من ذاكرة النضال في بورسعيد 56..
الشعب هو الحارس

كتبت مدينة بورسعيد عام 56 ملحمة أسطورية في المقاومة، شارك فيها الأهالي من خلال ما يسمي بـ “لجان المقاومة الشعبية” وفي القلب منها الشيوعيون – حركة حدتو – واختلط فيها الصيادون وعمال البحر بالتنظيمات النقابية لمختلف المجالات والمهن، نساءا ورجالا وأطفالا وشبابا وشيوخا على حد سواء، إضافة إلى ما بقي من جنود الجيش بعد هزيمة وانسحاب القوات المسلحة من شرق القناة.
وبدا أن العدو لم يكن يتوقع تلك المقاومة العنيفة من جانب المقاومة الشعبية، وأمام تلك المقاومة المستميتة قرر العدو إحراق المدينة بالطائرات، وخصوصا الأحياء الشعبية التي تتركز وتأتي منها المقاومة، ومن بينها حي المناخ المزدحم بالسكان ببيوته الخشبية، وما به من منازل العمال والصيادين والحرفيين، وحي العرب الذي يتركز به صغار الموظفين، كما أحرقوا حي الجميل حيث تركزت المقاومة أيضا، بعد أن أحبطت المقاومة خطط العدو لإنزال جنوده من البوارج على الشواطيء، وتحولت بورسعيد إلى كتلة من اللهب، وكانت جثث الضحايا تتكدس في الشوارع.
من يكتب التاريخ؟
كان التاريخ، دائما وأبدا محصلة للصراعات المختلفة التي يمور بها المجتمع البشري، سواء ما كان منها صراعات للإنسان ضد الطبيعة، أو صراع الجماعات البشرية بعضها ضد البعض، تلك الصراعات التي واكبت حركة الإنسان في مسيرته نحو مستقبل أفضل، وقدر من العدالة أوسع. ودأبت الجماعات المتميزة إجتماعيا عبر هيمنتها على السلطة السياسية، وبالتالي على عملية إنتاج وتسجيل المعرفة التاريخية، أن تنسب لنفسها ما تراه، وتحيل الأخطاء كلها على الآخرين لكي تدمغ بها كل من عارضها، ولما كان التاريخ لا يقف عادة بباب الفقراء والمطحونين والمضطهدين، فإن ما وصل لأيدينا هو ما يمكن تسميته بـ”التاريخ الرسمي للحكام”، فالتاريخ شأنه شأن أي ملكية موروثة، يمكن أن يُسرق، ولذا فعلينا أن نضع الحدث في إطاره التاريخي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، لنسجل الدور الذي قام به عدد من الرفاق الشيوعيين واليسار المصري، والذي أَبَى التاريخ الرسمي أن يسجله، مما أدى إلى عزل اليسار المصري عن الكثير من خبراته النضالية، وأدى إلى حرمانه أو جعله غير قادر على أن يكون امتدادا فاعلا لتضحيات الماضي ونضالاته.
مسيرة حركة التحرير الوطني
كان إلغاء معاهدة 1936 بواسطة مصطفى النحاس تحت ضغط ورفض الجماهير لأسلوبه في التفاوض، وهي التي كانت تؤيده من قبل ثم أصبحت ترفع شعار الكفاح المسلح ضد المحتل، هو بحق نقطة تحول في الخريطة السياسية والاجتماعية، فقد ظهرت قوى سياسية جديدة تصرعلى مواصلة النضال بأسلوب جديد، ففي السابق كان عرابي الفلاح الطموح للحياة النيابية يعبِّر عن شريحة الأعيان الفلاحين في صراعهم ضد السراي والمُلاك الأتراك، وكان هناك مصطفى كامل ربيب القصور الذي نادى بطرد الإنجليز مستخدما اللعب على التوازنات الدولية، بينما عكس سعد زغلول مطالب البرجوازية الصاعدة والفلاحين الباشوات المعاديين للسرايا، واستند جميعهم للشعب في مطالبتهم بالديمقراطية للضغط في المفاوضات.
عند هذه النقطة ارتفعت شعارات تدور حول “إسقاط تحالف الإقطاع ورأس المال الحاكم”، و”الكفاح المسلح طريق الخلاص”، و”كفاح الشعبين المشترك” بدلا عن ملك واحد نيل واحد، أيضا “ضد اتفاقيات الدفاع المشترك”، و”حق كل فرد في نصيب معقول من الدخل القومي”، و”مكافحة الأمية”، وغيرها من الشعارات التي لا شك قد عكست وبشكل ما وجود يسار مؤثر داخل الحركة الوطنية، ويمكن القول بثقة أن الشيوعيين كانوا أول من رفع مثل هذه الشعارات، ولا يعدو برنامج الضباط الأحرار وثورة يوليو كونه انعكاسا واضحا لتلك الشعارات (برنامج اللجنة الوطنية للطلبة والعمال) والتي كانت مكونة أساسا من الشيوعيين، حتى الوفديين أنفسهم انصاعوا لتأييد هذه الشعارات تحت الضغط الجماهيري، وكذلك لوجود مجموعة من الطلاب والشباب اليساريين داخل حزب الوفد.
الشيوعيون والكفاح المسلح في منطقة القنال 1951
كان الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني أحد أهم المطالب التي رفعها اليسار المصري آنذاك، واستطاع أن يدفع بعض القوى الأخرى لتبنيه، فمع استمرار النضال وجد الشعار الذي رفعه الشيوعيون عام 1946 حيزا للتطبيق في عام 1951، فبعد إلغاء المعاهدة كانت أول مظاهرة تخرج في يوم 14 نوفمبر 1951 تطالب بإباحة حمل السلاح.
ولكن الشيوعيين واجهوا مصاعب عديدة منها المباحث العامة والقسم المخصوص – الأمن الوطني حاليا – وقصر المدة التي قضوها هناك في منطقة القنال لم تمكنهم من بناء قواعد جماهيرية، باستثناء حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني)، كما مالت باقي التيارات الشيوعية للعمل مع الوفد.
حدتو – الشيوعيون – وثورة 1952
بداية كان موقف حدتو من ثورة يوليو شديد الوضوح، إذ كانوا يؤيدون وبشدة الثورة، لإدراكهم السابق بأن البلاد مقبلة على عملية تغيير، ولم يكن هناك مفر فإما أن يتم التغيير من قبل قوى اليمين، وإما أن يتولى التغيير جبهة يشارك فيها اليسار، في البداية كان هناك عدد من ضباط الصف وميكانيكيي الطيران أعضاء داخل حدتو، ومع حرب 48 تعرضت هذه الألوية اليسارية داخل الجيش لأول ضربة ولكنها لم تصفى تماما، ومن خلال ما تبقى تم عمل اتصالات بمجموعة من صغار الضباط المعاديين للاستعمار والسراي والإقطاع ولكنها ليست يسارية، وتشكل فيما بعد ما سُمي بالضباط الأحرار، لم يكن لهذا التنظيم – الضباط الاحرار – في بدايته الأولي لائحة أو برنامج، إلا أنهم تبنوا برنامج اللجنة الوطنية للعمال والطلبة بعد انضمام عدد من الضباط الأحرار لحدتو.
لم تمض العلاقة بين حدتو والضباط الأحرار على وتيرة واحدة، فمن تنسيق وتعاون كامل قبل الثورة إلى توتر شديد بعد الثورة، خاصة عندما بدأت الثورة تحاكم العمال عسكريا، بل تعدمهم – أحداث كفر الدوار – مما أدى لتشقق وتخلخل الحركة، فكيف يجتمع لها أن تؤيد الثورة التي أصبحت تعدم العمال وتناضل من أجل العمال في نفس الوقت؟!، وتعالت بعض الأصوات من داخل الحركة تتهم الثورة بالديكتاتورية وإذا بالثورة تبرهن على ذلك، فتم اعتقال كل من يعلو صوته مباشرة، ومحاكمتهم (عسكريا) وتم توزيع الشيوعيين على السجون المصرية، بل وزادت الدعاية ضدهم لدرجة استباحتهم ومهاجمتهم في مكان.
إبان تأميم القناة شعرت حكومة يوليو بخطر رد الفعل العدائي من قِبَل الدول الاستعمارية، فإذا بها تُفرج عن المعتقلين الشيوعيين للاستفادة من خبراتهم السابقة في منطقة القناة، وللمساعدة في التنسيق لمواجهة العدوان المحتمل، مستفيدين من علاقاتهم القديمة في المنطقة من خلال تأسيس نقابات وجمعيات تعاونية مختلفة، إلا أن طلب الحكومة كان صلفا متعاليا، ومفاده أنه ليس أمام الشيوعيين إلا الاشتراك مع حكومة يوليو في جبهة ضد الإنجليز، وأنه ليس أمامهم سوى الحكومة، مع العلم أن مشروع التأميم ذاته كان مطلبا لطالما نادى به الشيوعيون قبل الثورة، وشكلوا له لجنة سميت بـ”لجنة تأميم قناة السويس”.
29 أكتوبر وبدء العدوان
ما أن دقت الساعة الرابعة من مساء يوم الإثنين 29 أكتوبر 1956 حتى أُنزلت كتيبة من جنود الباراشوت الإسرائيليين لمسافة تبعد 40 ميلا شرق القنال بالقرب من ممر متلا، فتحركت القوات المسلحة من غرب القنال لصد الهجوم، في نفس الوقت الذي تسلمت فيه الحكومة المصرية إنذارا من كل من إنجلترا وفرنسا تطلبان فيه قبول الاحتلال المؤقت لمدن القناة، وكذلك سحب القوات 10 أميال غرب القناة، وحددتا مهلة 12 ساعة يحق لهما بعدها التدخل بأي قوة يريان من الضروري استخدامها، كان رد الحكومة وقتها ردا دعائيا بحتا يستحث بين سطوره جماهير الشعب المصري للقتال من أجل أن يشق طريقه للمستقبل.
وفي 31 من أكتوبر وبعد هجوم القوات البريطانية على مطار القاهرة، لم تجد حكومة يوليو مفرا من الرضوخ للإنذار الإنجليزي الفرنسي، وأمرت بالانسحاب السريع من سيناء وتوحيد النشاط كله غرب القناة بحجة إحباط خطة العدو مهما تكبد الجيش من خسائر!.
الشعب هو الحارس
أعلن عبد الناصر انضمام الشعب للجيش في نضاله ضد المحتل، لكن في حقيقة الأمر كان الشعب هو المنقذ وخط الدفاع الأخير ضد المحتل، ونشطت الماكينة الإعلامية للتغطية على هزيمة الجيش. ففي الوقت الذي تم الإعلان فيه عن انضمام لواء احتياط وكتيبة مشاه للدفاع عن بورسعيد، لم تكن تلك إلا ما تبقى منهما وغير مكتملة العدد أو العتاد، بعد تعرضهما للقصف الشديد أثناء انسحابهما من سيناء.
في بورسعيد وبعد يومين من الترقب المشحون بالقلق والانفعالات والتكهنات، وعمليات التهجير تتم بشكل محدود بين العائلات الثرية، يستخدمون فيها السيارات والقطارات بدون إشراف من المسئولين، بدأت طائرات العدو في يوم 31 أكتوبر تحلق على ارتفاع شاهق بغرض الاستكشاف والتصوير، واتجهت الجماهير بشكل عفوي لأقسام البوليس والحرس الوطني طلبا للتسلح للدفاع عن المدينة، ويومها تم توزيع السلاح على حوالي 700 فرد من غير المدربين.
يوم 1 نوفمبر، بدأت طائرات الاستعماريين تشن غاراتها على مداخل المدينة وتخومها، ودمرت المطارات خارج بورسعيد، كانت معنويات الجماهير مرتفعة، يساعدون المسلحين والجنود بتوفير المؤن والغذاء وكل ما استطاعوا المشاركة به في النضال ضد المحتل، وكنتيجة لقلة عدد الطيارين وتدمير المطارات لم تشترك القوات الجوية في صد الهجمات الجوية.
يوم 2 نوفمبر، لا تزال الروح المعنوية للجماهير مرتفعة، يندمجون شيئا فشيئا في مناخ المعارك، وينخرطون في مساعدة المقاومة المسلحة، تم إسكات المدفعية المضادة للطائرات، وانقطع تموين الخضر والفاكهة عن بورسعيد، أُغلقت معظم المحلات والمخابز، وظهرت أزمة حقيقية في توفير السلع التموينية، لا إمدادات من جانب الحكومة والمحافظ يرفض صرف سلع تموينية من الاحتياطي، توقفت حركة القطارات مما اضطر المهجرين لاستخدام القوارب للخروج عن طريق بحيرة المنزلة. وبحلول نهاية اليوم خرجت للنور أول مظاهرة نظمتها لجان المقاومة الشعبية تطالب بالتسليح، وضمت أفراد الحرس الوطني الذين لم تسمح لهم الظروف باستلام سلاحهم، وتوجهت المظاهرة إلى قيادة القوات في المدينة، ولكنهم فشلوا في تحقيق طلبهم بحجة “عدم اختصاص القيادة في هذه الفترة بتوزيع السلاح”، فما كان من المظاهرة إلا أنها قامت بعمل حملة للكتابة على الجدران مطالبين بتوزيع السلاح توزيعا عادلا.
يوم 3 نوفمبر، أصبجت الغارات أشد وأعنف، قضت تماما على مطار الجميل ومحطة الرادار والمدفعية هناك، وطريق بورسعيد الإسماعيلية، ولم يصمد أمام تلك الغارات سوى بعض مسلحي اللجان الشعبية الذين استخدموا كبائن الساحل كساتر لضرب طائرات العدو ثم الخروج سريعا من كل كبينة وتدميرها لإيهام طائرات العدو بأنه تم القضاء عليهم وهكذا دواليك، زادت مشكلة التموين تعقيدا دون اتخاذ أي إجراء من السلطات لحلها، قوات العدو تلقي منشورات تفيد بأنهم قادمون لتخليص الشعب من الحكم الديكتاتوري، وأنهم لا يقصفون مدنيين عزل، مع نشاط زائد للشائعات، ولا أي أثر لأية إجراءات دفاعية.
يوم 4 نوفمبر، العدو يواصل غاراته العنيفة مستخدما عددا أكبر من الطائرات بحرية مطلقة وأمان، بعد أن تم إسكات كل قوات المدفعية المضادة للطائرات، كان الهدف من الغارات هو بث الذعر بين المواطنين وإسكات أية أسلحة خفيفة مع المقاومين، وإزاء عنف الغارات وانعدام المقاومة اتصل ما بقي من مسلحين طالبين إمدادات وجنود وطائرات، لكن المسئولين اكتفوا بإرسال إمدادات من المدفعية الخفيفة المضادة للطائرات والأسلحة المتوسطة والخفيفة لتسليح المقاومة، معللين أن الدفع بأية قوات إضافية إلى المعركة في بورسعيد هو إضعاف لاحتياطي القوات في معركة خاسرة! مما يؤثر على الخطة الدفاعية الكاملة لأرض مصر.
وفي نفس اليوم بدأت إذاعة المستعمر – صوت بريطانيا – تبث تحذيرات لأهالي المدينة تحدد فيها الأماكن التي تنوي ضربها بهدف بث الرعب والبلبلة بين صفوفهم، لكن الأهالي الباقين لم يبارحوا أماكنهم.
يوم 5 نوفمبر، يتطور الهجوم لمستوى آخر فقد كان أعنف وأشد تركيزا وقربا من أماكن المدنيين (كالمحافظة ومعسكر الجولف ومنطقة الجميل)، قُصفت الكبائن التي تركزت فيها المقاومة بالنابالم ورصاصات عيار 20 مم المضادة للطائرات، مما دفع المسلحين أو ما بقي منهم لاتخاذ مواقع جديدة داخل المدينة وسط الجماهير، لتبدأ مرحلة جديدة يخوضون فيها المعركة جنبا إلى جنب، وفي نفس اليوم وصل قطار وعدد من عربات الجيش محملين بالسلاح الذي تم الرد به في اليوم السابق، ولكن لم يتم توزيع الأسلحة بسبب شدة القصف، ولكن الجماهير المشتعلة توجهت للقطار والمدرسة الثانوية حيث السلاح، وتحت ضغط الجماهير بدأ الضباط بتوزيع السلاح على المواطنين، وتحول الموقف لاستحالة السيطرة على اندفاع الجماهير للحصول على السلاح، وحطموا كل العربات والصناديق التي تحتوي على الأسلحة للحصول على السلاح، وشابت العملية بعض الأخطاء التي تنطوي على الكثير من المخاطر: أولها أن معظم السلاح سوفييتي وتشكيي الصنع ورد حديثا ويراه المواطنون لأول مرة ولا يعرفون كيفية استخدامه، ثانيا: حصول بعض المواطنين على سلاح غير كامل الأجزاء حيث يُشحن مفككا، ثالثا: حصل بعض الخونة والطابور الخامس على قدر من الأسلحة.
لكن في النهاية المحصلة ككل كانت إيجابية، حيث قامت لجان المقاومة الشعبية ببذل مجهود جبار في إعادة تجميع السلاح، وعمل معسكرات تدريب بالتعاون مع من بقي من جنود لتدريب المواطنين، وملأت الجدران بشعارات مثل “كل منكم يدرب الاخر”، و”لا تبخل على زميلك المدرَّب بالسلاح” و”لا تطلق رصاصك في الهواء”.
واستكمالا لهذا اليوم الحافل، فقد بدأت بعض القطع البحرية من بوارج وحاملات طائرات وناقلات الجنود في الاقتراب من شواطيء بورسعيد، في الوقت الذي يشتد فيه القصف وتركيزه لعمل ساتر لإنزال القوات البرية بالمظلات ومن البحر، وبالفعل بدأ الإنزال بالمظلات في منطقة الجميل أولا، وكان الإنزال وهميا حيث أنزل العدو دمي بالمظلات لجذب المسلحين، ثم تسمع تارة أخري نداء يُعلن إنزال في “الرسوة” في أقصى الجنوب، فيستخدم المواطنون السيارات الكارو والنقل لنقل المسلحين لمنطقة الإنزال الجديدة، وهكذا ظلت معارك مقاومة الإنزال مستمرة ما لا يقل عن 4 ساعات، استمات فيها المسلحون في صد إنزالات العدو وكبدوه بالفعل خسائر فادحة، ومع تكرار الإنزال من أقصى الشمال وأقصى الجنوب استطاع المحتل في النهاية أن يسيطر على مخارج ومداخل المدينة.
أما داخل المدينة وبالرغم من الوضع الكارثي، ظل الأهالي يتجمعون للمساعدة في تنظيف وصيانة الأسلحة، وجمع الجثث بعربات اليد، والمساعدة في إسعاف المصابين، في الوقت الذي لم يكن في المدينة سوي 4 سيارات إسعاف فقط، وانقطعت إمدادات المياه والكهرباء عن المدينة، وتزايدت عمليات الهجرة بشدة من خلال بحيرة المنزلة.
وبحلول نهاية اليوم وصلت رسالة لمحافظ بورسعيد لإبلاغها لقائد قوات بورسعيد، مفادها أن قائد القوات الفرنسية يطلب وقف إطلاق النار، وقَبِل قائد القوات الهدنة وتوجه بمصاحبة إثنين من مساعديه لمقابلة قائد القوات الفرنسية التي تحتل محطة المياه بمنطقة الرسوة، وقد ترتب على وقف إطلاق النار عدة أشياء، أولها: استغل العدو الفرصة وعزز قواته في بورفؤاد والجميل والرسوة ونجح في إنزال المصفحات. ثانيا: أعلن إيدن في مجلس العموم البريطاني زورا إستسلام بورسعيد، محاولا إنقاذ حكومته من ضغط المعارضة، بادعاء أن الموقف في طريقه للحل على مائدة المفاوضات.
يوم 6 نوفمبر: معنويات الجماهير مرتفعة، وبدأت تشكيل لجان حقيقية للدفاع، كان أولها استعدادا في حي العرب، وبدأت تزحف في اتجاه الشاطيء ساحقة كل القوات التي تحاول دخول المدينة من هذا الاتجاه، مما دفع القوات المحتلة للجنون، فأفرغوا وابلا من النابالم والرصاص على كل ما يتحرك وانتهى اليوم بمحو حي المناخ بالكامل وحرق منطقة الكبائن، وشارع عبادي وعباس، لا مياه لإطفاء الحرائق، ولا يوجد إمدادات من أي نوع على الإطلاق، ثم تحرك العدو بموكب من الدبابات لدخول المدينة رافعا علمي مصر وروسيا، مما خدع المقاتلين الذين تجمهروا لإستقبالهم ظانين أن المدد قد جاء، والنتيجة مذبحة وأكثر من 500 شهيد.
7 نوفمبر: المحتل يحكم قبضته على مداخل ومخارج المدينة، اضطر ما بقي من الجنود إلى تغيير زيهم العسكري وارتداء ملابس مدنية، والاندماج في صفوف الشعب، حالة مجاعة حقيقية، والآلاف يحتشدون على البحيرة للهجرة.
9 نوفمبر: فرض حظر التجول من قِبَل المحتل من الساعة الخامسة مساء كل يوم.
المقاومة، ودور حدتو والشيوعيين
شأنه شأن أي مستعمر، لم يكف المحتلون عن ممارسات القتل والقمع والسلب والنهب والاغتصاب والترويع، مما أدى إلى بث الروح الانهزامية، والحقيقة أن المحتل نجح في الأيام الأولى في خلق جو من الذعر والإرهاب، ودعمه في ذلك المجاعة ونقص جميع الموارد.
لكن هذه الروح لم تدم طويلا، فبعد الأيام الأولى من العدوان ما لبثت أنوية بعض التحركات السرية أن تشكلت، ونتج عن تلك التحركات واللقاءات تكوين بعض الجماعات الصغيرة وهي:
1- اللجنة العليا للمقاومة الشعبية، وتضم عناصر من الشيوعيين “حدتو”.
2- اليد السوداء وتضم مجموعة من الشبان ذوي الحس النضالي في حي العرب.
3- المقاومة الشعبية، وتضم مجموعه متنوعة من مناهضي الاحتلال.
4- الانتقاميون الأحرار، وتضم مجموعة من المناضلين في حي الإفرنج.
5- لجنة العمال للمقاومة الشعبية، وتضم عمالة منظمة أساسا في قطاع البترول.
6- هاتا شاما، وكونتها هيئة التحرير.
7- ج. س. أي الجيش السري وتضم أفراد من الصاعقة.
اللجنة العليا للمقاومة الشعبية
شكلت “حدتو” بعد الأسبوع الأول من العدوان “اللجنة العليا للمقاومة الشعبية”، والتي كانت بمثابة القلب من عملية توحيد الفصائل وتدشين عملية المقاومة، وأسست لها فروعا على مستوى الأحياء والشوارع الكبرى.
توحيد فصائل المقاومة
دعت اللجنة العليا للمقاومة الشعبية – الشيوعيين – كافة التنظيمات الأخرى للتوحد معا في جبهة واحدة، واستجاب الجميع ما عدا منظمة واحدة تابعة لهيئة التحرير (هاتاشاما)، وهي أساسا هيئة حكومية!، وأصدر الجميع بيانا أعلنوا فيه تأسيس الجبهة، وشكلت هذه الجبهة فيما بعد قوة منظمة ضاربة.
مراحل مشاركة حدتو في المقاومة:
1- المرحلة الاولي (الأيام العشرة الاولي من العدوان):
وكانت المهمة فيه تقع على عاتق المجموعة التي خرجت مؤخرا آنذاك من المعتقل، وهم من أبناء بورسعيد، وانصبت فيه المهمة بالأساس على تشكيل نواة اللجنة العليا للمقاومة الشعبية، نقل اللنشات من القناة إلى البحيرة على سيارات كارو لمساعدة عمليات الإجلاء، وتوزيع السلاح على الأهالي يوم 5 نوفمبر، وتوصيل عدد من سيارات السلاح إلى شارع كسري داخل المدينة، والبدء في توجيه الأهالي في حالات الفوضى تحت القصف باستخدام سيارات ومكبرات صوت لأماكن القصف والأماكن الآمنة، وتشكيل لجان إعاشة مع بدء انقطاع الموارد، وتوزيع منشور أو إثنين يوميا على الأهالي. كانت المهمة في هذه المرحلة بالأساس خلق حالة من السيطرة الذاتية الشعبية على الموقف، وكذلك خلق قنوات وأدوات إتصال بين الجماهير وبعضهم، وبين المقاومة والجماهير.
2- المرحلة الثانية (خروج مجموعة من كوادر حدتو من أبناء بورسعيد إلى المدينة):
بعد الأسبوع الأول من العدوان شوهد أحد ضباط المخابرات الإنجليز، والذي كان معروفا لديهم سابقا حيث كان متواجد قبل 1952، سيء السمعة لا يشق له غبار في تتبع التنظيمات والقبض على عناصرها، وكان سببا في القبض على عدد منهم قبيل يونيو 52، ولدواعٍ أمنية قرر الكوادر المعروفون مغادرة المدينة لعمل منطقة تدريب وإمداد خارج بورسعيد في القنطرة لاستقبال المتطوعين والفدائيين من مناطق الشرقية والمنصورة، وكذلك التدرب علي بعض الأعمال العسكرية المطلوب تعليمها للمسلحين داخل المدينة، ونقل أخبار من وإلى المدينة، وعمل خطة لمنطقة آمنة على أطراف المدينة المعزولة بسبب الطوق الأمني للمحتل. وقد كلل هذا التحرك بالنجاح فقد تمكنوا من تجميع وتوصيل أكبر قدر من المعلومات والتي ساهمت بقوة في تغير نوعية النضال، كما خلقوا مناطق تجميع وتدريب خارج المدينة لتوريد الكوادرالمدربة سواء تنظيميا أو قتاليا، وأخيرا جلب أدوات الطباعة والدعاية والتي ساهمت بشكل كبير في تنظيم صفوف الجماهير أثناء عملية الكفاح ضد المحتل.
3- المرحلة الثالثة (العودة مع عدد كبير من الكوادر ومعهم مستلزمات طباعة)
ما حدث خلال المرحلتين الأولى والثانية كان بمثابة القاعدة الصلبة لانطلاق نضال منظم ضد المحتل، فبخلق قنوات اتصال آمنة وفعالة داخل وخارج المدينة، وبدخول أدوات الدعاية والنظم، بدأ الأهالي يثقون في شكل لجان المقاومة الشعبية ويلتفون حوله، وبدأت ماكينة الدعاية أولا بنشر منشورات مضادة ترد فيها لجان المقاومة على منشورات المحتل، مما رفع روحهم المعنوية كثيرا، ومع خبر وصول قوات الطواريء الدولية، انتهزت اللجنة العليا الفرصة لتنظيم أول مظاهرة بعد العدوان بتاريخ 21 نوفمبر، بل وكسرت بها حظر التجول لأول مرة.
وخلال تلك المظاهرة قتلت قوات الاحتلال الطفل “حسن حمودة” عن عمر 11 عاما، حيث كان يقود الهتاف في المظاهرة، مما شجع المزيد من الجماهير لكسر حاجز الخوف الذي بناه الاحتلال في الأساببع الثلاثة التي مضت، وكرد على مقتل الطفل أعلنت كل محلات بورسعيد إضرابا عاما في اليوم التالي 22 نوفمبر، وعمل الشيوعيون من خلال المنشورات على نشر وتنظيم تلك المبادرة، وامتنع التجار عن توريد أية مستلزمات لقوات الاحتلال، بالرغم من التهديدات السابقة بنهب المستلزمات بالقوة من المحال، وصدر العدد الأول لمجلة “الانتصار” لسان حال المقاومة في بورسعيد يوم 10 ديسمبر، والعدد الثاني يوم 19 ديسمبر، ووصل عدد ما يتم طباعته حوالي 300 مراسلة كل ساعة، فضلا عن آلاف المنشورات يوميا.
وبتطورعمل مدارس القتال الشعبية داخل وخارج بورسعيد تضاعفت أعداد العمليات الفدائية التي استهدفت قوات الاحتلال، مما كبدها خسائر فادحة، جاعلا جيشي بريطانيا وفرنسا الدولتين العظميتين آنذاك لا يطيقان صبرا أمام حرب شوارع يقودها شعب مسلح.
مساهمة بعض الجاليات في المقاومة
شاركت بعض الجاليات العربية والأجنبية المقيمة في بورسعيد في المقاومة، وتعاونت بشكل فعال مع الجبهة المتحدة، ومنها منظمة “أيوكا” – شيوعيون أيضا – وهي منظمة تحرير قبرص، و”اللجنة السودانية لمقاومة الإستعمار”، وكذلك الجالية النوبية، وقامت بتنسيق نشاطهم مع الجبهة، وكذلك أصدرت أيوكا منشورات تدعم المقاومة وتتضامن معها وترفض محاولات المستعمر التقسيم وشق الصف بينهم وبين المواطنين، ذاكرين أنهم طالما حاربوا نفس المستعمر في وطنهم، كما أمدت “أيوكا” الجبهة بمعلومات عن تشكيلات المستعمر وعتاده باعتبار أن معظم الجالية كان يقطن بحي الافرنج مقر تمركز قوات الإحتلال، فأرسلوا تقارير مفصلة عن عدد القوات وأماكنها وأنواع أسلحتها ومدى التعاون بين الفرنسيين والإنجليز.
محاولات إنكار دور “حدتو” والشيوعيين في المقاومة
على الرغم مما ذكرنا من حقائق مع ندرة المصادر في هذا الموضوع، فإن السلطة وكذلك بعض الناصريين قد حاولوا إنكار ذلك الدور التاريخي لحدتو والشيوعيين، ومن جانب آخر فإن الشيوعيين وحدتو تعرضوا للتنكيل والاضطهاد بعد نهاية العدوان وطوال السنوات التالية، ففي 1957 على سبيل المثال تم شطب جميع المرشحين الشيوعيين من قوائم الانتخابات النيابية بأوامر سيادية، كما شمل الشطب كل من له علاقة وثيقة أو نضالية معهم، ومن المثير للدهشة أن السلطات تعاملت مع أبناء حدتو بطريقة بوليسية يوم 23 ديسمبر 1957 في الاحتفال الذي حضره عبد الناصر، إلا أنه لم يستطع أن يمنع الجميع من الحضور، ومنهم من تم اعتقاله وتعذيبه في السجون الحربية، كما تم اعتقال كل عناصر القوات المسلحة التي على علاقة بحدتو وتم إيداعهم السجون الحربية وتجريدهم من رتبهم.
مراجع ومصادر:
حدتو: ذاكرة الكفاح المسلح والمقاومة في القنال 51 وفي بورسعيد 56
يوميات عن المقاومة في بورسعيد : محمد منير موافي
يساري متميز: أحمد الرفاعي