بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ثمانون عاماً على مصرع روزا لكسمبورج

يتوافق هذا العام مع الذكري الثمانين لمقتل روزا لوكسمبورج إحدى أعظم الثوريين الاشتراكيين في هذا القرن. ساهمت لوكسمبورج إسهامات في غاية الأهمية في الحركة الاشتراكية علي المستوي الفكر والممارسة، فهي ثورية كرست حياتها كلها للنضال ضد الرأسمالية وللسعي نحو إقامة المجتمع الاشتراكي. كانت لوكسمبورج من أشد المعارضين للحرب العالمية الأولى وأحد قادة الثورة الألمانية التي أنهت الحرب، ونتيجة لذلك لقت مصرعها علي يد الدولة الألمانية في يناير 1919 عن عمر يناهز 48 عاماً.

ولدت روزا لوكسمبورج في بولندا (التي كانت جزء من إمبراطورية روسيا القيصرية حينذاك) وانضمت إلى صفوف الحركة الاشتراكية عند بلوغ عامها السادس عشر. واضطرت إلى الهرب من مراقبة الشرطة لها والاستقرار في ألمانيا وهي في الثامنة عشر. واعتلت بسرعة شديدة أحد المواقع القيادية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني أكبر الأحزاب العمالية في أوروبا آنذاك حيث ضم في عضويته ما يقرب من مليون عامل. دعا الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني إلي الاشتراكية والثورة ولكنه في حقيقته لم يكن راديكالياً.

فقد آمن جناحه اليميني (والذي سيطر علي قيادته) بضرورة التغيير من خلال البرلمان والمؤسسات القائمة في المجتمع. وقد دعا أحد قادته اليمنيين (إدوارد برنستين) الحركة الاشتراكية إلى التوقف عن الإعداد لثورة لأن الرأسمالية في نظره قد تجاوزت تناقضاتها وأزماتها ولديها قدرة لا نهائية علي إعطاء الإصلاحات التي يحتاجها العمال وتدريجيا ستتحول الرأسمالية إلي نظام اشتراكي!

انتقدت لوكسمبورج هذه الأفكار بشدة وأصبحت أشهر المعارضين للقيادة اليمينية، وقد قالت: “إنه لضرب من الجنون والوهم أن نتخيل قبول الرأسماليين عن طيب خاطر لقرار من برلمان اشتراكي وموافقتهم الهادئة على أن يتخلوا عن ممتلكاتهم وأرباحهم وامتيازاتهم وحقهم في الاستغلال”، وأضافت “تستطيع فقط ضربة مطرقة الثورة أن تهدم هذا الجدار”. وأوضحت لوكسمبورج جلياً أن النظام الرأسمالي موبوء بالأزمات والركود الاقتصادي وأن الإصلاحات الحالية المكتسبة سيتم سحبها علي الفور غداً في حالة الوقوع في أزمة.

وكتبت في كتيبها الرائع “إصلاح أم ثورة” أن على الاشتراكيين النضال من أجل الإصلاحات وأن يخوضوا المعارك اليومية من أجل رفع مستوي المعيشة وزيادة رقعة الديمقراطية وحقوق النقابات، ولكن يجب أن يتم ربط جميع هذه النضالات بالهدف النهائي وهو الإطاحة بالرأسمالية عن طريق ثورة عمالية.

“الإصلاح والثورة ليسا طريقتين للتطور يمكن انتقائهما من سياق التاريخ كما يختار المرء السجق الساخن أو البارد، وبدل من النضال من إقامة مجتمع جديد يسعى الإصلاحيون إلي تعديل المجتمع القديم تعديلات سطحية. إن من يسعى لطريق الإصلاح الشرعي بدلاً من السعي للاستيلاء علي السلطة السياسية لا يختار طريقاً أكثر بطئاً أو هدوءاً لنفس الهدف بل لهدف مختلف جذرياً”

وبالفعل عصفت الأزمة الاقتصادية بألمانيا بعد عام 1900، وتعرضت جميع مكتسبات العمال لهجوم من البرجوازية الألمانية. واجتاحت الأزمة جميع بلدان العالم لتزيد من حدة التنافس بين القوي الرأسمالية الأوربية علي الأسواق والمستعمرات. أدى ذلك إلى اشتعال الحرب العالمية الأولي، ومثل ذلك اختباراً حقيقياً أمام الاشتراكيين في أنحاء أوربا: هل يتمسكون بمبدأ وحدة العمال أممياً أم يستسلمون لضغوط القومية ويقفون خلف برجوازياتهم في تلك الحرب الإمبريالية؟ فشل قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني مثل باقي الأحزاب الاشتراكية الأوربية فشلاً ذريعاً في هذا الاختبار، فتخلى الجميع عن مبادئهم وأيدوا ذبح العمال.

فزعت لوكسمبورج من بشاعة ما حدث ومن التخاذل المهيمن للقادة الاشتراكيين، وكتبت تقول أن “النداء التاريخي للبيان الشيوعي قد تم تغييره جذرياً إلي: يا عمال العالم اتحدوا وقت السلم ولكن اذبحوا أعناق بعضكم البعض وقت الحرب!”

كانت الحرب توضيحاً ومثالاً جيداً لمقولة إنجلز الشهيرة بأن مستقبل الإنسانية يقع بين الاشتراكية أو البربرية. جمعت لوكسمبورج حولها مجموعة صغيرة من أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي وبدأت تنظم ضد القومية والحرب فاعتقلتها الحكومة الألمانية لمدة تزيد عن 3 سنوات.

وبالرغم من مرضيها وظروف السجن الصعبة كتبت روزا لوكسمبورج أروع أعمالها ضد الحرب واختتمته بقولها [سينتهي الجنون القائم فقط عندما يستيقظ عمال ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا من سباتهم ويمدوا أيدي الصداقة لبعضهم البعض ويغرقوا الكورال الوحشي لألحان الإمبريالية بصرخة المعركة “يا عمال العالم اتحدوا”]

وبالفعل انتهت الحرب العالمية الأولى بثورة في نوفمبر 1918. بدأت الثورة بعصيان البحار، وبسرعة شديدة تم تكوين مجالس للعمال والجنود علي غرار السوفييتات الروسية ورفع كل مجلس شعار “يا عمال العالم تحدوا” أفرج عن روزا لوكسمبورج التي شاركت على الفور في الحركة الثورية. أجبر الإمبراطور الألماني علي التنحي وصعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلي الحكم، ولكن الحزب كان في حالة رعب من الثورة (مثلما كانت الطبقة الحاكمة) وعمد إلى “إرساء النظام”!

انقض الحزب الاشتراكي الديمقراطي علي لوكسمبورج واتباعها الذين شكلوا الحزب الشيوعي الألماني في ديسمبر 1918 وعمد علي عزل الحزب الوليد عن باقي الطبقة العاملة الألمانية. امتلأت صحيفة الحزب الاشتراكي الديمقراطي بالمقالات المحرضة علي قتل لوكسمبورج ورفاقها الثوريين. وبدأت الهزيمة تلوح في الأفق ولكن لوكسمبورج رفضت الهروب أو الاختفاء. وفي 15 يناير 1919 تم اغتيالها مع رفيقها كارل ليبنخت بتهشيم جمجمتيهما بكعوب البنادق وإطلاق النار عليهم ثم إلقاء جسدهما في النهر. واستمرت الثورة الألمانية حتى 1923 ولكنها اندحرت تاركة الثورة الروسية معزولة ومهدت الطريق لصعود هتلر للحكم عام 1933.

ولاحقاً كانت كتابات لوكسمبورج إحدى ما حرقه النازيون علانية. ولكن كما كتب مؤرخ سيرتها الذاتية بول فروهليتش: “انتشرت الشائعات في الأحياء العمالية تكذب خبر مصرعها وتقول أنها مازالت حية وأنها نجحت في الهروب وستضع نفسها علي رأس الحركة الثورية مرة أخرى عندما يحين الوقت الملائم، لم تستطع الجماهير تصديق أن هذه الإرادة القوية والحماس والنبوغ الفكري يمكن محوه بكعب بندقية”.

ارتكبت روزا لوكسمبورج أخطاءً بالتأكيد، أهمها دفنها لنفسها فترة طويلة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي بدلاً من سعيها لإقامة حزب اشتراكي ثوري مستقل مبكراً. ولكن يبقي من ذكراها إسهاماتها المهمة التي قدمتها للحركة الماركسية على مستوى الفكر والممارسة.