بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

الثورة الإسبانية.. يوليو 1936

ليست هذه المقالة عن الحرب الأهلية الإسبانية كما قرأنا عنها وعرفناها جميعاِ، ليست عن الصراع الشهير بين الديمقراطية والفاشية، أو عن المعركة بين العالم الحر، وقوى الظلام والرجعية، بل هي عن صراع آخر، الصراع بين الثورة والثورة المضادة، عن ثورة يوليو 1936 العمالية والتي اندلعت في برشلونة وكادت أن تمتد لتشمل كل أنحاء إسبانيا لتعلن ميلاد الدولة العمالية الإسبانية. والثورة المضادة التي قادتها البرجوازية الديمقراطية بالتحالف مع الستالينيين. لم ينهزم الجمهوريون في مواجهة الفاشية لأنهم كانوا يحاربون جيشا أقوى (رغم أنه كان جيشا أقوى) ولا لأنهم عجزوا عسكريا عن إتباع التكتيك الصحيح، لقد انتصرت الفاشية لأن الجمهوريين – ليبراليين وستالينيين – كانوا أكثر ترحيبا بها عن ترحيبهم بدولة عمالية ثورية – لأن علاقات ستالين ببرلين وباريس ولندن كانت أهم من برشلونة ومدريد وغرناطة. وأخيرا هزمت لأن الثوريين المخلصين لم يكونوا بالوضوح والعزيمة الكافيين واللازمين لتغيير العالم.

مرت إسبانيا في الفترة من 1931 وحتى 1936 في مرحلة أزمة ثورية عجزت فيها الحكومات البرجوازية المتعاقبة عن تحقيق الاستقرار في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي سادت النظام العالمي وقتها. وفي عام 1936 بدأت الحرب الأهلية بتمرد يميني مسلح للجيش بقيادة فرانكو ضد حكومة الجبهة الشعبية والتي ضمت أحزاب اليسار والأحزاب البرجوازية الديموقراطية، وكان فرانكو قد نقل-نتيجة لمواقفه اليمينية-إلى موقع ثانوي المغرب الواقعة آنذاك تحت الاحتلال الإسباني. وامتد التمرد خلال الأسابيع الأولى ليشمل أكثر من ثلث الأراضي الإسبانية وكان موجها حسب بياناته ضد تفسخ القيم ومع إعادة دور الكنيسة والإقطاع القديم. وانضم إليه كل الحاميات العسكرية والغالبية العظمى من الطبقة الحاكمة القديمة بما فيها الرأسماليون الصناعيون.

وكانت سياسة الحكومة هي محاولة التفاهم مع الفاشيين، ولهذا رفضت مطالب النقابات والأحزاب العمالية بتوزيع السلاح على العمال، وأعلن رئيس الوزراء أن كل من سيعطي السلاح للعمال سيعدم، وهذا ما ضمن انتصار الفاشية في الكثير من المدن وموت الآلاف من العمال.

وتشكلت حكومة جديدة أكثر يمينية ضمن محاولات البرجوازية استرضاء فرانكو وجاء “باريو” المحافظ رئيسا للوزراء مما حدا بالعمال للخروج في مظاهرة حاشدة في مدريد صارخين “خيانة ” ومطالبين بالسلاح. وفي اشبيلية أعلن الإضراب العام وتجمع العمال في نقاباتهم مطالبين بالسلاح دون جدوى.

ولم تدم حكومة “باريو” سوى ساعات لتتشكل حكومة جديدة بقيادة ” كويروجا ” التي قامت بتوزيع السلاح على مضض على الجماهير. وفي برشلونة أعلن التمرد الفاشي قبل ساعات من افتتاح دورة اوليمبية أقيمت احتجاجا على دورة برلين المقامة تحت رعاية هتلر، وتشكلت من أولئك الدين رفضوا التنافس تحت رايات الصليب المعقوف وتحت بصر هتلر – أعلنت الحاميات العسكرية في المدينة الانضمام لفرانكو. وترددت الحكومة الإقليمية في توزيع السلاح على العمال فقام الاتحاد القومي للشغيلة وحزب العمال بالاستيلاء عليه عنوة وتم سحق الحامية العسكرية وقام العمال بإعدام قادتها في مشهد فريد حيث قام كل العمال الموجودين وقت التنفيذ بمشاركة فرقة ضرب النار في إعدام أولئك الذين تآمروا ضد الجماهير. وشكلت الأحزاب العمالية والنقابات في إقليم كاتالونيا ميليشيات عمالية نجحت في سحق الفاشيين من جبهة أراجون. وبدا أن المبادرة الوحيدة الآن هي بيد الطبقة العاملة، وشهدت برشلونة ملامح الدولة العمالية منذ تلك اللحظة في ثورة يوليو 1936. فقد قام العمال بالاستيلاء على المصانع واستولى الفلاحون على الأرض. كان ما يحدث هو ثورة اجتماعية على نطاق واسع وحسب وصف أحد المراقبين ” جورج أورويل ” لبرشلونة:

“لقد تم تأميم كل شئ فعلقت على المقاهي يافطات تعلنها ملكية عامة. وزينت الرايات الحمراء ورايات الأناركيين الحمراء والسوداء مباني المدينة. ولم تعد هناك سيارات خاصة حيث أممت وتم تشغيلها لخدمة السكان وتم تدمير وحرق أغلب الكنائس… حتى ماسحي الأحذية اصبحوا موظفين عموميين ودهنوا صناديقهم بالأسود والأحمر ورفض السقاة في المحال أخذ الإكراميات… كانت هذه دولة عمالية، والبرجوازية إما هربت أو قتلت، أو انتقلت طواعية إلى جانب العمال.

وفي الواقع فان أغلب البرجوازية كانت في قسم رابع، قسم تخفى في ملابس العمال مؤقتا في انتظار لحظة أكثر مناسبة للظهور. فحالة ازدواجية السلطة التي نشأت عقب ثورة يوليو في برشلونة لم تكن لتستمر طويلا، فمنذ لحظة النصر بدأت الهزيمة.

فغياب التنظيم الجماهيري الثوري لم يكن لينتج سوى هذا، ففي تلك اللحظة كانت برشلونة وكاتالونيا بشكل عام مهيأة لقيادة إسبانيا عبر الطريق الوحيد لهزيمة الفاشية وفرانكو- طريق الثورة الدائمة. فالصراع لا يمكن تقسيمه إلى مراحل. أولا هزيمة فرانكو ثم بعد ذلك الجمهورية البرجوازية وبعدها الاشتراكية. ففي الحقيقة أن الطريق الوحيد كان بالحرب ضد العدوين. فالجمهورية البرجوازية في إصرارها على “ديمقراطيتها” قد دفعت معظم العمال لمعاداتها فبإصرارها على مواجهة الدعاية اليمينية في الخارج بأنها حكومة حمراء نجدها تؤكد مرة بعد الأخرى احترامها للملكية الخاصة والتقاليد.

ولهذا كانت الحكومة ضد العمال والذين لم يكونوا ليستشهدوا في ساحات القتال لاستبدال سيد بآخر، ولم يكن ليدفعهم سوى النضال من أجل مجتمع جديد مخالف بالضرورة لكل ما سبق. مجتمع كالذي ظهر عقب ثورة يوليو 1936 تختفي فيه الملكية الخاصة والألقاب ويختفي فيه الاستغلال.

فلو كان الأمر كذلك لتأكد سحق الفاشية، فالعمال في المناطق الواقعة تحت سيطرة الفاشية لم يكن أمامهم سوى الانتفاض للالتحاق بالدولة العمالية في برشلونة وبفعلهم سيشقون وحدة واستقرار خطوط فرانكو الخلفية.

ومن ناحية أخرى فلو أعلنت الحكومة البرجوازية استقلال المغرب عن السيطرة الإسبانية لواجه فرانكو أزمة أخرى في معقل تمرده ولما أمكنه استخدام قوات الجيش الأفريقي والمحاربون المغاربة في تمرده المسلح ولكن ضيعت الحكومة البرجوازية هذه الفرصة حرصا على مصالح الإمبرياليات الفرنسية والبريطانية صاحبة المستعمرات في أفريقيا.

ولم يدرك تلك الحقائق أي من القوتين الراديكاليتين الرئيسيتين في برشلونة، الأناركيون، وحزب العمال للتوحيد الماركسي. وبدلا من الاستيلاء الكامل على السلطة وإعلان الدولة العمالية ودعوة كافة منظمات العمال للانضمام للدولة الوليدة نجد أنهم قد انضموا للحكومة الإقليمية في كاتالونيا مشاركين بذلك في تحالف الجبهة الشعبية وتاركين آلاف العمال، الذين استولوا على المدينة بثمن باهظ من الضحايا، خلفهم. وللأسف فان حزب العمال للتوحيد الماركسي كان يتبنى خط الثورة الدائمة كطريق وحيد لهزيمة الفاشية ولكن لم ينعكس هذا في ممارساته الفعلية في تلك اللحظة الثورية وكان عليه أن يدفع أولا، ومن بعده إسبانيا كلها، ثمن تلك الغلطة.

ونعود إلى برشلونة فبعد مشاركة الأحزاب الراديكالية في حكومة الجبهة الشعبية جلسوا ليشهدوا ولو على مضض القضاء على منجزات الثورة في برشلونة. ومرة أخرى يحكي جورج أورويل عن برشلونة في إبريل 1937:

“لقد اختفى العبق الثوري، فقد انزوى زي المليشيات وعادت الملابس الأنيقة للظهور مرة أخرى، الأغنياء ذوى الكروش والسيدات الأنيقات، وعاد الجيش النظامي- القائم على التفرقة بين الضباط والجنود – للظهور من جديد… وفقدت الجماهير المدنية حماسها واهتمامها بما يحدث… فقد عاد تقسيم المجتمع لأغنياء وفقراء، لطبقة عليا وطبقة دنيا، للظهور من جديد”.

وفي الواقع أن هذه النهاية قد بدت بشائرها قبل إبريل37 بشهور فقد أنهى “الراديكاليون” ازدواجية السلطة بانضمامهم للحكومة الإقليمية في كاتالونيا في سبتمبر 1936. وفي شهر أكتوبر 36 تم إنهاء الوضع المستقل للميليشيا وحل اللجنة المركزية للمليشيات. وأخيرا في ديسمبر تم إقصاء حزب التوحيد الماركسي من الحكومة إرضاء لموسكو والتي كانت سيطرتها عبر الحزب الشيوعي تتأكد على الحكومة البرجوازية من خلال تدفق الأسلحة من روسيا. هذه الأسلحة التي استخدمت أساسا للتكتيكات السياسية الداخلية أو لتسليح البوليس وقمع الجماهير- وتركت الجبهات الأمامية لتعاني من نقص وتخلف الأسلحة.

وفي مايو 1937 قررت الحكومة إنهاء أي التباس بخصوص ازدواجية السلطة وأعلنت العداء السافر للراديكاليين. وفي حملة دعائية حاولت الاستيلاء على مبنى السنترال في برشلونة والذي كان يقع تحت سيطرة الأناركيين منذ استيلائهم عليه خلال أحداث يوليو1936 بعد معركة شرسة. كانت أهمية السنترال دعائية أكثر منها عسكرية ولهذا رفض العمال الأناركيون تركه واندلع قتال عنيف دام ثلاثة أيام. ونصبت المتاريس في الشوارع وبدا أن هناك فرصة أخيرة لاستعادة زمام الثورة ولكن الذين تخلوا عن الثورة في يوليو 1936 لم يكونوا قادرين على استغلال هذه الفرصة ورغم الغضب في قواعد العمال فقد قبل حزب العمال والأناركيين الهدنة بشروط الحكومة وناشدوا العمال الرجوع للمنازل وترك المتاريس، لقد تأكدت هزيمة الثورة.

وتم تحييد برشلونة وأرسلت القوات المركزية من فالنيسيا – عاصمة إسبانيا بعد انسحاب الحكومة في مدريد الواقعة تحت الحصار. ولم يمر شهر يونيو حتى كان حزب التوحيد الماركسي يدفع ثمن أخطائه فقد تم حظر الحزب. وطارد البوليس – الواقع تحت سيطرة الحزب الشيوعي – أعضاءه وزج بالآلاف في السجون، وقادت الصحافة الستالينية حملة تشهير عالمية ضده وضد قادته ووصفتهم بأنهم عملاء لفرانكو وتم اختطاف واغتيال أندريه نن بواسطة عملاء البوليس وعلق تروتسكي ناعيا “نن” :

“لقد قاتل أعضاء حزب التوحيد ببطولة متناهية ضد الفاشيين على كل الجبهات، وقد كان “نن” زعيما مخلصا وثوريا بلا منازع، فقد دافع عن مصالح الشعب الإسباني وضد عملاء البيروقراطية السوفيتية ولهذا تم اغتياله… وردا على اتهام الصحافة الستالينية له بأنه تروتسكي فقد دافع الثوري الفقيد ضد هذا الاتهام بكل حق، فتحت قيادة نن كان حزب التوحيد معاديا للأممية الرابعة… ورغم صداقتنا إلا أن الاختلاف الذي بدأ منذ عام 1933 قادنا لقطيعة نهائية،.. وقام حزب التوحيد باستبعاد كل أعضاء الأممية الرابعة من صفوفه ولكن رغم تلك الخلافات فإني أعترف أن نن في صراعه ضد البيروقراطية السوفيتية كان على حق ( وكنت على خطأ ) فقد دافع عن استقلالية البروليتاريا الإسبانية ضد التدجين لصالح الدبلوماسية السوفيتية… وهذه الجريمة كان عليه أن يدفع ثمنها حياته.”

وفي شهر أكتوبر فرت الحكومة المركزية إلى برشلونة وبدأت الهزيمة تلوح في الأفق، ولم يكن ليمنعها شئ فالبرجوازية الليبرالية قد أنهت بنجاح كل فرص النصر وفي يناير 38 بدأ قصف برشلونة ونجح فرانكو في إبريل في الوصول من معقله في الشمال إلى الساحل الجنوبي وبالتالي شطر إسبانيا الجمهورية لقسمين وفي سبتمبر بدأت آخر معارك الفيلق الأممي التابع لموسكو والذي وصل في نوفمبر السابق على جبهة “ايبرو”. وبدأ حلفاء الحكومة البرجوازية الدوليين في التخلي عنها عندما وقع “شامبرلين” رئيس وزراء بريطانيا و”دالدير” رئيس فرنسا معاهدة ميونيخ مع هتلر لقطع الطريق على تحالف الأخير مع ستالين الذي لم ييأس، وفي نوفمبر 1938 قام بسحب اللواء الأممي الواقع تحت سيطرة موسكو من إسبانيا ليحرر يده في المفاوضات مع هتلر.

لقد انطوت في برشلونة وفي إسبانيا عامة صفحة من أعظم صفحات النضال الثوري للعمال، وكذلك كانت أكثر تلك الصفحات مأساوية.

لقد افتقد فرانكو لأي تأييد شعبي حقيقي، ولم يكن جيشه بالعظمة الفائقة، نعم كان لديه القسوة والقهر العارمين، وكان مستعدا لإغراق إسبانيا في بحور من الدماء لتحقيق انتصاره. ولكن هذا أيضا لم يكن كافيا في مواجهة شجاعة البروليتاريا الإسبانية الفائقة. لقد احتاج فرانكو للعون من خصومه وكان هؤلاء الخصوم وعلى رأسهم ستالين ورأسمالية الدولة الروسية عند حسن ظنه. لقد كان انتصار الفاشية نتيجة مباشرة لمذبحة مايو 1937 في برشلونة. انتصر فرانكو لانه كان لديه البرنامج الواضح: الحفاظ على الرأسمالية بأي شكل، وبأي ثمن. فقد أدرك أن الأزمة الثورية التي بدأت في عام 1931 لم تكن لتنتهي إلا بانهيار الدولة البرجوازية، وأثبتت البرجوازية العالمية – فاشية أو ليبرالية – وعيها بمصالحها الحقيقية بأن وقفت – إيجابا وسلبا – إلى جانبه.

وعلى الجانب الآخر وقفت الجماهير وقيادتها. وكانت أفعال تلك القيادات فادحة. فالبرجوازية الديمقراطية حاولت التشبث بأوهام المجتمع المدني في وقت لم يكن فيه ذلك المجتمع ممكنا، والستالينية استغلت الثورة لدعم مشروع “الاشتراكية في بلد واحد” ورأسمالية الدولة الروسية ولا تكفي هذه السطور لشرح المدى الذي وصلت إليه “الشيوعية” السوفيتية لقمع وتصفية الثورة.

ولكن الكارثة كانت في قيادة الطبقة العاملة، الأحزاب العمالية، فتَبَني تلك الأحزاب، بحسن النية أو بدونه، لوهم الاستيلاء السلمي على السلطة والتحول الحكومي ” للاشتراكية ” كان مقبرة الثورة الحقيقية. أثبتت الجبهة الشعبية إفلاسها وعجزها في المرة الأولى التي طبقت فيها وتصورت تلك الأحزاب أن الشعارات كافية لتعبئة الجماهير، ولو نجح هذا لفترة فان جماهير العمال ستدرك أن قياداتها – بتحالفها مع البرجوازية – لن تذهب بها بعيدا وسرعان ما ستنفض تلك الجماهير على قياداتها.

في إسبانيا كان هناك طريق آخر وراية أخرى لمحاربة الفاشية غير الدولة البرجوازية والجيش النظامي والجبهة الشعبية والستالينية والأناركية. طريق الثورة العمالية والميليشيا، طريق الثورة الدائمة، طريق الحزب العمالي الثوري.

في إسبانيا، مرة أخرى، كانت الإمكانية وكانت البشائر، وكانت الهزيمة. وفي المرة القادمة، لا نعلم أين ومتى، سنعرف إلى أي مدى استوعب الاشتراكيون الثوريون درس إسبانيا.