بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خبرات ثورية

من ملحمة بورسعيد 56..

ما لم يذكره التاريخ

أكثر من نصف قرن قد مر على معركة من أمجد معارك الشعب المصري، ألا وهي معركة بورسعيد 1956، وما زال الكثير من أسرار هذه المعركة خافيا، سواء بحسن نية أو سوء نية، ولكن ماهو غير معقول هو أن تمر هذه المناسبة من دون أن نحاول ذكر مالم يذكره التاريخ عن هذه المعركة، والتي حاول الكثيرون ادعاء البطولة فيها، وسرقة الأدوارالحقيقية من أصحابها، وإغفال التاريخ الحقيقي لكل من شارك فيها، وعلى الرغم من كثرة ما كُتب عن هذه المعركة إلا أن معظمها لم يحاول أن يذكر دور اليسار المجيد في هذه المعركة، واضطلاعه بأهم الأدوار فيها على الإطلاق، خاصة حال قيام الجبهة المتحدة.

وفي هذه العجالة سوف نحاول أن نلقى الضوء على هذا الدور، ونرصد ونسجل بعض ما قام به شعب بورسعيد وكوادره من أعضاء اليسار ومقاومتهم الباسلة منذ لحظة بدء العدوان وحتى انسحاب المحتلين في 23 ديسمبر 1956، ونقول في عجالة لأن هذا الأمر يحتاج إلى كتب لتغطية هذا الدور الهام في نضال اليسار المصري، والذي أتصور أنه من أهم أدواره على مدى تاريخه، ولعلها تكون فاتحة لأن يضطلع بهذه المهمة من لديه الوقت والجهد ليكتب عن دور اليسار المصري في معركة 56.

من يسترجع ذكريات هذه المعركة يشعر بأنها ما زالت حية على الرغم من التغييرات الضخمة التي جرت في مصر خلال النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، وعلى بورسعيد ذاتها بعد أن تحولت إلى منطقه حرة، لتعويضها عما قدمته من تضحيات على مدى تاريخها (كما قيل في ذلك الوقت).

ونعود لأيام المعركة، كانت أهداف المعتدين هي إعادة احتلال قاعدة قناة السويس من قِبل القوات البريطانية، والتي أُجبرت على الجلاء منها، وإلغاء قرار جمال عبد الناصر بتأميم القناة وعودتها إلى السيادة الأجنبية، وإعادة البلاد إلى ما كانت عليه قبل يوليو 1952، ولكن إرادة الشعب كانت أكبر منهم ولم يتحقق شيء من أهدافهم وخاب كيد المعتدين، فبقيت القناة كما هي مصرية وصارت مصر قوة سياسية لها أكبر التأثير والنفوذ من المحيط إلى الخليج، وطوت هذه المعركة المجيدة صفحة أكبر دولتين استعماريتين في العالم القديم، إنجلترا وفرنسا، وأفسحت الطريق لزعامة الدولتين العظميتين الجديدتين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وقد خلَّد هذا دور بورسعيد في تاريخ العالم كله باعتبارها اليد التي طوَت إلى الأبد صفحة الاستعمار القديم.

الحريق
في 29 أكتوبر 1956 كان الإنذار البريطاني لمصر، وفي اليوم التالي مباشرة بدأت الطائرات البريطانية في ضرب القاهرة والمطارات ومناطق في محافظة الشرقية وأبو زعبل، بعد ذلك تركز ضرب الطائرات المعادية على الأهداف العسكرية في بورسعيد، غارات متواصلة ومستمرة والمدفعية المصرية تتصدى لها بجوار مبنى القناة وبجوار تمثال ديلسبس وفي الجميل وبورفؤاد, ولكن القصف من الطائرات ظل مستمرا، وحطموا طريق المعاهدة وطريق القناة ومحطة السكة الحديد، وبذلك عُزِلت بورسعيد ولم يعد يربطها بباقي الجمهورية إلا طريق بحيرة المنزلة.

من الأيام الأولى شكَّل الأهالي لجان المقاومة الشعبية والحرس الوطني، وتشكلت اللجنة العليا للمقاومة، وتجمعت المقاومة في الكبائن والأحياء الشعبية، وعجز العدو عن احتلال شبر واحد من بورسعيد حتى يوم 4 نوفمبر، وكان عدد الضحايا كبيرا جدا، والمقاومة للعدو شرسة، وبدا أن العدو لم يكن مقدِّرا لحجم المقاومة العنيفة للمدفعية والمقاومة الشعبية، فبدأ يحرق المدينة من الجو مع التركيز على شاطيء البحر، حيث تتجمع المقاومة بعد أن أفسدت خططهم لإنزال جنود من البوارج الحربية على الشاطيء، وغير العدو من تكتيكه فأصبح يضرب بلا تمييز في محاولة لإسكات المدينة وإخضاعها، فحرقوا حي المناخ وهو أحد أحياء المدينة الذي يسكنه العمال والصيادون والحرفيون، وقبل أن يأتي المساء كانت المدينة كلها شعلة من النيران.

بدأت الناس تهرب من الحريق في اتجاه بحيرة المنزلة المنفذ الوحيد، وكانت المشكلة في وسائل النقل (اللنشات)، فاتجهت مجموعة من الشباب، بقيادة البطل علي شلبي رئيس نقابة سائقي اللنشات، إلى قناة السويس ومعهم عربات كارو ليحملوا عليها اللنشات من القناة، وينقلوها إلى بحيرة المنزلة لتنقل الناس خارج بورسعيد، كان القصف لا يتوقف على القناة وكان الذهاب إلى هناك انتحار, كان عملا بطوليا أن ينقلوا عشرات اللنشات من القناة إلى بحيرة المنزلة على عربات كارو، واستشهد في هذه العملية عشرات الناس من بينهم البطل علي شلبي نفسه.

الإشاعات والخداع أسلحة الغزاة
تجمعت مجموعة صغيرة من الشيوعيين واليساريين، منهم إبراهيم هاجوج وأحمد شوقي المرجاوي وسعد عبد اللطيف، بعد أن لاحظوا نشاطا مريبا لطابور خامس يُشيع في المدينة إشاعات خطيرة ويضلل الجماهير بادعاء نزول العدو في أماكن معينة في الوقت الذي ينزل فيه العدو في أماكن أخرى، وكان العدو في ذلك الوقت من صباح يوم 5 نوفمبر قد احتل منطقة الجميل والملاحة بجنود الباراشوت، بعد حرق أقسام هائلة من المدينة، وكان الضابط منير موافي ُيفرغ عربة معبأة بالذخيرة والسلاح في شارع كسرى، وقال للناس: “السلاح أهو.. خدوه”، وهجم الكل على السلاح، رجال ونساء، بل والأطفال، ثم أخذ الناس معه إلى محطة السكة الحديد، وكانت هناك عربات أخرى محملة بالسلاح لا يعلم الأهالي عنها شيئا، واندفع الناس يحطمون الأبواب ويوزعون السلاح، وفى خلال ساعة كان شعب بورسعيد كله مسلحا، وأقام الناس المتاريس استعدادا للمقاومة.

ذهب إبراهيم هاجوج وشوقي المرجاوي إلى مصلحة الاستعلامات لأخذ سيارة يوجهوا من خلالها المقاومة، ولكن الموظفين رفضوا تماما بحجة أنه ليس لديهم تعليمات، ولم يجدوا سيارات المصلحة في أماكنها ووجدوا سيارة جيب مكشوفة من سيارات حرس السواحل، فناقشوا السائق الذي اقتنع وذهب معهم بالسيارة، ووقف إبراهيم هاجوج وسعد عبد اللطيف في السيارة يخطبون في الناس عن الوطن المهدد: “لاتطلق الرصاص بدون هدف.. الرصاصة بعسكري إنجليزي.. سنقاتل، سنقاتل ولن نلقي السلاح”.

وتجمع الناس حول السيارة وأوقفوا عربات النقل، ونقلوا فيها الناس إلى أماكن نزول الانجليز، يقول إبراهيم هاجوج: “في شارع الحميدي ونحن نخطب في الناس هاجمت سيارتنا طائرة تقصدنا تحديدا، دخلنا في حارة ضيقة وقفزنا من العربة ودخلنا أحد البيوت، وسمعنا بعد لحظة دوي انفجار وصراخ، عدنا فوجدنا الطائرة قد ضربت السيارة بالقنابل فحطمتها تماما، وعدد من الناس قد قتلوا وأُصيب آخرون, وبعد أعوام طويلة قرأت في أحد الكتب التي كتبها الإنجليز عن العدوان عن دور العربة التي كانت تقود المعركة من شارع إلى شارع في أحلك يوم قاسته بورسعيد، وكانت قد نشرت عنها أيضا جريدة التايمز البريطانية”.

في ساعة مبكرة من 6 نوفمبر كانت إحدى عربات الاستعلامات في الشوارع تقول أن الروس على الأبواب، و”قاوموا فروسيا معنا”، وكان ذلك بعد الإنذار الروسي الشهير.

فانطلقت أعداد كبيرة من الناس تجري في الشوارع، وتقول أن الدبابات الروسية قد دخلت بورسعيد، ووقف آلاف الناس على أرصفة شارع محمد علي، واندفع المئات يجرون لملاقاة الدبابات الروسية، فرح غامر ورقص في الشوارع، وفعلا شاهد الناس دبابتين قادمتين من ساحل البحر يرفعان العلم الروسي الأحمر والعلم المصري، وانطلقت الزغاريد والتصفيق والهتاف، والتفَّ الناس حول الدبابتين، وسارت الدبابتان وسط الحشود حتى نهاية شارع محمد علي بالقرب من معسكر الجولف، ثم استدارتا وتوجهتا بمدفعيهما نحو الجموع المحتشدة بطول الشارع، ثم أطلقتا قنابلهما في قلب الجموع المذهولة، مات المئات في لحظة، الكل يجري هربا من النيران التي فُتحت عليهم فجأة، كانوا يدوسون بعضهم بعضا، كانت خدعة بشعة إلى أقصى حد، وقذرة لدرجة السفالة.

سعيد الضو.. شاهد على التاريخ
دارت الأيام، وعرفنا أن التاريخ من الممكن أن يُسرق من أصحابه ككل الأشياء، وأن الاستبداد والتسلط يطال حتى الماضي والتاريخ ذاته، وأن كل هذا يقع ضمن آليات الهزيمة، وأن الذي سرق المستقبل وشوهه، بدأ أيضا بأبواقه في انتزاع التاريخ من أصحابه ونسبته إلى نفسه.

كان يوماً من أيام ديسمبر، في التسعينات، وأثناء احتفالية متواضعة بذكرى النصر بمقر حزب التجمع ببورسعيد، وإذ بكهل أسمر مصري الملامح، وقوة شكيمة واضحة على سيماه، يقتحم المكان، وببساطة وبصوت عميق ترعشه العاطفة، وبثقة يقتحمنا بالسؤال: “هل تعرفون من هم أبطال هذا اليوم؟.. إنهم أعضاء حزبكم”.
ــ من أنت؟
ــ أنا سعيد الضو.
إذا هو سعيد الضو المشهور، وأمه (أم الضو).
وتداعت الذكريات: هذا هو من لقبه الإنجليز بالضبع الأسود أو الجن الاسود، والذي رصدوا المكافآت لمن يدلى بمعلومات عنه، هذا هو سعيد الضو الذي جاء اسمه في مذكرات فدائيي بورسعيد 56، ولم تذكره أبواق الدعاية الرسمية، هذا هو الصفحة التي تواطأوا على السكوت عنها، وكأنها لم تكن!
وكانت سهرة طويلة وجميلة ودافئة وعذبة ومؤلمة، تكلم فيها سعيد الضو وبكى، وكأنه كان يغسل آلام حياة كاملة.. وارتاح، وبعدها بأقل من عام واحد رحل سعيد الضو عن الحياة، ولم يحفل بموته أحد كما لم يحفل بحياته أحد، وأصبحت شهادته أمانة لدى كل من سمعها.

سعيد الضو.. الصبي الصغير الذي يعمل على مركب صغير (فلوكة) للصيد ببحيرة المنزلة، والمركب له هو وأمه، التي تنتظره كل مساء عند الغروب بمنطقة القابوطي لبيع غلة صيد اليوم، يترك مهنته ويحصر عمله في تهريب الفدائيين من المطرية دقهلية إلى بورسعيد عبر البحيرة، وتهريب بعض الأشياء المهمة (أوراق وخلافه) من بورسعيد إلى المطرية حسب رؤية وأوامر “ضباط الحكومة” الذين كانوا منخرطين في العمل ببورسعيد وقت الاحتلال، أو تقوم أمه (أم الضو) بحمل هذه الأشياء داخل ملابسها وتعبر بها لمحافظة الشرقية وتسلمها للمسئولين على الجهة الأخرى.

(أم الضو) التي تستقبل الفدائيين الشباب بمنزلها الطينى بالقابوطي، وتقدم لهم الشاى والطعام، وتغطيهم بأغطية من الصوف لتقيهم من برد الشتاء القارص، وتحارب مياه الأمطار التي تتسرب من سقف البيت الخشبي، كيلا توقظ الشباب المسكين الذي ترك أسرته في القاهرة وغيرها، ليحارب معركة “مدينتها” بورسعيد.

ومن بين هؤلاء الشباب، كانت البنت الصغيرة التي تركت منزل أهلها والتحقت بحبيبها وخطيبها بمدن القناة البعيدة (أمينة شفيق وعبد المنعم القصاص)، الشاب والشابة اللذان ظلَّا على شاطئ المطرية 3 أيام بلياليهم يبكيان ويستعطفان السعيد الضو لينقلهما إلى بورسعيد، إلى أن رق قلب السعيد لهما في نهاية الأمر، ورضخ لاستعطافهما، “أعمل إيه.. صعبوا عليا”، ونقلهما إلى بورسعيد، بعد أن ألبسهما ثياب الصيادين، وحمَّلهما “بزنابيل” السمك، ومرَّا من تحت أعين جنود الإنجليز وبوابات تفتيشهم، ورافقهما حتى انضما إلى رفاقهما بعزبة فاروق، حيث كانت أم الضو تسهر بجانب سعد رحمي الذي انتابته رعشة الحمى.

ولم يهرِّب سعيد الضو فدائيي اليسار المصرى فقط، ولكنه شارك في تهريب ضباط “الحكومة” إلى بورسعيد، ومنهم محمد أبو نار، وكمال الدين رفعت، والصياد، وموافي.. وغيرهم.

وتصرف بحنكة المحترفين عندما ارتبك كمال رفعت أمام بوابة التفتيش، وهو يحمل زنابيل السمك ومن تحته الأسلحة، فإذا بالسعيد يجري نحوه ويلطمه من الخلف بشدة ليكفيه على الأرض، ويصيح بخشونة: “إمشي زي الناس عشان سمك العالم اللى معاك مايقعش ونتبهدل”.

ويقهقه جنود بريطانيا العظمى على هذا الصبي الذي حوَّل رجلاً كبيراً إلى سخرية لهم، ويعلق كمال رفعت: “إن هذه اللطمة أنقذت حياتي”.

وتتواصل رواية سعيد الضو..
في ليلة من ليالي يناير 1959 يتزوج سعيد الضو، وفي ليلة الزواج، وقبل أن يدخل بعروسه، تطرق أيادٍ غليظة الأبواب بشدة وغلظة، وتصادر “ليلة العمر” وتستدعيه لرجل أمن الدولة (س.خ) الذي يطلبه عاجلاً، ويذهب ليجد ضابط المباحث وأمامه رزمتين من الأوراق، ويطلب منه أن يوقع على محضر بأن هذه الأوراق ضُبطت معه، وأنه تسلمها من (أحمد عبد العليم وأحمد الديب)، وهما ممن كان يعرفهم أيام 56، والموجهة إليهما “تهمة” الشيوعية، وسوف يُوقِّع ويذهب لعروسه في الحال، وكرجل شريف يرد السعيد: “لكن الكلام دا ماحصلش، والناس دي رجالة كويسة ومحترمين، وكانوا رجالة في المعركة ووطنيين، وماشفتهمش من أياميها”.
فيرد الضابط الهمام: “إنت أصلك شيوعي وسخ زيهم”.
ويُعلَّق السعيد في مبنى المباحث 3 أيام ليوقِّع ويعترف.

ويتصادف أن يأتي محمد أبو نار، والذي كان يعمل بمكتب الرئيس عبد الناصر، ويعلم بزواج السعيد، ويذهب إلى منزل “العريس” بعلبة (الشيكولاتة)، فيفاجأ بأن العريس ذهب في ليلة الزفاف، ولم يعد حتى الآن!..
ويتجه للمباحث ويتقابل مع الضابط ويعلم بما حدث، ويثور في وجهه:
“يظهر إنك اتجننت يا… وسأبلغ الريس بما يحدث..”
ويفرَج عن السعيد الضو، الذي لم يستطع جيش الاحتلال أن ينال منه يوم أن كان يعمل ضده، ولكنه مع رجال أمن بلده يُقبض عليه وينكَّل به لرفضه الشهادة الزور، ويخرج السعيد مع أبونار، الذي يكمل جميله برفع أمر حاجة السعيد لوظيفة ذات دخل ثابت بعد زواجه، ويأمر جمال عبد الناصر بتعيينه خفير أمن في الشركة التجارية للأخشاب (مترو وتش).

وتصبح حكاية السعيد الضو (مزحة دائمة) كلما حضر عبد الناصر إلى بورسعيد في عيد النصر ـ الذي كان ــ عندما ينضم إليه بعد الغداء باستراحة هيئة قناة السويس (أبطال بورسعيد)، وفي أثناء شرب القهوة يحكى كمال الدين رفعت عن واقعة ضرب السعيد له على بوابة الإنجليز.. ويضحك الرئيس، ويضحك المشير.. ثم: “عايز حاجة ياسعيد؟”..
“متشكرين ياريس”..
“عامل إيه معاك (س)؟”..
“كل خير ياريس”..
ودمتم!!.

ومات سعيد الضو خفيراً على المعاش بشركة (مترو وتش) التجارية للأخشاب، بينما كان الضابط الذي نكَّل به لرفضه شهادة الزور يتربع أعلى المناصب، ويمسك بيده مسبحة فخمة من اليسر المطعم بالفضة، ويقول في كل محفل: “أن مثله الأعلى هو عمر بن الخطاب رضى الله عنه”!!
 
هكذا تحدث سعيد الضو الذي لم يقرأ اسمه مرة في سجل الأبطال، ولم يدع يوماً أنه كان بطلاً، ولكنه لم يتأخر عن وطنه وقت الحاجة، ولم يسأل عن الثمن.
ويبقى سعيد الضو شاهداً حيا على كامل الصورة.

للأسف أرادت القوى المتسيدة والمتحكمة والمتسلطة أن تتحول 56 إلى لحظة استثنائية عابرة في تاريخنا، وأبوا عليها أن تنتج نتائجها المنطقية، والتي كانت كفيلة بأن تعبر بمصر مرحلة نهضة عظمى ودائمة، تتجاوز بها أوضاعها السياسية والاقتصادية والثقافية المتخلفة، وتتحول إلى مجتمع أقل بؤساً وتعاسة، لكنهم عبر تسييدهم لرؤيتهم المنفردة لإدارة الأمور، ومصادرة كافة الآليات السياسية والديمقراطية الأخرى، كانوا في الحقيقة يصادرون مستقبل هذا البلد.

بينما كنا نريدها نحن دائمة، وتقليداً من تقاليدنا، وكنا نستحق أن تكون هي لنا بداية لانتصارات أخرى، ولكنهم أداموا لنا مرارة الهزيمة حتى الآن، فصنعوا ظروفها وعواملها، وسهروا عليها بكل دأب، ولا زالوا مصرين حتى الآن على ألا نخرج منها!

كانت شهادة سعيد الضو جزء من الإجابة عن سؤال: كيف انتصرنا.. ولماذا لم نكمل هذا الانتصار؟.. أما الذي يجب أن نبحث له عن إجابة الآن، فهو سؤال المستقبل: كيف نتجاوز أوضاعنا الآن؟ وكيف نستعيد زخم لحظة بورسعيد 56؟

أظن أن سعيد الضو وأم الضو والسيد عسران، وأمثالهم من ملايين الناس البسطاء والعاديين هم جزء من الإجابة.

لابد من استعادة قدرة البسطاء على المبادرة والفعل والالتحام بقضايا الوطن، ولن يستعيدوا قدرتهم إلا إذا استعادوا إحساسهم بأنهم جزء من هذا الوطن، وأنه وطنهم، وأن الوطن بكل جلاله هو مرادف للمواطن..
وأن نثق جميعاً بأن سعيد الضو ورفاقه، وكل شهداء الوطن..
كل البسطاء..
الناس العاديين الذين وجدهم الوطن وقت الشدة، وحاولوا عبثاً اغتيال تاريخهم وتجاهلهم..
سوف يتوهجون يوماً مثل شموس يوم جديد..

* جمع الشهادات وأهداها لموقع «الاشتراكيون الثوريون» الزميل إسماعيل مناع، المدير التنفيذي بمركز مساواة لحقوق اﻹنسان وعضو حزب التجمع ببورسعيد