الإضراب العام 1926..
الرأسمالية والإصلاحية والطبقة العاملة الإنجليزية
كان الإضراب العام للعمال في إنجلترا نقطة التحول الحاسمة في النضالات الطبقية في سنوات ما بين الحربين العالميتين. فقد كان خلاصة وذروة كل نضالات الأعوام السابقة، والمواجهة النهائية المؤجلة بين طبقة مالكة مصممة على تخفيض مستويات الأجور وطبقة عاملة واثقة من قدرتها على مقاومة تلك التخفيضات.
القيادات النقابية:
خلال معظم تاريخها سيطرت على حركة النقابات العمالية البريطانية قيادات جعلها سلوكها البيروقراطي وآراؤها السياسية (ليبرالية أو يمين حزب العمال) غير قادرة على قيادة الطبقة العاملة بنجاح في المواجهات الكبرى. لكن في 1925 و1926، ظهر للمرة الأولى أن هناك انقطاع حقيقي يحدث مع هذا التراث. بعض القيادات العمالية صارت تتحدث بنغمة ليست فقط عن القيادات اليمينية (مثل رامسي ماكدونالد أو جيمي توماس) ولكن قريبة من تلك الخاصة بالاشتراكيين الثوريين.
ثلاثة قادة على وجه التحديد مثلوا هذا الاتجاه:برسل في نقابة عمال الأثاث وسويلز في نقابة الصناعات الهندسية، وهيكس في نقابة عمال البناء. كان الأول رئيسًا لاتحاد النقابات العمالية (TUC) في 1924، وبالتالي رئيسًا له في 1925، أما الثالث فقد كان عضوًا في اللجنة الصناعية الخاصة التي أنشآها الاتحاد في عام 1925 لتدير النزاع في المناجم.
كانت لغة هؤلاء القادة النقابيين أكثر “تطرفًا” من تلك التي تستخدمها عادة القيادات النقابية اليسارية. ففي مؤتمر اتحاد النقابات العمالية عام 1924 مثلاً استخدم برسل – وكانت نفس اللغة لآخرين في المؤتمرات اللاحقة – العبارات التالية: “يجب على العمال أن ينظموا أنفسهم على المستوى المحلي والدولي في مواجهات مباشرة مع الرأسمالية وأساليبها السياسية. عليم أن ينظموا حتى يكونوا قادرين على إسكات طبول الحرب – حين تدق – إلى الأبد. يجب أن نعلن بوضوح انه فقط منظمة مقاتلة ودولية للطبقة العاملة يمكنها أن تنهي خطر الحرب”.
على خلفية عبارات كتلك كان ممكنًا لمعظم عناصر اليسار الثوري أن تعتقد أن القيادات النقابية تمر بتحول كامل. ووصل الأمر بأحد منظري الحزب الشيوعي للقول بأن الفارق بين قيادة اتحاد النقابات العمالية وقيادة حزب العمال كان كالفارق بين “قيادة تتجه للاعتراف بالصراع الطبقي يسيطرون على المجلس العمومي لاتحاد النقابات العمالية”.
الجمعة الأحمر:
لم تتأخر المواجهة الأولى كثيراً. فقد أدى تجدد المنافسة مع الفحم الألماني إلى تخفيض أرباح أصحاب مناجم الفحم، وارتفاع البطالة بين هؤلاء الذين يعملون في المناجم (1،2 مليون عامل) لتصل إلى 11،5%. وفي 30 يونيو 1925، أحس أصحاب المناجم بأنهم أقوياء بما يكفي لا بلاغ نقابة العاملين بمناجم الفحم بإلغاء اتفاق الأجور المبرم معها في خلال شهر. وإذا لم تقبل النقابة التخفيضات في الأجور فسوف يمنع أعضائها من دخول المناجم.
كان كل من له صلة بالموضوع يعلم أن الأمر لن يتوقف فقط على أجور عمال الفحم. وهذا ما أعلنه رئيس وزراء إنجلترا بالدوين أثناء مناقشة مع عمال المناجم حيث قال: “إن على جميع العمال في هذا البلد أن يقبلوا التخفيض في الأجور حتى تقف الصناعة على قدميها”.
لم يصل الإعداد لتكوين تحالف صناعي اقترحته نقابة الصناعات الهندسية إلى الحد الذي يؤهله للتدخل في النزاع. ولكن المساندة التي لاقاها التحالف أظهرت أن منظمات الطبقة العاملة كانت مستعدة للقتال. فعندما عينت الحكومة لجنة تقضي حقائق للنظر في مقترحات ملاك المناجم رفض اتحاد نقابات عمال المناجم المشاركة، ورأوا أن مشاركتهم تعني موافقتهم على مبدأ تخفيض الأجور. على النقيض من ذلك أعد هؤلاء للنضال وطلبوا العون من اتحاد النقابات العمالية.
كانت تلك هي الفرصة لتنظيم التحرك الجماهيري الدفاعي الذي كان يفكر فيه الأعضاء الأكثر صراحة في المجلس العام لاتحاد النقابات العمالية. وتم تعيين لجنة صناعية خاصة للمجلس تحت قيادة اليساري سويلز. وتمكنت اللجنة أن تحصل على اتفاق مع نقابات النقل والسكك الحديدية بأن أي إغلاق للمناجم في وجه العمال سوف يواجه بحظر كامل على نقل الفحم.
وفي وقت انخفضت فيه بشدة أسهم الفحم عبر البلاد، فإن مثل هذا القرار كان يعني توقف الصناعة بأكملها في غضون أيام. وبالرغم من إن بالدوين كان قد تعهد سابقًا بأنه لن يتراجع، إلا أنه كان عاجزًا لأنه أدرك أن طبقته ليست مستعدة لمواجهة الحركة العمالية بكاملها. وهكذا كانت حركة شطرنج دفاعية واحدة من جانب النقابات العمالية تعني بالنسبة لملاك المناجم “كش ملك”.
قبل 24 ساعة فقط من قيام أصحاب المناجم بإغلاقها في أوجه العمال، أعلن بالدوين أن الحكومة مستعدة لتفادي توقف صناعة الفحم عن طريق تقديم معونة لعمال المناجم لمدة تسعة شهور. وذلك على أن تبقى مستويات الأجور على ما هي عليه، مع وجود لجنة ملكية تجرى بحث تفصيلي حول الأمر.
اعتبرت الحركة العمالية هذا القرار انتصارًا كاسحًا، وخرج مانشيت صحيفة الديلى هيرالد ليسمي ما حدث بـ: “الجمعة الأحمر” بينما تحدث بيان للمجلس العمومي لاتحاد النقابات العمالية عن أن ما حدث هو محفز هائل لكل عضو نقابي.
شهور الإعداد:
على كل حال، كانت المعركة أبعد كثيرًا من أن تنتهي. فقد اعتبرت كتلة المحافظين الصحفية تراجع بالدوين انسحابًا مخزيًا يجب عكس اتجاهه والهجوم سريعًا. وأوضح وزير الداخلية جاسون هيكس الطبيعة المؤقتة للاتفاق الذي تم اتخاذه: “إني أقول إن الخطر لم ينته بعد، فهل ستحكم إنجلترا بواسطة البرلمان والحكومة أم بواسطة حفنة من القيادات العمالية؟”. وأكد وزير الخزانة تشرشل أنه يوم الجمعة الأحمر: “تأثرت الحكومة بحقيقة أن البلاد بأكملها لم تصلها طبيعة ونتائج تحرك كهذا. وعلى هذا قررنا تأجيل الأزمة بغرض تفاديها، وإذا كان ذلك غير ممكن مواجهتها جين يأتي الوقت المناسب.
على جانب الطبقة المالكة بدأ الاستعداد في ضوء هذا المنظور. كانت الحقيقة الحاسمة في يوليو هي نقص الفحم. ومع قدوم الشتاء بدأ هذا في الاختفاء بدون جهد واعي من الحكومة. فلم يكن أمام العمال سوى استخراج الفحم لتصبح كوماته سلاحًا ضدهم. من وجهة نظر السلطات كان الأهم هن الاستعداد لنقل الفحم والسلع الأخرى في حالة حدوث إضراب. وفي سبتمبر، نشر بيان باسم العديد من أصحاب الأعمال يطلب متطوعين للانضمام إلى “منظمة صيانة المؤن”. رحبت الحكومة بذلك وبدأت في تطوير آلتها الحربية الرسمية. كانت البلاد مقسمة إلى عشرة أقاليم. كل منها تحت رئاسة مقوض مدني وطاقم من الموظفين الحكوميين وترتيبات متقنة لنقل الطعام والبريد والفحم تحت حالة الطوارئ. في الوقت نفسه تمت محاكمة 12 من قيادات الحزب الشيوعي وحبسهم لفترات تتراوح بين 6 شهور وسنة.
ومن جانب اتحاد النقابات العمالية، فإن الحاجة للاستعداد كانت واضحة في البيانات الرسمية الصادرة عقب الجمعة الأحمر مباشرة. وحذر رئيس الاتحاد: “أن الحركة النقابية يجب أن تكون حذرة ومتيقظة، في حالة بروز الحاجة مرة أخرى للتحرك دفاعًا عن مصالحها”.
وأشار المجلس العام للاتحاد في سبتمبر أنه: “ليس من الممكن تجنب الإحساس بان هناك محاولة أخرى ستتم لفرض تخفيضات في الأجور أو إطالة يوم العمل”. وكان مؤتمر النقابات في “سكاربورو” في سبتمبر مليئًا بالتفاؤل بمسيرة ظافرة. وخلاله أدينت الإمبراطورية البريطانية وتم الاعتراض على خطة (داوس) لبناء أوربا على أساس الرأسمال الأمريكي، أيضًا تم إقرار خطط للعمل المشترك مع نقابات العمال الروسية، وصدر قرار ينادي بتقوية وتطوير تنظيمات قاعدية تناضل يدًا بيد مع حزب العمال للإطاحة بالرأسمالية.
وكانت لغة الخطابات والقرارات تشير إن القادة الرسميين للنقابات كانوا يستعدون لمعركة في خلال أشهر قليلة. “كان الجميع ينظرون للمجلس العام لكي يقود.. و يعتقدون إن المجلس العمومي يقوم سرًا بالاستعدادات الكاملة”. وأكد هذه الفكرة بروز المنتمين للجناح اليساري في المجلس من أمثال برسل وسواليز ويكس وتيليت وبروملي وآخرين.
لكن يندر في التاريخ أن تخيب آمال جموع الجماهير لهذه الدرجة. خلال النصف الأول من فترة التسعة شهور التالية للجمعة الأحمر وبينما كانت الحكومة مشغولة بدعم “منطقة صيانة المؤن” علنًا وتنشئ لجان الطوارئ، لم يفعل المجلس العمومي ولجنة الصناعة به أي شيء. وفي الأربع شهور ونصف التاليين لم يفعلا أي شيء أيضًا. وانتظر حتى يناير 1926 ليبدأ في مناقشة الترتيبات المتعلقة بحدوث إضراب مع مجتمع تعاونيات تجارة الجملة وحتى وقتها لم يتم أي شيء. وأخيرًا، في يوم الجمعة 19 فبراير تم اتخاذ قرار بعدم القيام بأية خطوات إضافية حتى يصدر تقرير اللجنة الملكية. وعندما انفجرت الأزمة حولها أخيرًا وجد المجلس العام لاتحاد النقابات العمالية (طبقًا لواحد من أعضائه البارزين): “إن الخطوات الوحيدة المحددة التي اتخذت كانت ذات طبيعة وسطية. فلم يتم تقديم أي اقتراحات محددة للتحرك”.
خارج المجلس العام لم تفعل المنظمات الرسمية سوى أكثر من هذا بقليل. استمرت محاولة الإعداد للتحالف الصناعي الذي سرعان ما تأثر بشدة بانسحاب إحدى النقابات لرفضها الاندماج مع نقابة أخرى من خلال التحالف.
لم يوقف تكتيك “التهدئة” النقابي هذا استعدادات الحكومة. ففي العاشر من مارس قدمت اللجنة الملكية تقريرها وكان الأمر المتوقع، من تقرير أعده اثنين من كبار المسئولين الحكوميين ورجل من رجال الصناعة، هو انحياز التقرير لتخفيض أجور العمال رغم تضمنه كلام غامض عن ضرورة إعادة تنظيم الصناعة. ومع ذلك تعاملت الصحافة البرجوازية مع التقرير وكأنه نص مقدس أو التجسد الحي للحقيقة المنزهة. فماذا عن موقف قيادات اتحاد النقابات العمالية؟
في 19 فبراير أعلنت اللجنة الصناعية بلا تردد: “إن حركة النقابات ستقف موحدة بثبات ضد أي محاولة لتخفيض مستوى معيشة عمال الفحم”.
الآن، على كل حال، بدأ أن اللجنة متأثرة بحملة الدعاية المؤيدة للتقرير. فقد كتبت لاتحاد المناجم تقول: “أن الأمور لم تصل بعد للمرحلة التي يمكن فيها أن يصدر إي إعلان نهائي عن اللجنة” بينما كانت هذه البيانات قد صدرت بالفعل سابقًا. مرة أخرى، وبينما كانت اللجنة في السابق ترفض الحديث عن أي تخفيض في الأجور، أصبح كل ما تطالب به هو إجراء مفاوضات بين العمال وأصحاب المناجم لتضييق نقاط الخلاف بينهما.
كان لجناحي الوسط واليمين في المجلس العام موقف واضح حتى ولو لم يكن معلنا بشكل عام. وكان رأي رئيس اتحاد النقابات العمالية أرثر باف – الذي جاء خلفًا لسويلز – إن “التكتيك المؤثر يجب أن يرتكز على قبول عمال المناجم للتقرير في جوهره والتفاوض حول أي نقطة تتطلب التعديل بشكل معقول” فقط قادة عمال المناجم تحدثوا بلغة رافضة بوضوح للتقرير.
على أي حال، فإن مالكي المناجم أحسوا أنهم مستعدين الآن للمواجهة حتى وإن لم تردها قيادات الاتحاد. وفي 16 أبريل أعلنوا بدء الإغلاق في خلال أسبوعين ما لم يقبل العمال بتخفيض الأجور. ولم يكونوا مستعدين لاستئناف المفاوضات على أساس المستوى القومي.
ولم يكن أمام المجلس العام خيار. فكلامه خلال الصيف الماضي كان يعني أن عليه أن يتحرك بشكل أو بأخر . فدعا إلى مؤتمر خاص لكل المسئولين التنفيذيين النقابيين لمناقشة كيفية دعم عمال المناجم. إلا إن هذا المؤتمر لم ينعقد إلا في 29 أبريل. وفي تلك الأثناء بذل المجلس العام أقصي جهد لجعل المفاوضات تستمر. واعتقد إنها قد تكون ناجحة. “كان الجميع يعتقد، بفعل التصريحات والخطب أو ترددهم إزاء مواجهة المشكلة أن هناك إمكانية حقيقية لتحقيق تسوية”. وحتى بعد إن انعقد مؤتمر القادة التنفيذيين في الاتحاد، سارت المفاوضات بخطى بطيئة. وظل أصحاب المناجم على غير استعداد للتراجع. وأخيرًا اضطر المجلس للاعتراف بأنه لا توجد أي إمكانية في الأفق لنجاح المفاوضات، وذلك بالرغم مما عبر عنه أحد قادة التفاوض قائلاً “إنني لم أقم في يوم ما بالاستجداء والاعتذار كما فعلت اليوم!”
فموقف الحكومة وأصحاب المناجم وضع أعضاء المجلس العام أمام خيارين. إما أن يبتلعوا الكلام الذي قالوه سابقًا ويستسلموا للحكومة أو يقوموا بالإعداد لموقف دفاعي جماهيري على أمل أن تقدم الحكومة تنازلات. ويوم السبت الأول من مايو قدم المجلس توصية لمؤتمر المسئولين التنفيذيين لكي يفوضه في اتخاذ قرار بعمل إضراب تضامني مع عمال الفحم. وتحدث أحد قادة المجلس (بيفن) بلغة فخمة عن أهمية هذا التصويت فقال “أنتم وضعتم أنفسكم في محراب هذه اللحظة العظيمة، ومن ثم فليس مهمًا أن يضيع كل بنس وكل أمل لديكم، لأن التاريخ سوف يكتب أنه كان هناك جيل عظيم استطاع أن يقدم كل ما في وسعه بدلاً من رؤية عمال المناجم يساقون كالعبيد”.
ترك المندوبون المؤتمر معتقدين أن الاستعدادات لإضراب عام ستنفذ في خلال 26 ساعة على الحافة.
غير أن المجلس العمومي لم يقدم في الواقع سوى وقت قليل للغاية لمثل هذه الاستعدادات، حتى في تلك المرحلة. فقد دعا إلى الإضراب، إلا أنه رأي في ذلك مجرد سلاح تفاوضي ومحاولة يائسة لجعل الحكومة وأصحاب المناجم يستسلمون. وفي خلال ساعات من الدعوة للإضراب قام المجلس العمومي بزيارة بالدوين لإجراء مزيد من المناقشات، ووصل الطرفان فعلاً لتسوية، تقبل بتقرير اللجنة الملكية مع بما فيه أنه يتضمن بعض التخفيض في الأجور. وفي الحقيقة فإن أصحاب المناجم لم يقدموا أي تنازل على الإطلاق. لكن أحد قيادات المجلس كان من الممكن أن يقول: “لا يهم ماذا يقول عمال المناجم أو غيرهم فنحن نقبل التقرير”.
على كل حال، لم تكن الحكومة تريد فقط قبول قيادات اتحاد النقابات العمالية بالتسوية بل أرادت أن تلحق الهزيمة بالنقابات لكي تكون قادرة على فرض شروطها للنهاية وعلى الجميع وليس فقط عمال المناجم. بهذه الطريقة فقط وليس بأي طريقة أخرى كان من الممكن التعامل مع مشكلات الرأسمالية البريطانية المزمنة. ومدركة لمدى تردد القادة النقابيين في اتخاذ موقف حاسم، قرر مجلس الوزراء استخدام رفض عمال الطباعة طبع جريدة الديلي ميل كذريعة لإلغاء الاتفاق.
الإضراب:
لم يكن الاتحاد حتى هذه اللحظة مستعدًا للدخول في إضراب عام. فبينما تحدث قادته عن إضراب على المستوى القومي، لم يدعوا له سوى عمال بعض الصناعات. على أن تتم دعوة الآخرين فيما بعد كخط دفاع ثاني. أما باقي القطاعات بما فيها الخدمات الحيوية (من وجهة نظر الحكومة) مثل البريد فلم تتم دعوتهم على الإطلاق. والأكثر من ذلك أن التعليمات الداعية للإضراب كانت بعيدة كل البعد عن الوضوح. وفي المحليات لم يكن أبدًا واضحًا من عليه أن يكون مضربًا ومن ليس.
أما الاستعدادات الحكومية فقد كانت مكثفة أكثر من ذلك بكثير. فقد طلب متطوعون من أجل كسر الإضراب أو العمل كقوات شرطة خاصة. وتم استخدام قوائم متطوعي منظمة صيانة المؤن بشكل مشابه. واعدت الحكومة المتنزهات كمستودعات للمؤن. وتم بدء تطبيق قانون الطوارئ لكي يعطي الشرطة حق القبض على أكبر عدد من المضربين.
بالرغم من وسطية القيادات النقابية وتحفز الحكومة كان رد فعل العمال للدعوة للإضراب يفوق كل التوقعات، وذلك طبقًا لاتحاد النقابات العمالية. فقد أدهش حماس العمال كل من الحكومة وقيادات الاتحاد بنفس الدرجة. وقد شعرت اللجان التنظيمية للمجلس العام منذ البداية بحرج شديد إزاء رغبة عدد كبير من العمال في الانضمام للإضراب على الرغم من عدم دعوتهم.
ولا يوجد هنا مجال للدخول في تفاصيل تنظيم الإضراب، ولكن يمكن الإشارة إلى بعض النقاط التي تعبر عن درجة الحماس والمبادرة الجماهيريين. ففي المحليات كانت مجالس النقابات مسئولة عن التأكد من التزام فروع النقابات المحلية بتعليمات المجلس العام. وقام العديد من تلك الأفرع بتشكيل مجالس للحركة تضم معًا مندوبين عن النقابات الرئيسية وقطاعات أخرى من الحركة العمالية في كل منطقة. وقد كانت هناك رغبة عارمة في التحرك على مستوى المحليات أكثر منها على المستوى المركزي. وتم تنظيم الاجتماعات الجماهيرية وإصدار المنشورات المحلية الخاصة بالإضراب وفرق لمنع كاسري الإضراب من العودة للعمل. وفي بعض المناطق أنشئ جهاز دفاعي للعمال لحمايتهم من هجمات البوليس، وفي منطقة واحدة على الأقل هي “فايف” نجحت هذه الأجهزة في إخراج البوليس من المنطقة. إلا إن هذه الحالة من القتالية في أفرع النقابات المحلية لم يماثلها الحال في النقابات المركزية. فبالرغم من تكوين لجنة للإضراب برئاسة اليساري هو السيطرة على – واحتواء – حالة النشاط في النقابات المحلية. وطبقًا لرأي أحد مؤرخي الإضراب: “كان يخشى في بعض المناطق أن تتمكن العناصر اليسارية المتطرفة من السيطرة على الإضراب وإدارته كمسألة سياسية بحتة. ومن ثم فقد حاولت اللجنة المنظمة للإضراب منذ البداية الحفاظ على السيطرة على الأنشطة المحلية وهو الشيء الذي لم ينجح.
وعندما بدأت الحكومة في إصدار جريدتها اليومية “البريتيش جازيت” رد الاتحاد بإصدار جريدة “العامل البريطاني”. لكن لم يكن التناقض بين الاثنين كبيرًا. فبينما أدعت الحكومة أن النزاع لم يكن بين العمل ورأس المال وإنما بين القيادات النقابية والبرلمان ردت الأخرى بأن: “المجلس العام يود أن يؤكد أن النزاع صناعي وأنه يطلب من المضربين الالتزام بصرامة بواجباتهم الشرعية.
ولم يعد الآن سويلز أو أي من اليساريين الكلام الذي قالوه قبل ثمانية أشهر عن تحطيم عبودية الأجر. وبدلاً من ذلك فقد جلسوا في لجان الاتحاد ليمنعوا النشرات المحلية التي تدافع عنه.
إنهاء الإضراب:
أستطاع الإضراب أن يحي الحماس الدفين لدى ملايين العمال. فقد بدئوا يدركون إمكانية إيجاد تحرك الجماهير حلول للمعاناة والاحباطات التي كانوا يرونها في السابق أمرًا مفروغًا منه. ومن خلال مجالس الحركة ولجان الإضراب بدئوا يعبرون عن مبادراتهم الفردية أكثر من أي وقت مضى. فدروس نضالات الستة عشر عامًا السابقة والقاسية تم تطبيقها وذلك من خلال عرض جماهيري يعكس حالة التضامن الطبقي. إلا إن القيادة المركزية الوحيدة لهذه الحركة ظلت هي المجلس العام لاتحاد النقابات العمالية. وهناك الرغبة في نهاية تفاوضية سريعة للإضراب مسيطرة.
ففي اليوم الخامس من الإضراب قامت اللجنة الخاصة بالإضراب بعمل تصور لوقف الإضراب بالتنسيق مع صامويل رئيس اللجنة الملكية الذي أكد لهم أنه لا يمثل الحكومة وبالتالي لا يستطيع أن يقدم لهم أي ضمانات. ومع ذلك فقد بدا إن بعض القيادات النقابية كان همها الأول هو إنهاء الإضراب بأي ثمن. وبعد يومين من التفاوض قبل هؤلاء النقابيين عرض صامويل بخفض أجور العمال في المناجم: ولم يرتفع صوت واحد آنذاك من قبل الجناح اليساري ضد هذا العرض حيث كان هناك اتفاق ووحدة داخل المجلس حول ضرورة إنهاء الإضراب رغم غياب الضمانات الحكومية.
فقط اتحاد عمال المناجم هو الذي ظل يحس أن المشكلة باقية. وتساءلت قياداته حول ما إذا كانت هناك ضمانات لعدم التنكيل بالعمال المضربين حيث يعودون للعمل. وكانت الإجابة التي قدمها صامويل لواحد من القيادات النقابية (كوك) هي أن عليه أن يثق في كلمة رجل بريطاني شريف كان حاكمًا لفلسطين!! ولم يعترض أيضًا أي من القيادات اليسارية التي كانت تندد بالاستعمار قبل شهور.
وما يتعلق بهذه النقطة لم يكن أبدًا إرادة وتصميم القيادات النقابية على الدعوة للثورة أو حتى قيادة هجوم محدود على الطبقة المالكة. وإنما تطلب الأمر فقط المعرفة البدائية بأساسيات وتكتيكات التفاوض حول الأجور لإدراك أنه لا عودة للعمل بدون ضمانات حديدية لعد التنكيل بالعمال. ولم يكن الجناح اليميني في المجلس العلم مهتمًا بمثل تلك الضمانات ولم يثر اليساريون القضية.
رفض اتحاد عمال المناجم الاتفاق وأكد أنه سيواصل القتال منفردًا لو أقتضى الأمر ذلك. غير أن المجلس العام كان حاسمًا إزاء وفق الإضراب. وقام بإرسال وفد لمقابلة بالدوين والتأكيد له بأن الإضراب أنتهي والمطالبة بالحصول على ضمانات لعدم التنكيل بالعمال العائدين إلى عملهم. وكان رد بالدوين مجرد عموميات غامضة.
وفي مساء هذا اليوم الذي كان اليوم التاسع للإضراب أعلنت الصحافة أن المجلس العام قد أستسلم، وخطب بالدوين في الإذاعة مؤكدًا أن ما حدث هو نصر غير مشروط للحكومة، حيث قال: “إن الإضراب العام قد أنتهي بدون فرض أية شروط على الحكومة”.
أكبر من أي وقت مضى:
قوبلت هذه الأخبار بطول وعرض البلاد بالدهشة لأنه لم تكن هناك أي علامات على أن الإضراب يضعف. ففي اليوم السابق على ذلك كان المجلس العام قد دعا مئات الآلاف في اتحاد الصناعات الهندسية وعمال صناعة السفن، أو ما سموه خط الدفاع الثاني، إلى الانضمام إلى الإضراب. وكان على العمال في كثير من المصانع الصغيرة أن يقابلوا خطر الفصل، وحتى في المصانع الكبيرة لم يكن هناك على الإطلاق أي ضمانات بعدم حدوث تنكيل ببعض العمال، وعدم فرض ظروف عمل أسوأ. وإزاء هذا الوضع شعر ملايين العمال – المذهولين بتطورات الأحداث – أنه لا يمكنهم عمل شيء إلا الاستمرار في الإضراب، وكانت النتيجة أنه معظم العمال لم يتوقفوا عن الإضراب، باستثناء عدد محدود من عمال النقل في بعض المدن.
في اليوم التالي حاول أصحاب الأعمال الإعلان عن نصرهم وقطف ثماره. فوضعت لافتات في محطات السكك الحديدية تعلن أنه لن يتم قبول عودة العمال إلا على أساس فردي وبتخفيض في أجورهم. وتم عمل إجراءات مماثلة في أماكن عديدة. ومحاولين إغلاق الباب بعد أن جمح الحصان طلب المسئولون التنفيذيون في عدد من النقابات من أعضائها الانتظار لحين التعيين مرة أخرى بنفس الشروط القديمة.
أما النقابيون المحليون فقد كانوا يبذلون قصارى جهدهم للاستمرار في الإضراب. لكن في غضون أربعة وعشرين ساعة من قرار المجلس العمومي إنهاء الإضراب، زاد عدد المتوقفين عن العمل مائة ألف عامل. وأصدر الحزب الشيوعي دعوة لاجتماع طارئ لجميع لجان الإضراب ومجالس الحركة وذلك بهدف استمرار النضال وإجبار قادة الاتحاد على قبول ذلك. إلا إن قادة الاتحاد كانوا مصممين على إنهاء النضال. وتسرع بعضهم مثل اتحاد عمال السكك الحديدية بتوقيع اتفاق مع الإدارة بهدف العودة إلى العمل، ليس ذلك فحسب بل كان ذلك مصحوبًا باعتذار عن الإضراب، بل وإعطاء الإدارة كل الحرية في تحديد من سيعاد تشغيله. هذه الصورة تكررت في العديد من الصناعات حيث تم توالي تقديم الاعتذارات والتنكيل بالعمال المناضلين، لدرجة أن أحد أعضاء المجلس العام أكد أنه فقط تم التنكيل بـ 250 عاملاً فقط من نقابته!!
وحتى في هذه المرحلة المتأخرة كان يمكن للقيادات النقابية تنظيم الصفوف وتأكيد تضامن المضربين معًا وعلى الأقل إيقاف ومنع فصل أعداد كبيرة من العمال. لكنهم رفضوا حتى ذلك. لماذا؟
الدوافع:
وكان المبرر الذي يسوقه بشكل عام قادة النقابات لتبرير دعوتهم إلى وقف الإضراب هي إن الإضراب في طريقه إلى الفشل. غير أنه في الحقيقة لم يكن هناك ما يثبت ذلك. ففي معظم الصناعات كان الإضراب ينمو بقوة. إلا أن المجلس العام لم تكن عنده الرغبة في الإضراب. وإنما شعر أنه يجب أن يفعل أي شيء دفاعًا عن عمال المناجم وكان ذلك هو التلويح بفكرة الإضراب. كانت الفكرة منفصلة عن تأكيد أهمية اتحاد العمال في المجتمع الرأسمالي القائم وحتى يهدر فرصة المبادرة على المناضلين الحقيقيين من العمال. لكن الحكومة بسلوكها المتشدد الذي كان يميل بقوة لعدم إعطاء العمال أي شيء وحماية النظام بدون حدود، فرضت الإضراب على رجال الاتحاد.
وبمجرد بدء الإضراب نشأ شعور بالخطر من أن تبرز قيادات للإضراب بعيدًا عن سيطرة الاتحاد. وكان هذا يعني تحدي النظام القائم والإطاحة بكل التنظيمات النقابية. ولذلك بدلاً من الانتظار لملاقاة هذا المصير فضل القادة النقابيون وضع ثقتهم في الحكومة التي قررت – كعادة أي حكومة مصنوعة خصيصًا لحماية الطبقة الحاكمة – أن تضعف منظمات الطبقة العاملة.
وفي خضم هذا الصراع لم يختلف موقف القادة النقابيين اليساريين من القادة اليمينيين. ففي كل مرحلة اشترك اليمين واليسار في نفس الفروض وتوصلوا إلى نفس النتائج، وكان كل ما قدمه اليساريون هو إشاعة مزيد من الارتباك والذهول بين العمال. وكما وصفهم زعماء الحزب الشيوعي بعد الإضراب: “إن إضراب 1926 أثبت أن القادة النقابيين اليساريين وقفوا إلى جانب العمال فقط عندما كانت المسألة مسألة جمل وقرارات. وعندما جاءت الأزمة هربوا وأولئك الذين كانوا في وقت ما الرجعيين أصبحوا الآن يدافعون عنهم ويبررون لهم”.
الحزب الشيوعي وحركة الأقليات:
فيما يتعلق بدور الحزب الشيوعي في الإضراب، هناك نقطتان أساسيتان يمكن الإشارة إليهما وهما: أن الحزب الشيوعي في دعايته العامة قد انخدع كالآخرين بالخطاب اليساري لقادة الاتحاد. وكان لنمو القوى الستالينية في الكومنترن (الأممية الشيوعية التابعة للاتحاد السوفيتي) دور رئيسي في ذلك.
فقد كان أحد المواقف المتقدمة للاتحاد في 1925 هو العمل المشترك مع النقابات الروسية من خلال لجنة نقابية روسية انجليزية مشتركة لأجل إقامة تحالف دفاعي عالمي عن نقابات العمال. وكان ذلك موقفًا متناقضًا مع مبدأ مقاومة الشيوعية المسيطرة على حركة النقابات العمالية الأوربية. ولم يتفاءل الحزب الشيوعي البريطاني كثيرًا بهذا الموقف. حيث أشارت جريدة العمال الأسبوعية إلى أن الوحدة القائمة بناء على اتفاق بين القادة ليست ذات فائدة إذا لم تستند إلى الضغط الجماهيري.
إلا أنه في الأشهر التالية بدأ أن قادة الحزب الشيوعي وناصحيهم في موسكو متجرفين وراء الصداقة الظاهرة مع القادة النقابيين البارزين إلى الحد الذي أنساهم تمامًا التحفظات السابقة. بل أن قادة الحزب الشيوعي أثناء الجمعة الأحمر وصفوا المجلس العام للاتحاد بأنه الأكثر تقدمية في الحركة النقابية.
صاحب ذلك الاعتقاد بإخلاص القادة اليساريين لاتحاد العمال عدم رغبة في نقدهم. ومن ثم ففي الفترة بين الجمعة الأحمر والإضراب العام، كان فشل المجلس العام في اتخاذ الاستعدادات للإضراب نادرًا ما ينتقد من الحزب الشيوعي وعندما يحدث كان بنغمة معتدلة للغاية. فقط عندما رفض العمال القاعديين البيع الذي قام به الاتحاد بدأ الحزب في تقديم انتقاده للقادة النقابيين اليساريين بأنهم لا يختلفون كثيرًا عن الآخرين.
مثل هذا التحليل لدور القادة النقابيين اليساريين كان يعني أنه لا استعدادات تمت لكي يأخذ العمال المقاتلون الراية عندما يحدث التراجع. فقد كان يجب إيجاد وترتيب آليات لاستمرار الإضراب في كل المواقع المحلية.
لكن حتى بعد الإضراب لم يتم تعلم الدروس مرة واحدة. حيث أدت النزعة الستالينية للكومنترن إلى أن خط الحزب الشيوعي البريطاني خلال التسعة أشهر السابقة على الإضراب لم تنتقد قط. وتم تجاهل رأي الرجل الوحيد الذي استطاع أن يدرك المغزى الحقيقي لكلمات القادة النقابيين بعيدًا من موسكو: ليون تروتسكي.
خاتمة:
كانت هزيمة إضراب عام 1926 بمثابة نكسة في تاريخ الصراع الطبقي في بريطانيا. فقد أدت الهزائم السابقة مثل الجمعة الأسود إلى أضعاف النقابات وظروف أسوأ لأعضائها. لكنها لم تترك أبدًا ذلك الفقدان الجماهيري للإيمان بالعمل الجماعي. ففي 1926، وضع ملايين العمال آمالهم في هذا العمل كما لم يفعلوا من قبل وتمت خيانتهم من القيادات التي ذهبت كلماتهم بعيدًا في التعبير عن رغبتهم في القتال. ولم يكن هذا الأمل لينبني مرة أخرى إلا بعد مرور سنوات عديدة.
وتقف عدة دروس واضحة جلية من تجربة إضراب 1926: لا تثق أبدًا في الحكومة، حرية التعبير في موقف أزمة ليست إلا أسطورة؛ الجناح اليميني من القادة النقابيين سوف يخون الحركة. هذه الدروس يقبلها معظم اليساريين اليوم لكن هناك درس آخر أهم بكثير بالذات لأنه دائمًا ما يتم تجاهله من البعض. هذا الدرس هو أن الجناح اليساري من بيروقراطية الحركة النقابية هم جزء من شريحة اجتماعية معزولة بكل الطرق عن العمال القاعديين، ويمكن فقط الوثوق بها بالقدر الذي تكون فيه محكومة فورًا وبشكل مباشر من قبل العمال القاعديين المقاتلين.