الثورة الإسبانية (الجزء الأول)

نُشِر المقال لأول مرة بقلم جيف بايلي، في 21 يوليو 2011، بموقع العامل الاشتراكي..
منذ 75 عاماً، نظم الجنرال فرانشيسكو فرانكو انقلابه العسكري ضد حكومة الجبهة الشعبية المنتخبة ديمقراطياً في اسبانيا، ذلك الانقلاب الذي دشن ثلاثة سنوات من الحرب الأهلية ضد قوات فرانكو الفاشية. وعلى الرغم من أن العمال الإسبان قد قادوا قتالاً بطولياً ضد الفاشية وضربوا مثلاً رائعاً لما تكون عليه السلطة العمالية، إلا أن الثورة العمالية قد تحطمت تحت تأثير الضربات الموجعة للفاشية من ناحية وفشل الاستراتيجية الستالينية من ناحية أخرى.
لم يكن انقلاب فرانكو يمثل نقطة بداية لنضال العمال والفلاحين الإسبان، بل كان بمثابة أعلى مرحلة وصلت إليها قوى الرجعية في مواجهة الحركة الثورية التي كانت تتطور لعدة سنوات سابقة. هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة الكاتب الاشتراكي جيف بايلي، ويتناول فيه الأحداث العاصفة لسنوات الصراع بين الثورة والردة الرجعية والتي أدت لاندلاع الحرب الأهلية الاسبانية في الفترة بين يوليو 1936 إلى أبريل 1939.
الجمهورية الثانية
في بداية القرن العشرين، كانت اسبانيا إحدى الدول الأوروبية شديدة التأخر التي يسيطر عليها حكم ملكي عتيق يقوم على دعامتين: الكنيسة الكاثوليكية وسلك ضباط الجيش الأرستوقراط. وبالرغم من المعارضة الدائمة من جانب البرجوازية الاسبانية للحكم الملكي، إلا أنها افتقدت على الدوام أي عزيمة للدخول في تحدي حاسم ضد الملك والكنيسة والإقطاعيين. وكما كتب الاشتراكي الثوري الروسي ليون تروتسكي في كلاسيكيته الشهيرة “الثورة الاسبانية”، فإن: “طوال القرن التاسع عشر، لم تتطلع البرجوازية الاسبانية للعب الدور التاريخي الذي لعبته البرجوازية الفرنسية والبريطانية من قبل. وبظهورها شديد التأخر واعتمادها على رأس المال الأجنبي، فإن البرجوازية الاسبانية، والتي تحفر في أجساد الجماهير، غير قادرة على تقديم نفسها كقائد للأمة ضد الحكم القديم ولو لفترة وجيزة”.
لم تكن الملكية تحظى بتأييد من الطبقات المالكة، لذا فقد كانت تلجأ للقوة العسكرية مرة بعد أخرى لمواجهة الجماهير. في عام 1923، وصل الجنرال بريمو دي ريفيرا إلى سدة الحكم في ظل ديكتاتورية عسكرية حديدية، لكن ديكتاتورية دي ريفيرا لم تستطع أن تحافظ على النظام في مواجهة موجة عارمة من النضالات الجماهيرية. فعندما بدأ الكساد الكبير في 1929، وقعت اسبانيا في براثن أزمة اقتصادية حادة ورأت الطبقة الحاكمة أنها لا تستطيع احتواء الغضب الجماهيري المتصاعد باستخدام القوة المفرطة والقمع المباشر فقط، وتم إجبار دي ريفيرا على التنحي في 1930.
هذا هو السبب وراء دعوة الملك ألفونس الثالث عشر لانتخابات ديمقراطية دشنت الجمهورية الثانية –الجمهورية الأولى كانت في 1873 واستمرت لعام واحد فقط- بعد خمس سنوات من الاضطرابات الاجتماعية الهائلة والاستقطاب السياسي الحاد بين اليمين واليسار. عُقدت الانتخابات في أبريل 1931 وجاءت بشكل كبير في صالح الأحزاب الجمهورية لتجبر الملك على التنازل عن العرش والهرب خارج البلاد. أما حكومة الجمهورية الثانية فقد تشكلت من تحالف الأحزاب الجمهورية التي عبرت عن مصالح الطبقة الوسطى، إلى جانب الجناح اليميني للحزب الاشتراكي الاسباني.
وكما اعتدنا في تاريخ الثورات، تميزت الشهور الأولى للثورة الاسبانية بحالة تموج بالوحدة والتضامن الجماهيري الواسع. كانت الاحتفالات بإعلان الجمهورية الثانية في كل القرى والمدن، تنهمر خلالها دعوات الأحزاب اليسارية للوحدة في النضال من أجل الديمقراطية. لكن خلف هذه المشاهد الصاخبة، كانت الشروخ بين قوى الجمهورية الثانية تزداد عمقاً.
الطابع الطبقي للثورة
كانت الجمهورية الثانية مقسمة بين عدد من الأحزاب الصغيرة المعبرة عن الطبقة الوسطى الاسبانية، هذه الأحزاب كانت تعارض الملكية والديكتاتورية العسكرية لكنها في الوقت نفسه كانت تدافع بضراوة عن الرأسمالية الاسبانية ومصالحها، مثل الحزب الكتالوني وحزب الباسك القوميين، هذا إلى جانب الحزب الاشتراكي الاسباني الذي كان نفسه منقسماً إلى جناح يميني منحاز للإصلاح التدريجي للرأسمالية، وجناح يساري يدعو إلى الثورة على الرأسمالية (وفي الحقيقة كان يفعل ذلك بالقول أكثر من الفعل على أرضية النضال الطبقي). وبعيداً عن القوى التي شكلت الجمهورية، كان هناك الاتحاد النقابي الأناركي الذي كان يدعو بحزم لإسقاط الرأسمالية لكنه في الوقت نفسه وقف ضد أي مشاركة فعالة على الصعيد السياسي.
وعلى الرغم من أن جميع قوى اليسار الاسباني أدركت في ذلك الوقت أن القضايا الأساسية التي تواجه الثورة كانت مسألة الديمقراطية وإجراء إصلاح زراعي جذري، إلا أن سرعان ما أصبحت الصورة واضحة بأن دعم مكاسب الثورة والحفاظ عليها كان يقتضي ضرورة تحدي الرأسمالية الاسبانية بشكل حاسم.
كانت قضية الإصلاح الزراعي هي الأكثر إلحاحاً في الثورة الاسبانية؛ فالإنتاج الزراعي كان يشكل نصف الإنتاج المحلي لإسبانيا وثلثي صادراتها، وكان 70% من سكان اسبانيا يعملون في الزراعة بينما كان ثلثي الأراضي الزراعية في حيازة طبقة رفيعة من المالكين.
انتفض الفلاحون مطالبين بمصادرة الملكيات الكبيرة للأرض وإعادة توزيعها على الملايين من العائلات الفقيرة في الريف، لكن هذا المطلب كان سيضرب مصالح الرأسمالية الاسبانية في مقتل. كانت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية مرهونة للبنوك إذ كان كبار ملاك الأرض غارقين في الديون لهذه البنوك، وبالتالي فإن نزع الملكية العقارية لم يكن سيهدد مصالح الملاك الإقطاعيين فقط، بل أيضاً سيضع الرأسمالية في حالة شلل تام. لذا كانت الحكومة الجمهورية، والتي دافعت عن الإصلاح التدريجي للرأسمالية، تماطل في وعودها في إجراء إصلاح زراعي يهب الأرض لمن يفلحها.
أما العمال، والذين كان لهم الفضل في الإطاحة بحكومة بريمو دي ريفيرا، فقد رفعوا مطالبهم بزيادة الأجور وصرف إعانات البطالة وتطهير مصانعهم ومؤسسات عملهم من الرؤساء الملكيين. وفي المقابل لم تكن الحكومة تستجيب لتلك المطالب إلا بدعوة العمال للصبر وبذل المزيد من الجهد لمساندتها.
وبالتالي عاشت الحكومة الجمهورية أزمة عميقة بين مطالب وتطلعات العمال والفلاحين الذين انتخبوها في السلطة، وبين دفاعها المستمر عن المصالح الرأسمالية. وهكذا عجزت هذه الحكومة حتى عن تحقيق حد أدنى من الإصلاحات الديمقراطية، فلا يمكن تحقيق مثل تلك الإصلاحات واستكمالها إلا عبر ترسيخ المنظمات القاعدية للطبقة العاملة.
أوضح ليون تروتسكي هذا الوضع عام 1931، عندما كتب أن: “حكومة مدريد تبقي فيض من الوعود بتدابير قوية ضد البطالة ولتوزيع الأرض، لكنها لم تقوى لمرة واحدة على لمس أي من القرح الاجتماعية العميقة. هذا التناقض بين التطور الشامل للثورة وبين سياسات الطبقات الحاكمة الجديدة، في تطوره المستقبلي، إما أن يدفن الثورة أو ينتج ثورة جديدة”.
لم يكن النضال من أجل المطالب الديمقراطية هو فقط نضالاً من أجل دولة أقل قمعاً وعنفاً، بل كان في القلب من النضال باتجاه سلطة العمال والاشتراكية. والطبقة العاملة، كما جادل تروتسكي دائماً، هي الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة النضال من أجل الديمقراطية وتوزيع الأرض، وحتى حقوق الأقليات المضطهدة في المجتمع. لكنها خلال ذلك تقاتل الطبقة العاملة من أجل تطلعاتها الاشتراكية.
أزمة الجمهورية الثانية
في أقل من شهرين من تشكيل الحكومة الجمهورية، سددت الحكومة أول ضرباتها للحركة العمالية حين أعدم الحرس المدني عشرة عمال في مايو 1931 بعد اشتباكات بينهم وبين مجموعات ملكية. وفي يوليو من نفس العام، نظم عمال إشبيلية إضراباً عاماً تأييداً لمسيرة عمال التليفونات المحليين، وما كان من الحكومة سوى أن أعلنت الأحكام العرفية ليستشهد 40 عامل ويسقط 200 آخرون جرحى في معارك ضارية في الشوارع.
وما لبث الأناركيون حتى شنوا هجوماً مضاداً رداً على الحكومة. ففي يناير 1932 دعا الأناركيون للعصيان في مدينة ألتو لوبريجات بإقليم كتالونيا، لكن سرعان ما توجهت القوات العسكرية لسحق العصيان. وتكرر الأمر بعد ذلك بعام، في يناير 1933، حين دعا الأناركيون مرة أخرى للعصيان تأييداً لإضراب عمال السكك الحديدية، وهذه المرة قامت عدد من الانتفاضات المنفصلة في كتالونيا وفالينيكا وبعض المناطق في الأندلس. لكن سرعان ما كان يتم قمع كل من تلك الانتفاضات على الفور وبشكل عنيف، حيث لم يجد الجيش الاسباني “شديد المركزية” أي مشكلة في قمع الانتفاضات التي لم تأتي مجتمعة بل جاءت متعاقبة زمنياً ومعزولة عن بعضها جغرافياً.
بعد حوالي أسبوع من انتفاضات يناير 1933، قام الأناركيون بمصادرة أراضي زراعية شاسعة بالقرب من كاساس فيجاس، ولم تتردد الحكومة في إرسال الجيش لاستعادة النظام، وخلال معارك عنيفة قتلت قوات الجيش المئات من الثوار وأحرقت بعضهم أحياءاً.
كان المشهد المأساوي للقتال بين جنود الجيش المسلحين بالبنادق والمدافع وبين الفلاحين المسلحين بالفئوس والمناجل، ووقوع مئات الشهداء من الفلاحين، قد فضح موقف الحكومة الجمهورية بشكل كامل أمام الجماهير الغاضبة.
تلقى الأناركيون هزيمة قاسية بعد أن تم سحق الانتفاضات التي كانوا يبادرون بالدعوة إليها، كما ألقي القبض على الآلاف من المناضلين النقابيين. وبينما كان الأناركيون يتراجعون إثر الضربات القاسية، والحزب الاشتراكي يفقد شرعيته وسط الجماهير نتيجة لدوره المخزي في الحكومة، بدت الأمور مهيأة لقوى اليمين كي تتصدر المشهد.
بدأت الأحزاب اليمينية في إبراز الانتهاكات والاعتداءات الوحشية للجيش في كاساس فيجاس في جرائدهم ومجلاتهم. وكان ذلك محرجاً للحكومة؛ فالحكومة هي التي ارتكبت المجزرة، أما الاستنكار فقد جاء من جانب أحزاب اليمين التي لا تنظر للفلاحين إلا بكل احتقار. لكن ومع غياب بديل يقدمه اليسار الثوري، أصبحت الفرصة سانحة لأحزاب اليمين لتسيطر على الساحة. وعندما عقدت انتخابات جديدة في نوفمبر 1933، حقق اليمين انتصاراً كاسحاً.. وبدأت ما سُمي فيما بعد بـ”السنتين السود”.
الثورة والرجعية
جاء انتصار اليمين في انتخابات نوفمبر 1933 وتشكيله الحكومة في سياق صعود الفاشية في أوروبا ككل. ففي ألمانيا، قام الرئيس المحافظ هايدنبرج بتعيين أدولف هتلر كمستشار ألمانيا في يناير 1933. وفي مارس، نجح الزعيم النمساوي الفاشي انجليبرت دولفوس بإقناع الرئيس للتنازل له عن سلطته الديكتاتورية، بينما كان العمال النمساويون ينتفضون لإسقاط دولفوس وفي النهاية تم سحقهم.
شعرت قطاعات واسعة من الطبقة العاملة في اسبانيا بالقلق حيال مستقبل بلدهم خوفاً من أن تكون اسبانيا هي التالية في سلسلة صعود الفاشية كما حدث في العديد من بلدان أوروبا الأخرى. وعقب انتخابات نوفمبر، كانت أغلبية مقاعد الكورتيس من نصيب اتحاد اسبانيا المستقلة بقيادة خوسيه جيل روبلز، وهو اتحاد يضم عدد كبير من رجال الصناعة والملكيين بجانب الكثيرين من أتباع موسوليني ودولفوس في اسبانيا.
تأثر أعضاء الحزب الاشتراكي الاسباني واتحاد العمال التابع له كثيراً بفشل الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان في تصعيد المقاومة ضد صعود الفاشية لديهم، وأيضاً بملحمة نضال العمال النمساويين ضد فاشية دولفوس والهزيمة القاسية التي تلقوها في النهاية، وقرروا الضغط على قياداتهم من أجل بذل كل الجهود لمنع صعود جيل روبلز من الصعود للسلطة.
وبالفعل استجاب قادة الحزب الاشتراكي وأعلنوا من البرلمان أن أي محاولة لتأسيس نظام فاشي في اسبانيا سوف يتم مواجهتها بالثورة المسلحة. أما الجناح اليساري بالحزب، بقيادة شباب الحزب، فقد أعلنوا عن اعتزامهم التحضير للثورة البروليتارية، وذلك عبر الدعوة لتأسيس جبهة واسعة لكافة التنظيمات العمالية، عُرفت بجبهة “تحالف العمال” Alianza Obrera، للتصدي لقوى اليمين.
وفي الأول من أكتوبر، أدت مطالبة أعضاء اتحاد إسبانيا المستقلة بنصيب لهم في الحكومة، إلى انهيار حكومة ليروكس. وفي المقابل شكل ليروكس حكومة جديدة ضمت 4 وزراء فاشيين من اتحاد اسبانيا المستقل، وجاءت المهزلة حينما وافق الحزب الاشتراكي الديمقراطي على مشاركة الفاشيين في هذه الحكومة، وذلك بعد مرور أقل من شهرين فقط على تهديده باللجوء للعمل المسلح في مواجهة صعود الفاشية للسلطة.
وفي الرابع من أكتوبر، دعا كل من جبهة تحالف العمال واتحاد العمال العام إلى إضراب عام، في حين لم تلتزم الكثير من القيادات الإصلاحية للحزب الاشتراكي بالدعوة للإضراب. مُني الإضراب بفشل ذريع بعد أن تم تأجيل البدء فيه مرتين على أمل أن يخضع ليروكس للضغط ويقوم بإزاحة الوزراء الفاشيين من حكومته. وفي النهاية أطلق اتحاد العمال دعوة الإضراب العام وذلك بعد أن كانت الحكومة قد أعلنت الأحكام العرفية، ليتم إلقاء القبض على المئات من المناضلين الاشتراكيين المنظمين للإضراب.
تمرد عمال أستورياس
على الرغم من الفشل الذي مُني به الإضراب، إلا أنه كان مختلفاً في منطقة التعدين بإقليم أستورياس، حيث انضم هناك اثنين من أكبر التنظيمات العمالية، اتحاد العمال العام والاتحاد النقابي الأناركي تحت ضغط قواعدهما العمالية، إلى جبهة تحالف العمال، ووقّع الطرفان اتفاقاً فيما بينهما يقتضي بـ”العمل المشترك حتى قيام الثورة الاجتماعية في اسبانيا”.
حينما انطلقت الصفارات في أستورياس معلنة بدء الإضراب، توجهت ميليشيات عمالية مشتركة لمهاجمة الحرس المدني التابع للحكومة وقامت بنزع سلاحه تماماً. نظم العمال مسيرة عملاقة بمدينة أوفييدو، عاصمة إقليم أستورياس، وجمعوا كل قوتهم ونجحوا في الاستيلاء على كل الأراضي الزراعية المملوكة للإقطاعيين وأعادوا توزيعها على عائلات الفلاحين الفقراء، كما قاموا بمصادرة كافة المصانع والمناجم بالإقليم.
قام 8 آلاف من عمال المناجم المسلحين باحتلال العاصمة أوفييدو لخمسة عشر يوماً صامدين في مواجهة الحصار الذي فرضته عليهم القوات المسلحة التي أرسلتها الحكومة لسحق الإقليم. وكانت المذبحة مروّعة حيث راح أثناء القتال زهاء ثلاثة آلاف شهيداً من العمال بجانب آلاف آخرين تم الزج بهم في المعتقلات.
أظهر التمرد العمالي في أستورياس الميل الجارف لدى القواعد العمالية من الأحزاب المختلفة للعمل بشكل مشترك معاً، أما بالنسبة للقيادات فقد كان الأمر مختلفاً. وعلى سبيل المثال، عندما وقعت لجنة الاتحاد النقابي الأناركي في أستورياس الاتفاق المشار إليه مع اتحاد العمال العام، قامت قيادة الاتحاد بتوبيخها بشدة على ذلك، فيما قام عمال أستورياس بالرد على القيادة كالتالي: “في الصراع الاجتماعي، كما في أي صراع آخر، يكون النصر من نصيب أولئك الذين يجمعون أنفسهم وينظمون صفوفهم جيداً”. على المستوى القومي، رفضت قيادة الاتحاد النقابي الأناركي الدخول كطرف في جبهة تحالف العمال التي تضم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يرفض الأناركيون العمل المشترك معه.
وبالتأكيد كانت كراهية الأناركيين للاشتراكيين في اسبانيا تتضاعف بالأخص مع المواقف الانتهازية للحزب الاشتراكي في ذلك الوقت. أما بالنسبة لقيادات الحزب الاشتراكي، فلم يعتبروا جبهة تحالف العمال، والتي قادت التمرد العمالي في أستورياس والتي كان الاشتراكيون أنفسهم طرفاً فيها، أكثر من ورقة لا قيمة لها.
لكن الأناركيون حينما تجاهلوا نداءات الانضمام لجبهة تحالف العمال، فهم بذلك قد أداروا ظهورهم لملايين العمال الذين أظهروا استعداداً هائلاً للنضال ضد قوى اليمين الفاشي، أو على الأقل تركوهم لتردد القيادات الإصلاحية والوسطية للحزب الاشتراكي، مما أدى إلى تفتيت قوى الطبقة العاملة وأسرع من الهزيمة التي تلقاها العمال في أستورياس.
وبالنسبة للتحالف اليميني في الحكومة بقيادة ليروكس، فقد مثلت مذبحة أستورياس بداية النهاية له. فقدت قوى اليمين مصداقيتها بين الجماهير وانتعشت نضالية الملايين من العمال والفلاحين، وعندما دعت الحكومة لانتخابات جديدة، لم يكن أحد يشك أن اليسار سوف يحقق انتصاراً حاسماً، لكن على الرغم من الهزيمة السياسية المؤقتة لقوى اليمين، إلا أنهم في ذلك الوقت كانوا يعدون للانقلاب العسكري مصطفين خلف أحد أبرز زعماء الفاشية في القرن العشرين.. الجنرال الفاشي فرانشيسكو فرانكو.