بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خبرات ثورية

سلسلة تاريخ الثورات:

قرغيزيا: نزاهة الانتخابات تشعل الثورة الثانية

في خمس سنوات فقط استطاعت جماهير قرغيزيا الثورة مرتين على ديكتاتور أغرق البلاد بالديون والفقر والفساد، وعلى ديكتاتور آخر جاء بانتخابات شهد الجميع بنزاهتها لكنه لم يختلف عن سابقه.

ففي عام 2005 رأت الجماهير الانتخابات كخطوة مهمة لتحقيق مطالب الثورة؛ فالرئيس الذي ثارت ضده الجماهير تم خلعه بالفعل وهو الآن خارج البلاد، كما أن البديل المطروح بقوة في البرلمان موجود في شكل المعارضة التي طالما تعرضت للاعتقالات والمطاردات الأمنية على يد النظام الديكتاتوري مما أكسبها قاعدة شعبية عريضة، كانت التوقعات على إثر ذلك أن تتجه البلاد ناحية الاستقرار.

لكن ما حدث منذ الانتخابات إلى عام 2010 أن الأوضاع الاجتماعية التي تمثل مطالب الثورة لم تشهد تغييراً ايجابياً بل ازدادت سوءاً، فارتفعت الأسعار وتسبب غلاء المعيشة في الزج بأكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر، وازدادت نسبة البطالة ومعدلات الهجرة وكان في المقابل أن ازدادت الرشوة والمحسوبية وامتلأت جيوب الأسرة الحاكمة بأموال الشعب الكادح، فلم يلبث باكييف، الرئيس الذي اختارته الجماهير بنزاهة، أن عيّن أخيه مسئولاً عن جهاز أمن الدولة حيث لعب دوراً كبيراً في إحكام القبضة الحديدية تجاه المعارضين ثم تزوير الانتخابات، أما شقيقه الآخر فكان رجلاً للأعمال يتحكم في الشركات الاستراتيجية للدولة. أما الشعب فتصاعدت وتيرة احتجاجه من مظاهرات عفوية إلى منظمة، ما لبثت تلك المظاهرات حشد المزيد بعد القمع الذي تعرضت له.

وجه باكييف تهديدات صريحة للثوار في حال إذا هاجموا قصر الرئاسة ستمطرهم القوات الأمنية بالرصاص ولن يبقى فيهم حياً، بل استخدم أجهزته الإعلامية في توجيه خطابات معادية للجماهير التي أعلته الحكم، كان ذلك بالتوازي مع عمل الأجهزة الأمنية من قتل وقمع واعتقالات طالت الثوار في كافة المدن. لم تهدأ الثورة بل تحولت من طابعها السلمي المتمثل في تسيير المظاهرات إلى رد فعل تجاه قتل مزيد من الشهداء، فاحتلت الجماهير البرلمان وازدادت عمليات تكسير أبناء الفقراء لرموز الثراء الفاحش من قصور طالت القصر الرئاسي نفسه، كما طالت رموز السلطة الحاكمة في شكل مؤسساتها الحكومية.

هنا الجماهير تمردت على انتظام صفوفها أمام اللجان الانتخابية التي لم تحقق سوى مزيد من البؤس، وخرجت منفجرة تدحر جهاز الشرطة وتستولي على المدن بسيادة تامة بعد أن أخذت محافظي الحكومة كرهائن كذلك تمكنوا من القبض على وزير الداخلية وتصويره غارقاً في دمائه.

وبعد التهديدات الصريحة بقتل الثوار عمد باكييف إلى تجميل الأوضاع ببعض الإصلاحات التي لن تهدف لتحقيق مطالب الثورة بقدر تحقيق استقرار عرشه، وحاول استجداء الأمم المتحدة للتدخل لإنقاذ الوضع أو بالأحرى إنقاذ وضعه، كما تغير خطابه التهديدي بالتخلي عن السلطة مقابل الحفاظ على حياته. كان ذلك هو نفس السيناريو الذي ثارت ضده الجماهير قبل خمس سنوات وكانت نفس النهاية لثاني رئيس ينهب البلاد، كما تم كتابة الدستور سبع مرات ومازالت الجماهير تثور.

ما تطرحه التجربة القرغيزية من خبرات ثورية هي أن الجماهير التي انتخبت بنزاهة هي نفس الجماهير التي ثارت ضد من انتخبته، ليس في ذلك تناقضاً وإنما هو الوعى الذي يكتسبه الثوار من مراحل التجربة في غياب التغيير الملموس؛ فالمعارضة التي لاقت صدى واسع وتم انتخابها لم تتبن في المقابل طريق واضح يحدد كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في توزيع الثروات. حكومة باكييف هنا اتبعت نفس المسار السياسي والاقتصادي للمخلوع السابق بتحرير السوق وتعويم العملة وما يتبع ذلك من خصخصة ومنافسة عشوائية حتى وصفت قرغيزيا كأكثر الدول اتباعاً للسياسات الرأسمالية في منطقة آسيا الوسطى، وفي ظل الأزمة الاقتصادية العالمية انهار الاقتصاد القرغيزي وتداعت المشاكل الاجتماعية كالفقر والبطالة. اشتعلت الثورة لأن الجماهيرأدركت أن صناديق الانتخابات مهما بلغت درجة نزاهتها وشفافيتها فستكون أول ما يتم تحطيمه إذا لم تكن حلقة في سبيل تحقيق المطالب المباشرة للجماهير والتي تتطلب تغيير كامل للسياسات الاقتصادية ودون ذلك لن يحدث التغيير الاجتماعي المنشود.

تجربة قرغيزيا أيضا تطرح ضرورة بناء البديل الثوري بقواعد عريضة من مجالس شعبية داخل الأحياء والمصانع تكون قادرة على قيادة الجماهير في الثورة وفي السلطة أيضاً، فما حدث بالمرتين التي ثار فيهما الشعب ودفع ثمن ثورته دماء الشهداء أن المعارضة كانت البديل الأكثر طرحاً لاعتلاء السلطة، تلك المعارضة التي لم تختلف عن السلطة الحاكمة في برامجها السياسية والاقتصادية القادرة على إعادة إنتاج نفس الديكتاتور باستبداده القمعي، وكأن سبب الثورة هو خلافات سياسية حول أي فصيل يعتلي الحكم.

استطاعت الجماهير بالفعل احتلال البرلمان وإعلان فرض سيادتها على العديد من المدن بدحر جهاز الشرطة واحتجاز المحافظين، لكن لم تستمر تلك التجربة على نحو يعتلي فيه الثوار أنفسهم للسلطة وفرض أوامر الثورة، لأن من ثاروا لم يكونوا منظمين بحزب ثوري من الطبقات الكادحة يجمع بين الاستيلاء على الحكم وتحقيق العدالة الاجتماعية، لو أن الجماهير كانت أكثر تنظيماً لطرحت من خلال حزبها من يقود ثورتهم دون أن تثق بمعارضة لم تختلف كثيراً عن سابقتها.

يبقى لنا أن نؤكد بأن التجارب التاريخية هي دروس يمكن أن تستفيد منها كل الشعوب الثائرة طالما تشابهت الظروف.

تابعوا سلسلة تاريخ الثورات على الرابط التالي:

http://www.e-socialists.net/taxonomy/term/566,3483