الرحلة لفكري الخولي:
صفحة من كفاح الطبقة العاملة المصرية
هذا المقال ليس بأي حال من الأحوال قراءة نقدية لنص أدبي، بل هو مجرد محاولة لإعادة الاعتبار لعمل بذل صاحبه جهدا وأفنى عمرا، ليس فقط في كتابته، بل في معايشة تفاصيله وتجاربه الحقيقية.
قرأت رواية “الرحلة” لفكري الخولي ولم أرها أبدا عملا فذا منقطع النظير، بالرغم من انتشائي بها. فليس من المفيد أن نحتفي بطرق غير موضوعية بإبداعات الطبقة العاملة بصرف النظر عن قيمتها. لكن ما رأيته – وهذا ما يستحق الكتابة – أنها عمل جديد ونادر يؤرخ “من القلب” لميلاد وتطور كفاحية قطاع في الطبقة العاملة المصرية بقلم واحد ممن عاشوا التجربة واكتووا بنارها.
العمال أيضًا مبدعون
يلفت صلاح حافظ نظرنا في مقدمته للرواية إلى أننا لم نألف في تاريخنا الأدبي العربي أن نرى تجارب مكتوبة بأقلام أصحابها “فالأدب عندنا حرفة للخاصة والقلم له أهله.. وقد كانت هذه النظرة “الكهنوتية” للأدب، ولا تزال، سببا في حرمان المكتبة العربية المعاصرة من ذخيرة هائلة من كنوز التجربة الإنسانية.”
هذه النظرة الكهنوتية لها بالتأكيد أصل طبقي يتمثل في تقسيم العمل التاريخي. فالعمال وكافة الفقراء تنحصر أدوارهم في العمل اليدوي، لكن الإبداع والأعمال الذهنية فهي حكر فقط على الأغنياء والخاصة.
ولكن بالرغم من ذلك فقد استطاع بعض من نعرفهم، كفكري الخولي، تجاوز هذا “الكهنوت الطبقي للأدب” بخصوبة وزخم تجاربهم الحياتية. وهناك بالتأكيد آخرون كثر ممن سطروا إبداعات جميلة، ولكنها لم تحظ بالنشر أو التداول، وبالتالي لن يقيض لنا أن نتعرف على تجاربهم أبدا.
عند قراءتكم لرواية الرحلة، بأجزائها الثلاثة التي تقترب من 650 صفحة، لن تجدوا أي تعقيدات على مستوى السرد والحبكة. الشخصيات تتحرك في العمل كيفما اتفق، تماما كما كانت تتحرك في الحياة، وذلك ببداهة لأنها فعلا بشر عاديين ليسوا مصطنعين خصيصا لكتابة هذه الرواية. الحكايات والمواقف تتوالى كما حدثت في الواقع دون أن تحظى بالكثير من إعادة الصياغة. المواقف والمفارقات والملابسات الإنسانية لكاتب الرواية تنضح بالواقعية: علاقاته العاطفية، علاقته بأمه وأخواته البنات، حوارات العمال قبل القيام بالإضرابات وأثناءها وبعد انتصارهم، الخوف الممزوج بالرغبة في الحصول على الحقوق، علاقته بعبد العظيم الذي علّمه الصنعة وظل ملهما له لفترات برغم شخصيته المحيرة، علاقته الحميمة بـ”المكن” التي تحتاج لقراءة متأنية وكتابة من نوع خاص.. الخ.
نحن باختصار أمام عمل يستحق أن تقرأه على أنه سيرة شخصية معبرة عن تجربة إنسانية أكبر من صاحبها وحياته المحدودة، تجربة عبّرت عن فترة من أهم حقب تاريخ مصر الحديث. هذه الفترة تحتاج إلى إيضاح حتى نتفهم السياقات السياسية والاقتصادية التي جرت فيها أحداث الرواية. وهذا ما سنحاول عمله هنا. وأنا على علم بأن هناك الكثير من المناطق الهامة في الرواية لم يقتحمها هذا المقال وتحتاج لكتابات أخرى من زوايا مختلفة.
صعود الرأسمالية المحلية
“تملىّ إيه؟ التملي ده عند العمدة اللي بيشتغل طول السنة نظير قيراطين بيزرعهم يشتغل هو فيهم وولاده. وآخر السنة ياخد منهم العمدة المحصول ويديهم القليل منه. إنما هناك، كل واحد واقف لوحده على مكن، والقبض كل خمستاشر يوم. مكن داير. وشغل داير، ما حناش عارفين واحد بنشتغل عنده، عشان كده يقولوا عليهم عمال وما يقولوش تمليّة.”
يبدأ فكري الخولي، المولود عام 1917، روايته بفصل قصير معنون بـ”الخروج من القرية” يتحدث فيه عن تحوله، كصبي صغير، من فلاح إلى عامل. وربما كان من المفيد هنا التعرف أكثر على الواقع الاجتماعي الذي دفع كاتبنا وكثيرين من أقرانه للتحول من أبناء فلاحين معدمين إلى عمال في مصانع.
أغرقت الإمبريالية الشعب المصري في بحر من الديون نتيجة فساد واستبداد نظام حكم أسرة محمد علي. وأصبح عبء الدين الحكومي الضخم، وضرورة التسديد المنتظم للفوائد، استنزافا للاقتصاد الزراعي المصري أعاق تطوره وشدد بدرجة ضخمة من استغلال الفلاحين.
آلت هذه الأوضاع لاحتلال عسكري لمصر بدأ في إعادة تنظيم الاقتصاد ليكون في خدمة أرباحه. وعلى الرغم من أن الاستثمارات الأجنبية زادت بشكل حقق طفرة كبيرة (“في سنة 1910 وصل مجموع رؤوس الأموال الإنجليزية الموظفة في مصر إلى 43.75 مليون جنيه إسترليني. وفي الوقت نفسه بلغت الأرقام المقابلة لتلك التوظيفات 38.38 مليون في روسيا، 18.32 مليون في تركيا، 18.8 مليون في أسبانيا، 26,8 مليون في الصين”)، على الرغم من ذلك إلا أن استنزاف ثروات البلاد زاد هو الآخر بشكل مذهل. إذ تم تكثيف الاستغلال بالزيادة المتواصلة للجزية الاستعمارية. فقد جني رأس المال الأجنبي من مصر سنويا جزية مقدارها 15 مليون جنيها إسترلينيا. وكان ذلك المبلغ يعادل دخل 1.5 مليون أسرة فلاحية تقريبا، أي حوالي 7 ملايين شخص. وبهذه الطريقة حصلت حفنة من رجال المال الأجانب على دخل يماثل دخل الشعب المصري.
دفعت هذه الأوضاع الفلاحين المعدمين إلى الهجرة بعشرات ومئات الآلاف بحثا عن فرص للحياة في المدن التي بدأت تنتعش فيها الصناعات الجديدة ببطء.
وفي الصناعة أيضا كان رأس المال الأجنبي هو المهيمن. وبعد الحرب العالمية الأولى حنث الاحتلال بوعده بالجلاء وإعلان الاستقلال. لذلك شهدت مصر حركة واسعة ضد الوجود الاستعماري تجلت في ثورة 1919. وعلى الرغم من صدارة القضية الوطنية في المشهد الثوري، إلا أن الثورة كانت لها أبعادا اجتماعية واقتصادية كبرى دفعت بالعمال للعب دورا هائلا في الأحداث.
وكما لعبت ثورة 1919 دورا في إلهاب المشاعر الوطنية عند عامة الشعب، لعبت كذلك دورا في توفير فرصة تاريخية لبعض من أصحاب الثروات الزراعية والعقارية من المصريين الذين تلاعبت برؤوسهم واحدة من أهم الأفكار المؤسسة للبرجوازية الحديثة: أنه لا استقلال سياسي بدون استقلال اقتصادي، أي بدون ظهور رأسمالية محلية.
تأسس بنك مصر عام 1920 في خضم النضال من أجل الاستقلال الوطني كرمز للدعم التنظيمي والمالي للبرجوازية الصناعية المصرية الطموحة، كما قال جويل بينين. وجاء رأس مال بنك مصر في أغلبه كما أسلفنا من البرجوازية الزراعية المعنية بتنويع مصادر ثروتها وبتطوير بدائل للسيطرة الأجنبية على الائتمان والتجارة. وقد آلى هذا البنك على نفسه أن يتولى مهمة إقامة قطاع صناعي لا يملكه إلا المصريون.
والحق أن بنك مصر كان مسئولا عن تأسيس عدد كبير من المشاريع الصناعية في العقود الأربعة السابقة على تأميمه عام 1960. ورغم أنه كان عند منشأه يعارض التعاون مع الرأسمال الأجنبي والمتمصر، إلا أنه في نهاية الأمر لم يكن من القوة الكافية ليعيش بوسائله الخاصة فقط. ووصلت تهادنات بنك مصر مع الرأسمال الأجنبي إلى قمتها بدخوله في مشاريع مشتركة مع شركات بريطانية في أواخر الثلاثينات، وكفت مجموعة “مصر” عن أن تكون “وطنية” الطابع.
العمال الجدد
“يا أهالي كفر الحما، إحنا جينا عشان نتكلم معاكم. بنك مصر عمل مصنع يغزل القطن اللي انتم بتزرعوه ويعمل منه القماش اللي انتم بتلبسوه.. كنا زمان بنزرع القطن ليأخذه منا الانجليز.. إحنا النهاردة بنزرع القطن وحنحوله إلى قماش، إحنا اللي حانزرع القطن وحنغزله وحننسجه عشان يبقى كل شيء من مصر.. صناعة وطني. ابعثوا بأبنائكم عشان يتعلموا صنعة، ولما حيتعلموا حياخدوا أجر كويس.”
في المحلة الكبرى، جاء تقريبا كل عمال شركة الغزل والنسيج التابعة لبنك مصر من المناطق الريفية المجاورة. وقد وصل معدل التغير في قوة العمل في السنوات الأولى من بناء المجمع إلى 300% في السنة. وبعبارة أخرى: كان مجمل تركيب العمال يجرى تجديده ثلاث مرات في السنة الواحدة. وفيما بعد، في الأعوام 1934-1945، بلغ معدل تغير العمال في هذا المجمع من 50 إلى 100% في السنة.
“هية دي الشركة!!.. زادت وكبرت. إزاي كبرت؟ تشغيل العمال ببلاش في بداية عهدها!! .. وعندما بدأت العمال تهرب عادت الشركة وأعطت لكل عمال الغزل قرش صاغ واحد في اليوم!! أعطتهم بعد سنة بدون أجر.. ما عدا عمال النسيج.. خمسة تعريفة.. هية دي الشركة!! كبرت على أشلاء أعداد من العمال اللي كل يوم بتهرسهم عجلات المكن. وتخطفهم السيور دون أن تدفع لهم الشركة “مليم واحد” من التعويض.. يموت العامل كالكلب اللي ملهوش صاحب.. حد شاف المستشفى؟! حد شاف اللي شوههم المكن؟!.. حد شاف المرضى بالسل؟! اللي بيطفحوا الدم هناك؟! عنبر بحاله امتلأ، وكل يوم بيزيد!! إحنا نموت ونتشوه.. ومباني تقام، ومداخن ترتفع، ودخان يتصاعد.. يتصاعد عاليًا!!”
لم يكن فكري الخولي العامل بالشركة ابن الأحد عشر ربيعا سوى نموذج لما جرى عليه استغلال عمل الأطفال في الفترة الأولى من تطور الصناعة المصرية. فوفقا لبيانات تعداد السكان لسنة 1917 كان يوجد ما يزيد على 8 آلاف طفل تقل أعمارهم عن 14 سنة ممن اشتغلوا عمالا أجراء. وفي عام 1937 وصل عدد الأطفال الذين كانوا يشتغلون بالمعامل والمصانع، وكذلك بالمشاريع الرأسمالية الصغيرة، إلى 31456 شخصا يشكلون حوالي 11.5% من إجمالي العمال المأجورين.
“ورأيت الأطفال وهم يجيئون ويروحون وقد هدهم التعب. رأيتهم وبأيدي كل منهم أسطوانة مليئة بالمواسير، وهم يسيرون ببطء متهالكين يتساندون على الحائط وعلى جوانب المكن، وجفونهم قد تشابكت. ورأيت المباشرين وفي أيديهم جرادل مليئة بالزهرة المبللة يلطخون بها وجوه كل طفل نائم أو على وشك النوم. ورأيت الأطفال يتدافعون إلى دورة المياه بالعشرات لغسل الزهرة عن وجوههم.”
الاستغلال له ألف وجه
قبل حوالي تسعين عاما من زمن بدء العمل بشركة مصر المحلة، كتب فريدريك إنجلز واصفا كيف تعيش الطبقة العاملة في إنجلترا: “أسوأ المنازل في أسوأ أحياء المدن. غالبا أكواخ من طابق أو طابقين في صفوف طويلة، ربما بها أقبية تستخدم كمساكن، وهي على وجه التقريب مبنية دائما بطريقة غير منتظمة. إن هذه المنازل المكونة من ثلاث أو أربع حجرات تشكل في طول إنجلترا وعرضها، باستثناء بعض أجزاء لندن، المساكن العامة للطبقة العاملة. إن الشوارع عموما غير ممهدة، وعرة وقذرة، مليئة بفضلات الخضار والحيوانات، لا توجد بها مزاريب ولا بالوعات، لكنها مزودة بدلا من ذلك، بالعفن والبرك الآسنة.”
لم يختلف الأمر في مصر كثيرا. ففي سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية بحثت اللجان التي أرسلتها وزارات الصحة والداخلية والشئون الاجتماعية ظروف السكن الصعبة للعمال. وقد لاحظت كلها بالإجماع الظروف السكنية بالغة الصعوبة. وقد وصف الطبيب “أ. و. الوكيل”، عضو إحدى اللجان، مساكن العمال في المحلة الكبرى كالتالي:”غالبية هذه المساكن بعيدة عن أن تكون صالحة للإنسان. ولا ينبغي حتى إعاشة الحيوانات فيها.. وكل هذه المنازل تقريبا غير مزودة بمياه نقية صالحة للشرب، وليس فيها مراحيض، ويضطر السكان لقضاء حاجاتهم خارج المنزل. ونتيجة لذلك تتراكم بالقرب منها مختلف أنواع الفضلات.. ويعيش الناس في جو مسمم بأبخرة شنيعة، وفي كل مكان تنتشر الطفيليات. وتؤجر الغرف بالتناوب: فالبعض يشغلها نهارا، والبعض الآخر ليلا.”
ولم تطل الرداءة سكن العمال فقط، بل أيضا طعامهم وصحتهم، وذلك نتيجة الأجور المتدنية التي كانوا يحصلون عليها. فإذا أخذنا صناعتي غزل ونسج الأقطان اللتين شملت إحدى الدراسات 22 من مشروعاتهما، فقد بلغ أجر الرجال فيهما 6.63 قرش، والعاملات البالغات 5.74 قرش، فقط في اليوم، أو 17.5 جنيه في السنة. الشيء نفسه كان حادثا حتى في أكبر مجمعات النسيج في المحلة الكبرى التي كانت فئات الأجر بها أعلى من المشروعات الصغيرة والتي كان العمل بها مستمرا طوال العام. فوفقا للبيانات المبالغ فيها التي أوردها م. ك. الفلكي – مؤلف سيرة الحياة الرسمية لطلعت حرب – لم يتجاوز متوسط أجر العامل 20 جنيها في السنة في الوقت الذي كان ينبغي أن يكون الحد الأدنى لسلة سلع ولوازم حياة لأسرة مكونة من خمسة أفراد 44 جنيها سنويا.
وقد كان مستوى الأجر في الصناعة المصرية منخفضا، ليس فقط بالمقارنة بالبلاد الطليعية، بل بالمقارنة بالبلاد المتخلفة اقتصاديا. وهكذا يمكن مقابلة متوسط الأجر السنوي للعامل المصري في عشرينات القرن العشرين، الذي بلغ 22.3 جنيها مصريا، بأجر العامل التركي (77.8 جنيها مصريا)، والعامل السوري (52 جنيها مصريا)، والعامل العربي في فلسطين (68 جنيها مصريا).
وعلى هذا النحو فإن أكبر فصائل الطبقة العاملة المصرية – عمال النسيج الذين وصلوا إلى 90 ألف شخص – كانت تحصل على ما يقل عن قيمة قوة عملها بمقدار 5-6 مرات، وعلى أقل مما كان ضروريا للحصول على حد الكفاف من المنتجات الغذائية للأسرة متوسطة بمقدار 2.5-3 مرات.
“وفي طريقي إلى دورة المياه وجدت نفسي وسط ثلاث حجرات في كل منها أكثر من 20 ساكن، وكلهم في حالة استعداد: اللي بيطلع عيش من القفة ويلفه في منديله لأخذه للغداء في الشغل، واللي واضع أمامه رغيف وفوقه قطعة من المخلل أو الجبنة وعمال ياكل، واللي ماسك مسلّة ملضوم فيها دوبارة وبيخيط على العيش في القفة خوفًا من الضياع أو السرقة. وكانت الساعة قد بلغت السادسة والنصف صباحا، فأخذت منديلي تحت باطي، وبه ثلاثة أرغفة وقطعة من الجبن، هي غداي وفطاري.”
لقد وصل الأجر الحقيقي للعمال في العشرينات إلى مستويات متدنية بالقياس إلى الوضع عام 1913 قبيل الحرب العالمية الأولى. فقد وصل الرقم القياسي لتكاليف المعيشة إلى ما بين 150ـ360% من مستواه عند عام 1913.
كان كارل ماركس قد اعتبر في “رأس المال” أن معدل فائض قيمة قدره 100% معدلا نمطيا في ستينات القرن التاسع عشر. أما في مصر فقد بلغ هذا المعدل في سنة 1944 250%. يعني ذلك أنه من بين كل 9.5 ساعة عمل للبروليتارى، فإنه كان يعمل لنفسه 2.7 ساعة فقط، منتجا فيها قيمة قوة عمله أو معادلها، بينما كان ينتج فائض القيمة الذي استحوذ عليه الرأسمالي خلال الـ6.8 ساعة المتبقين.
لقد لعبت حالة القمع التي كانت تمارسها الحكومات على فئات الشعب الفقيرة وعلى رأسهم العمال، بالإضافة إلى ضغط جيش البطالة الاحتياطي الذي وصل إلى خمسة ملايين سنة 1937 (في حين قدر عدد العمال في كافة القطاعات بـ400 ألف فقط)، دورا كبيرا في تخفيض الأجور.
العمال يتحركون
بالتأكيد لم تسر خطى عمال المحلة الاحتجاجية على أوضاعهم المزرية في خط مستقيم. بل اتسمت الفترات الأولى للعمل بالمصنع بنزاع مفتعل بين العمال الوافدين وعمال المحلة الأصليين.
“هوّ الواحد راح يشتغل وإلا يجيب العصايا معاه؟ إحنا حنلاقيها منين واللاّ منين؟ مش كفاية الواحد ماشي وحاطط دماغه في الأرض؟ مش كفاية ضرب الرؤساء فينا؟ قلنا الرؤساء وزي بعضه، والخفر وزي بعضه – عشان خاطر أكل العيش قلنا حنستحمل عشان ما يرفدوناش.. وإيه بقه حكاية أهل المحلة دول؟ بيضربونا ليه؟ عملنا إيه معاهم؟ بيقولوا إن إحنا غلينا عليهم المش، وغلينا عليهم السكن. إحنا بنشتغل عمال.. سكن إيه اللي إحنا غليناه؟ هو إحنا أصحاب بيوت؟ همّ يسيبوا الحمار ويتشطروا عَ البردعة؟ ما يروحوش ليه على الناس اللي بيغلوا عليهم السكن؟”
وكانت هناك أيضا حالة التناحر التي انتابت العمال من جراء تشغيل عدد من الفتيات بالعنابر الجديدة، خوفا من مزاحمتهن إياهم في لقمة عيشهم، مما أدى إلى التربص بهن وضربهن حتى يخفن ويتركن العمل.
لكن على جانب آخر بدأ العمال تحركاتهم الجماعية بكتابة الشكاوي:
“حضرة رئيس الحكومة.. نحن الموقعين أدناه عمال الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، بنك مصر نتشرف بتقديم شكوانا هذه لتكون على علم بما يحدث لنا. أولا: من يوم أن حضرنا من قرانا واشتغلنا والمكن يقتل منا كل يوم عاملا، وآخرون كسرت أرجلهم أو قطعت أيديهم أو فقئت عيونهم، والمستشفى مليئة بكل هؤلاء، ولم يحقق أحد في تلك الحوادث وهم يدفنون دون أن يعرف أحد مكانهم. ثانيا: المرض ينتشر كالوباء في كل البيوت وخاصة مرض السل من ازدحام السكن وسوء التغذية، وقد مات الكثيرون دون أن تدفع لهم دية. ثالثا: نعمل 12 ساعة دون راحة ونقف على المكن مبدلين أرجلنا كالحمير دون رحمة وللعلم قلنا للنيابة ومع هذا لم تحقق.. نرجو النظر في شكوانا هذه جعلكم الله عونا للمساكين.”
وتحت ضغط القهر والاستغلال، ومع فقدان أدوات النضال الجماعي، قام أحد العمال بقتل رئيسه الذي انهال ضربا على عامل آخر.. “وظن البعض منهم أن الظلم قد مات.. ولم يعرفوا أنه واحد من مئات الرؤساء.. وسوف تعين الشركة غيره.. وسوف يقوم بما قام به.. ودي خطة الجميع ينفذها.. مهما مات واحد، فلن يموت الظلم ما دام كلهم ظالمين.”
لكن العمال بدأوا شيئا فشيء يعرفون الطريق الحقيقي لاسترجاع حقوقهم. فلا الحكومة تستجيب للشكاوي ولا الظلم ينتهي بموت أحد ممثليه. وبالفعل، لم ينجح الرطان الوطني عن خلق اقتصاد مصري الهوية في تغييب وعي العمال. كانت التجربة النضالية الأولى هي توقيف المكن من أجل زيادة في الأجرة، نتج عنها تشغيلهم بالإنتاج وزيادة طفيفة في الأجرة، لكنها وضعتهم أمام غول رأسمالي أعلن عن نفسه في لوائح جزاءات مغالية في بنودها ودفاتر غرامات امتصت الزيادات وجارت على الأساسي مما كانوا يتقاضونه من قبل، علاوة على موجة غلاء أسعار جديدة حدثت فور حدوث الزيادة.
في معرض حديثه عن العمل المغترب كتب كارل ماركس “إن العامل يزداد فقرا كلما ازدادت الثروة التي ينتجها، وكلما زاد إنتاجه قوة ودرجة، والعامل يصبح سلعة أكثر رخصا كلما زاد عدد السلع التي يخلقها، فمع القيمة المتزايدة لعالم الأشياء ينطلق في تناسب عكسي انخفاض قيمة عالم البشر. والعمل لا ينتج سلعا فحسب، وإنما هو ينتج ذاته وينتج العامل كسلعة، وهو يفعل ذلك بنفس النسبة التي ينتج بها السلع عموما.”
“.. حنستنى كدة لإمتى؟! حنستنى عشرين وتلاتين في حجرة؟! حنستنى فريسة للمرض؟! الوباء انتشر في المحلة.. انتشر فيها كلها.. مفيش بيت إلا وفيه سل من كترة المتكدسين في السكن.. قولوا! اتكلم انت وهو! بعد ما كان العامل واقف على مكنتين وقفوه على أربعة!! كل واحد عارف بيجيب كام بنط؟! كل واحد عارف بيجيب كام متر من الأقمشة في اليوم؟! لو الواحد منكم عرف ما كانش سكت لغاية دلوقت.. حسبة بسيطة لو عملناها حنلاقي العامل الواقف على أربعة ماكينات بيجيب في الاتناشر ساعة حوالي مية وعشرين متر.. بياخد عليهم كام؟!.. بياخد خمسة قروش صاغ!! ثمن مترين منهم بيشتريهم، والباقي مية وتمنتاشر متر.. كل ده داخل في جيوبهم.. جيوبهم همّه!! ويا ريت حتى بيسيبونا في حالنا.. كل يوم الغرامات بتزيد!! اللي بيعطوه لنا باليمين بياخدوه منا بالشمال.. ما يهمهمش حاجة. ناكل.. ما ناكلش.. نتعرى.. القمل يعشش في هدومنا.. عيالنا تموت ما نلاقيش كفن.. كل ده ما يهمهمش!! وفيه ناس بيقولوا لنا اصبروا! نصبر لحد إمتى؟!!”
لكن، والكلام أيضا لماركس، “إن التاريخ يصنعه البشر دون وعي مباشر منهم، وبالتالي فإن تطور أفكارهم ووعيهم عملية تحدث في تجاربهم الجماعية وهم يتحركون، أي وهم يصنعون هذا التاريخ.”
تعد معركة تحسين الأجور وتقليل ساعات العمل واحدة من أهم المعارك التي يخوضها جمهور العمال. يقول إنجلز “إن قانون الأجور ليس قانونا ثابتا يرسم خطا فاصلا.. إن الأجور في كل حالة تتحدد عن طريق الصراع بين الفريقين، وفي المساومة يحصل الذي يقاوم لمدة أطول وبصورة أفضل، على أكبر الفرص ليكسب معركته”. ويستطرد إنجلز “إن العمال غير المنظمين ليس لديهم أي وسيلة للمقاومة ضد الضغط الثابت الذي لا يتوقف. لذلك في الصناعات التي لا يوجد فيها تنظيم للعمال فإن الأجور تتجه بثبات نحو الانخفاض وتتجه ساعات العمل بثبات أيضا نحو الزيادة.”
منا هنا، امتزجت النضالات التي خاضها فكري الخولي ورفاقه بمحاولة الإجابة عن سؤال كيف يتم تنظيم العمال وتوحيد الصفوف. ولم تكن فكرة النقابات بالجديدة، فقد سبق عمال المحلة عمال كثيرون في خلق نقابات مناضلة لعبت أدوارا قيادية في العديد من المناسبات وعلى رأسها ثورة 1919.
كانت فكرة تشكيل نقابة في حالة عمال حديثي العهد بالصناعة ممزوجة بروح الامتثال للبرجوازية. لذلك كان من السهل أن يلعب الديماجوجي النبيل عباس حليم دوره الاحتوائي الشهير، وهو الدور الذي أتى نتيجة تطور الحركة العمالية كمحاولة لابتلاع فكرة النقابة وتدجينها قبل أن تتطور إلى كائن لا يمكن احتوائه.
“ما حدش منا كان مصدق إنه جاي. وأصابع تمتد، وأخرى تلوح: شايفين الغفر.. الغفر واقفه.. واقفين على الباب شايلين العصي في إيديهم مستعدين للضرب. وأصوات أخرى: لو حد منهم جه ناحيتنا.. لو حد مد إيده حنضربهم.. اللي له ضهر عمره ما ينضام.. قريب الملك النهاردة ويانا.”
ولكن سرعان ما اتضح أن خلق النقابة موضوع يجب أن يتم بيد العمال أنفسهم وليس بالوكالة عنهم. فقد خيب النبيل ظن العمال وانسحب نتيجة توازنات ومصالح لا شأن للعمال بها.
“يعني الهيصة بتاعتنا ما نفعتش.. الهيصة راحت ع الفاضي. يا قوة الله يا رجالة.. يا خسارة التعب اللي تعبناه.. فقاطعه فرج أفندي قائلا: ما فيش حاجة راحت في الفاضي.. إحنا كسبنا. فرد مصطفى بصوت كئيب محزون: إيه المكسب اللي كسبته العمال؟
قال فرج أفندي في حدة..أقل شيء كسبناه موقف العمال، وتضامنهم يوم ما قابلوه والكلام اللي سمعوه والخطب اللي سمعوها.. شعور الرؤساء الكبار بكراهية العمال لهم.. هو ده اللي نقدر نقول كسبته العمال.. لولا خوفهم من العمال ما كانوش جريوا للبحث عن واسطة.”
في هذه المرحلة بدأ عدد من المساعدين المعينون حديثا، وهم المتعلمون في المدارس الصناعية، في لعب دور في تطوير وعي العمال. هؤلاء كانوا متأثرين بالتيارات السياسية الموجودة في المجتمع.
كذلك استطاعت الحركة العمالية أن تلعب دورا مؤثرا في تشكيل وتعزيز حالة الاستقطاب داخل الأحزاب، سواء التقليدي منها كالوفد، أو الجديد كمصر الفتاة. لقد أصبح من المستحيل خلق جذور جماهيرية للأحزاب والقوى السياسية دون العمل بشكل دءوب داخل تنظيمات الحركة العمالية.
ولم يكن الإضراب الكبير في المحلة من أجل 8 ساعات عمل سوى إعلان حقيقي عن تطور وعي ودرجة كفاحية العمال ودخولهم مرحلة جديدة من المواجهة، ليس فقط مع إدارة الشركة وقوات البوليس، ولكن – وهو الأهم – مع حزب الوفد الذي ادعى على مدار الحكومات التي قام بتشكيلها نصرته للفقراء وللحريات، وذلك عندما تطور الأمر بتدخل حكومة الوفد في صف الشركة عندما قامت بإنشاء نقابة بديلة لتلك التي شكلها العمال بهدف ضرب حركتهم.
وكانت الفترة بين سقوط أول حكومة وفدية في عام 1924 وعودة الوفد في عام 1936 مليئة بالاضطرابات في تاريخ الحياة السياسية المصرية. وبالرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي كان يمر بها العالم آنذاك، والتي تأثرت بها مصر إلى حد كبير، إلا أن الطبقة العاملة المصرية، خاصة تلك التي كانت تعمل في الصناعات الكبيرة، استمرت في النمو من ناحية الوزن الاقتصادي، واكتسب العمال الذين يعملون بالنقابات خبرة واسعة في العمل النقابي أدت إلى انتزاعهم العديد من المكاسب مثل إقرار قانون للتعويضات عن إصابات العمل وحق تكوين النقابات.
“وعدت بذاكرتي إلى الماضي الذي سمعت عنه.. كان العمال في اتحادهم العام أكثر إيجابية في ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول.. وبعد أن فرض الشعب إرادته، وتكونت الحكومة برئاسة سعد، وظن العمال أنهم انتصروا على الاستعمار ولم يبق إلا أن يجنوا ثمار كفاحهم.. تقدموا بمطالب رفضها سعد، فما كان أمام العمال إلا أن يعتصموا بالمصانع.. ولم تتوقف عجلة الإنتاج لحظة.. واستمر الاعتصام أياما.. وبدلاً من أن تستجيب الحكومة لمطالبهم اقتحمت المصانع بالقوة، وقبضوا على قادة العمال، وأضرب قادة العمال عن الطعام في السجن إلا أن سعد زغلول تركهم إلى أن ماتوا.. وها هو النحاس يفعل بنا ما فعله سعد زغلول ويتركنا نموت وتموت معنا حركة العمال.”
للأسف الشديد لم يمهل العُمر فكري الخولي ليكمل لنا كتابة رحلته الزاخرة بالدروس والخبرات. توقف الجزء الثالث منها عند بداية الأربعينات التي شهدت أهم الكفاحات في تاريخ الطبقة العاملة المصرية. ولم يمهله العمر ليرى عمال المحلة وهم يعاودون النضال في نهاية عام 2006 معلنين بدء دورة جديدة من النضال العمالي الرائع.
تحية إجلال لفكري الخولي وكل عمال مصر الذين سطروا بدمائهم أروع الملاحم على طريق تحررهم الأخير من عبودية العمل المأجور.
مراجع رئيسية
- الرحلة ـ فكري الخولي ـ دار الغد.
- التطور الرأسمالي في مصر “الطبقة العاملة المصرية” ـ ل. أ. فريدمان ـ ترجمة/ د. زهدي الشامي ـ دار العالم الجديد
- العمال والحركة السياسية في مصر ـ جويل بينين وزكاري لوكمان ـ ترجمة/ أحمد صادق سعد ـ مركز البحوث العربية.
- حال الطبقة العاملة في إنجلترا في عام 1844 ـ فريدريك إنجلز ـ ترجمة/ فخري لبيب.
- نظام العمل المأجور “مقالات من جريدة The Labor Standard ـ فريدريك إنجلز ـ دار التقدم.
- الأجور الأسعار والأرباح ـ كارل ماركس ـ دار التقدم.
- المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844 ـ كارل ماركس ـ ترجمة/ محمد مستجير مصطفى.