بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

أصول التحكم العمالي في الصناعة الروسية

مسيرات عيد العمال في سان بطرسبرج 1917

[كتبت المقالة التالية عندما وصل ريد إلى السويد في فبراير الماضي، في طريقه من روسيا، وتم نشرها لأول مرة في 23 نوفمبر 1918. وترد المقالة على القصص الكاذبة التي تداولتها الصحف الرأسمالية حول إدارة الصناعات الروسية. وبسبب ظروف معينة لم يتم نشرها حتى تاريخه وتظهر الآن لأول مرة]

دأبت الصحافة الرأسمالية على نشر مختلف القصص حول السلوك الخاطئ لعمال الصناعة الروسية أثناء الثورة: حول مطالبهم المبالغ فيها، وجهلهم، وقسوتهم في معاملتهم للصنّاع والخبراء التقنيين، حيث كان الانطباع الذي وصل للعالم أن العمال الروس يحصلون على أجور ضخمة، ويرفضون العمل، وأنهم في طريقهم إلى تدمير الصناعة الروسية في القريب العاجل.

تمر الصناعة الروسية بالفعل بمنحنى منخفض. وأهم مظاهر هذا الانحدار أنه كان من المستحيل الحصول على الفحم لوقت طويل، لأن كالدين ورفاقه من القوزاق سيطروا على مناجم الفحم في حوض الدونباس الأوكراني، وبعدهم جاء الألمان؛ و تعرضت الآلات للتدهور بسبب عدم استيراد قطع غيار جديدة من الخارج لفترة تزيد عن سنتين، بالإضافة إلى أن المهندسين و الخبراء التقنيين، المخلصين للطبقة الرأسمالية، رفضوا في بداية الأمر الانصياع إلى توجيهات اللجان العمالية، وأخيرا فإن الطبقة العاملة نفسها انغمست في السياسة ومحاربة أعداء الثورة بشكل كبير جدا – من كورنيلوف إلى كيرينسكي، وكالدين، والبرلمان الأوكراني، وألمانيا، والتشيكوسلوفاك، والحلفاء. إلا أنه – من الناحية التقنية – إذا كانت الصناعة الروسية تعرضت للدمار، فإن اللوم يقع على الصنّاع والمالكين – فهم من حاولوا تجويع الثورة عن طريق غلق المصانع والمناجم، وإفساد المنظمات، وتحطيم السكك الحديدية، وتدمير آلات الصناعة عن عمد، وإغراق المناجم.

ظهرت حكايات كثيرة عن مطالب العمال المبالغ فيها، وعن لجان المراقبة العمالية التي انهارت، وكلها حكايات حقيقية بالطبع. ولكن الأمر المهم هنا هو أنه حتى في ثورة نوفمبر * ، كان العمال الروس في مجموعهم يعملون بشكل زائد ويتقاضون أجور زهيدة (إلّا في مصانع خاصة معيّنة)، وفي نفس الوقت ظهرت في جميع أنحاء روسيا تنظيمات عفوية قادرة على الأقل أن تشكل إطار العمل الموعود لنظام صناعي جديد.

تمثلت المطالب الرئيسية الثلاث لثورة نوفمبر في السلام وتمليك الأراضي للفلاحين، وسيطرة العمال على الصناعة، وربما كان المطلب الأخير، سيطرة العمال، هو الأكثر أهمية بسبب ميل روسيا الجديدة إلى إلغاء الدولة السياسية بشكل تدريجي، ونشوء الديمقراطية الصناعية.

إن تاريخ التنظيم العمالي في روسيا قصير جدًا. قبل ثورة 1905 لم تكن هناك اتحادات عمالية بالمعنى الحرفي للكلمة. وكان التمثيل العمالي الوحيد حينها هو انتخاب الإستارأوستا، أو "الأكبر سنًا"، كالأستارأوستات الذين يتم انتخابهم في القرى الروسية، وفي السجون الروسية، وبنفس السلطة تقريبًا. في عام 1905، التحق حوالي 200000 عامل بالاتحادات، وتعرضوا للقمع على يد ستوليبين **. إزاء هذا القمع قاومت بعض الاتحادات الصغيرة ولكنها انهارت في النهاية بعد الاستيلاء على أموالها وإرسال قادتها إلى المنفى في سيبريا. وبعد أن ظهرت اتحادات بشكل نصف سري، مع عضوية غطت روسيا بأكملها وضمت 10000 عامل. ظهرت رغم ذلك، أثناء الحرب، محاولات لتأسيس تنظيمات عمالية إلا أن أجهضت تمامًا، وأرسل أيّ عامل تظهر له صلة لهم بالمنظمات العمالية إلى الجبهة.

منحت الثورة العمال تحريرًا جزئيًا من هذه العبودية، وأدت إلى تسارع خطوات التنظيمات. فبعد الثورة بأربعة أشهر انعقد أول مؤتمر للاتحادات المهنية لجميع أنحاء روسيا – حضره 200 مندوب يمثلون أكثر من مليون و400 ألف عامل. ووصلت العضوية بعد ذلك بشهرين إلى أكثر من 3 ملايين عامل، وفقًا لتقرير ريازانوف، وهي الآن ضعف هذا الرقم.

إلا أن هذه الاتحادات المهنية (Professioalne Soyuse) لم تتبع نموذج النقابة الفرنسية، بإضافة جهة تعاونية حكومية كما هو الحال في النظام الاتحاد العمالي الألماني. حيث أنها اهتمت بشكل أساسي بالنضال من أجل ساعات عمل أقل، وأجور أعلى – أي روتين الشركات فيما يتعلق بالعمال من أجل الاتحادات في كل مكان. على سبيل المثال، فقد أسست هذه الاتحادات نظامًا لغرف تسوية النزاعات لسماع النزاعات الصناعية – للتحكيم الصناعي كان الإشرافي الحكومي. ولكن أهم ما قامت به هذه الاتحادات هو تنظيم جميع العمال في اتحادات صناعية كبيرة، وتصفية جميع التنظيمات الحرفية الصغيرة ودمجها في اتحادات أكبر. ونتيجة ذلك، على سبيل المثال في مصنع سانت سيستروريتسك للبنادق الذي تديره الحكومة فإن جميع من عملَ في تصنيع البنادق – والرجال الذين كانوا يقومون بحشو البارود، والفنيين الذين أداروا الآلات، والنجّارين الذي شيدوا الهياكل الخشبية – كانوا جميعًا أعضاء في اتحاد عمال المهن المعدنية.

ولكن الاتحاد المهني، على الرغم من أهميته، احتل مكانًا ثانويًا في عقل العمال. فقد كان اهتمامهم الرئيسي منصبًا على السوفييت، نصف السياسيين، نصف الاقتصاديين؛ ثم المنظمات العمالية الفريدة التي شكلتها الثورة الروسية بشكل عفوي، كما أن لجان عمال المصانع (Fabritchnoe Zavodski Comitiet) استرعت انتباههم. وفي الحقيقة، فإن هذه المنظمات وهذه اللجان هي ما شكلت أساس تحكم العمال في الصناعة.

نشأت لجان المصانع في مصانع الذخيرة الحكومية. وعند نشوب الثورة، هرب معظم مديري المصانع الحكومية، وخاصًة المسئولين العسكريين الذين طالما اضطهدوا العمال واستغلوا مزايا القانون العسكري، والذين لم يتهموا، بخلاف صنّاع القطاع الخاص، بالأعمال. واضطر العمال بالتالي إلى تولي مسئولية الإدارة وذلك لمنع إغلاق المصانع. وفي بعض الأماكن، مثل سيستروريتسك، كان هذا يعني تولي مسئولية المدينة أيضًا. كانت هذه المصانع الحكومية تُدار بإهمال شديد وفساد مستشري، لدرجة أن اللجان العمالية استطاعت فيما بعد، رغم زيادة الأجور، وخفض ساعات العمل، واستخدام المزيد من الأيدي العاملة، تحقيق زيادة في الإنتاج وخفض في التكاليف – و في نفس الوقت إنهاء تشييد مباني جديدة بدأها مقاولون فاسدون وإنشاء مستشفى جديد متطور، وإدخال نظام صرف صحي لأول مرة في المدينة.

لم تجد لجان عمال المصانع مشاكل كبيرة في هذه المصانع الحكومية. لوقت طويل بعد الثورة لم تكن هناك سلطة تساءل العمال عن سلطتهم، وفي النهاية عندما بدأت حكومة كيرينسكي في التدخل، استطاع العمال الوصول إلى سيطرة كاملة. فمع استمرارهم في عملهم السابق في صناعة الذخيرة، ووجود طلبيات قائمة، لم يكن هناك أي مبرر لإغلاق المصنع، حيث أن الحكومة كانت تتولى بنفسها توريد الوقود والمواد الخام. وهذا كله رغم تعرض لجان العمال الحكومية لخطر التصفية والإغلاق في ظل الإدارة غير الناجحة لحكومة كيرينسكي، واضطرت لجنة عمال المصنع إلى إرسال مندوبيها إلى باكو لشراء الفحم، وإلى سيبريا لشراء الحديد.

انطلاقًا من سيستروريترك انتشرت لجان عمال المصانع مثل النار في الهشيم إلى اللجان الحكومية الأخرى ثم إلى المؤسسات الخاصة التي تعمل وفقًا لنظم حكومية، ثم إلى الصناعات الخاصة، وأخيرًا إلى المصانع التي أغلقت في بداية الثورة. في البداية انتقلت الحركة إلى بتروجراد، ولكن سرعان ما بدأت تنتشر في جميع أنحاء روسيا، وقبل نشوب ثورة نوفمبر انعقد أول مجلس لعموم روسيا للجان عمال المصانع. وفي الوقت الحالي، فإن ممثلي لجان عمال المصانع وممثلي الاتحادات المهنية يشكلون وزارة العمل في الحكومة الجديدة وكذلك مجلس مراقبة العمال.

حاولت أول لجان ظهرت في المصانع الخاصة، بلا طائل، الحفاظ على استمرار الصناعة في مواجهة نقص الفحم، والمواد الخام، وخاصةً تخريب الملاك والقوى الإدارية، الذين أرادوا إغلاق هذه المصانع. بالنسبة للعمال كانت هذه مسألة حياة أو موت. حيث اضطرت لجان عمال المصانع المشكلة حديثًا إلى معرفة عدد الطلبيات لدى المصنع، وكمية الوقود والمواد الخام المتوفرة، والدخل المتولد من الأعمال – وذلك لتحديد الأجور التي يمكن دفعها – ولخلق انضباط ذاتي لدى العمال، أو معرفة مدى إمكانية توظيفهم أو فصلهم من العمل. وفي المصانع التي أصرَّ ملاكها على عدم استمرارها في العمل، اضطر العمال إلى تولي المسئولية بأنفسهم، وإدارة الأعمال بقدر ما يستطيعون.

بعض هذه التجارب كان مثيرًا للاهتمام جدًا. على سبيل المثال، في نوفجورود تولى العمال – عديمو الخبرة في الإدارة – مسئولية إدارة مصنع قطن هجره ملاكه. وأول ما قاموا به هو تصنيع قماش كافي لاحتياجاتهم الخاصة، ثم لاحتياجات العمال الآخرين في نوفجورود. وبعد ذلك أرسلت لجنة عمال المصنع رجالها إلى المصانع في المدن الأخرى، يعرضون عليها مبادلة قماش القطن بالسلع الأخرى التي يحتاجون إليها، مثل الأحذية، والأدوات؛ ومقايضة القماش بالخبز لدى الفلاحين، وفي النهاية بدأوا في تلقي طلبيات من العائلات التجارية. وبالنسبة للمواد الخام التي كانوا في حاجة إليها، اضطروا إلى إرسال رجالهم جنوبًا إلى الدول التي تقوم بزراعة القطن، ثم عن طريق اتحاد عمال السكك الحديدية استطاعوا نقل القطن ودفعوا قماش القطن ثمنًا لذلك. وكذلك كان الأمر مع الوقود من مناجم الفحم في مدينة دون.

وفي المصانع الخاصة الكبيرة التي استمر تشغيلها، قامت لجان عمال المصانع بتعيين مندوبين للتفاوض مع الإدارة حول الحصول على الوقود، والمواد الخام، وحتى الطلبيات. ونتيجةً لذلك كان عليهم أن يحتفظوا بحسابات لجميع الوارد إلى المصنع والخارج منه. حيث أجروا تقييمًا للمصنع بأكمله، وبالتالي توصلوا إلى القيمة الحقيقية للمصنع، وكمية المخزون القائم، وقيمة الأرباح. وكانت أكبر مشكلة تواجه العمال حينها هم ملاك المصانع الذين اعتادوا على إخفاء الأرباح ورفض الطلبيات ومحاولة تدمير كفاءة المصنع بكل الطرق الممكنة، ولذلك كله لنزع الثقة من التنظيمات العمالية. وفي مواجهة ذلك، قامت لجان عمال المصانع بفصل جميع المناهضين للثورة والديمقراطية من المهندسين والموظفين وكبيري العمال، فلم يتمكنوا من دخول أي مصنع بدون توصية من لجنة عمال المصنع حول مكان عملهم السابق، حيث كان من المطلوب حينها أن يلتحق العمال بالاتحاد العمالي قبل توظفيهم، حيث أشرفت لجنة عمال المصنع على تنفيذ جميع لوائح ومقاييس الاتحاد.

نتيجة لذلك شنَّ الرأسماليون معركة شديدة الشراسة ضد لجان عمال المصانع هذه. فقد أعاقوا عملهم في كل خطوة، ونشروا الأكاذيب المبالغ فيها في الصحافة الرأسمالية حول "العمال الكسالى" الذين يقضون جلَّ وقتهم في الحديث بدلًا من العمل – بينما في الحقيقة اضطرت لجان عمال المصانع إلى العمل ثمانية عشر ساعة في اليوم – وعن الحجم الضخم لهذه اللجان، ولكن الحقيقة هي أنه، على سبيل المثال، في مصنع بوتيلوف وهو أكبر مصنع في بتروجراد ويعمل فيه أكثر من 40 ألف عامل، كانت لجنة عمال المصنع المركزية تمثل أحد عشر قسمًا و16 مصنع، وتتكون من اثنين وعشرين عضوًا. حتى أن سكوبيليف، وزير العمل "الاشتراكي" في حكومة كيرينسكي، أصدر أمرًا في النصف الأول من سبتمبر يلزم لجان عمال المصانع بعقد اجتماعات "بعد ساعات العمل"، ويوقف رواتبهم التي كانوا يتلقونها مقابل عملهم في هذه اللجان. في حقيقة الأمر، فإن لجان عمال المصانع حافظت على الصناعة الروسية من التفكك في ظل حكومة التحالف. بما يعني أن النظام الصناعي الروسي الجديد نشأً بمنطق الضرورة.

تكونت كل لجنة من لجان عمال المصنع من خمسة أقسام: الإنتاج والتوزيع، والوقود، والتنظيم التقني للصناعة، وإلغاء حالة التعبئة (أو التحول من وضعية الحرب إلى وضعية السلام). كانت جميع المصانع التي تعمل في نفس الصناعة في كل مقاطعة تتحد معًا لإرسال مندوبيَن إلى مجلس المقاطعة وفي المقابل يرسل كل مجلس مقاطعة مندوبُا إلى مجلس المدينة – الذي يقوم بدوره بإرسال مندوبيه إلى سوفتيتات عموم روسيا، في اللجنة المركزية للاتحادات المهنية السوفيتية.

رغم ذلك، لم يكن جميع العمال في روسيا تابعين لاتحادات العمل؛ ولكن جميع عمال المصانع كانوا ممثَلين لزامًا في لجنة عمال المصنع. بينما كانت لجان عمال المصنع تعمل على التكامل مع عمل الاتحادات المهنية، وتتحكم بشكل مطلق في الإنتاج في مصدره الأول.

هذه الطريقة للتحكم في الإنتاج عن طريق العمال، والتي نشأت بشكل عفوي أثناء ونتيجة الثورة الروسية، تقننَت بواسطة حكومة العمال والفلاحين الجديدة للجمهورية الروسية. رغم أنها أصبحت ممكنة عبر حصول العمال أنفسهم على سلطة حكومبة لتولي المسئولية في هذه المصانع وإدارتها فمالكيها لم يتمكنوا من إبقاءها مفتوحة. رغم العم غير محدود وراءهم، والقوة الضخمة والمنظمة الحكومية، لم يظهر تفسير لامتناع العمال عن استخدام مهندسين وطواقم تقنية، أو عدم قدرتهم، رغم التدريب الذي حصلوا عليه، على تولي مسئولية الجزء الأكبر من المؤسسة الصناعية الروسية في سنوات قليلة. مع سيطرة الحكومة الشعبية على وسائل الإنتاج والتوزيع اختفت العقبة الرئيسية في طريقة الديمقراطية الصناعية.

———————————————————
* المقصود هنا: ثورة أكتوبر 1917 والتي استطاعت فيها السوفيتات العمالية بقيادة الحزب البلشفي الاستيلاء على السلطة. علماً بأن التقويم القيصري المعمول به في روسيا قبل الثورة البلشفية يتأخر عن التقويم اليولياني (الميلادي المعمول به في كل العالم اليوم) بثلاثة عشر يوماً. لذا اشتهرت الثورة البلشفية بثورة أكتوبر وفق التقويم القيصري، بينما وقعت في نوفمبر وفق التقويم اليولياني.

** ستولبين: عينه القيصر نيقولا الثاني عام 1906 رئيساً للحكومة إلى أن أغتيل في عام 1911 في أحد مسارح مدينة كييف بحضور القيصر نفسه. وخلال تلك السنوات عمد ستوليبين إلى قمع الحركة العمالية بكل قسوة.