بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

ثورة أكتوبر في الميزان

على امتداد تسعين عاما، قيل الكثير في معرض تمجيد ثورة أكتوبر. ولكن سيلا عظيما من الشتائم وكلمات التشهير والتجريح تدفق على هذه الثورة أيضا. تماما كما سبق أن حصل مع الثورة الفرنسية، التي حصلت قبلها بـ128 عاما. وبالتأكيد، كان هذا دائما قدر الثورات الاجتماعية التي لعبت دور روافع هائلة للتاريخ.

وبين من شاركوا بحماس في عملية التشهير هذه الرئيس السابق للجمهورية الروسية، الذي سبق أن كان عضوا مرشحا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي، ثم لعب دورا حاسما في تسريع زوال الاتحاد السوفييتي وإعادة الرأسمالية إلى روسيا، بعد أن كان لمدة غير قصيرة في أعلى السلـَّم السلطوي ضمن اتحاد الجمهوريات السابق.

هكذا في السابع من نوفمبر 1997، الذي صادف الذكرى الثمانين للثورة، اعتبر يلتسين أن “الثورة أشعلت فتيل النزاع داخل المجتمع، وأقحمت الروس في حرب الاقتتال الأهلية، وقدمت القيم الإنسانية قربانا على طبق الجنون السياسي” (هكذا!)، زاعما أن من كانوا وراءها “ارتكبوا خطأ تاريخيا، إذ وضعوا فكرة خيالية فوق نعمة الحياة.” وقال يلتسين لمواطنيه إنه وقَّع مرسوما بإقامة نصب لتكريم ذكرى شهداء الحرب الأهلية سواء كانوا من أفراد “الحرس الأبيض” أو من “الجيش الأحمر”. وأضاف “إنه تمثال للحق والباطل، وتمثال للشعب الذي أعطى أروع الأمثلة في الشجاعة وعانى الأمرَّين.”

وبين ما طالعتنا به، في الفترة عينها تقريبا، افتتاحية لصاحب صحيفة “النهار” البيروتية، النائب الحالي غسان التويني، انطلق فيها من مؤلَّفٍ صدر في باريس في أواخر القرن الماضي بعنوان “كتاب الشيوعية الأسود، 85 مليون ضحية”، ومن خطاب يلتسين، لتقديم إسهام خاص به في سيرورة التشهير المخجلة ذاتها، واضعا في سلة واحدةٍ الفكرة الشيوعية ككل، وكلا من صدام حسين و.. هتلر!!

ومنذ ذلك الحين قرأنا، أو سمعنا، الكثير من الأكاذيب والتشويهات التي لم تشارك فيها فقط رموز يمينية تقليدية مُضْجرة عبر العالم، بل انضم إلى جوقتها عديدون ممن كانوا ركبوا سابقا موجة اليسار، إبان صعودها، للتجريح بتلك الثورة التي لعبت دورا حاسما في إحداث تغييرات جذرية في صورة هذا العصر، على الرغم من الانحطاط الذي شهدته لاحقا في ظل الستالينية الظافرة.

وعلى رغم الاستفزاز العميق الذي نشعر به لدى قراءة نصوص الكذبة والمتساقطين، وهم كثر، سوف نكتفي بردّ مهذب على الصورة المشوّهة التي يعطيها عن أكتوبر متضررون كثيرون، على امتداد أقلّ من قرن بقليل، من الإنجازات التي حققتها وباتت جزءا لا يمكن محوه من تراث البشرية.

هل تصح مماثلة الستالينية والشيوعية؟
في ما مضى، كان الكثيرون يقولون نعم للستالينية، لأنهم يماثلونها مع الشيوعية، أما اليوم فيقولون لا للشيوعية لأنهم يماثلونها مع الستالينية. والمماثلة زائفة في الحالتين. ذلك أن الستالينية قامت على أنقاض البلشفية وثورة أكتوبر. ففي الثلاثينات بوجه خاص، تمكن ستالين، مستندا إلى بيروقراطية باتت كلية القدرة، في غياب طبقة عاملة دمرتها الحرب الأهلية، وإزاء هزيمة الثورة في ألمانيا وبلدان أوروبية عديدة أخرى، وبقاء الثورة الروسية وحيدة داخل الحصار الرأسمالي العالمي، تمكّن من القيام بثورة مضادة حقيقية. تولى تصفية معظم القادة البلاشفة دمويا، فضلاً عن إبادة أكثر من مليون شيوعي. فهل يمكن أن نتجاهل واقع أن الستالينية، والجهاز الذي استندت إليه، كانت أبعد ما تكون عن تمثيل استمرارية حقيقية لثورة أكتوبر؟ لقد شكلت قطيعة جذرية مع تلك الثورة وممارساتها وأفكارها، وإن زعمت في آن معا أنها بصدد بناء الاشتراكية. وهو أمر كان الشيوعيون الثوريون يقولونه دائما، ليس الآن فقط بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الذي تحلَّق حوله، بل منذ أواخر العشرينات.

فإذا سلَّمنا بهذه الحقيقة، لا تعود ثمة مشكلة في التعامل مع الادعاء الكاذب الذي أورده المجلَّد الباريسي، حيث لا مجال إطلاقا لتحميل ثورة أكتوبر المسؤولية عن ضحايا مزعومين، ولا سيما حين يرفع خيال مؤلفي الكتاب عددهم إلى 85 مليونا! ذلك أن عدد القتلى الذين قتلوا خلال “الأيام العشرة التي هزَّت العالم” على حد تعبير الكاتب الأميركي، جون ريد، لم يكن ليصل حتى إلى عدد أصابع اليدين، أو ربما أكثر بقليل. كانت تلك إحدى الثورات الأقل دموية في التاريخ. أما الحرب الأهلية التي نشبت بعد أشهر فلم تكن من إعدادها، ولا هي التي فجَّرتها، بل أصحاب الامتيازات القديمة من رجال الإقطاع والبرجوازيين، مدعومين بأكثر من 14 جيشا غربيا تدخلوا إلى جانب البيض.

وحتى ستالين، على فظاعة جرائمه، لم يكن مسؤولا عن العدد الخرافي الذي يذكره الكتاب، وإن أضفنا إلى مئات الألوف من ضحاياه المباشرين الثلاثين مليونا من ضحايا الشعوب السوفييتية خلال الحرب العالمية الثانية التي فجَّرتها النازية وكان الاتحاد السوفييتي خلالها في مواقع الدفاع عن النفس. وفي شتى الأحوال يصبح من العبث المطلق أن يراد جمع أكلاف ثورة 1917 مع الأكلاف اللاحقة للنظام الستاليني!

ماذا كانت ثورة أكتوبر
ينحّي المفكر الماركسي البلجيكي الراحل، إرنست ماندل، خرافات ثلاثا راجت لدى العديد من المتهجمين على الثورة الروسية: أولاها أنها كانت انقلابا لا ثورة شعبية، والثانية أنها كانت طوبى قاتلة تطرح بناء الاشتراكية فورا، والثالثة أنها كانت عمل شلة من المتعصبين.

ودحضا للأسطورة الأولى، يستشهد ماندل بالعديد من مؤرخي تلك الفترة، بينهم نيكولاي سوخانوف، وكان خصما لدودا للبلاشفة، حيث يقول: “كان البلاشفة يعملون بعناد، ومن دون كلل. كانوا مع الجماهير، وفي الورش طيلة النهار (…). كانوا قد أصبحوا الأمل الوحيد (…). كانت الجماهير تعيش وتتنفس مع البلاشفة. كانت بين يدي حزب لينين وتروتسكي.”

هذا ولم تكن للخرافة الثانية القائلة إن البلاشفة تطلعوا لخلق مجتمع مثالي في روسيا في الحال، أو في مهلة قصيرة جدا، أي دعامة على أرض الواقع. حيث أن الهدف من استيلاء المجالس (السوفييتات) على السلطة كان تحقيق أغراض ملموسة جدا هي: وقف الحرب حالا؛ وتوزيع الأرض على الفلاحين؛ وضمان حق القوميات المضطَهَدة في تقرير مصيرها؛ والحيلولة دون سحق بتروغراد الحمراء التي كان كيرنسكي، الوزير الأول في الحكومة البرجوازية، ينوي تسليمها للجيش الألماني؛ وإرساء الرقابة العمالية على الإنتاج؛ ومنع انتصار الثورة المضادة. وقد أعلن لينين أمام المؤتمر الثالث للسوفييتات في 3 يناير 1918: “ليس لديَّ أيّ وهم، أعرف أننا دخلنا فقط في مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، التي لم ننخدع يومااً بأمل إنجازها من دون عون البروليتاريا العالمية.” وهو لم يُخْفِ يومااً عن الجماهير الروسية أن الاستيلاء على السلطة في روسيا كانت له وظيفة تاريخية هي تشجيع الثورة العالمية، والثورة الألمانية قبل غيرها.

أما أسطورة شلة المتعصبين المتعطشة للسلطة فلا تستند إلى أي أساس، حيث أنه بين فبراير ونوفمبر 1917، كان الحزب البلشفي قد أصبح حزبا جماهيريا يضم طليعة العمال الروس. كان عدد المتفرغين في صفوفه لا يزيد على سبعمئة من أصل ثلاثمئة ألف عضو يشتغلون بصورة ديمقراطية جدا. فالنقاشات والخلافات في الرأي كثيرة، وكانت تعبر عن نفسها عموما بصورة علنية.

باختصار، كانت ثورة أكتوبر النقطة الحاسمة لحركة جماهيرية هائلة يقودها نحو أخذ السلطة حزب منخرط في الجماهير بصورة وثيقة. حزب كان يسعى قبل كل شيء لتحقيق المطالب المباشرة الأكثر إلحاحا لدى السكان، في الوقت ذاته الذي يرمي فيه لتحقيق أهداف اشتراكية عالمية أشد اتساعا.

فعدا شعارات وقف الحرب فورا، والسلام من دون إلحاق ولا تعويضات، ومبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، ألغت سلطةُ المجالس، لأول مرة في التاريخ، الدبلوماسية السرية، ونشرت كل الوثائق الدبلوماسية وكل المعاهدات الموقعة سرا، ومارست على الأرض نزعة أممية فعلية.

هذا وقد لعب المثال الذي قدمته ثورة أكتوبر دورا هاما في إنضاج روح الثورة في أنحاء أوروبا، وفي حفز تعاطف كبير من بلدان آسيا، ولا سيما إيران والصين. هكذا كتب الوزير البريطاني الأول لويد جورج، بعد الحرب الأولى مباشرة: “كل أوروبا مفعمة بروح الثورة (…)، كل النظام القائم، في مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية، توجِّه إليه الاتهام جماهير السكان في كل أنحاء أوروبا.” لا بل اندلعت ثورات في أكثر من بلد، لكنها فشلت بسبب الدور السلبي لأحزاب الأممية الثانية الاشتراكية.

إن ما ميَّز البلاشفة، بوجه خاص، هو وعيهم ديالكتيك العلاقة بين الشروط الموضوعية (الوضع الاقتصادي-الاجتماعي، والتراث التاريخي والثقافي) والشروط الذاتية (أي عمل الطبقات ونشاط الأحزاب وقادتها)، واستعدادهم للتدخل في اللحظة الحاسمة لأجل التأثير في مجرى الأحداث. كانوا على قناعة، ولا سيما بفضل وعي لينين المميز منذ عودته من المنفى بعد ثورة فبراير وصعود المجالس، بأن ثمة احتمالين وحيدين: إما انتصار ثورة مضادة برجوازية مفرطة في الرجعية، ودموية جدا لا بد من أن تفضي إلى تدمير الحركة العمالية، أو انتصار الثورة الاجتماعية بفضل استيلاء المجالس على السلطة، مما يتيح بدء بناء المجتمع الجديد. وقد اختار البلاشفة، بحفز أساسي منه، الحل الثاني.

وفي هذا المجال، ينقل جون ريس استعدادات القوى الرجعية على الشكل التالي: “كلما كان الإرهاب أعظم، ستكون انتصاراتنا أكبر، كان يقول الجنرال الأبيض كورنيلوف. يجب إنقاذ روسيا حتى لو كان علينا أن نحرق نصف البلد، ونهرق دم ثلاثة أرباع الشعب الروسي.”

ويصف أ.ر. وليامز ما كان يحدث للجنود الحمر الذين يقعون أسرى لدى البيض، بقوله: “يقف الملازم ك. أمام الفوج ويعلن: “من منكم شيوعيون حقيقيون فليظهروا شجاعتهم ويتقدموا.” يلي ذلك فاصل ثقيل وقاسٍ. ثم يتقدم أكثر من نصف الفوج بصورة متراصة، فيُحكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص، على أن يحفر كل منهم قبره قبل الإعدام.”

بمعنى آخر، كان الخيار هو بالضبط: إما انتصار الثورة الاشتراكية، أو انتصار ثورة مضادة بين الأشد دموية، تحمل إلى السلطة هتلر روسيا أسوأ من الألماني الذي عرفناه.

لقد تجرأ البلاشفة، كما تقول روزا لوكسمبورج، ولم يتصرفوا على الشكل الذي فعله الاشتراكيون الألمان بعد ذلك بأقل من سنة. إن التبرير الرئيسي الذي قدمه هؤلاء الأخيرون لسياستهم ضد أخذ السلطة الاشتراكية خلال أزمة ثورية، هو أنه كان ينبغي الدفاع عن الديمقراطية بأي ثمن، بما في ذلك ضد ملايين العمال. ولقد عبَّدوا بذلك الطريق إلى السلطة الدموية للدكتاتورية النازية، التي كلفت البشرية أكثر من خمسين مليون قتيل. ويقول إرنست ماندل على ضوء ذلك: “هاكم ما كان البديل الملموس من ثورة أكتوبر، وهاكم في الوقائع تبريرها التاريخي الأشد إقناعا.”

البعد الإنساني
حتى خلال الحرب الأهلية، وفي ظروفها القاسية جدا، حصلت اختبارات فنية مبدعة، ونقاشات فكرية مكثفة على الصعيد الثقافي، أدت إلى ولادة مرحلة من العافية الفنية الخلاقة والأحلام المثالية. ولم تمر سنة على قيام الثورة حتى كان عدد المتاحف يتضاعف ثلاث مرات. هذا وقد أثار مشاعر العالم بأسره ازدهار المسرح والسينما والرسم والملصقات والنحت الطليعي والعمارة وعلم النفس والطب النفسي وتحليل الظرف الاقتصادي وعلم التاريخ، فضلا عن الأدب.

وعلى صعيد النشر، صدرت عام 1918، وفي عز الحرب الأهلية، كُتُب بوشكين وغوغول وتولستوي ودوستويفسكي وزولا، وأناتول فرانس وميريميه، ووالتر سكوت وجان جوريس، وبليخانوف وكاوتسكي (والأخيران كانا من أشد أعداء ثورة أكتوبر)، وآخرين عديدين، بكميات تتراوح بين 25 ألف نسخة ومئة ألف لكل منها. وفي الوقت عينه، أطلقت الثورة مشاركة هائلة للجماهير في الحياة الثقافية.

وبخصوص الروح الطبقية الجديدة، كتب ألفونس باكيه في مؤلَّفه، “روح الثورة الروسية”، أن أهم ما فعلته هذه هو أنها “خاضت المعركة جذريا” وبيد من حديد ضد أنانية الرأسمالية، سواء الخاصة أو الدولانية. ولاحظ ألفونس شميدت في كتابه، “موسكو 1920″، أن أول انطباع يشعر به المرء فيها هو أنها “مدينة بروليتارية. العامل يسود. العامل يسيطر على الشارع”

أما الجيش الأحمر فكان مشبعا بالروح البروليتارية. وورد في “تربية الجندي” ما يأتي: “رؤساؤك إخوة لك أكثر خبرة وثقافة. في المعركة والتدريب والثكنة والعمل، عليك أن تطيعهم. ولكن حين تخرج من الثكنة، أنت حر بشكل مطلق (…). إذا سئلت كيف تقاتل؟ أجب: بالبندقية والحربة والرشاش، ولكن كذلك بكلمة الحقيقة التي أوجهها إلى من هم عمال وفلاحون في الجيش المعادي، كي يعرفوا أني لست عدوهم في الحقيقة، بل أخوهم.”

ويروي أ. وليامز تجليا مؤثرا لروح الشهامة لدى الاستيلاء على قصر الشتاء: “كان تلامذة الضباط قد استسلموا. وكان الجمهور غاضبا بعد اكتشاف غرف التعذيب في أقبية القصر. صرخ أنطونوف-أوفسنكو الذي كان يقود فصيلة الحرس الأحمر: “الأول بينكم الذي يلمس أسيرا سأطلق عليه الرصاص (…). أتعرفون إلى أين يقود هذا الجنون؟ حين تقتلون حارسا أبيض أسيرا تقتلون الثورة (…). هي تعني شيئا أفضل: الحياة والحرية للجميع. أنتم تحبون الثورة، وما أطلبه منكم هو ألا تقتلوا ما تحبون.”

ما الذي يبقى من أكتوبر اليوم؟
لم يُتَحْ لهذه الثورة أن تظهر كل طاقتها الإبداعية، كلّ ما كانت تستطيع إنجازه في شتى المجالات، لو توفرت لها الظروف المحلية والعالمية المناسبة. إن بقاءها في ظل الحصار الرأسمالي العالمي، ولا سيما بسبب هزيمة الثورات التي اندلعت في أوروبا (وبخاصة في ألمانيا) في السنوات التي تلت أكتوبر 1917، ناهيكم عن الدمار الكبير الذي لحق بالدولة السوفييتية الوليد وقوى الانتاج فيها، خلال الحرب الأهلية، كل ذلك أتاح لبيروقراطية صاعدة أن تخنق في الواقع الكثير مما كانت تعد به الثورة الروسية. هكذا، سرعان ما وجهت هذه البيرقراطية ضربات قاسية إلى الديمقراطية العمالية المتقدمة التي افتتحتها سلطة المجالس، لا بل أطلقت ثورة مضادة، كما سبق ذكره أعلاه، كان بين أهم عواقبها، عدا حجز السيرورة الثورية في روسيا بالذات، الحيلولة دون اندفاع شرارة الثورة الظافرة عبر العالم، بوصفها الشرط الأساسي والقاعدة الأهم لبناء اشتراكية محرِّرة على المستوى العالمي.

ولكن على الرغم من ذلك، لا يمكن إلا للحاقدين والكذبة والمخادعين تجاهل الإنجازات الباهرة التي تحققت بنتيجة تلك الثورة، وقد تطرقنا إلى بعضها أعلاه ونشير إلى بعضٍ آخر منها في ما يلي، مبرزين هكذا في الوقت عينه، وإن باقتضاب شديد، ما الذي يبقى من أكتوبر اليوم.

إن الردّة المضادة للثورة التي بلغت أوجها بانهيار الاتحاد السوفييتي في أواخر العام 1991، كانت قد بدأت عمليا منذ أواخر العشرينات من القرن الماضي مع نجاح الجناح البيروقراطي الستاليني في السلطة في إزاحة الجناح البروليتاري الثوري، تدريجيا، وصولا إلى تصفيته خلال النصف الثاني من الثلاثينات، ولا سيما عن طريق ما عُرف بمحاكمات موسكو المشهورة. ولكن أيا يكن، وفي تعارضٍ عميق مع ذلك، أتاحت الاندفاعات الإيجابية للثورة، على امتداد عقود عديدة، تطورا سريعا ومدهشا أدى إلى تصنيع كثيف لبلد زراعي في الأصل، وإلى ظهور طبقة عاملة باتت تضم في نهايات القرن العشرين أكثر من ثلاثة أرباع سكان ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي. وقد وصف إرنست ماندل هذا الواقع قبل انهيار الاتحاد المذكور بعام ونصف تقريبا، في مقدمة كتابه “الاتحاد السوفييتي إلى أين في ظل غورباتشوف؟” على الشكل التالي:

“فالاتحاد السوفييتي الحالي ليس فقط مجتمعا عميق التحديث والتمدين، مع غالبية من السكان المدينيين منذ جيلين إذا لم يكن ثلاثة أجيال، إنه قبل كل شيء بين أكثر المجتمعات تطورا، على صعيد التأهيل المهني والثقافي والعلمي، يضم ربع مجمل رجال العلم في العالم، ويحوز 40٪ من أفراد الطبقة العاملة فيه شهادة دراسات تقنية عليا. وهذا المجتمع مطبوع أيضا بفضول علمي واهتمام جمالي ليس لهما شبيه بتاتا في معظم البلدان الأخرى. ويكفي للدلالة على ذلك عدد نسخ المجلات العلمية والأدبية ودواوين الشعر، ناهيكم عن الروايات الراقية.”

وما سميناه “الاندفاعات الإيجابية” لهذه الثورة عبّر عن نفسه أيضا، في العلاقة بالخارج، في نتائج وتأثيرات بالغة الأهمية، بين أهمها:

‌أ- الإسهام في تعديل موازين القوى الطبقية عالميا، لصالح الشغيلة والطبقات الدنيا، ولا سيما عبر المكاسب والضمانات التي تحققت لهؤلاء، في البلدان المتقدمة بوجه أخص. وحتى في بلدان كثيرة تنتمي إلى ما يعرف بالعالم الثالث.

‌ب- الدور الذي لعبته الطبقة العاملة السوفييتية في إنزال الهزيمة بالفاشية العالمية وبالوحش النازي الذي أنجبته الرأسمالية المتأزمة، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية؛ وفي ما بعد، في تسهيل مهمة شعوب المستعمرات في نزع الاستعمار القديم، وانتزاع السيادة والاستقلال.

هذه هي الثورة التي رأى فيها يلتسين خطأ تاريخيا، زاعما أنها قدمت القيم الإنسانية قربانا على طبق الجنون السياسي. بينما يقول ماندل في نهاية الكتاب الذي وضعه عنها، قبل رحيله عام 1995 بعامين، بعنوان: “ثورة أكتوبر انقلاب أم ثورة اجتماعية؟”: “إن التاريخ قاضٍ صارم لكنه عادل. يجب فقط أن نعطيه الوقت الضروري لإنجاز عمله. عام 1810، لا بل عام 1815، لم يكن باقيا تعاطف كبير مع ثورة 1789 الفرنسية، إلا في بعض الأوساط الثورية الضيقة جدا. ولكن عام 1848، وخاصة عام 1889، كان الحكم بصددها قد تغير بعمق. ونحن على قناعة بأن الأمر نفسه سيحدث بخصوص الحكم الذي سيصدر لاحقا على ثورة أكتوبر.”