورة، والآن يواجه الثوار مسألة كيفية هزيمة الثورة المضادة. ولذا يجب عليهم أن يكونوا قادرين على بناء جسور من الثقة السياسية بينهم وبين شرائح واسعة من العمال من أجل مواصلة النضال لتحقيق مطالبهم الخاصة، وبناء تنظيماتهم المستقلة.

ولكن، أياً من هذا لن يحدث مصادفةً. فالتحديات التي تواجهها الحركة الثورية في مصر حيث تحاول الثورة المضادة إحكام سيطرتها على البلاد، هي أمور ملحة للغاية. وحقيقة الأمر أنها مشكلات لطالما واجهها الثوار في كل مرة هبت فيها الشعوب لتتحدى حكامها ولتناضل من أجل عالم أفضل. وللعالم العربي تاريخ زاخر من التجارب الثورية التي يمكن الاستفادة منها.

في الواقع، أن أحد مهام مهام الثوار التعلم من النضالات السابقة واستخلاص أهم دروسها. بل أنها أيضاً وسيلة لتكريم شهداء تلك الثورات، فاستشهداهم لم يكن عبثاً ولم يذهب سدى في مواجهة الثورة المضادة. إن نضالاتهم ستحيا في الوقت الحاضر وستستمر إذا ما ساعدتنا تجاربهم وخبراتهم في إحراز الثورات العربية للنصر الكامل.

هذا لا يعني أنه علينا أن نستدعي قالباً نمطياً من التجارب السابقة وأن نحاول الإلتزام به حرفياً في الوقت الحاضر بحيث يقدم لنا الحلول لكافة المشكلات الملحة التي يواجهها الثوار الآن، فكل ثورة لها خصائصها التي تميزها عن غيرها من الثورات. لكن، الخطوط العريضة، والقضايا الأساسية التي نواجهها في كل مرة تهب الشعوب فيها لتغيير العالم تتشابهة كثيراً فيما بينها. لقد أحكمت الرأسمالية هيمنها على العالم منذ بداية القرن العشرين، ولذلك فإن طبيعة الطبقات الاجتماعية لا تتغير بشكل جوهري من مكان إلى آخر أو مع مرور الوقت.

هناك دروساً قيمة يمكن أن تستفيد منها مصر والدول العربية الأخرى نستخلصها من الموجة الثورية التي هزت العراق من عام 1958 وحتى عام 1963.

في يوليو 1958 استولى على السلطة مجموعة من ضباط الجيش عرفوا بأسم "الضباط الأحرار"، اعتماداً على حركة جماهيرية سريعة النمو للحصول على الدعم. وتكونت الحكومة التي شكلوها من مزيج من ضباط الجيش وبعض القادة المدنيين وكان "قاسم" أحد كبار قادة الضباط الأحرار، رئيساً للوزراء. كما قاموا بطرد أنصار النظام القديم من الجيش، والشرطة، وكافة مؤسسات الدولة.

أنهت الانتفاضة النظام الملكي، وألقت الحكومة العراقية بالبريطانيين خارج قواعدها العسكرية. وبدأوا في السيطرة على موارد النفط بدلاً من الشركات متعددة الجنسيات، بل وبدأت عملية إستصلاح الأراضي، وبناء منازل لسكان الأكواخ خارج بغداد، وتحسين مستويات المعيشة. كما أطلق سراح السجناء السياسيين وتم تقنين إنشاء نقابات العمال والفلاحين.

على الرغم من هذا البرنامج الاصلاحي كان أكثر جذرية مما أعده النظام العسكري وحظي بالتأييد في مصر في مثل هذا العام، بحلول عام 1963 كانت الحركة الجماهيرية العراقية قد سحقت من أجل السماح لـ"العمل كالمعتاد" من قبل الطبقة الرأسمالية وأنصارها من الطبقة الوسطى.

تماماً كما كنا نجادل طوال هذا العام، بشأن كل الانتفاضات الشعبية التي إندلعت، في البداية يبدو الأمر وكأن كل الأمة متحدة. ولكن الطبقة الرأسمالية لن تؤيد مطلقاً أية إصلاحات من شأنها أن تحد من قدرتها على استغلال العمال. ولذلك لا يمكنهم السيطرة في ظل تعاون مشترك بين العمال والفقراء، لأن مصالحهم متعارضة كلياً.

ارتفاع الأجور يعني انخفاض الأرباح، التعبئة السياسية والنضال يعني تعطل الإنتاج. كما أن كل هذا يمنح الثقة، بحيث يبدأ العمال في الاعتقاد بأنهم ينبغي أن يكون لهم رأي في أختيار رؤسائهم، وفي الطريقة التي يجب أن يعاملوا بها في العمل. كما أنهم أيضاً – لا سمح الله – ربما يفكرون في أنهم يجب أن يكون لهم رأي في كيفية إدارة الاقتصاد!

وهكذا، فإن أولئك الذين يؤيدون استمرار وجود اقتصاد رأسمالي – بغض النظر عن مدى جذرية خطابهم عندما كانوا يحثون الجماهير على الثورة ضد النظام المكروه في بداية الأمر- دائماً ما يحرضون على ثورة مضادة. وعادة ما يلجأون إلى أساليب متشابهه لهزيمة الثورة ولإحكام قبضتهم والسيطرة مرة أخرى. فيبذلون كل جهد ممكن لاستمالة، أوتضليل أو إضعاف معنويات المنظمات الجذرية القائمة. وأخيراً، لديهم دائماً القوة المسلحة للدولة والتي تمكنهم من إطلاق العنان لأولئك الذين لن يقبل حكمهم.

لهذه الأسباب، يصبح وجود منظمة ثورية تستطيع أن تكسب ثقة الجماهير وأن تمتلك القدرة على اقناعهم وقيادتهم يعد أمراً ضرورياً. ولكن هذا لايعني أي منظمة، وإنما يعني تلك المنظمة التي تعي جيداً طبيعة المجتمع والصراع الطبقي، منظمة لا تلتزم بالتغيير السياسي من القمة وحسب، وإنما تلتزم بثورة العمال الاجتماعية.

بحلول عام 1959، ضم الحزب الشيوعي العراقي حوالي خمس وعشرون ألف عضو، من تعداد سكان وصل إلى أقل من سبعة ملايين نسمة. كان لدى الحزب قاعدة قوية بين العاملين في خطوط السكك الحديدية، وعمال ميناء البصرة، وعمال حقول النفط. وفي إبريل 1959 قاد الحزب الشيوعي مظاهرات جماهيرية حاشدة بعد تصاعد التوتر مع الحكومة، في مشهد مشابهة إلى حد بعيد لما شهدناه من تصاعد للاحتجاجات الجماهيرية في نوفمير 2011 في مصر. وفي الأول من مايو نزل ما بين ثلاثمائة ألف إلى مليون محتج (وفقاً للعدد الذي ستقبله) إلى شوارع العراق. الوضع الذي وصفه "آلان دالاس"، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، بـ "الأكثر خطورة في العالم اليوم"، مصرحاً بأن الشيوعيون كانوا قاب قوسين أو أدنى من "الاستيلاء الكامل" على السلطة.

كان باستطاعة الحزب الشيوعي العراقي، بل كان يجب عليه أن يقود ثورة عمالية تطيح بالحكم الرأسمالي. كانت شواهد الثورة المضادة تلوح في الأفق، تماماً كما شاهدنا في مصر هذا العام. الهجوم على الحقوق السياسية، التردد والوقوف ضد تنفيذ الاصلاحات التي سبق أن وعد بها، وإغفال تحقيق المطالب الجماهيرية، من أجل العودة إلى وضع "العمل كالمعتاد" من قبل الطبقات الوسطى والعليا جميعها أمور هددت مكاسب الثورة.

ولكن كان أن أعلن الحزب الشيوعي العراقي: "حزبنا يدعم المصالح الاقتصادية للبرجوازية الوطنية.. إن الهدف من الثورة هو إقامة إصلاحات اجتماعية واقتصادية في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية". هكذا، كان من الممكن في ظل خطابهم الشيوعي الجذري، الذي حظي بقبول كبير لدى الجماهير، أن تندلع ثورة من شأنها أن تشعل ثورات أخرى مماثلة في العالم العربي، لكن الحزب الشيوعي العراقي لم يقتنص الفرصة ودعها تمر، وأثبت أنه لم يكن حزباً ثورياً بالأساس.

إن العواقب التي حدثت بعد ذلك في العراق هي ناقوس الخطر الذي يدق لتحذير هؤلاء الذي يشقون طريقهم في مصر وكافة أرجاء العالم العربي: إن التنظيمات المترددة ينتهي بها الأمر بالوقوف في جانب الثورة المضادة، وغياب القيادة الثورية يعني الهزيمة.

لقد قمع نظام "قاسم" الحركة العمالية. وبين يوليو وأكتوبر 1959، كان المئات من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي والعديد من المتعاطفين معهم قد تعرضوا للتهديد والضرب والاعتقال والقتل. كما منعت صحف الحزب من الصدور، وحلت الشرطة بالقوة منظمة الشباب التابعة للحزب والتي كانت تضم ثمانية آلاف شاب وفتاة.

دفعت الطبقة العاملة العراقية ثمناً غالياً نتيجة لفشل الحزب الشيوعي. في عام 1960، تم تسريح ستة آلاف عامل، وتمكنت الحكومة من إحكام سيطرتها على النقابات العمالية والفلاحية وتنظيمات المحامين والمعلمين والطلبة. وأخذت كل الاصلاحات الديمقراطية اتجاهاً مضاداً، مما مهد الطريق أمام إنقلاب عسكري أطاح في النهاية بنظام "قاسم". وكانت تلك هي بداية الحقبة الديكتاتورية بقيادة حزب "البعث" الذي استمر في الحكم تحت قيادة السفاح "صدام حسين" بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية حتى أن غزت البلاد عام 2003.

لم يكن الحزب الشيوعي العراقي ليدافع عن أعضائه أو عن العمال، لأنه كان قد سبق وأن أعلن أن الصراع الطبقي هو نوع من أنواع "التطرف اليساري". ولقد تبنى الحزب شعارات مثل "يداً بيد مع الحكومة الوطنية من أجل الحفاظ على النظام!"، ودعا إلى التضامن بين الشعب والجيش والحكومة. واليوم في مصر هناك بعض القوى التي ترفع شعارات مماثلة، نعم أنهم لا يرتدون عباءة "الشيوعية"، لكن تأثيرهم يظل يشكل خطراً.

في مصر، تتكشف الأحداث بشكل مختلف، ولكن درس الثورة العراقية جلي وواضح. فبغض النظر عن مدى قوة وشجاعة الحركة، ما لم تتشكل قيادة ثورية وطنية تستطيع أن تقود جماهير العمال والطلبة والفقراء من أجل الاستيلاء على السلطة، فإن الثورة المضادة المتنامية ستنتصر. ليس هناك ما يكن أن يسمى بالمخرج "المعتدل" أو "الوسطي" للعملية الثورية.

على مدار الشهور الماضية، تعلم الملايين من المصريين أن "المجلس العسكري" لا يمكن الوثوق به، بعد أن شاهدوا خيانته للثورة ودعمه للثورة المضادة. لكن، لو أن في فبراير 2011 كان هناك وجوداً لمنظمة ثورية ذات سلطة ونفوذ تستطيع أن تقنع الجماهير بحقيقة المجلس العسكري منذ البداية، ربما كان عدد الشهداء أقل الآن، لأن الحركة ستكون قد واجهت الجيش بالفعل ويحتمل أن تكون قد تمكنت من إحراز تقدم في طريق الثورة الاجتماعية.

عندما ننظر إلى تاريخ بعض الأحزاب مثل الحزب الشيوعي العراقي، نتفهم جيداً عندئذ لماذا يرفض بعض الناس فكرة الحزب. وهدفنا هو بناء منظمة عمالية ثورية، تعي جيداً الدروس التاريخية الجوهرية، كما تلتزم بثبات بسلطة العمال. فلابد من أن نتصدي للطبقة الرأسمالية، ولابد أن نقصي كل عناصر الدولة القديمة وأن يتم تفكيكها وتدميرها، و استبدالها في أماكن العمل وفي الأحياء باللجان الشعبية التي ظهرت في بداية انتفاضة يناير 2011. إذا تم استبدال مؤسسات الدولة القديمة بأخرى جديدة ملتزمة بالرأسمالية كما كان الحال مع العراق في ظل حكم "قاسم"، سيتم استخدامها في نهاية المطاف لقمع الجماهير.

فالطبقة العاملة، مع قوتها في الإنتاج، يمكنها قيادة جميع الطبقات المضطهدة الأخرى في نضال من أجل إنجاز ثورة اجتماعية من شأنها أن تبدأ في تلبية مطالب وتطلعات الجماهير. وإن لم يحدث، فإن الثورة المضادة ستنتصر. هذا هو الدرس الهام والحيوي الذي يجب علينا أن ندركه من تجربة الثورة العراقية.