روزا لكسمبورج ـ قلب الثورة
إن حياة روزا لكسمبورج كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالثورة منذ مولدها في عام 1871، وهو نفس العام الذي شهد كوميونة باريس، ثم من خلال مشاركتها في الثورة الروسية عام 1905 وحتى مقتلها وقت الثورة الألمانية في عام 1919. وخلال الـ 49 عامًا التي عاشتها روزا شهدت تغيرات ضخمة في النظام العالمي مثل تطور الاحتكار الرأسمالي والإمبريالية. ومن خلال فهمها العبقري للماركسية وشجاعتها في مساءلة وتحدي كل المنظومات الأرثوذكسية استطاعت روزا أن تحلل كل تلك التغيرات حولها من وجهة نظر اشتراكية ثورية وأيضًا أن تعمق التراث الماركسي من خلال ممارستها السياسية.
تتمثل أولى الإنجازات الكبيرة لروزا في معركتها ضد الإصلاحية. فالآن، وبعد ما يقرب من المائة عام، اعتاد الاشتراكيون على وجود الأحزاب القائمة على منظور الطبقة العاملة ولكن التي تتقرب تقربًا شديدًا من النظام الرأسمالي ومؤسساته. ولكن هذا كان يشكل ظاهرة جديدة في تسعينات القرن الماضي. لقد كانت روزا من أوائل الذين استوعبوا التهديد الذي تمثله الإصلاحية واحتمالات تقويضها للحركة العمالية، وخاصة من خلال خبرتها في العمل داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني والذي انضمت إليه في سنة 1898 عندما جاءت من بلدها الأصلي بولندا إلى ألمانيا. كان الحزب الاشتراكي الألماني ضخمًا جدًا حيث كان عدد أعضاءه مليون فرد، بالإضافة إلى تسعين صحيفة و104 مليون مشترك و200000 منتسب من كورال العمال و130000 عامل من نوادي رياضة الدراجات. كما كانت قيادته من أصدقاء وزملاء ماركس وإنجلز، وكان الحزب ملتزمًا بالماركسية بشكل رسمي من خلال برنامج إبرفرت لعام 1891. كانت روزا لكسمبورج من الأوائل الذين لاحظوا أنه بالرغم من الشعارات المعلنة للحزب الاشتراكي الألماني إلا أنه كان يخضع للإصلاحية في الممارسة العملية. وتفجر هذا الميل علنيًا في أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما كتب إدوارد برنشتاين مقالات صحفية تبعها بكتاب يحدد الأساس النظري للإصلاحية. ولقد كان برنشتاين يمتاز باحترام كبير داخل محيط الحركة العمالية الألمانية. أما روزا، على العكس من ذلك، فقد كانت امرأة صغيرة السن في ذلك الوقت بالإضافة إلى كونها قادمة إلى الحزب الألماني من بلد آخر وهو بولندا. ولكن لم ينتاب روزا أية إحباطات وذلك لإدراكها مدى الخطورة التي شكلتها أطروحات برنشتاين.
كان ما طرحه برنشتاين في الأساس هو مراجعة لنظرية ماركس عن الأزمة الرأسمالية. ولقد أكد برنشتاين على أن التطور في الاقتصاد حدث نتيجة لتاريخ أزمته وركوده ولذلك ففي القرن العشرين سوف يتطور الاقتصاد تدريجيًا بحيث يصبح أكثر انضباطًا وخضوعًا لسيطرة الجماهير بواسطة التوسع في القروض ونمو الاحتكار والعولمة. وهكذا، في رأي برنشتاين، فإن ترابط دور النقابات العمالية مع النفوذ البرلماني سوف يكفيان لضمان وجود مجتمع أكثر عدالة ومساواة. فملخص القول إذن أن الحزب الألماني يجب أن يتخلى عن الماركسية خاصة فيما يتعلق بتشديدها على الأزمة الاقتصادية والصراع الطبقي. ادعى برنشتاين “أن الهدف النهائي لا يمثل أية أهمية بغض النظر عن كينونته، فالحركة هي أهم شيء”.
رفضت لكسمبورج جميع أطروحات برنشتاين وأشارت إلى أن الأزمة الاقتصادية ظلت مرتبطة بالإنتاج الرأسمالي، وأن نمو الاحتكار لم يلغ المنافسة على معدلات الربح بل على العكس جعلها تأخذ وضعًا أعلى على المستوى القومي. فنضال النقابات العمالية يستطيع فقط أن يخفض من مستوى الاستغلال ولكنه لا يستطيع التخلص منه تمامًا، كما أن البرلمان لم يكن أبدًا تلك الآلية التي تستبدل ببطء المجتمع الرأسمالي بالاشتراكي ولكنه كان دائمًا مؤسسة من مؤسسات الطبقة الرأسمالية. وأضافت روزا أن الطبقة الرأسمالية يمكن أن تتخلى عن الديمقراطية البرلمانية إذا كان من مصلحتها ذلك. كما أن قولها “خلف عباءة الشرعية البرجوازية يقبع العنف الطبقي للطبقة الحاكمة” تحقق بحذافيره بواسطة الطبقة الحاكمة الألمانية والتي وقفت خلف هتلر في ثلاثينيات هذا القرن. لقد أكدت روزا على أن جذور الاحتياج لتحقيق الاشتراكية كانت مغرسة في تناقضات الاقتصاد الرأسمالي وفي إدراك العمال بأن هذه التناقضات سوف يتم التغلب عليها بالتحول الثوري للمجتمع. ولذلك فالنضال من أجل الإصلاح ما هو إلا وسيلة لبناء الثقة والتنظيم لدى الطبقة العاملة حتى الوصول إلى المرحلة التي تجعل الثورة ممكنة. وقالت روزا أيضًا أن “أولئك الذين يختارون الإصلاح في مقابل الثورة فإنهم في الحقيقة لا يختارون طريقًا أكثر هدوءًا وسلمًا من أجل تحقيق نفس الهدف، ولكنهم يختارون هدفًا مختلفصا تمام الاختلاف”؛ إنه هدف يطيل ويزيد من أهوال الرأسمالي ولا يمحوها. وهكذا، يظل كتيب روزا إصلاح أم ثورة مفتاحًا لفهم لماذا لا يمكن أن يؤدي الطريق البرلماني للاشتراكية.
لقد أقام الماركسيون تنظيماتهم على قوة الطبقة العاملة، ولكن لكسمبورج كانت من أوائل الذين أدركوا كيفية تشكل الصراع الطبقي في القرن العشرين لأنها فهمت مغزى ثورة 1905 في روسيا. تمركزت الثورة حول حركة من الإضرابات الضخمة والتي تطورت إلى مجالس للعمال. أي إلى تنظيمات عفوية للطبقة العاملة. وبسبب هذا المستوى من المواجهة مع تطورات الصراع الطبقي في جارتها روسيا، فإن الشعارات الزائفة لقيادة الحزب الاشتراكي الألماني ظهرت بوضوح. فلقد ادعت هذه القيادة أن الإضراب الجماهيري ما كان إلا تكتيكًا دفاعيًا يجب استخدامه فقط كوسيلة أخيرة وفقط من أجل أن يظل الطريق إلى الحل البرلماني مفتوحًا.
وعلى العكس من ذلك فلقد كانت وجهة نظر روزا لكسمبورج أن الإضراب الجماهيري كان في الواقع “نبض الثورة الحي وقوته الدافعة العظيمة في ذات الوقت”. وبغض النظر عن كون الأسباب المؤدية للإضراب اقتصادية أم سياسية، فإن تجربة الإضراب يمكن أن تحطم الحواجز بين ما هو سياسي واقتصادي. فكل نصر سياسي يوسع من الآفاق ويزيد الثقة ويغذي النضال الاقتصادي، والعكس صحيح. وبينما نظرت قيادة الحزب الألماني والنقابات العمالية للطبقة العاملة وكأنها جيشًا واقفًا على خشبة المسرح يمكن تسريحه وإرساله إلى البيت عندما تأمر القيادة، فإن روزا كانت مؤمنة بأن تحرر الطبقة العاملة هو فقط من صنيع الطبقة العاملة ذاتها، ولذلك فإن نمو الوعي الاشتراكي والذي يتطور من خلال تجربة الإضراب هو موضوع في غاية الأهمية: “إن من الأشياء الثمينة للغاية – بسبب كونه أكثر الأعمال استمرارية داخل الموجات الثورية الحادة من المد والجذر – هو نمو الروح البروليتارية”.
وفي ديسمبر من عام 1905، استطاعت روزا أن تتسلل إلى بولندا (وكانت في ذلك الوقت جزءًا من روسيا) لكي تحرر جريدة الحزب الاشتراكي البولندي والذي كانت تنتمي إليه أيضًا. وتم القبض عليها وسجنت ثم تم ترحيلها إلى ألمانيا. وعندما خرجت من السجن كتبت إلى صديقتها كلارا زيتكن معربة عن ازدياد إحباطها نحو قيادات الحزب الاشتراكي الألماني.
شهدت العشر سنوات التي تلت 1905 تمركز الإمبريالية وذلك مع تجمع سحب الحرب فوق سماء أوربا. وفي مواجهة القوة الدافعة نحو الحرب فقد ظهر انقسام في معسكر الرافضين للحرب، كما اتخذت الاختلافات السياسية السابقة أشكالا جديدة. طرح كارل كاوتسكي فكرة أن الإمبريالية ما هي إلا فقاعة في الهواء لأن الرأسماليين أنفسهم سوف يودون التخلص منها حيث أن صرف الأموال على الأسلحة ما هو إلا تضييع هذه الأموال هباء. ولذلك فلقد كان من رأيه أن الاتفاقيات الدولية والمؤتمرات والتظلمات التي ترفع للرأسماليين “المنطقيين” يمكن أن يضعوا نهاية لتهديد الحرب. إن كل من كاوتسكي وبرنشتاين رأى أن الحرب تعتبر انحرافًا وسوء حظ في التطور السلمي للرأسمالية.
سخرت روزا لكسمبورج من تحليل كاوتسكي ذاك. فبالنسبة لها فإن الامبريالية وروح التنافس بين الدول والاندفاع نحو خلق أسواق جديدة كانت كلها علامات وثيقة الصلة بالرأسمالية، ولذلك فمن المستحيل أن تعيش الرأسمالية بدون اندلاع الحروب. ولم تكن روزا متبنية لنزعة سلمية في تحليلها هذا. وكانت وجهة نظرها التي طرحتها في مؤتمر شتوتجارت في سنة 1907 هي أنه إذا اندلعت الحرب فإن من واجب الاشتراكيين أن يستخدموا هذه الأزمة لتكثيف جهودهم من أجل التخلص من الطبقة التي تحكمهم؛ بمعنى آخر فإنه من واجب الاشتراكيين أن يعلنوا الحرب.
أدى اندلاع الحرب في أغسطس 1914 إلى فضح كل ادعاءات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا بأكملها. فعلى الرغم من رفعهم للشعارات الأممية فإن كل من هذه الأحزاب – فيما عدا الحزب البلشفي اللينيني – سقط في هاوية دعم جهود الحرب التي كانت تبذلها طبقاتهم الحاكمة. أما روزا، ومعها حفنة من الاشتراكيين الآخرين ومنهم كلارا زيتكن وكارل ليبكنخت، فقد أصابهم الإحباط الشديد بسبب خيانة حزبهم واندلاع المد الوطني في الشهر الأولى من الحرب. ولكن على الرغم من عزلتها فإن روزا لم تكن أبدًا لتتنازل عن مبدأ الأممية وكانت صارمة جدًا تجاه دور القيادة في حزبها: “اتضح تمامًا أن كرويس (تاجر السلاح) والحزب الاشتراكي هما أفضل الداعمين للإمبريالية، فالأول وفر الأسلحة المادية للحرب والثاني قدم الأسلحة الروحية من أجل هدهدة الجماهير حتى النوم ثم القيام بخيانتهم”.
على الرغم من ذلك، كان هناك ثمة خطأ في تحليل روزا للمسألة القومية. لقد عارضت روزا كل أشكال التعبير عن الروح القومية ولم تفرق بين القومية في الدول المستعمرة – مثل بلدها بولندا – والقومية في الدول الإمبريالية – مثل بريطانيا أو روسيا. ولقد أدى هذا الاتجاه الرافض فيما يتعلق بالمسألة القومية إلى سجال حاد مع لينين. إن البلاشفة كانوا من الاشتراكيين الذين يعملون من داخل الإمبراطورية. ولذلك فلقد عارضوا القومية التي تتمسك بها طبقتهم الحاكمة، ودعوا إلى اتحاد جميع العمال. ولكنهم أدركوا أيضًا أنه من أجل انتصار هذه الوحدة يجب عليهم أن يعترفوا بحق جميع الدول في تقرير مصيرها مثلما أدركوا أن الحركات الوطنية في الدول المستعمرة يمكن أن تساعد في تقويض القوى الإمبريالية الكبرى. ولكن برغم ضعف تحليل روزا هذا فإنها تعتبر واحد من حفنة من الاشتراكيين الذين ظلوا مؤمنين بالأممية عندما خضعت لامتحان الحرب. كما يظل كتيبها جانوس واحدا من أهم الكتب معارضة للحرب والنظام الذي يحقق أرباحًا من وراء المجازر الجماعية: “هكذا يقف يملؤه العار والخزي، يرتفع في بحيرات الدم وتتساقط منه الأوساخ: ذلك هو المجتمع الرأسمالي عندما لا يمثل دوره المعتاد أمام الجماهير والذي يظهر فيه مسالمًا وحسن السلوك”.
لقد كان فهم روزا للإصلاحية والإضراب الجماهيري والإمبريالية نابعًا من فهمها للماركسية: فالماركسية ليست مجرد وسيلة لفم التاريخ ولكنها وسيلة لصناعة التاريخ. مثلت الماركسية سلاحا في يد حركة الطبقة العاملة، وكان الإنجاز العظيم الرابع لروزا الذي قدمته للماركسية يتمثل في الحفاظ على إحياء التراث الماركسي الحقيقي في أوربا عندما كان يخضع للهجوم ليس من أعداء الماركسية ولكن من أصدقائها المقترضين. لقد قدم برنشتاين وكاوتسكي وجهة نظر للتاريخ قائمة على فكرة أن التغيير الاجتماعي يحدث بمزل عن الإرادة الإنسانية أو عن الفعل الإنساني. وفي هذا النموذج من الماركسية فإن الرأسمالية سوف تقود إلى الاشتراكية بشكل لا مناص منه. وتبعًا لكلام كارل كاوتسكي نفسه: “لا غبار على أن القوى الاقتصادية التي لا يمكن مقاومتها سوف تؤدي إلى تحطيم سفينة التطور الرأسمالي تمامًا مثل اعتقادنا بحلول القيامة”.
على النقيض من ذلك، كانت روزا ترى أن التاريخ خلق إمكانيات متناقضة والتي اعتمدت في حلها على وعي وحركة وتنظيم الطبقة العاملة. لقد أنتج التاريخ الرأسمالية وحفار قبرها في ذات الوقت – الطبقة العاملة؛ أنتج أيضًا الإمبريالية وعكسها – إمكانية وحدة الطبقة العاملة والأممية. إن الظروف الموضوعية لن تؤدي أوتوماتيكيا إلى الاشتراكية. وهكذا، فإن لكسمبورج في الحقيقة قد أعادت وضع فعالية ونشاط الطبقة العاملة بذاتها إلى قلب الماركسية وأكدت على أن دور المنظمة الاشتراكية يكمن في تدخلها وتطويرها السريع للأحداث. كما أشارت إلى أن “المجتمع الرأسمالي يواجه مشكلة: فإما التقدم نحو الاشتراكية أو التقهقر إلى البربرية… ولذلك فنحن نقف اليوم – كما تنبأ فريدريك إنجلز منذ سنوات مضت – أمام الاختيار الصعب: إما أن تنتصر الإمبريالية وتتحطم كل المجتمعات ويحدث مثلما حدث في روما القديمة من فناء وانعزال وتحلل، أي التحول إلى مقبرة هائلة؛ أو أن تنتصر الاشتراكية، أي النضال الواعي للطبقة العاملة العالمية ضد الإمبريالية وأساليبها، أي ضد الحرب. إن هذا هو صراع تاريخ العالم والاختيار الذي لا فكاك منه، وهو النضال الذي تتأرجح كفتى ميزانه في انتظار قرار الطبقة العاملة، وعليه يتقرر مستقبل المجتمعات والإنسانية ككل”.
أوضحت روزا ضرورة أن تكون المنظمة الاشتراكية فاعلة في النضال. أما فكرة أن روزا كانت تدافع عن عفوية النضال ولم تكن تؤمن بالتنظيم فما هي إلا اسطورة ستالينية تم تداولها من أجل التشكيك فيها. لقد انضمت روزا إلى حزبها الأول عندما كانت في السادسة عشرة من العمر، وأصبحت عضوًا مركزيًا داخل الحزب الاشتراكي البولندي وعندما تركته بسبب موقفها من مسألة القومية فلقد ساهمت في إنشاء حزب اشتراكي بديل في بولندا. وظلت عضوًا مركزيصا في هذا الحزب إلى جانب الحزب الاشتراكي الألماني.
ولم تنفصل روزا عن الحزب الاشتراكي الألماني حتى عام 1916 على الرغم من نقدها اللاذع لقيادته، كما أنها لم تنشئ حزبًا شيوعيًا مستقلا حتى عام 1919. وكانت أسباب فشلها في إنشاء حزب على نفس نمط الحزب البلشفي اللينيني تكمن جزئيًا في اختلاف الأوضاع في ألمانيا عنها في روسيا. لقد أنشأ لينين الحزب البلشفي في روسيا من لا شيء حيث لم يكن هناك وجود لمؤسسات إصلاحية من الأصل. ولكن عندما انضمت روزا للحزب الألماني فلقد كان تنظيمًا ضخمًا يتميز بدعم هائل من قبل الطبقة العاملة. وهكذا، فلقد كان من المألوف في محيط الطبقة العاملة الألمانية أن تشعر روزا بأنها إن تخلت عن الحزب فذلك سيعتبر خيانة للعمال الذين كانوا يؤيدونه. إن لينين نفسه كان يعتقد تمامًا حتى سنة 1914 أن نموذج الحزب البلشفي لن يكون مؤثرًا إلا في ظل وضعه الغير شرعي في روسيا. وكما اعترف لينين فيما بعد فإن روزا استطاعت أن تكشف حقارة كاوتسكي قبله.
ولكن على صعيد آخر، كانت هناك اختلافات سياسية بين لينين ولكسمبورج. رأت روزا أن التنظيم الثوري هو “عملية” يمكن تطويرها خلال الثورة ذاتها، بينما كانت وجهة نظر لينين أن التنظيم يجب أن يبنى أولا وأن يكون قادرًا على ملاحقة مركزية الدولة الرأسمالية. من ناحية أخرى، آمنت روزا بأنه بمجرد اندلاع الثورة فإنها سوف تكنس كل أشكال البيروقراطية المحافظة، كما أن الحزب الثوري سوف يكسب قيادته من خلال قوة سياساته. أما لينين فقد رأى أن الحزب يجب أن يؤسس مبدأ المركزية حتى يستطيع أن يتخذ قرارات حاسمة ويتأكد من أن الانتفاضة الثورية قد اندلعت في أكثر الأوقات تأثيرًا.
احتفلت روزا لكسمبورج بانتصار ثورة أكتوبر في روسيا بقولها المتوهج: “إن الشرف الثوري والقدرة الثورية اللتين افتقدتهما ديمقراطيات الغرب قد بزغا بواسطة البلاشفة. فانتفاضتهم في أكتوبر لا تمثل خلاصًا للثورة الروسية فحسب ولكنها كانت الخلاص الأكيد لشرف الاشتراكية العالمية. “من ناحية أخرى، انتقدت روزا البلاشفة وهي في سجنها في برسلو. كانت روزا تدرك أن الكثير مما عارضته بالنسبة للسلطة في روسيا كان نتاجا لانعزال الثورة في روسيا المتخلفة اقتصاديًا. بالإضافة إلى ذلك، غيرت روزا رأيها فيما يتعلق ببعضها انتقاداتها وذلك بعد تجربتها مع الثورة الألمانية والتي اندلعت في 1918. فعلى سبيل المثال، انتقدت روزا البلاشفة لحلهم المؤتمر التأسيسي من أجل استبداله بمجالس العمال. ولكن خلال الشهور الأولى للثورة الألمانية، جريت روزا بنفسها كيف أن إقامة مؤسسات برجوازية ديمقراطية لم تكن إضافة ولكنها كانت بمثابة بديل لسلطة الطبقة العاملة. كما أدركت كيف أن الجناح اليميني يمكن أن يحرك قواته تحت راية المؤتمر الوطني، وكتبت: “إننا نعيش الآن في قلب الثورة، وفي هذه الحالة فإن المؤتمر الوطني يعتبر قلعة للثورة المضادة في مواجهة ثورة البروليتاريا”.
وللأسف الشديد فلقد كان لدى روزا وقتًا قصيرًا للغاية لكي تستفيد من درس العمال الذين يصنعون ثورتهم بذاتم. لقد أغتيلت روزا في يناير عام 1919 على أيدي قوى موالية للجناح اليميني في الحزب الألماني. ومن خلال اختبار الثورة نفسه، فلقد وضح تمامًا أن حزب لينين المركزي كان الأكثر قدرة على كسب غالبية من الطبقة العاملة للثورة. أما الحزب الشيوعي الذي أنشأته روزا عام 1919 فقد كان صغيرًا وضعيفًا لدرجة عدم قدرته على مواجهة سيطرة الإصلاحية خلال الموجة الأولى من الثورة. وهكذا، كان هاجس الثورة الألمانية في كل مرحلة هو فقدانها لحزب ثوري حقيقي.
بعد موتها، كتب لها الكثيرون شهادات اعتراف. كتب لها كارل كاوتسكي، والذي كان يومًا ما أحد أصدقائها المقربين وأيضًا أحد خصومها السياسيين، قائلاً: “إن روزا لكسمبورج وأصدقاءها سوف يشغلون دائمًا موضعًا عظيمًا في تاريخ الاشتراكية، ولكنهم يمثلون حقبة كانت قد وصلت إلى نهايتها”. أما بالنسبة لأطروحات كاوتسكي فقد ثبت خطاها بعد ثمانين عامًا من توغل الأزمة الرأسمالية والإمبريالية والحرب والثورة. إن الشهادة الأخيرة لروزا وآخر كلام لها قبل موتها قد ثبتت صحتهم فوق ادعاءات كاوتسكي. كتبت روزا أنه بينما تكون الثورة في حالة مد وجذر دائمة، فإن “الثورة سوف تعود مرة بعد أخرى وسوف تعلن: لقد كنت من قبل، وها أنذا هنا الآن، وسوف أكون مرة أخرى”.
ـــــــــــ
* ترجمة مقال: قلب الثورة المنشور في مجلة: السوشياليست ريفيو عدد ديسمبر 1998 بقلم: جودي كوكس