روسيا وايران ومصر: الأقليات المضطهدة والثورة
نُشِر المقال لأول مرة بـ”أهرام أون لاين”
إن كل الثورات الاجتماعية ضد الأنظمة المترسخة في الاضطهاد والاستغلال تطرح امالاً واسعة، لا للقطاعات العريضة للجماهير التي تعاني ظلم الفقر والعوز بيد طبقة حاكمة صغيرة محتكرة للامتيازات فحسب، ولكن أيضا للأقليات الاجتماعية والتي تعاني اضطهادا مضاعفا من جانب نفس الأنظمة الظالمة.
و في كل مرة يدخل فيها العوام و المحرومون الصورة ليعيدوا كتابة التاريخ من زاويتهم، تلتقط الشرائح الاكثر عرضة للإضطهاد أيضا أقلامها لتمحو آثار التمييز و لتطالب بالمساواة واستقلال القرار الوطني.
ينطبق هذا تماما على الثورة الروسية الكبرى 1917، والتي لم تدخل التاريخ ببساطة كثورة قام بها العمال والفلاحون الفقراء ضد القيصرية، و لكن أيضا كثورة شجعت الملايين من اليهود و المسلمين داخل “رجل أورروبا العجوز” على التصدي للشوفينية الروسية.
هذا ينطبق أيضا على ثورة أحدث كالثورة الإيرانية عام 1979، التي بدأت تمرداً من قبل العمال والفقراء ضد النظام الاستبدادي للشاه ثم دفعت الملايين من الأقليات والقوميات المضطهدة من الأكراد والعرب في خوزستان الى النضال من أجل تحررها الذاتي من نير الشوفينية الفارسية.
و في مصر كما في روسيا وايران فتحت ثورة 25 يناير 2011 ضد نظام مبارك الاستبدادي، فتحت الباب على مصراعية لحركة جديدة وسط المجموعات التى همشت و اضطهدت منذ وقت طويل من مسيحيين ونوبيين وبدو.
في الحالات الثلاثة أدى إفلات الزمام من بين يدي الدولة المركزية التي ترعى القمع والتمييز ضد فئات اجتماعية معينة، أدى بهذه الفئات الى بلورة تطلعاتها للمساواة وذلك في شكل مطالب محددة وأخذت في النضال من أجل انتزاعها بروح نضالية غير مسبوقة.
ففي الحالة المصرية، واجه المسيحيون حالات حرق الكنائس بيد المتطرفين بتنظيم تظاهرات حاشدة في خطوة جريئة مقارنة بردود الأفعال على الحوادث الشبيهة في العام الأخير من حكم مبارك، كذلك أعلن النوبيون الذين اُنكر عليهم بشكل ممنهج أي حق لهم في موطنهم التاريخي، كما حُرموا حتى من أي إعتذار رسمي عن ما ارتكب في حقهم من جريمة تاريخية باجتثاث كامل لجذورهم القومية تحت حكم عبد الناصر، أعلنوا أنهم لن يرضوا بأقل من المحاسبة على الجرائم الفظيعة التي مورست بحقهم. أما بدو سيناء الذين طالما أسيئت معاملتهم و حرموا من حق تملك أرضهم من قبل الدولة المركزية والذين طالما تعاملت معهم القاهرة باعتبارهم مجرد ديكور يثير اعجاب السائحين الأوربيين، بدأوا يدافعون عن حقوقهم القومية.
وبعبارة أخرى، فكما قررت الجماهير المصرية عموما أن تنتقل من خانة المفعول به الى خانة الفاعل في التاريخ، بدأت الأقليات المضطهدة أيضا تمسك بزمام مصيرها.
لكن قدرة هذه الأقليات المضهدة على انتزاع تحررها كانت ولا زالت مرتبطة ارتباطا لازما بفرص الجماهير الثورية عامة في النجاح في تحقيق أهداف الثورة.
لم تكن هزيمة الثورة الروسية النهائية بصعود الستالينية في العشرينات، وهزيمة الثورة الايرانية في أوائل الثمانينات، هزيمة لجماهير العمال التي قادت النضال في المقام الأول فحسب، بل أيضا هزيمة لكل حركات تحرر الاقليات القومية والعرقية والدينية. فبعد هزيمة الثورة الروسية، عاد إضطهاد اليهود مرة أخرى وإن كان بأشكال جديدة، كما أنكرت الطبقة الحاكمة الجديدة الستالينية حق الشعوب والأقليات القومية في تقرير مصيرها وذلك بعد أن نجحت الستالينية في تأسيس دولة مركزية قمعية بعد الاجهاز على مقاومة العمال، مستعيدة بذلك تراث الشوفينية الروسية “المشرفة” والتي أدمغتها مع كثير من العبارات الاشتراكية الفارغة من مضمونها.
كذلك بعد هزيمة الثورة الايرانية، قمعت بقوة كل حركات تحرر الأقليات الكردية والعربية في خوزستان عندما استعادت الطبقة الحاكمة كامل أدواتها القمعية تحت قيادة الثورة المضادة الخومينيية وأحكمت قبضتها على الدولة المركزية بعد دحر مقاومة الحركة العمالية و تصفية اليسار، معيدين إنتاج الشوفينية الفارسية العتيقة، مغلفة هذه المرة بخطاب ديني شيعي راديكالي فقط في مفرداته.
و في مصر أيضا، يظل مصير تحرر المسيحيين والنوبيين والبدو وكل الأقليات المضطهدة معلقاً علي مصير الثورة المصرية ككل. إن نجاح الطبقة الحاكمة وجهاز الدولة المصرية في استعادة الاستقرار النسبي للنظام الاجتماعي القائم، بعد امتصاصها لزلزال انتفاضة يناير 2011 وتوابعه، وتمكنها من إعادة ضبط كل مؤسسات القمع الاجتماعية والسياسية، يعني أن قوى الثورة المضادة أقرب ما تكون إلى اجهاض الثورة ومن ثم القضاء على الآمال في نظام جديد تتمكن فيه الأقليات من النضال من أجل المساواة في مناخ أكثر مواءمة.
و من المفارقات أن النظام القديم عزم على استخدام مسألة الاقليات المضطهدة التي روعها بنفسه لعقود بما يخدم مخططه لاستعادة السيطرة. ففي ربيع 2011، قامت الدولة المركزية بمساعدة بعض القوى الدينية الرجعية في اشعال أزمات طائفية بهدف تشتيت القوى الثورية الأولية وذلك بالدفع بالاستفتاء علي الدستور علي أسس طائفية، ثم عدم تحرك هذه الدولة ساكنا لمنع حرق الكنائس المتكرر، قبل أن تنصب الدولة الشراك و تدخل في مواجهة دامية مع الاقباط المتظاهرين سلميا أمام ماسبيرو في أكتوبر ثم استخدام هذه الأحداث في تقسيم الشعب على أسس دينية.
وعلاوة على ذلك استخدمت قوى النظام القديم – بشكل انتهازي – المخاوف الحقيقية والمبررة لدى الملايين من الأقباط تجاه خطاب الاسلاميين و نواياهم الحقيقية خلال معركتها لاستعادة قوتها السياسية وذلك بدفع الأقباط لتأييد الذين يعلنون على الملأ عزمهم استعادة نظام ما قبل 25 يناير.
و بطريقة فجة، فإن المرشحين الذين ظلوا لأعوام طويلة جزءاً من نظام مبارك ولم ينبسوا ببنت شفة عن الأوضاع المزرية للأقليات تحت سمعهم و أبصارهم، صاروا يصدرون أنفسهم وتصدرهم قوى الثورة المضادة الأن باعتبارهم محرري الأقليات الأبطال.
إن كل الوعود التي تمنحها قوى الثورة المضادة للأقليات، كحمايتهم من الاسلاميين بتشديد أجهزه القمع المباركية، ستعريها الأيام من الحقيقة تماما.
علاوة على ذلك قد تصل قوى النظام القديم لإتفاق مع تقاسم للسلطة مع أكثر القطاعات رجعية من الاسلاميين، كطريقة لاستعادة جهاز دولة أكثر قدرة على القمع، وكل هذا بالطبع ضد صالح الثورة ككل والأقليات تحديدا.
كان الفشل في تحرر هؤلاء الذين عانوا من أسوأ أشكال الاضطهاد بسبب خلفياتهم الدينية و القومية، من أكثر تبعات هزيمة الثورة الايرانية و الثورة الروسية مأساوية على الاطلاق، وسيكون هذا هو الحال إن تراجعت الثورة أو هزمت في مصر.
فلم يرنا التاريخ مثالاً واحدا لتحرر المضطهدين في أى مجتمع دون التحرر العام لكل المستغلين والمضطهدين من ربقة الاستبداد في نفس المجتمع.
في الحالة المصرية خاصةً، الطريق للمساواة بين كل المواطنين لابد أن يمر بنضالات المضطهدين وبتضامن الجماهير مع هذا النضال، وليس من خلال توهم أن من قمعنا بالأمس سيصبح مخلصنا بين ليلة وضحاها.
إن النضال المستقل للمضطهدين ضد مضطهديهم شرط مسبق للتحرر، ولن توجد أي طرق مختصرة غير هذا النضال.