الطبقة العاملة هي البديل

مقدمة
الطبقة العاملة المصرية لها تاريخ مبهر. فمنذ بداية القرن العشرين، وعلى امتداد مئة عام أو أكثر، ظل العمال يلعبون دورا أساسيا في تشكيل الأحداث في مصر؛ سواء في أيام ثورة 1919 من خلال الإضرابات العامة وتشكيل عشرات النقابات، أو في أيام ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تتوجت بتشكيل اللجنة الوطنية للعمال والطلبة في 1946 وبسلسلة الإضرابات في القاهرة والإسكندرية وقناة السويس وكفر الدوار.. الخ، أو في أيام السبعينات بإضرابات الحديد والصلب والنقل العام والنقل الخفيف وغيرها، أو في الثمانينات بالإضرابات الخمسة الكبرى في المحلة وكفر الدوار والحديد والصلب وإسكو والسكة الحديد.
هذه الأيام تعود الطبقة العاملة إلى مقدمة المشهد. ربما يكون الحكام وأصحاب السلطة قد نسوا طعم النضال العمالي وأثره. لكن الطبقة العاملة تنعش ذاكرتهم الآن. فمع إضرابات المحلة وكفر الدوار وغزل شبين والمنصورة إسبانيا والمطاحن والأسمنت وغيرها كثير، عادت الطبقة العاملة المصرية لتساهم في كتابة تاريخ مصر وتشكيل مستقبلها، كعادتها دائما منذ نشأتها قبل أكثر من قرن من الزمان.
في النصف الأول من عام 2007 وحده، وبعد إضراب عمال غزل المحلة العظيم في ديسمبر 2006، وقع ما يقترب من 400 احتجاج عمالي (بالتحديد 386 احتجاج) في مختلف القطاعات والمحافظات وبمختلف الأشكال، من الإضراب إلى الاعتصام إلى التظاهر إلى التجمهر. هذا الانفجار النضالي، هذا المهرجان الكفاحي، يعلن عن عودة قوية للطبقة العاملة، عودة ستمكّنها – كما قلنا – من لعب دور أساسي في تشكيل مستقبل هذا البلد في الشهور والسنوات القليلة القادمة.
ليس فيما نقول مبالغة: الطبقة العاملة المصرية – إن أخذت حركتها شكلا متماسكا وموحدا – ستكون هي المسئول الأول عن قيادتنا جميعا إلى مستقبل أفضل؛ مستقبل نتحرر فيه من حكم الظالمين والمستغلين، ونصنع فيه مصيرنا لنتوقف عن كوننا مجرد عبيد لحفنة من اللصوص والسفاحين.
في السطور القليلة القادمة سنحاول أن ندافع عن فكرة بسيطة نحن مقتنعون بها ومؤمنون بأنها تمثل فرصة المستقبل لهذا البلد. الفكرة مضمونها أن الطبقة العاملة المصرية مؤهلة لقيادة النضال السياسي في مصر، وأنه إن حدث هذا فسوف تتوفر لهذا النضال الفرصة ليس فقط للانتصار، وإنما أيضا لتحقيق مكاسب حقيقية لكل الفقراء والكادحين.
تاريخنا الذي ينبغي أن نفخر به
إن تاريخ الحركة العمالية المصرية هو نفسه تاريخ موجات المد والجزر في الصراع الطبقي. وهو يشهد بأن عمال مصر لعبوا الدور الأكبر والأعظم في تشكيل الأحداث وصناعة التاريخ الحديث لبلدنا، ولو أنهم لم يحققوا للأسف نصرا كاملا على مستغليهم، حيث انتهت المعارك الكبرى دائما بـ”سرقة” نتائج المعركة وتحويلها بعيدا عن مصلحة من خاضوها ودفعوا العرق والدماء ثمنا لتحقيق النصر فيها.
أول نقابة عمالية أنشئت في مصر كانت نقابة لفافي السجائر العاملين في شركات الدخان عام 1899. نشأت هذه النقابة بعد إضرابات متتالية قام بها العمال ردا على خفض أجورهم، وكانت في الأساس نقابة عمال مهرة أجانب مما جعلها أقرب إلى نقابة حرفيين ذات طابع محدود وضيق. وقد اندثرت هذه النقابة عندما فقد لفافي السجائر وضعهم المتميز مع التطور التكنولوجي الذي لحق بصناعة الدخان.
ويمكننا اعتبار أن البداية الحقيقة للنقابات أتت مع الموجة الأولي للإضرابات الكبيرة في الفترة من 1908 إلى 1911. ففي هذه الفترة، ومن قلب حركة الطبقة العاملة، أنشئت عدد من النقابات أهمها نقابة الصنائع اليدوية، وهى النقابة التي انهارت بعد ضرب الإضراب الذي قامت به في عام 1910. وهناك أيضاَ نقابة عمال الترام بالقاهرة، وهى النقابة التي تشكلت في ذروة حركة إضرابية واعتصامات قام بها عمال الترام، وكانوا يمثلون طليعة الطبقة العاملة في العقد الأول من القرن العشرين.
إلا أن حركة الطبقة العاملة عادت لتملأ الدنيا صخبا في أوائل 1919. فمع الموجات المتتالية للمد، خاصة قبيل ثورة 1919، تكونت نقابات قوية عديدة. وقد اشتد عود هذه النقابات في أثناء الثورة. حيث نُظمت إضرابات عديدة، على رأسها إضراب عمال الترام طوال شهر مارس وجزء من أبريل، إلى جانب إضرابات ومظاهرات عمال المطبعة الأميرية وعمال السكر بالحوامدية. ولعل خير دليل على تأثير حركة العمال المصريين خلال الثورة هو البيان الذي أصدره زعيم الثورة “سعد زغلول” ينادي فيه العمال بعدم الإضراب واصفا إياه بالبدعة الغربية خاتما قوله بمأثورة شهيرة: “على الرعاع أن يعودوا للمنازل”!
وهكذا، فقد كان مجيء الطبقة العاملة إلى ساحة الثورة يقلق مضاجع أصحاب المصالح الجديدة من أصحاب عمل ورأسماليين. فقد خافوا أن تقوم الجماهير، وفى قلبها الطبقة العمالية، بالإطاحة بهم في غمار تصاعد المعركة التي بدأت كنضال “وطني” ضد الاستعمار البريطاني.
تمسك العمال بسلاحهم المتمثل في الإضراب، واستمروا في تشكيل النقابات. حيث أعادوا تكوين نقابة عمال الترام، إلى جانب تكوين نقابات لعمال الطباعة، ونقابات أخرى في قطاعات الغاز والكهرباء والماء، بحيث وصل عدد النقابات في 1921 إلى نحو 90 نقابة مقابل 21 نقابة فقط في بداية 1919. ووسط سيل النقابات والإضرابات، تكّون “الاتحاد العام للعمل” الذي ضم 21 نقابة بالإسكندرية، والذي انتهي إلى تكوين الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، وهو الاتحاد الذي ربط نفسه بأول حزب يدافع عن الاشتراكية ومصالح الطبقة العاملة في تاريخ مصر المعاصر، وهو الحزب الاشتراكي الذي تغير اسمه لاحقا إلى “الحزب الشيوعي”.
لقد تعلم الوليد السير! عرفت الطبقة العاملة المصرية طريق الإضراب والتنظيم النقابي الديمقراطي, بل وبدأت تعرف طريق التنظيم السياسي ممثلا في الحزب الشيوعي. هنا استبد الفزع بسعد ورفاقه. لقد أصبحت عروشهم وعروش الإقطاعيين والرأسماليين مهددة، خاصة بعد موجة الإضرابات التي نظمها الاتحاد العام للنقابات والحزب الشيوعي في نهاية 1923 في الإسكندرية وكفر الزيات والقاهرة, وخاصة بعد أن تصاعدت الاحتجاجات العمالية لتصل وفق بعض التقديرات إلى مشاركة نحو 200 ألف عامل في إضرابات في الفترة من 1921 إلى 1924. هنا قامت الطبقة التي تحكم مصر بقيادة سعد زغلول بضرب وتصفية الاتحاد العام للنقابات والحزب الشيوعي وسجنت قياداتهما وأعلن حزب الوفد عن تكوين اتحاد عام للنقابات خاضع له وتحت سيطرته.
احتاج العمال فترة طويلة نسبيا حتى يتعافوا من آثار ضربة الوفد الموجعة. إلا أن هذا لا ينفي استمرار صراعهم ضد أصحاب العمل الأجانب والمصريين طوال الثلاثينات، بالرغم من أن نقاباتهم كانت غائبة بفعل فاعل. كل هذا بينما كانت أحزاب القصر والوفد والأمراء تتنافس على تكوين نقابات عمالية من باب فرض الهيمنة على حركة العمال.
ولكن سرعان ما انقلبت الأوضاع مع بداية الأربعينات. فمع تصاعد حركة الإضرابات العمالية – خاصة في قطاع النسيج – كانت السماء تمطر نقابات: نقابات قادمة من صفوف العمال، وليس من ردهات القصور. ذلك أن سنوات الأربعينات كانت سنوات المعارك العمالية الأكثر قوة وجذرية في تاريخ الطبقة العاملة المصرية.
انتقل مركز قيادة الطبقة العاملة المصرية في الأربعينات من عمال المرافق والخدمات إلى عمال صناعة المنسوجات. حيث خاض عمال هذه الصناعة نضالات بطولية دفاعا عن حقوقهم. وكان لنقابة عمال النسيج الميكانيكي في شبرا الخيمة دورا بارزا في قيادة إضرابات ضخمة في النصف الأول من الأربعينات، حتى أن حكومة إسماعيل صدقي قامت في 28 أبريل 1945 بحل النقابة. وقادت النقابة بعد عودتها إضرابا استمر لمدة 19 يوما في يناير 1946. في ذلك العام – 1946 – كانت مصر تعوم فوق بحر من الإضرابات العمالية في المحلة الكبرى وشبرا الخيمة والإسكندرية. ومن وسط هذه الإضرابات كانت تولد النقابات، حتى لقد طار صواب أبواق القصر وأصحاب المال مثل مصطفي أمين وعلى أمين، وبدءوا يصرخون محذرين من طوفان الإضرابات والنقابات التي تكاد تغرق مصر!!
في هذه السنوات الرائعة زاد عدد النقابات من 210 نقابة تضم في صفوفها 103 آلاف عامل في عام 1944 إلى حوالي 500 نقابة في عام 1949، كانت معظمها في القاهرة والإسكندرية ومنطقة قناة السويس. وكانت نقابة عمال النسيج الميكانيكي وحدها تضم نحو 150 ألف عامل.
استطاعت هذه النقابات الخارجة من رحم حركة العمال أن تنافس “نقابات الأحزاب” الموجودة على الساحة السياسية في ذلك الوقت، بما فيها الأحزاب الموالية للقصر أو للرأسمالية المصرية الصاعدة.
لكن في ذروة نضال العمال في بداية الخمسينات، وبعد أن كانت الطبقة العاملة قد نجحت في هزّ التوازنات السياسية الفاسدة، خرج الجيش من الثكنات ليستولي على السلطة قاطعا الطريق على تطور حركة العمال.
كان هاجس مواجهة الحركة العمالية الصاعدة هاجسا أساسيا لدى العسكر القادمين من الثكنات. ومن هنا كان الرد الوحشي على إضراب عمال كفر الدوار في أغسطس 1952 بعد أقل من شهر من حركة الضباط. حيث تم قمع الإضراب بيد من حديد، وتم تحويل قياداته للمحكمة العسكرية التي أصدرت الحكم بالإعدام على العاملين خميس والبقري.
ثم التفت العسكر إلى النقابات العمالية. حيث قاموا بتصفيتها، وبدءوا في فرض العناصر الصفراء والخائنة على قياداتها، وهو ما أدى على حد وصف النقابي اليساري عطية الصيرفي إلى “عسكرة الحركة النقابية”. حيث سارت حركة الجيش، بعد انتهاء الصراع بين أجنحتها وانتصار جناح عبد الناصر في 1954 بشكل نهائي، في طريق احتواء حركة الطبقة العاملة وحصرها في اتجاه خدمة السلطة. وقد ساعد على نجاح سياسات النظام الناصري الانتعاش الاقتصادي الذي مر به الاقتصاد العالمي في الخمسينات والستينات، وهو ما أتاح لعبد الناصر تقديم العديد من التنازلات للطبقة العاملة، علي سبيل المثال منع الفصل وزيادة الأجور وتوفير السكن للعمال… الخ. هكذا نشأت البيروقراطية العمالية المكونة من قيادات النقابات الرسمية مستندة على الدولة بل ومندمجة في أجهزتها ومنفصلة تماما عن القاعدة العمالية.
بعد وفاة عبد الناصر وتولي السادات مقاليد السلطة، قام الأخير بالإعلان عن إجراء الانتخابات النقابية العمالية التي كانت معطلة من 1964، في إطار محاولته جذب العمال إلى تأييده في صراعه ضد مجموعة “على صبري” التي انقض عليها في 15 مايو 1971. ولكن الانتخابات النقابية جاءت بما لا تشتهي سفن السادات، حيث وصلت نسبة التغيير في هذه الانتخابات إلى نحو 80% من عضوية اللجان والأجهزة النقابية. واستطاع اليسار أن يحصد مقاعد غير قليلة داخل النقابات. وسرعان ما دخل السادات في مواجهة مع عناصر اليسار داخل النقابات. فبعد أسابيع قليلة من الانتخابات، وفى أغسطس 1971 أصدر اتحاد عمال مصر بيانا استنكر فيه سياسات الإرهاب التي اتبعها النميري – صديق السادات – تجاه اليسار السوداني. وبعد خمسة أيام من صدور البيان التقي السادات مع ممثلي النقابات حيث أعلن ضرورة إجراء تطهير منظم لصفوف الحركة النقابية من العناصر “المستقطبة” و”المريضة”!
هكذا أسفر السادات عن وجهه الحقيقي في مواجهة ممثلي العمال. فلقد اكتشف أن إعطاء العمال حرية اختيار ممثليهم يهدد كرسيه، مثلما كانت تهدده مجموعة “على صبري”، فقرر أن يكشر عن أنيابه.
ولم يكد السادات ينتهي من مواجهة العناصر اليسارية النقابية حتى وجد نفسه أمام العملاق الذي خرج من القمقم. فقد توالت الإضرابات العمالية معلنة ميلاد حركة جديدة، خارجة هذه المرة من مصانع حلوان التي أنشئت في الخمسينات والستينات. فكان إضراب عمال الحديد والصلب في أغسطس 1971، وهو الإضراب الأول الذي يقوم به عمال قطاع الصناعات الهندسية في حلوان. أعلن هذا الإضراب عن ميلاد طليعة جديدة للطبقة العاملة قادت الحركة العمالية طوال السبعينات.
كان إضراب الحديد والصلب بمثابة إعلان عن استعادة الطبقة العاملة لسلاح الإضراب. ولكن المفارقة هذه المرة أن النقابات لم تولد من رحم الإضراب، بل على العكس وقف العمال المضربون في وجه نقابات الدولة. كانت الإضرابات تنظم بعيداً عن النقابات واللجان النقابية، وفى بعض الأحيان في مواجهتها. وفى حالة وقوف بعض أعضاء اللجان النقابية مع الإضراب كانت مكافأتهم جاهزة عند الدولة: العزل والسجن والتشريد!
وكما ذكرنا، كان إضراب الحديد والصلب مجرد إشارة بداية لدورة جديدة من تصاعد النضال العمالي. فبالفعل تلت هذا الإضراب سلسلة من الإضرابات والمظاهرات العمالية منها إضرابات عمال شبرا الخيمة وعمال ميناء الإسكندرية في 1972. ثم تواصل النضال حتى رأينا السبعينات تشهد زخم عمالي غير مسبوق منذ تولي العسكر السلطة. حيث طلع نهار 1 يناير 1975 وعمال حلوان يضربون ويتظاهرون ضد الحكومة مطالبين بإقالتها، وتضامن معهم عمال شبرا الخيمة وعمال المحلة الكبرى. ورغم “أنياب” ديمقراطية السادات التي طالت العمال وقيادييهم في هذه الإضرابات، إلا أن الحركة العمالية سارت على درب الإضراب طوال عام 1976. حيث أضرب في هذا العام عمال المصانع الحربية في حلوان وعمال النصر للسيارات وعمال النقل العام.
وكانت انتفاضة 18 و19 يناير 1977 بمثابة نقطة الذروة في حركة الطبقة العاملة المتصاعدة في السبعينات. حيث قام عمال حلوان في 18 يناير بالتوقف عن العمل بعد قرار الحكومة برفع الأسعار. وفى اليوم التالي انتشرت المظاهرات العمالية مثل النار في الهشيم في معظم المحافظات المصرية، وكان لعمال حلوان وشبرا والترسانة البحرية الدور الأهم والأكبر في هذه الانتفاضة التي تراجع السادات على أثرها عن قرارات رفع الأسعار.
وقد اتسمت الحركة العمالية الصاعدة في السبعينيات بعدة سمات، لعل أهمها – كما ذكرنا سابقا – هو تصاعد المواجهة بين البيروقراطية النقابية الفاسدة والقاعدة العمالية الغاضبة. أدان الاتحاد العام للعمال جميع الإضرابات العمالية في تلك الفترة واصفا إياها بأنها عمل غير واع ولا مسئول لقلة منحرفة مندسة على العمال. هذا إلى جانب إدانة النقابات العامة للإضرابات “ذات التأثير السلبي التخريبي على الجبهة الداخلية”! لكن على الوجه المقابل كانت مواقف اللجان النقابية المصنعية تتنوع ما بين إدانة الإضراب، أو التردد والانقسام حول الموقف منه، أو في أحسن الأحوال – وفي حالات محدودة – تأييده تأييدا خجولا.
أما بعد انتقال الحكم لمبارك، فقد ترقّب العمال سياسة الحاكم الجديد، ثم أدرك الجميع بعد فترة قصيرة أنه يسير على درب سياسات سلفه: سياسات انتزاع الخبز من فم العمال لملء كروش أصحاب المال. ولذلك، فمع تصاعد الأزمة الاقتصادية في منتصف الثمانينات بدأت الطبقة العاملة في التحرك مجددا. فكانت إضرابات عمال النسيج بالمحلة وإسكو والسكك الحديدية وغيرها. ولعل أهمية الإضراب الأخير تبرز في أنه دشن أهم وأقوى محاولة عمالية للخروج عن التنظيم النقابي الموجود. حيث قادت الإضراب الرابطة العامة لسائقي السكة الحديد في مواجهة النقابة العامة لعمال السكك الحديدية. وقد استمرت بالفعل هذه الرابطة بعد انتهاء الإضراب، إلا أن دورها تم تهميشه بفعل دور الدولة في مواجهتها، ولأن التجربة لم تخلق تيار داخل العمال، فوقفت معزولة وحدها في بحر من النقابات السلطوية!
أما في التسعينات، فكلنا عاصر القصة بكاملها: بدأت الدولة في 1991 – بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وبعد الرشوة التي تلقتها من أمريكا في حرب الخليج الثانية – في تنفيذ برنامج أُطلق عليه برنامج التثبيت الهيكلي. وكان من شأن هذا البرنامج رفع معدلات استغلال العمال في كافة القطاعات. ولذلك رأينا أنه بدءا من حوالي منتصف التسعينات تصاعدت الإضرابات العمالية ذات الطابع الدفاعي في محاولة من جماهير العمال لمقاومة هجوم الدولة وأصحاب الأعمال الشرس على مستويات معيشتها وشروط عملها.
اتسمت إضرابات النصف الثاني من التسعينات بالتفتت والانعزال وعدم القدرة على حشد تضامن عمالي واسع النطاق. وكان هذا من نتائج عسكرة الحياة النقابية والعمالية على مدى العقود السابقة. فمع مجيء التسعينات كانت معظم منافذ التعبير العمالي المستقل، ومعظم العناصر العمالية النضالية، قد تمت تصفيتها وتهميشها بقسوة أمنية غير مسبوقة: النشرات والمجلات العمالية التي توسعت في خضم المعارك العمالية في النصف الثاني من الثمانينات (صوت العامل، الصنايعية، أوراق عمالية) انتهت؛ الصفوف الجديدة من مناضلي حلوان العماليين في الحديد والصلب والمصانع الحربية والمواسير وغيرها تهاوت وحوصرت وفقدت صلتها بالعمال؛ وعلى هذا المنوال كان الأمر في مختلف المناطق العمالية داخل القاهرة وخارجها. ثم بدأت الدولة في التصفية المباشرة للمصانع وفي بيعها, وهو ما لا نحتاج إلى شرحه أو وصفه لأننا جميعا شهود عيان على ما يتم.
على جانب آخر، كان عقد التسعينات هو عقد إعادة هيكلة الطبقة العاملة المصرية: فكما تقلصت الطبقة العاملة في قطاع رأسمالية الدولة (القطاع العام)، ولدت في نفس المرحلة قطاعات عمالية جديدة تركزت فيما أطلق عليه المدن الصناعية الجديدة كالعاشر من رمضان، السادس من أكتوبر، السادات، وغيرها. على هوامش المراكز الحضرية القديمة، وفي ظل سياسات الدعم اللانهائي لرأس المال، ولدت أجيال جديدة من العمال الصناعيين. كان هذا متزامنا مع توسع فئات جديدة من عمال الخدمات في سلاسل المطاعم الجاهزة، ومحلات تجارة التجزئة، وغيرها من المؤسسات والشركات.
عمال “الطبقة العاملة الجديدة” لا يعرفون النقابات. فبينما كانت مشكلة عمال القطاع العام هي عسكرة النقابات، فإن مشكلة العمال الجدد كانت، ولازالت، غياب النقابات. هذا الغياب تم بفعل فاعل! فالدولة بأجهزة قمعها، والرأسماليين بجبروتهم، حرصوا على ألا ينظم هؤلاء العمال أنفسهم دفاعا عن حقوقهم المسلوبة. بل أن الدولة أًصدرت في منتصف التسعينات قرارا بمنع تشكيل النقابات في أي منشأة يقل عدد عمالها عن 250 عامل (كان العدد في السابق 50 عاملا). وكان الهدف هو إجهاض كل محاولة لتوحيد صفوف عمال القطاع الخاص الجدد الذين تصاعدت بوادر تذمرهم تحت وطأة استغلال بشع لا يتوقف.
بداية جديدة لعصر نضالي جديد
كانت التسعينات سنوات صعبة على الطبقة العاملة المصرية، ليس بمعنى غياب النضال والمقاومة العمالية، فقد ظل العمال يعتصمون ويتظاهرون، ولكن بمعنى قلة الانتصارات وصعوبتها وعدم امتداد أثرها.
من هنا فقد مثّل إضراب عمال غزل المحلة في ديسمبر 2006 نقلة كبرى في حركة الطبقة العاملة المصرية. فهذا إضراب حقق انتصارا كبيرا لعمال المحلة، وبدأ مرحلة من النضالات المتتالية في قطاع العزل والنسيج وفي قطاعات عمالية أخرى متنوعة، والأهم من هذا كله أنه غير “مزاج” الحركة العمالية وأعاد اكتشاف الإضراب والنضال الجماعي كأساليب لتحقيق المطالب وانتزاع الحقوق.
طبعا إضراب المحلة لم يأت “فجأة”. فقد سبقت هذا الإضراب مئات الاحتجاجات في القطاعين العام والخاص من الإسكندرية حتى أسوان. ففي العام الأخير وحده – 2006 – رصد تقرير لمركز الأرض 222 احتجاجا عماليا تنوعت بين الإضراب والاعتصام والتجمهر والتظاهر. وقبل ذلك كانت احتجاجات العمال، وفقا لإحصاءات نفس المركز، تتوالى بلا توقف: 202 احتجاجا في 2005، 265 احتجاجا في 2004، 86 احتجاجا في 2003، 96 احتجاجا في 2002، 138 احتجاجا في 2001، 135 احتجاجا في 2000، 164 احتجاجا في 1999، 115 احتجاجا في 1998، و137 احتجاجا في 1997.
لكن خصوصية إضراب المحلة، مقارنة بهذه السلسلة من الاحتجاجات، تنبع ليس فقط من أنه انتصار كبير، وهو كذلك بالفعل، ولكن أيضا من أنه قدّم إشارات مهمة، حول فرص وإمكانيات الحركة العمالية وأوضاع السلطة الحاكمة، لقطاع واسع من الطبقة العاملة المصرية، أي بتعبير آخر: من أنه انتصار يتجاوز الحدود الضيقة للمصنع الذي حققه.
فلقد اكتسبت معركة غزل المحلة محوريتها، طبعا من حجم المصنع وعدد عماله المهول (ربما يكون مصنع غزل المحلة أكبر مصنع في الشرق الأوسط وأفريقيا)، لكن أيضا من أمرين مهمين: رد فعل السلطة على الإضراب، وإمكانية تعميم الانتصار.
الخبرة العمالية مع الإضرابات والاعتصامات، بالذات في مصانع القطاع العام، وبالذات في مصانع الغزل الكبرى، مريرة. فلا أحد من المتابعين يمكنه أن ينسى المواجهات الدامية، وقمع الدولة الوحشي، لعمال كفر الدوار في 1984 و1994، وأيضا لعمال الحديد والصلب في 1989. هذا بالإضافة إلى الاقتحامات والاحتكاكات والتهديدات في عدد آخر لا بأس به من المصانع والمدن العمالية، ومنها بالطبع المحلة في انتفاضتها عام 1988.
ولذا فقد كان عمال المحلة يتخوفون في إضراب ديسمبر 2006 من استخدام الدولة للعنف. ففي ثاني يوم للإضراب، وكان يوم جمعة مما أدى إلى تناقص أعداد العمال المعتصمين بالمصنع، كان توقع الهجوم مطروحا بقوة. لكن “المفاجأة” كانت أن الدولة لم تهجم، بل على العكس استخدمت خطابا إعلاميا وتفاوضيا غاية في المرونة والليونة مع “أبنائنا العمال”.
لا شك أن هذا الخطاب كانت له أسبابه، لكن المهم أن أثر هذه اللغة اللينة كان كسر حاجز الخوف وإشعال شرارة ثقة في أوساط العمال. “نحن قادرون على التأثير وليس صحيحا أنه لا حول لنا”.. ربما يكون هذا هو ما دار في أذهان الكثيرين منهم بعد مرور يوم الجمعة بسلام، وطلوع صباح السبت مبشرا بعودة كثافة الإضراب وقوته، ثم انتهاء الأمر كله بالاستجابة للمطالب مقرونة بكلام معسول من جانب السلطة.
على جانب آخر، فإن إضراب غزل المحلة كان معديا، لأن النصر فيه كان قابلا للانتشار في كل القطاع البائس (الغزل والنسيج)، بالذات في مصانع القطاع العام. فتحقيق وعود توزيع الأرباح، التي قطعتها وزارة الاستثمار على نفسها قبل شهور، بالذات بسبب إضراب عمال المحلة، كان بمثابة رسالة للكل: إذا أردت أن تحصل على حقك عليك بالإضراب. وهو ما حدث بالفعل في سلسلة من مصانع الغزل: غزل ميت غمر، المنصورة-إسبانيا، غزل شبين الكوم، غزل كفر الدوار، مصنع السيوف بالإسكندرية، وغيرها.
من هنا فقد عشنا، منذ ديسمبر 2006 وحتى الآن، عاما كاملا من الإضرابات والنضالات التي فاقت في عددها 450 احتجاجا، والتي وصلت لكثير من القطاعات والفئات داخل الطبقة العاملة والموظفين، بل وفئات الملاك الصغار والمهنيين. مصر الآن تستعيد، بكل ثقة، ثقافة النضال الجماعي من أسفل بالإضراب والاعتصام والتظاهر والتجمهر. الجماهير المصرية تخرج عن صمتها وتطرح بشكل نضالي يتوسع يوما وراء يوم مطالبها المسكوت عنها على مدى أعوام طويلة.
هذا التطور، في رأينا، هو الأهم في الثلاثين عاما الأخيرة. على خلاف كثيرين نحن نرى أنه من قلب هذه الاحتجاجات الجماهيرية والشعبية، من قلب نضالات البرلس وقلعة الكبش والمحلة وكفر الدوار والمنصورة والإسكندرية وغيرها كثير، يمكن أن تولد حركات أكثر تنظيما وأكثر اتساعا تطلب، ليس فقط إصلاح الحال في هذا المصنع أو ذاك، بل تغيير النظام السياسي والاجتماعي من أساسه.
رهاننا وأملنا هو على هذه الحركات. فالدرس الذي يمكن أن نتعلمه من نضالات شعوب أمريكا اللاتينية المظلومة مثلنا هو أنها بدأت بمعارك مطلبية ضد الخصخصة والإفقار والاستغلال، ثم انتقلت إلى رفع مطالب سياسية ضد مجمل سياسة الليبرالية الجديدة وضد الساسة التي ينفذونها.
نحن أيضا نسير على هذا الطريق. إضراب غزل المحلة الأخير – سبتمبر 2007 – يكشف لنا مدى التطور الذي حققناه خلال العام الماضي. اليوم درجة الالتفاف حول إضراب المحلة ودرجة الاقتناع بأنه هو وأمثاله من الإضرابات العمالية هم الطريق إلى التغيير وصلت إلى حدود لم تشهدها مصر منذ على الأقل ثلاثين عاما.
فخبرة حركة التغيير، وقبلها حركات التضامن مع الانتفاضة ومناهضة الحرب على العراق، علمتنا الكثير. هذه الخبرة علمتنا أن الحركات المعارضة للظلم والفساد والاستبداد التي تنطلق من أوساط الطلاب والمهنيين وبعض نشطاء الطبقات الوسطى، يمكنها أن تلعب دورا في إحياء الأجواء السياسية في البلد، لكنها لا يمكن أن تستمر أو تصنع أثرا حقيقيا إلا إذا تحولت إلى حركة واسعة هادرة بالملايين تضم – بالذات – الطبقات الاجتماعية صانعة الثروة في المجتمع: العمال والفلاحين والمهنيين والحرفيين. هؤلاء هم أغلبية الشعب، وهؤلاء هم من يشغّلون الماكينات والمؤسسات المملوكة لرجال الأعمال الاحتكاريين المحميين بالسلطة والمتحالفين معها، وهؤلاء هم أصحاب المصلحة الأكبر في التغيير وفي خلق مجتمع العدل والحرية.
الطبقة العاملة هي البديل
لا نبالغ إذن إذا قلنا أن شعار الطبقة العاملة هي البديل أصبح شعارا واقعيا وممكنا في مصر اليوم. الطبقة العاملة يمكنها، بالإلهام الذي تقدمه المحلة، أن تقود النضالات الاجتماعية في كل مصر إلى التماسك والوحدة والترابط، وربما إلى رفع الشعارات والمطالب السياسية، وهو ما قد يصل بنا إلى تحقيق نصر كبير على من يستغلوننا ومن يقمعوننا لحسابهم.
فإذا كانت مصر مقبلة على معارك كبرى، فهذا يطرح السؤال: أي طريق نريده لهذا البلد؟ هنا تختلف الإجابات. البعض يحلم بـ”نهضة وطنية كبرى” مدفوعا بمشاعر الحنين إلى تجربة محمد علي والخديو إسماعيل وجمال عبد الناصر. والبعض الآخر يدعو إلى “نهضة إسلامية كبرى” مدفوعا بمشاعر الحنين إلى العصور الزاهية للإمبراطوريات الإسلامية. وهناك آخرون يطلبون “نهضة تحديثية كبرى” مدفوعين بالغيرة من الإنجازات المبهرة التي حققتها بلدان الغرب الصناعي المتقدم.
هذه الإجابات تثير التأمل. فبرغم تباينها في عدد من النواحي، إلا أنها تميل جميعا إلى تبني معيار واحد لتحديد معنى النجاح والفشل، هو معيار السبق في المنافسة الاقتصادية مع الأمم الأخرى. ما يؤلم معظم أصحاب هذه الإجابات هو أن مصر، التي كانت متفوقة على كوريا الجنوبية قبل خمسين عاما، أصبحت اليوم في ذيل الأمم.
لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية التقدم الاقتصادي، فهو أساس كل تقدم، وهو أيضا يعطي الفرصة، إذا ما تم توزيع ثمراته بشكل عادل، لإجراء تحسين كبير في مستويات معيشة الكادحين. لكنه بالنسبة لنا ليس المعيار الوحيد، بل ليس المعيار الأهم.
قبل أن نقبل التقدم أو نرفضه، وقبل أن نرفع شعار النهضة أو ننكسه، علينا أن نسأل عن وسائل وأهداف هذا التقدم وتلك النهضة. من يدفع ثمن التقدم؟ ومن يقبض ثمن النهضة؟ هذه هي الأسئلة الجوهرية.
خذ عندك مثال محمد علي الذي يعتبره كثيرون “باني مصر الحديثة ومؤسس نهضتها”. هل كان محمد علي فعلا صانع مصر الحديثة؟ هل بنى بنفسه القناطر الخيرية؟ هل حفر الريّاحات والترع بيديه؟ هل بنى المصانع بسواعده؟ هل حتى ساهم في إعداد الرسوم الهندسية والخطط المعمارية؟ أم أن جيشا من العمال والصناع والحرفيين والمهندسين قد قام بهذه المهام؟! وإذا كان الأمر كذلك، فهل حصد الفلاحون والعمال الذين صنعوا النهضة ثمرة عرقهم وجهدهم؟ بل هل شاركوا في تحديد نوع النهضة وأهدافها ووسائلها؟ أم أنهم سيقوا عنوة من قراهم ليؤدوا مهام شاقة لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟
باختصار، وحتى لا نطيل عليكم، نحن نرى أنه لا غبار علي”النهضة”. لكن “النهضة” التي نريدها ليست فقط تشييد الصروح المعمارية أو تنفيذ المشاريع الإنتاجية. الأهم هو لمصلحة من؟ وعلى حساب من؟ ومن الذي اتخذ القرار؟ وكيف؟
النهضة التي نريدها تبدأ من أن يسيطر الكادحون وصناع الثروة في المجتمع على مصيرهم وعلى ما ينتجوه من ثروات، وذلك من خلال إزاحة الأقلية المسيطرة عنوة على السلطة والثروة. النهضة التي نريدها اسمها الاشتراكية، والطريق إليها هو ثورة المظلومين ضد الظلم وضد من ظلمهم.
ولعل أول ملامح الطريق الذي نتبناه للتغيير أنه يقوم على الإرادة الجماعية للجماهير. فلا يمكن تصور حدوث تغيير حقيقي دون أن يكون للفقراء الدور الأساسي في تحقيقه. وإذا كان الفقراء ينتمون إلى طبقات عديدة: عمال وفلاحين وحرفيين ومهمشين وعاطلين وموظفين وغيرهم، فإن هناك طبقة واحدة من بين هذه الطبقات هي المهيأة لقيادة عملية التغيير: الطبقة العاملة.
طبعا سيرفض كثيرون هذا الطرح بلا تردد. ولهم عذرهم! فالفكرة السائدة، التي تروج لها وسائل الإعلام ويؤكد عليها عدد وافر من الكتاب والمفكرين، هي أن عصر الطبقة العاملة انتهى!
ولكن رغم كل ما يقال عن أفول نجم الطبقة العاملة وتناقص أعدادها، فإن الحقيقة هي على العكس من ذلك تماما. فإذا نظرنا إلى حجم الطبقة العاملة في العالم، فإننا نجد أن عددها يصل إلى نحو 2 مليار شخص، أي حوالي ثلث من يعيشون على ظهر هذا الكوكب.
لا شك أن رقما كهذا ونسبة كتلك كانا سيصيبان شخصا ككارل ماركس، الذي أفنى عمره في الدفاع عن جوهرية دور الطبقة العاملة، بالدهشة البالغة. ففي عصر ماركس كانت الطبقة العاملة لا تتجاوز ملايين قليلة لا تزيد نسبتها في أي بلد عن 20% من السكان. ورغم ذلك، فإن هناك من يحاول أن يقنعنا أن العصر الذي كتب عنه ماركس “راح وانقضى”!
ومن ناحية أخرى، فإن أسطورة الاختفاء التام لعمال الصناعة في البلدان المتقدمة، والتي يجري الترويج لها هي الأخرى بقوة، تكذبها الأرقام. فقد الفترة بين 1973 و1998 تزايد عدد عمال الصناعة في الولايات المتحدة بمقدار 20% وفي اليابان بمقدار 13%.
لا ننكر أن هناك تناقص في عدد العمال الصناعيين في بعض البلدان (مثل بريطانيا وبلجيكا وفرنسا). لكن هذا يعد استثناء وليس قاعدة. وعلى أي حال، فإن تناقص الأعداد لا يعني تناقص الأهمية. فبرغم تناقص عددهم في بعض البلدان، إلا أن الوزن الاقتصادي لعمال الصناعة في تزايد مستمر. ففي الفترة من 1973 إلى 1990، تزايدت الإنتاجية في الصناعة بمقدار 2.8% سنويا في مقابل تزايدها في قطاع الخدمات بمقدار 0.8% (ثمانية من عشرة في المائة). وهو ما يعني أن عمال الصناعة أصبحوا أكثر أهمية في العملية الإنتاجية مع الوقت.
أما في الدول النامية، فالظاهرة تسير في الاتجاه المعاكس، نعني في اتجاه نمو الطبقة العاملة الصناعية بسبب نقل خطوط الإنتاج كثيفة العمل من الدول المتقدمة إلى تلك الدول التي “تتميز” بانخفاض الأجور وغياب التشريعات التي تحمي حقوق العمال وضعف النقابات، وهي كلها عوامل تؤدي إلى تدفق المزيد من الأرباح إلى حسابات الشركات الكبرى.
ولا يختلف الأمر في مصر. فبالرغم من التغيرات التي طالت الطبقة العاملة المصرية مع تصفية القطاع العام وضرب القلاع الصناعية الرئيسية في المحلة الكبرى وحلوان وشبرا الخيمة وغيرها، إلا أن حجم هذه الطبقة قد اتسع خلال العقود السابقة. فوفقا لآخر تعداد للسكان (أجري عام 1996)، تضاعف الحجم الإجمالي للعمال الأجراء في الحضر من نحو 3.3 مليون عامل في 1976، إلى 6 ملايين عامل في 1996. وفي الريف ارتفع حجم العمالة الزراعية وفقراء الفلاحين في نفس الفترة من 3.6 مليون إلى 4.2 مليون، وهو الرقم الذي تزايد بشكل كبير بالقطع مع تطبيق قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية عام 1997.
الطبقة العاملة إذن ليست في مرحلة اندثار، بل هي على العكس الطبقة الأكثر أهمية في عالمنا المعاصر. ذلك أنها تقوم ليس فقط بإنتاج معظم ما نستهلكه من سلع وخدمات، ولكن أيضا بتشغيل مصانع وشركات الرأسماليين. وهذا ما يجعلها الطبقة الوحيدة القادرة، إذا أرادت، على شل آلة الاستغلال الراهنة وتغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي.
إن اهتمامنا الذي قد يبدو زائدا بالطبقة العاملة ودورها في التغيير له أسبابه الهامة. فالسؤال الاستراتيجي الأهم لمن يريد التغيير الحقيقي هو: كيف نقضي على المشكلة الاجتماعية من جذورها؟ فإذا كنت ترى معنا أن جوهر المشكلة التي يعانيها مجتمعنا هي تراكم الفقر والجوع على جانب والثروة والإهدار على جانب آخر، وأن تلك المشكلة هي أصل كل المشاكل الأخرى من ديكتاتورية وفساد واضطهاد للنساء والأقباط، فإنك لابد ستوافقنا على أن ضرب عملية الاستغلال في الصميم هو بداية الخروج من النفق المظلم الذي نعيش فيه.
هنا يأتي دور الطبقة العاملة. فمثلا لو قرر عمال مترو الأنفاق، وكل عمال المواصلات العامة، الإضراب، فإن هذا سيكون معناه عمليا توقف كل العمليات الإنتاجية أو الخدمية. إذن فمجرد إضراب قطاع اقتصادي واحد قادر على تكبيد الرأسمالية خسائر كبيرة. ليس هذا فقط، بل إن إضرابا بهذا الحجم وهذا التأثير سوف يكون خير معلم للعمال والكادحين. فمن خلال تجربة كتلك سوف يفهمون، في المحك العملي، حقيقة قوتهم.
قوة العمال هي بالضبط ما نشهده اليوم بأعيننا في مصر. هذه القوة لازالت في مرحلة بدايتها، لازالت لم تمتد وتنضج حتى تصل إلى مستوى السيل الهادر المنظم الموحد الواعي، وهو بالتحديد الهدف الذي ينبغي أن يسعى كل مناضل من أجل التغيير الحقيقي إليه. مصر في بداية طريق التغيير بالجماهير، وفي القلب منها العمال. والسؤال الذي ينبغي أن يشغل بالنا جميعا، كاشتراكيين ومناضلين جذريين، هو كيف يلتقي عمال المحلة بعمال المطاحن بالمدرسين بموظفي الضرائب العقارية؟ كيف يتعلمون من بعضهم البعض؟ كيف تترابط حركتهم وتنتظم؟ كيف يخلقون في كل مكان نقابة أو رابطة أو شكل للكفاح الجماعي؟ وكيف يرفعون مطالبهم شيئا فشيء من مطالب فئوية مصنعية محدودة إلى مطالب قطاعية أوسع إلى مطالب اجتماعية شاملة إلى مطالب سياسية كلية؟ ساعتها ستتحول الطبقة العاملة إلى قوة رهيبة، قادرة على قيادة كل الفقراء والمظلومين في مصر، وعلى تغيير المجتمع لمصلحة أغلبية الشعب.. ساعتها يمكن أن نتحدث عن الاشتراكية من أسفل.