ثورة من دفتر أحوال مدينة القاهرة
القاهرة درة المدن القديمة، لا زالت على الرغم من الفقر والفوضى والحزن تناضل ضد الفناء، وتحمل فى قلبها صهيل ثورات قديمة دفنت تحت تلال القهر والنسيان. ولكنها تتذكر الآن وهى جالسة على حافة الانفجار أصوات بعيدة لحروب أزقة وحارات عتيقة، تتدفق من أمكنة اختلطت فيها رائحة البهار برائحة العرق والبارود والدماء: الأزهر .. المغربلين .. بين القصرين .. الدرب الأحمر.. بركة الفيل .. درب الجماميز. أماكن احتضنت ثورة القاهرة الأولى وخبأت أسرارها داخل سراديب البيوت والجوامع القديمة، واحتفظت بهتافات عصور مضت وتركت صداها داخل الأزقة الضيقة، ولا تزال تجاهد من أجل فك طلاسم تاريخ سحيق لملاحم نضالية، تحولت إلى وشم يلف جدران تلك المدينة العجيبة ويمنحها هالة من الجلال لا تستطيع محوها فوضى القرن الحالى.
بالأمس البعيد تركها المماليك عارية ومستباحة بعد هزيمة سريعة أمام جيش الحملة الفرنسية فى موقعة إمبابة 1798، تقابل الجيشان وقد استعد الفرنسيون بأحدث الأسلحة بينما بدا الجيش المصرى بتسليحه المتخلف وكأنه جاء من أزمنة سحيقة. فكانت النتيجة 7000 قتيل من جيش مراد بك منهم 5000 مصرى و2000 من المماليك مقابل 300 جندى فرنسى فقط. تقدم الفرنسيون وعبارة نابليون تتردد فى أذانهم “تقدموا أيها الجنود واعلموا أن أربعين قرنا من الزمان تنظر إليكم من فوق قمم هذه الأهرامات”.
بونابرت.. القائد الطموح الذى دانت له إيطاليا وهدد النمسا واكتسح الحلفاء فى أوروبا ولم تقف أمامه سوى إنجلترا، فنقل جبهة القتال إلى الشرق، إلى مصر، ليقطع الطريق بين إنجلترا ومستعمراتها فى الهند .
رأى بونابرت أن مصر الضائعة ما بين جشع وضعف السلاطين العثمانيين وصراعات أمراء المماليك يمكن أن تقع بسهولة أسيرة فى قبضته ليبني على أساساتها العريقة قاعدة له فى الشرق.
ولكن مع هروب المماليك اصطدمت قوات الحملة بالمقاومة الصلبة، خاصة فى الإسكندرية والمنطقة الواقعة بين المنصورة ودمياط، وقد برزت فى خضم المقاومة أسماء لزعماء مصريين تحدوا الاحتلال الفرنسى وقاوموه حتى الموت أو النفى: محمد كريم، حسن طوبار، وكثيرين غيرهم ممن نسيهم التاريخ .
مصر قبيل الحملة الفرنسية
رقدت مصر فى ظل العثمانيين على نظام إقطاعى مشوه وغير مكتمل الملامح. فأمام جشع واحتكار السلاطين للزراعة والصناعة والتجارة، كانت الأراضي والثروات تصادر لملء خزائن السلطان. كما كان الأمراء المماليك الجدد المجلوبين من قبل السلطان يقومون بطرد المماليك القدامى والاستيلاء على أراضيهم و ثرواتهم مما حال دون تكون طبقة أرستقراطية ثابتة وذات جذور راسخة قادرة على تكوين قشرة صلدة لحماية النظام الإقطاعى. أما الفلاحين الذين لم يكن لهم سوى حق الانتفاع بالأرض مقابل دفع الضرائب المختلفة، فقد عاشوا تحت ضربات كرابيج المماليك وجباة الضرائب وكوارث الفيضانات ملاحم من الفقر والبؤس والمعاناة والألم، وصلت بهم فى بعض الأحيان الى أكل الميتة وقشر البطيخ، وفى أحيان أخرى إلى انتفاضات عديدة ميزت الفترة العثمانية، وفى أحيان ثالثة إلى الفرار من القرى هربا من الديون والضرائب.
ولم تكن الصناعة والتجارة بأفضل حالا من الزراعة، فقد حال جشع السلطان، ونهمه لمصادرة ثروات التجار، دون ولادة طبقة برجوازية تستطيع أن تعيد تشكيل النظام الاقتصادى والسياسى بمصر. كما انقض نظام الاحتكار السلطاني للصناعات المختلفة على الصناعة المصرية، فأغلقت العديد من الورش والمصانع الخاصة مما أدى إلى تآكل الطبقات المتوسطة وخاصة طبقة الصناع. هذا بالإضافة إلى استبداد وفساد حكم المماليك المتعطشين إلى مص الثروات من دم الشعب وكَنزها قبل الإطاحة بهم.
أدت كل تلك الأوضاع فى معظم الوقت إلى اندلاع انتفاضات الفلاحين بالريف واشتعال هبات الحرافيش بالمدن مع انفصال نضالات كل منهما عن الآخر.
وقد سجل لنا المؤرخون القدامى (ابن إياس والمقريزى وابن تغربردى والجبرتى) أخبار ثورات واضطرابات الفترة العثمانية، والتى كان أشهرها ثورة الهوارة ضد الإقطاع (1765– 1769)، والتى انتهت بانفصال الصعيد عن الحكومة المركزية بداية من المنيا وحتى الشلال فى الجنوب. وقد ابتكرت تلك الثورة نظاما شبه جمهوري بزعامة همام الكبير، زعيم الهوارة، وقامت بتوزيع الأراضي على الفلاحين وذلك حتى استطاع على بك الكبير القضاء عليها.
أما احتجاجات القاهرة فقد كان الأزهر دائما مركزها والعلماء والمشايخ هم قوادها. وأشهر احتجاجات القاهرة قبيل الحملة الفرنسية كانت سنة 1795 والتى كانت قوية بدرجة أجبرت المماليك والوالي العثماني على التوقيع على “حجة” تلزمهم برفع المظالم والحوادث والمكوس (الضرائب) وبأن يسيروا فى الناس سيرة حسنة. ولكن لم يمض شهر على توقيع الحجة حتى عادت الضرائب والسرقات مرة أخرى، فلم تكن الحياة بمصر أثناء حكم مراد بك وإبراهيم بك إلا حلقة خانقة من السرقة والنهب والعنف والتعذيب والاضطهاد .
كانت تلك هى الحال قبيل وصول الحملة الفرنسية، والتى على الرغم من القتل والتدمير قد قذفت بمصر من العصور الوسطى إلى العصر الحديث.
الحملة الفرنسية وثورة القاهرة الأولى
بعد إحراز الفرنسيين للانتصار تم احتلال القاهرة. وقد اعتقد نابليون أن كراهية المصريين للأتراك والمماليك ستؤدي إلى الترحيب بالفرنسيين أو على الأقل لن يكون هناك أى مقاومة من المصريين للحكم الفرنسي الذى قدم نفسه إليهم على أنه المنقذ من جحيم المماليك.
ومع إعلان بونابرت أن غرضه الأول هو “سعادة الشعب المصرى واحترام شعائره الدينية وأمواله” بدأ فى مصادرة الأملاك وخاصة البيوت بحجة احتياجهم لها. كما ذكر الجبرتي هدمهم للكثير من المباني والآثار والمساجد لتحصين القاهرة “أمروا سكان القلعة بالخروج من منازلهم والنزول إلى المدينة ليسكنوا بها فنزلوا وأصعدوا إلى القلعة مدافع ركزوها بعدة مواضع وهدموا بها أبنية كثيرة وشرعوا في بناء حيطان وكرانك وأسوار وهدموا أبنية عالية وأعلوا مواضع منخفضة وبنوا على بدنات باب العزب بالرميلة وغيروا معالمها وأبدلوا محاسنها ومحوا ما كان بها من معالم السلاطين وآثار الحكماء والعظماء وما كان في الأبواب العظام من الأسلحة والدرق والبلط والحوادث والحرب الهندية وأكر الفداوية وهدموا قصر يوسف صلاح الدين ومحاسن الملوك والسلاطين ذوات الأركان الشاهقة والأعمدة الباثقة”. هذا غير هدم أبواب الحارات مما أثار سخط المصريين، كما قطعوا رواتب الأوقاف الخيرية عن مستحقيها من الفقراء، وقاموا بتفتيش المنازل ومصادرة الخيول والسروج والجمال والأبقار والثيران والسلاح أو دفع مقابل عنها.
بجانب كل تلك الإجراءات دعا بونابرت العلماء والأعيان إلى تكوين ديوان من المشايخ والعلماء يختص بالأمن العام والتموين والصحة. وعلى الرغم من أن الديوان كان ذو صفة استشارية ولم يكن له فعليا أى سلطة إلا أنه ساهم فى بلورة قيادة شعبية مصرية متمسكة بحقها فى إدارة البلاد.
وقد عطل نابليون اجتماعات الديوان بعد أن اصطدم به أعضاؤه أنفسهم معلنين رفضهم هذا الكم الهائل من الضرائب الباهظة، وخاصة ضرائب العقارات التي فرضها الفرنسيون والتي ازدادت بعد أن دمر الإنجليز أسطولهم فى أبوقير، فى محاولة لإعادة بناء أسطولهم مرة أخرى وإعادة تمويل جيش الحملة على حساب المصريين. وقد أثارت تلك الضرائب سخط المصريين بجميع فئاتهم وطوائفهم. وبذلك نافس الفرنسيون المماليك فى جمع الضرائب وابتكار ضرائب أخرى جديدة مما فجر براكين الغضب الكامنة فى نفوس المصريين.
وجاء الرد سريعا فى 21 اكتوبر 1798 عندما انبعث وميض شرارة الغضب .
حكى لنا الجبرتي على صفحات كتابه العظيم “عجائب الآثار فى التراجم والأخبار” تفاصيل انتفاضة المصريين ضد الفرنسيين، “فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاح وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم”. ذهبت تلك الجموع إلى بيت القاضي ليخرج معهم إلى بونابرت لمطالبته بإلغاء الضرائب الجديدة، إلا أنه خاف عاقبة الثورة فرجمه الثائرون بالحجارة والطوب، ولم يتمكن من الهرب من أيدى تلك الحشود،
كما احتشد بالأزهر العلماء والجموع الغفيرة وعمت الثورة أنحاء القاهرة فى لمح البصر. ونظرا لأن الفرنسيين لم يتوقعوا قيام المصريين بثورة فقد خرج الجنرال ديبوي “حاكم القاهرة” مع بعض عساكره لتهدئة الأحوال وذهب إلى بيت القاضي ففوجىء بكم البشر الهائج فهجم عليه الثوار وقتلوه، كما قتل الكثير من فرسانه وسيطر الثوار على معظم مداخل القاهرة كباب الفتوح وباب النصر والبرقية إلى باب زويلة وباب الشعرية، وقاموا بهدم مساطب الدكاكين لاستخدام أحجارها كمتاريس تعوق هجوم العدو، ووقف وراء كل متراس حشد عظيم من الناس. وبعد أن أدرك الفرنسيون اندلاع الثورة بمقتل الجنرال ديبوي بدأ الهجوم على الثوار بإطلاق النار على الناس فى الشوارع وخلف المتاريس، فتجمع الثوار فى الأزهر ونصبوا المتاريس فى الطرق والحارات والأزقة المؤدية إليه لتحصين مركز الثورة. وقد انضم إلى صفوف الثوار أهالي القرى المجاورة للقاهرة، وخلال الأحداث هوجمت دكاكين التجار وسرقت محتوياتها .
وفى أثناء الليل نصب الفرنسيون مدافعهم على جبل المقطم قرب القلعة.
وفى اليوم التالي استمر الثوار فى الهجوم على كتائب الفرنسيين. وقد بدأ نابليون خطته فى خنق الثورة بنشر جنوده حول ضواحي القاهرة لمنع أهلها من الانضمام إلى صفوف الثوار، ثم أرسل فى طلب مقابلة المشايخ فلم يجبه أحد، وعندها وبداية من عصر اليوم الثاني أمر نابليون بقصف القاهرة بالمدافع المنصوبة بالقلعة وخاصة الأزهر مركز الثورة والأماكن المحيطة به.
وقد وصف الجبرتي فزع المصريين “فلما سقط عليهم ذلك ورأوه ولم يكونوا في عمرهم عاينوه نادوا يا سلام من هذه الآلام يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف وهربوا من كل سوق ودخلوا في الشقوق وتتابع الرمي من القلعة والكيمان حتى تزعزعت الأركان وهدمت في مرورها حيطان الدور وسقطت في بعض القصور ونزلت في البيوت والوكائل وأصمت الآذان بصوتها الهائل فلما عظم هذا الخطب وزاد الحال كرب ركب المشايخ إلى كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل ويمنع عسكره من الرمي المتراسل”. وبعد توسط المشايخ أمر نابليون بإيقاف القصف، وقد استمر الثوار فى الحسينية وما حولها فى المقاومة حتى نفدت ذخيرتهم.
وفى اليوم الثالث دخل الفرنسيون منطقة الأزهر، التي خربها القصف ومات تحت أنقاضها الآلاف، وهدموا المتاريس ودخلوا الجامع الأزهر بخيولهم وحطموا كل ما وجدوه فى طريقهم، ونهبوا البيوت المحيطة بحجة البحث عن الأسلحة. ثم بدأ الانتقام بالقبض على أعداد غفيرة نفذ فيهم جميعا حكم الإعدام وكان بينهم الكثير من النساء. وقد اعترف سكرتير نابليون فى مذكراته أنه كان يتولى التصديق على أحكام الإعدام وبعد تنفيذ الحكم كانت توضع الجثث فى زكائب ويتم إغراقها فى النيل. وقد أعلن نابليون أنه تم القبض على ثمانين شخصا هم قيادات الثورة سجنوا بالقلعة ثم نفذ بهم حكم الإعدام بدون محاكمة.
غلفت المدينة سحابة كئيبة سوداء وتوالت حوادث الاختفاء والتعذيب والقتل وخبأ النيل فى قلبه المئات من شهداء الثورة المصريين البسطاء الذين هبوا للدفاع عن حقهم فى الحياة وأعلنوا كراهيتهم للظلم والاحتلال. وكان من ضمن الضحايا الشيخ عبد الوهاب الشبراوي من أهم علماء الأزهر والشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان. وقد قتل من علماء مصر ثلاثة عشر عالما وبلغ عدد ضحايا الثورة ما يقرب من الأربعة آلاف فى مقابل 200 فرنسي بينهم بعض المهندسين الذين استفزوا أثناء تحصينهم مدينة القاهرة مشاعر المصريين بهدمهم للبيوت وخلع الأبواب ونبش القبور فقتل أثناء الثورة كبير مهندسي الحملة “تستيفود” الذي كان يعمل برسم خريطة حديثة لمصر، وأيضا قتل بعض الجراحين والرسام دوبري .
وقد جاء فى كتب المؤرخين الفرنسيين أن المصريين من أهل الطبقة الوسطى قاموا بحماية علماء الحملة الذين سكنوا فى وسط المصريين بالأحياء القديمة كالناصرية والسيدة حيث كان يوجد المجمع العلمي بقصر حسن بك كاشف “المدرسة السنية الآن”.
ورغم أن الثورة استمرت ثلاثة أيام فقط وانهزمت أمام التفوق العسكري الفرنسي إلا أن صداها قد انتقل من القاهرة إلى باقي أنحاء مصر وبخاصة القرى المجاورة للقاهرة والتي شاركت فى الثورة بالرجال والسلاح والتي نالت أيضا حظها من القمع بالاعتقال والقتل مثل ما حدث للشيخ سليمان الشواربى شيخ قليوب الذى اعتقل بالقلعة ثم قتل، كما تم اعتقال بعض الزعماء كرهائن. ولم تسلم القرى الواقعة على النيل من أذى الفرنسيين فأحرقت قرية كاملة من قرى إمبابة بعد تهجير أهلها بسبب إطلاق تلك القرى الرصاص على السفن الفرنسية. واستمرت المقاومة تصهر الشعب وتمنحه الثقة بقوته التي أُهدرت عقود طويلة تحت حكم الأتراك والمماليك حتى جاءت ثورة القاهرة الثانية فى مارس 1800 واستمرت شهر كامل. ولم تهنأ الحملة ببقائها فى مصر وظلت تنزف تحت ضربات الإنجليز والأتراك والمقاومة المصرية حتى الجلاء فى 1801. أما المجمع العلمي فقد حقق أسمى انتصاراته بتأليفه للكتاب الرائع وصف مصر .