ثورة يوليو والديمقراطية (1952 – 1954)

أُريق حبر كثير حول علاقة ضباط يوليو بالديمقراطية. وأُثيرت تساؤلات حول أولوية الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية على الديمقراطية السياسية، وحول حقيقة ديمقراطية المَلكية والاستعمار السابقة على يوليو. وطرحت هذه التساؤلات، بدورها، أسئلة أخرى، أكثر أساسية، حول طبيعة الديمقراطية، وعلاقتها بالصراع الاجتماعي، وصلتها بالاشتراكية.
في الذكرى الخامسة والخمسين ليوليو 52 أقدم في هذه الدراسة القصيرة قراءة لعلاقة ثورة يوليو بالديمقراطية، مركزة على المرحلة الحاسمة من 52 إلى 54، في محاولة للكشف عن طبيعة الصراع الذي أفضى إلى خلق تعارض (وهمي) بين الإصلاح الاجتماعي والديمقراطية السياسية، وأدى، من ضمن ما أدى، إلى استقرار حكم السلطة الناصرية لمدة تزيد على عقد من الزمان.
وربما يكون من المفيد الإشارة هنا إلى أن أحد الأهداف الضمنية لهذه الدراسة هو إلقاء الضوء على إشكالية “الديمقراطية والصراع الطبقي” كدرس لنا في معركتنا من أجل التحرر الديمقراطي. ففي السنوات الأخيرة فرضت الأحداث مناقشة موسّعة حول العلاقة بين الديمقراطية وكل من الإمبريالية والتحرر الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما كشف أن إشكاليات الماضي لازالت حية بيننا، وأن هناك حاجة للتذكير بأن النضال الديمقراطي لا يستقيم إلا كأحد جوانب معركة تحرر اجتماعي جماهيري، وأن التحرر الاجتماعي يكون، بالتعريف، نضالا ديمقراطيا، عندما ينطلق كنضال شعبي من أسفل.
مصر عشية يوليو
مرّت عملية استيلاء الضباط الأحرار على السلطة بسهولة لم يتوقعوها هم أنفسهم. وكان ذلك بفعل عوامل عديدة، ربما لم يكن أهمها مهارة الإعداد، بقدر ما كان التحلل الذي اعترى النظام الملكي آنذاك، وعدم قدرة أو رغبة المعارضة التقليدية في ملء الفراغ الناتج عن هذا التحلل.
فقد اتسمت الفترة الممتدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بأزمات عميقة. حيث تراجعت حالة الرواج النسبي الناتجة عن توسع الصناعة المصرية أثناء الحرب. ومن ثم فقد الآلاف من العمال في المعسكرات البريطانية وظائفهم وساءت أوضاع العاملين في المنشآت الصناعية بسبب تعرض الصناعة المصرية لأزمة مع عودة المنافسة العالمية.
وعلى خلفية هذه الأزمة، ومع تبدد الآمال في أن تمنح بريطانيا مصر الاستقلال، تصاعدت الحركة الوطنية، فسادت مصر حركة واسعة من الإضرابات والمظاهرات. لكن قمع النظام وعدم ظهور البديل القادر على تعبئة حركة الجماهير وتصاعد مشكلة فلسطين، أعطوا النظام الملكي الفرصة لاستعادة سيطرته على زمام الأمور. وجاءت حرب 1948، والهزيمة المهينة التي لاقتها الجيوش العربية، وإقامة دولة إسرائيل على 80% من مساحة فلسطين، لتضيف مزيدا من السخط الذي كان إيذانا بانبعاث الحركة الوطنية من جديد.
من هنا شهدت الفترة من 1950 إلى 1952 تصاعدا كبيرا في الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية في منطقة قناة السويس، ونموا في الوعي الجماهيري الذي تُرجم إلى تصاعد في حركة الإضرابات العمالية بشكل غير مسبوق. وفي نفس الفترة، وتحديدا في عام 1951، وقعت عدة انتفاضات فلاحية في أراضي كبار الملاك، خاصة في الأراضي المملوكة لأمراء العائلة الحاكمة (الأمير محمد على ويوسف كمال)، وللعائلات الوفدية الكبيرة مثل عائلة البدراوي.
لكن تحلّل النظام بلغ ذروته في بداية عام 1952 مع المواجهة بين ضباط الشرطة والجيش البريطاني في الإسماعيلية التي تبعها في اليوم التالي حريق القاهرة (26 يناير).
في تلك الأثناء كانت الفرصة سانحة لحزب الوفد، أكثر الأحزاب شعبية، للإطاحة بالملك، إلا أنه لم يكن راغبا في السير في هذا الطريق بالنظر إلى سيطرة النزعة المحافظة عليه. حيث كان يرى أن الدور الرئيسي للجماهير هو التغيير عبر صناديق الاقتراع. وكان ذلك راجعا إلى تأثير كبار الملاك الطاغي على الحزب، وهو ما يفسر عزوفه عن إجراء أي نوع من الإصلاح الزراعي، بالرغم من أن حتى الأمريكيين كانوا يؤيدونه باعتباره ضرورة من أجل منع حدوث ثورة.
أما الإخوان المسلمين، فبالرغم من التأييد الواسع الذي كانوا يحظون به، إلا أنه لم يكن مطروحا لديهم ولا متسقا مع رؤيتهم فكرة تعبئة الجماهير للقيام بثورة لتقويض أركان النظام القائم، لأن ذلك كان يعني الدخول في مغامرة غير مأمونة العواقب، ويهدد بحدوث حرب أهلية تعد من وجهة نظرهم مرادفا للفوضى وخطرا على “وحدة الأمة”.
وأخيرا كان هناك الشيوعيون. وهؤلاء كانوا محدودي التأثير الجماهيري مقارنة بالوفد والإخوان. ولكنهم أيضا، وهذا هو وجه المفارقة، كانوا في، أفضل الحالات، مترددين إزاء فكرة العمل المستقل لتعبئة الجماهير، وكان أقصى ما يطمحون إليه هو الدخول في جبهة مع الحركات المعارضة وعلى رأسها الوفد، وذلك بتأثير الاستراتيجية الستالينية القائمة على نظرية الثورة على مراحل المسيطرة على توجهاتهم.
الضباط الأحرار والسلطة
بالنظر إلى هذا الوضع، كان تنظيم الضباط الأحرار الذي شُكل عام 1949 هو القوة المنظمة الوحيدة التي لديها القدرة والرغبة في وضع نهاية للنظام الملكي. فبحلول منتصف الأربعينات كانت قد تكونت فئة جديدة واسعة من ضباط الجيش المصريين الصغار غير المنتمين للطبقات الحاكمة. وكان هؤلاء يدركون إلى أي حد يقف الاستعمار عقبة في طريق طموحاتهم الوطنية والطبقية. فاستمرار مصر تحت الاحتلال يعني استحالة وجود جيش قوي قادر على القيام بمهامه الوطنية. ومن ناحية أخرى، فإن فرص الترقي والصعود الطبقي لدى هؤلاء الضباط ظلت مغلقة لأن الجيش بأكمله كان خاضعا لسيطرة الاستعمار البريطاني.
من هنا نجح تنظيم الضباط الأحرار في جذب عشرات من صغار الضباط. وقد بنى التنظيم رؤيته للتغيير على أساس من الشك العميق في النظام الحزبي الذي كان سائدا قبيل يوليو 52، باعتباره أثبت فشله في تحقيق مهمة التحرر الوطني وفي إنجاز عملية التحديث عبر التوسع في التصنيع، وباعتباره، وهذا هو الأهم، قائما على الانتهازية والتلاعب بالمصالح. ومن ناحية أخرى، لم يكن الضباط بوسعهم الاعتماد على الجماهير. فهم بحكم طبيعتهم كطبقة وسطى عسكرية كانوا غير واثقين، بل ومعادين، لحركة الجماهير التي كانت تعني بالنسبة لهم الانزلاق إلى فوضى لا تُحمد عقباها.
الكثيرون يتفقون على أن الضباط الأحرار لم تكن لديهم رؤية محددة اجتماعيا أو سياسيا عند قيامهم بالإطاحة بالملك. غير أنه مع ذلك كان لدى الضباط منذ البداية ميل مناهض للديمقراطية. لأنه طالما ظل البديل الجماهيري غير مطروح، فإن الديمقراطية كانت تعني العودة إلى النظام الحزبي الفاشل.
وكان طبيعيا بعد أن أصبح هؤلاء في السلطة، في الوقت الذي يعادون فيه الأحزاب التقليدية وحركة الجماهير، أن تتبلور لهم مصالح مستقلة. فقد وجدوا أمامهم آفاقا للصعود لم تكن مطروحة قبل ذلك. وغدا واضحا بعد مرور أسابيع قليلة، أن هناك خيارين أمامهم. فإما العمل على استكمال الطريق الذي بدأوه وتولي قيادة حكم مصر، وإما تسليم السلطة للمدنيين، وهو ما كان يعني العودة إلى الثكنات. وكان طبيعيا أن يحسم غالبية الضباط أمرهم سريعا في اتجاه الخيار الأول.
وقد بدأت الإجراءات الفعلية نحو السيطرة على الحكم في 11 أغسطس، حينما أصدر مجلس القيادة بيانا يطالب فيه الأحزاب بالتطهير، وهو ما كان يعني عمليا تدخل الضباط في مقدرات الأحزاب. وفي 7 سبتمبر اتخذ الضباط خطوة جديدة بإقالة علي ماهر – الذي ترأس الوزارة لمدة 47 يوما – وتعيين محمد نجيب رئيسا للوزراء ووزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة. وبعد ذلك بيومين صدر قانون تنظيم الأحزاب الذي ألزم من يرغب في تكوين حزب بإخطار وزير الداخلية الذي أُعطي الحق في الاعتراض على تشكيل الحزب في غضون شهر من الإخطار.
عقبات أمام حكم الضباط
لم يكن الطريق أمام الضباط الأحرار ممهدا لحكم مصر. فبادئ ذي بدء، لم تكن الإطاحة بالملك لتنهي الوجود الاستعماري في مصر. فبالرغم من أن الاحتلال البريطاني اتخذ موقفا حياديا إزاء حركة الضباط – بتأثير من الولايات المتحدة – إلا أنه ظل لبريطانيا 75 ألف جندي في قناة السويس.
على صعيد آخر، لم يكن لدى العسكريين قاعدة جماهيرية يمكن أن يستندوا إليها رغم التأييد الذي حظوا به عندما قاموا بخلع الملك. لذلك اتخذ الضباط الأحرار إجراءات أهمها قانون الإصلاح الزراعي وقانون الاستثمار الأجنبي. فقد حدد قانون الإصلاح الزراعي، الصادر فور تولي محمد نجيب رئاسة الوزراء في سبتمبر 1952، الحد الأقصى للملكية بـ200 فدان للفرد و300 فدان للأسرة. وفي حقيقة الأمر، كان هذا الإصلاح الزراعي محدودا. حيث أنه لم يستهدف سوى من هم على رأس طبقة كبار الملاك. لكن مع ذلك، كان الهدف من القانون هو توجيه ضربة للشريحة العليا من كبار الملاك، وتحويل الاستثمارات المجمدة في الأراضي الزراعية إلى الصناعة، إضافة إلى اكتساب قدر من التأييد الجماهيري. أما قانون الاستثمار الأجنبي، فقد رفع نسبة مساهمة رأس المال الأجنبي في الشركات المصرية إلى 51% بعد أن كانت 49%. وكان هذا القانون يستهدف تشجيع الاستثمارات الأجنبية والأمريكية بشكل خاص.
لكن التحدي الأساسي الذي برز أمام الضباط في تلك المرحلة، والذي بدا معوقا لطموحاتهم في الحكم، كان الحركة الجماهيرية التي نمت خلال الأعوام السابقة. وكانت القوى الثلاث التي وقفت في طريق الضباط هي أحزاب المعارضة والقوى السياسية الأخرى واتحادات العمال.
في البداية سعى الضباط إلى مواجهة حزب الوفد، أكثر الأحزاب شعبية، عن طريق التحالف مع الحزب الوطني الذي اعتمد في نشاطه على العمليات الإرهابية ولم يكن له تأثير جماهيري. ثم جاء بعد ذلك إلزام الأحزاب بالتطهير الذي أحدث انشقاقات بين قيادات الوفد. وبعد تولي محمد نجيب رئاسة الوزراء تم القبض على زعماء الأحزاب، وعلى رأسهم فؤاد سراج الدين، قبل أن يصدر قانون إعادة تنظيم الأحزاب السياسية.
أما الوفد من جانبه، فلم يكن بوسعه سوى السعي للعمل في إطار النظام الجديد، طالما أن تعبئة الجماهير من أسفل لم تكن خيارا مطروحا لديه. لكن هذا لم يقيه من ضربات النظام. فقد كان مجلس القيادة يدرك أن الضباط غير قادرين على الاستمرار في الحكم إذا سارت البلاد في الطريق البرلماني، لأنه لم تكن لديهم درجة من التأييد الجماهيري يمكن الاعتماد عليها في حالة إجراء انتخابات يتنافس خلالها الأحزاب. وفي هذا السياق تم في ديسمبر 1952 الغاء دستور 23 الذي يمثل أساس النظام البرلماني، وصدر قانون حل الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها في 16 يناير 1953. وفي اليوم التالي أُعلن رسميا تشكيل “مجلس قيادة الثورة”. وفي 23 يناير أُعلن تشكيل “هيئة التحرير” باعتبارها الحزب الوحيد المسموح به. ورغم أن هيئة التحرير كانت بمثابة هيكل بلا مضمون، فأنها قد لعبت دورا مهما إلى جانب عبد الناصر في أزمة مارس 1954.
وفي 10 فبراير 1953 صدر دستور مؤقت حُكمت مصر وفقا له خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات. وعبّر الدستور المؤقت بوضوح عن إحكام الضباط الأحرار قبضتهم على الحياة السياسية. حيث قضى بأن تكون أعمال السيادة العامة لمجلس قيادة الثورة الذي أصبح مخولا بتولي السلطتين التشريعية والتنفيذية معا متمتعا بحق تعيين وعزل الوزراء.
وفي سبتمبر 1953 بدأت وقائع ما عرف بمحكمة الثورة والتي كانت موجهة أساسا ضد الأحزاب وفي مقدمتها الوفد الذي حوكم كل أعضائه دون الخامسة والستين، وألقي بالعديد منهم في السجون.
أما القوة الثانية المهمة فقد كانت الإخوان المسلمين الذين ربطتهم علاقة وثيقة بالضباط الأحرار قبل 23 يوليو. فعندما انتصرت الحركة اعتبر الإخوان ذلك انتصارا لهم.
وخلال الأشهر التالية استمرت العلاقة الودية بين الضباط والجماعة. حيث تم الإفراج عن عدد من الإخوان المحكوم عليهم في قضايا اغتيالات. وعندما صدر قانون تنظيم الأحزاب سعى عبد الناصر إلى استثناء الإخوان وإيجاد مخرج لهم باعتبارهم كانوا من أكبر أعوان الحركة. وكانت النتيجة أن جرى تعديل إخطار التأسيس الذي تقدمت به الجماعة بشكل يبعدها عن مجال الأحزاب.
غير أن هذه الحالة لم تستمر طويلا. حيث أراد الإخوان أن يكون لهم دور في الحكم يقوم على نوع من الشراكة، وهو ما رفضه الضباط بحسم. فمنذ بداية عام 1953 وحتى مارس 1954 مرت العلاقة بين الضباط والجماعة بعدة منعطفات. حيث سعى الضباط، وعبد الناصر بشكل خاص، إلى جذب جناح في الجماعة بزعامة رئيس الجهاز السري عبد الرحمن السندي ضد الجناح الذي يتزعمه الهضيبي والذي كان يرى اتخاذ موقف متحفظ من نظام الضباط. وكانت نتيجة هذا النزاع إقصاء جناح السندي الذي أُبعد عن رئاسة الجهاز السري. ونشط الإخوان في جذب عدد من ضباط الجيش والبوليس، وسعوا إلى الاتصال بمحمد نجيب عندما شعروا ببوادر الخلاف بينه وبين عبد الناصر.
استمر التوتر بين الجانبين إلى أن تفجر الموقف في 12 يناير 1954 في احتفال الجامعة بذكرى شهداء معركة القناة، حينما وقعت اشتباكات بين طلبة الإخوان والطلبة الآخرين بسبب استضافة الإخوان لزعيم جماعة إسلامية إيرانية. ورد مجلس قيادة الثورة على ذلك بإصدار قرار في 14 يناير بحل الجماعة، وهو القرار الذي صوت ضده محمد نجيب وحده. وأصدر المجلس بيانا يتهم فيه الجماعة بالسعي للوصاية على الحركة وتجنيد رجال من الجيش والشرطة وإجراء اتصالات مع السفارة البريطانية. واقترن صدور البيان باعتقال الهضيبي و450 عضوا من الجماعة.
ومن جانبها، لعبت الجماعة دورا أساسيا في المظاهرات التي اندلعت في فبراير 1954 للمطالبة بعودة نجيب. لكن عبد الناصر استطاع تحييدهم في أزمة مارس، حيث أفرج عن المعتقلين وقام بمقابلة الهضيبي بعد الإفراج عنه، وحدث نوع من الاتفاق على حياد الجماعة في نزاع مارس 1954 بين عبد الناصر ونجيب. واستمرت العلاقات هادئة بين الجانبين حتى وقوع حادث المنشية في أكتوبر من نفس العام، حينما اتخذت العلاقة بين الطرفين شكلا دمويا.
القوة الثالثة التي كانت أقل نفوذا من الوفد والإخوان بشكل نوعي هي “الشيوعيون”. قبل 23 يوليو أقام الضباط الأحرار علاقة وثيقة مع تنظيم حدتو عن طريق يوسف صدّيق وخالد محيي الدين. وكانت منشورات الضباط الأحرار يتم طبعها في مطبعة التنظيم. وعندما علم التنظيم بأن قوات الجيش ستقوم بالإطاحة بالملك، أعد منشورات لتأييد حركة الضباط التي قامت من جانبها بالإفراج عن المعتقلين السياسيين باستثناء 17 من الشيوعيين.
وعند اتخاذ قرار بالعفو عن المتهمين في جرائم سياسية تم استثناء الشيوعيين بدعوى أن جرائم الشيوعيين موجهة ضد النظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة. وعندما وقع إضراب كفر الدوار في أغسطس 1952 وأعدم على أثره مصطفى خميس ومحمد البقري، قوبل ذلك بإدانة عالمية واسعة وسبب حرجا شديدا لحدتو. لكن ذلك لم يؤد إلى تراجعها عن التعاون مع الحركة. حيث حمّلت عملاء الإمبريالية مسئولية الوقيعة بين الثورة والعمال.
وفي بداية عام 1953، تم اعتقال عشرات الشيوعيين وصودرت الجرائد والمجلات اليسارية. وفقدت حدتو جانبا من أنصارها لصالح الحزب الشيوعي المصري الذي اتخذ موقف المعارضة من نظام الضباط باعتباره فاشيا. ووقف تنظيم طليعة العمال من النظام موقفا معاديا واصفا إياه بأنه ديكتاتورية عسكرية.
وإزاء تصاعد القمع الذي طال كافة القوى السياسية، تحالف الشيوعيون والوفد والحزب الاشتراكي والإخوان المسلمون في تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية التي طالبت بعودة الجيش إلى الثكنات واستعادة الحياة النيابية وتأمين حقوق التنظيم السياسي والنقابي للطبقات الشعبية، وتكوين علاقات مع الدول في مواجهة بريطانيا. ووقفت الجبهة موقفا معارضا من المفاوضات بين النظام والبريطانيين بشأن الجلاء. حيث عارضت اتفاقا كان الجانبان على وشك التوصل إليه يقوم على بقاء عشرة آلاف خبير بريطاني في القاعدة العسكرية البريطانية في منطقة القناة. وتم القبض على عديد من أعضاء الجبهة في نوفمبر 1953. وفي نهاية العام، أعتقل معظم قيادات التنظيمات الشيوعية وعديد من أعضائها. وفي مارس 1954، قُبض على عشرات الشيوعيين.
إضافة إلى ذلك، كانت النقابات العمالية تمثل تحديا مهما أمام سيطرة الضباط على مقاليد الأمور. وقد كانت الخطوة الأولى في مساعي النظام للسيطرة على نشاط النقابات في أغسطس 1952، عندما أضرب نحو عشرة آلاف عامل في شركة مصر للغزل والنسيج الرفيع في كفر الدوار، مطالبين برفع الأجور وانتخاب نقابة تعبر عن العمال. فاتخذ النظام موقفا حاسما في قمع الإضراب. حيث حوصر المصنع بالدبابات وأطلقت قوات الشرطة النار على العمال وتم القبض على نحو 500 عامل وأعدم اثنان منهم بعد محاكمة صورية. وقد بدا أن النظام بالطريقة التي تعامل بها مع الإضراب كان يرغب في تحقيق عدة أهداف. فمن جهة، كان يريد إبلاغ الحركة العمالية أنه لن يتسامح مع أية أعمال يرى فيها إخلالا باستقراره. ومن جهة أخرى، كان يريد أن يطمئن رأس المال المحلي والعالمي إلى أن النظام الجديد ليس له شبهة الانتماء لليسار، وأنه يقف إلى جانب رأس المال.
وفي إطار سعي النظام إلى السيطرة على النقابات، تم تقويض النقابات المستقلة والعمل على إحلالها بنقابات موالية للنظام. وساعد على ذلك أن أعدادا كبيرة من الشيوعيين والقادة النقابيين كانوا في السجون. ثم كان إقرار قانون التوفيق في منازعات العمال الذي دشن مبدأ منع الفصل التعسفي بسبب النشاط النقابي، لكنه حرم العمال من حق الإضراب أو الامتناع عن العمل بأي شكل. وكان الرأي السائد داخل مجلس القيادة هو أن رأس المال الأجنبي يحتاج إلى الضغط على العمال من أجل تشجيع الاستثمار وتحقيق الاستقرار.
انقسام الضباط
ظهر الانقسام داخل قيادة الضباط الأحرار منذ الأسابيع الأولى لتوليهم الحكم. وعلى مدى نحو عامين، تصاعد هذا الانقسام حتى بلغ ذروته في مارس 1954. ففي البداية، أفصح الانقسام عن نفسه في الخلاف داخل مجلس القيادة بين يوسف صدّيق وخالد محيي الدين من جهة، وباقي أعضاء المجلس من جهة أخرى. فقد كان التوجه الماركسي لصدّيق ومحيي الدين، متناقضا مع توجهات باقي أعضاء مجلس القيادة فيما يتعلق بالموقف من العمال وقضية الديمقراطية.
وكان الخلاف الأول يتعلق بموقف الضباط من إضراب كفر الدوار. حيث عارض صدّيق ومحيي الدين الطريقة التي تعامل بها الضباط مع الإضراب معارضة شديدة، ووقفا مع دعوة البرلمان للانعقاد وضد الاعتقالات وحل الدستور.
وتطور الخلاف في يناير 1953 مع أزمة سلاح المدفعية. فقد بدأ صغار الضباط يرفضون الشللية وبعض السلوكيات الشخصية السلبية لمجلس القيادة. واستقر الرأي لدى ضباط سلاح المدفعية على أن يكون تمثيل الجيش في مجلس القيادة عن طريق الانتخاب. وكان رد فعل مجلس القيادة هو مواجهة هذا المطلب الخطير بالقوة. فتم اعتقال 35 ضابطا من ضباط المدفعية، مما دفع صدّيق إلى الاستقالة من المجلس.
وأثناء البحث في إقرار قانون التحكيم الذي أعطى في صيغته الأولى الحق المطلق لصاحب العمل في فصل العامل، أراد محيي الدين أن يقدم استقالته لكن عبد الناصر أقنعه بالعدول عنها في مقابل الوعد بإعادة النظر في القانون. وظل محيي الدين في موقف المعارض لقرارات المجلس خلال الفترة التالية حتى أزمة 1954 حينما تم إقصاؤه نهائيا.
غير أنه خلال الأشهر التالية، برز نزاع أكثر حدة بين أعضاء المجلس بزعامة عبد الناصر من جهة ومحمد نجيب من جهة أخرى. ومن الشائع في العديد من الكتابات التي تتناول هذه الفترة، أن يجري تصوير النزاع بين عبد الناصر ونجيب باعتباره نزاعا بين عدو الديمقراطية وبين نصيرها. غير أن ذلك التصور يبدو بعيدا عن الطبيعة الحقيقية للنزاع، لأنه يصعب وصف محمد نجيب بأنه كان مدافعا عن الديمقراطية، فهو الذي صدّق على الحكم بإعدام خميس والبقري وقانون تنظيم الأحزاب ومرسوم حل الأحزاب وإلغاء دستور 1923.
ويصعب فهم الدوافع الحقيقة للخلاف بين عبد الناصر ونجيب دون فهم تطورات الصراع الطبقي في تلك الفترة. فقد كان محمد نجيب هو الوحيد من المرتبطين بالضباط الأحرار الذي يحمل رتبة لواء. وحينما نجحت الحركة، أصبح الصف الأول من الضباط في رتبة المقدم. حيث جرى خلال الأسابيع الأولى إحالة نحو 500 من كبار الضباط إلى التقاعد، فخرج كل من كان يحمل رتبة فريق أو لواء أو عميد (عدا اثنين). ومقارنة بأعضاء الضباط الأحرار، الذي كان معظمهم لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، كان اختيار اللواء نجيب قائدا لمجلس القيادة لأنه يمثل وجها مقبولا ويعطي وزنا للحركة، باعتباره كان من معارضي النظام السابق والرئيس المنتخب لمجلس إدارة نادي الضباط. لكن بعد مرور أشهر قليلة، ومع تصاعد النزاع بين النظام والمعارضة بمختلف أطيافها، بدأ يظهر شيئا فشيئا اختلاف التوجهات بين أعضاء مجلس القيادة وبين نجيب. وهو ما عكس صراعا داخل الطبقة الحاكمة بين من يرى أن الخلاص من الأزمة التي تواجهها مصر يكمن في تطوير النظام البرلماني القديم، ومن يرى أن الحل يرتكز على التخلص من هذا النظام كلية.
وفي هذا السياق يمكن اقتفاء أثر الخلفيات التي جاء منها كل من الفصيلين على المواقف التي اتخذها كل منهما. فقد كانت الحركة كما سبق القول هي حركة صغار الضباط التي لها مشروعها الخاص والتي نشأت في ظل تحلل نظام الديمقراطية البرلمانية، ومن ثم لم يكن لديها أية ثقة في هذا النظام. وكان نجيب بدورة ينتمي لجيل آخر، ولا تقتصر المسألة على أنه لا يحمل مشروع صغار الضباط ولكن أيضا لأنه من جيل اعتبر البرلمانية هي الطريق الأمثل للحكم، ورأى الدور الأساسي للمؤسسة العسكرية في مسألة الأمن والدفاع، بعيدا عن السياسة.
استطاع نجيب أن يحظى بجماهيرية واسعة، على عكس باقي أعضاء قيادة الضباط الأحرار الذي نُظر إليهم في كثير من الأحيان كمتآمرين ومعادين للديمقراطية. وفي غضون أشهر قليلة، برز توجه مجلس قيادة الثورة بقيادة عبد الناصر إلى اتخاذ الخطوة تلو الأخرى لأجل السيطرة على مقاليد الأمور. فأصبحت تعقد بعض اجتماعات المجلس دون حضوره واتخذ المجلس قرارا بإعطاء صلاحيات سلطته إلى عبد الناصر في حالة عدم انعقاده. وبدا آنذاك أن نجيب مجرد رمز وليس فاعلا في اتخاذ القرار. ومن ثم سعى إلى موطن القوة لديه وهو التأييد الجماهيري في مواجهة الجناح المناوئ له، الذي كان يعتمد أساسا على القمع والمناورات في التعامل مع المعارضة. ومن هنا أصبحت مسألة الديمقراطية هي عنوان الصراع.
أزمة مارس
كانت أزمة مارس المحطة الأخيرة في الصراع حول كيف يمكن أن تُحكم مصر. بدأت الأزمة في 24 فبراير 1954 حينما قرر نجيب الاستقالة من رئاسة مجلس قيادة الثورة. في اليوم التالي، أعلن مجلس القيادة تعيين عبد الناصر رئيسا للوزراء واستقالة نجيب من جميع مناصبه. وقوبل هذا الإعلان برفض سلاح الفرسان الذي كان لخالد محيي الدين تأثير قوي فيه. ودعا ضباط السلاح إلى اجتماع عام حضره عبد الناصر الذي فوجئ بمدى عمق الكراهية لمجلس قيادة الثورة. وبعد استشارة المجلس عاد عبد الناصر لضباط الفرسان وأعلن أن المجلس وافق على حل مجلس قيادة الثورة وعودة محمد نجيب رئيسا لجمهورية برلمانية وقيام خالد محيي الدين بتشكيل حكومة انتقالية لمدة ستة أشهر تقوم خلالها بإجراء انتخابات لجمعية تشريعية تضع دستورا دائما.
ويعتبر كثير ممن كتبوا عن هذه الأزمة أن عبد الناصر أقنع خالد محيي الدين بقبول منصب رئيس الوزراء حتى يؤلب الأسلحة الأخرى التي رأت في هذا الإجراء “انقلابا شيوعيا بقيادة سلاح الفرسان”. وهو ما حدث بالفعل، حيث حاصرت عناصر من سلاح المدفعية دبابات سلاح الفرسان وكاد أن يحدث صدام مسلح بين الجانبين. وتم اعتقال عدد من ضباط سلاح الفرسان مما جعل ضباطا من السلاح يهددون بتوجيه مدافع دباباتهم المحاصرة نحو مجلس قيادة الثورة إذا لم يتم الإفراج عن الضباط المعتقلين.
وفي تلك الأثناء كانت المظاهرات تتسع في شوارع القاهرة وفي الجامعات مطالبة بعودة نجيب وسجن عبد الناصر وصلاح سالم. وقد شاركت الأحزاب والقوى التي سعى النظام إلى تصفيتها خلال الفترة السابقة، وأهمها الوفد والإخوان والشيوعيون، في هذه الحركة بكل ما أوتيت من قوة. وانتهت الأزمة مؤقتا باتخاذ عبد الناصر قرارا – بناء على تفويض من مجلس قيادة الثورة – بعودة نجيب رئيسا للجمهورية. وقد قوبل نجيب بمظاهرات تأييد حاشدة آنذاك.
غير أن هذا التطور لم يحسم النزاع. فقد قامت قوات الشرطة باعتقال العشرات في أيام المظاهرات المطالبة بعودة نجيب والأيام التالية لعودته للحكم. وطالب نجيب بإطلاق سراح المعتقلين والتحقيق في وقائع الاعتداء على المتظاهرين. وإزاء الزخم الذي حظيت به الحركة المطالبة بالديمقراطية، اجتمع مجلس قيادة الثورة في 5 مارس وقرر اتخاذ الإجراءات فورا لعقد جمعية تأسيسية منتخبة بطريق الاقتراع المباشر على أن تجتمع خلال يوليو من نفس العام بهدف مناقشة مشروع الدستور الجديد. وقرر المجلس إلغاء الرقابة على الصحف وإلغاء الأحكام العرفية قبل إجراء الانتخابات البرلمانية.
غير أن تلك الإجراءات أيضا لم تكن نهاية المطاف في الصراع. حيث سعى كل طرف خلال الأسابيع القليلة التالية إلى تأكيد سلطته في مواجهة الآخر. فقد اعتمد نجيب على التأييد الشعبي الواسع وظل يعقد اللقاءات الجماهيرية ويتصل بالنقابات المهنية والأحزاب والقوى المطالبة بالديمقراطية. ومن أجل تعزيز قوته في مواجهة الخصوم، دعا نجيب إلى طرح رئاسته للاستفتاء الشعبي.
واتخذ مجلس قيادة الثورة طريقا آخر، هو العمل على استمالة الضباط وتهدئة الخلافات التي نشبت في الفترة السابقة من جهة، ومحاولة تأسيس حزب جديد يعبر عن المجلس من جهة أخرى. لكن السياسيين من الأحزاب والقوى السياسية الذين أعلنوا من قبل استعدادهم للتعاون مع مجلس قيادة الثورة حينما كانت أحزابهم تتعرض للإقصاء، تراجعوا عن ذلك وعادوا للارتباط بأحزابهم. في الوقت نفسه كان الاتجاه الغالب لدى القوى المطالبة بالديمقراطية هو تصفية حركة الجيش وخروجه كليةً من الحياة السياسية بالعودة إلى الثكنات. وهنا ظهر مجددا لجناح عبد الناصر أن عودة البرلمانية تعني نهاية دور العسكريين.
ومع إزالة الرقابة على الصحف ورفع القيود على النشاط السياسي، ونجاح نجيب في استعادة قدر كبير من سلطاته، تسارعت وتيرة النزاع بين المطالبين بالديمقراطية والمعادين لها. واجتمع مجلس قيادة الثورة في 25 مارس وشهد مناقشة عاصفة بين عبد اللطيف البغدادي، الذي طالب بإلغاء قرارات 5 مارس، وخالد محيي الدين الذي تمسك بهذه القرارات. وكان رد فعل عبد الناصر أن حوّل النقاش إلى مسار آخر وهو إما الاستمرار في الخط الذي سارت عليه الثورة في العامين السابقين أو تصفية الثورة. وتم حسم الموقف بصدور ما عرف بقرارات 25 مارس وتضمنت السماح بقيام الأحزاب وحل مجلس قيادة الثورة في 24 يوليو يوم انعقاد البرلمان المرتقب وعدم السماح للمجلس بتشكيل حزب. وصوت لصالح هذه القرارات ثمانية أعضاء منهم عبد الناصر، بينما عارضها صلاح وجمال سالم وعبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم.
غير أن هذا الاقتراح المريب من عبد الناصر كان يشير إلى أنه يجري التدبير لشيء ما خلال الأيام التالية. وفور إعلان القرارات، تم الإفراج عن المعتقلين، وخاصة الإخوان المسلمين ومرشدهم العام، الذي زاره عبد الناصر في منزله فور الإفراج عنه. وكانت هذه الزيارة حاسمة في تغيير موقف الإخوان، حيث سمح لهم باستئناف نشاطهم في مقابل اتخاذ موقف الحياد من الأزمة. وبدا ذلك طبيعيا لأن الإخوان كانوا يدركون أن عودة الحياة البرلمانية تعني حرية النشاط لأعدائهم التقليديين وعلى رأسهم الوفد. لكن يبدو أن ما لم يدركوه هو أن النظام كان غير مستعد لتحمل أي نوع من المعارضة الحقيقية، وأن هذا النظام إذا نجح في القضاء على كافة القوى الديمقراطية فمن المحتم أن ينقلب على الإخوان، الذين لن يكون التأييد الجماهيري الذي يحظون به وحده قادرا على حمايتهم.
عندما ذهب حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة إلى هيئة التحرير وأبلغ سكرتيرها إبراهيم الطحاوي بقرارات المجلس، رفض الأخير هذه القرارات وقال أن ذلك معناه دخول الضباط إلى السجن. وكان هذا الرأي يعبر عن توجه الكثير من ضباط الصف الثاني الملتفين حول مجلس قيادة الثورة. فقد اتخذت غالبية هؤلاء موقفا معارضا للديمقراطية، وكانوا وراء وقف تعيين خالد محيي الدين، وقاموا بالتنكيل بالمعارضة وقمع المطالبين بالديمقراطية، ووقفوا ضد مطالب سلاح الفرسان.
هنا تجدر الإشارة إلى عامل آخر رغم أنه يعتبر ثانويا إلى حد ما، لكن يصعب إغفال أثره على مواقف الضباط. فخلال نحو عامين وجد هؤلاء الضباط فرصا للتمتع بمزايا غير مسبوقة، سواء عبر المشاركة في إدارة الوزارات، أو عبر الانزلاق إلى الشللية كأتباع لهذا القائد أو ذاك. لذلك، فبشكل عام، كان الاتجاه الغالب لدى هؤلاء الضباط هو رفض العودة إلى الثكنات، ليس فقط خوفا من المحاسبة، ولكن أيضاً حرصا على الحفاظ على الوضع الجديد المتميز. وقد عبر الطحاوي عن هذه المخاوف في قوله عندما علم بقرارات 25 مارس أن الثورة ليست جمال عبد الناصر وأنه إذا انسحب عبد الناصر لن ينسحب الضباط لأنهم يعرفون أنهم معرضون ومكشوفون ورجوع العهد القديم يقضي عليهم.
عقب صدور قرارات 25 مارس رتب الطحاوي مع صاوي محمد صاوي سكرتير عام اتحاد عمال النقل القيام باعتصام بزعم خوف العمال من فقدانهم مكاسب الثورة بشأن منع الفصل التعسفي. وساندت هيئة التحرير هذا التوجه. حيث قام الصاغ (الرائد) أحمد طعيمة ممثل النقابات في هيئة التحرير بالاتصال بالنقابات لدعوتها للاعتصام دفاعا عن الثورة. وقام أبناء اتحاد نقابات الصعيد بشل حركة المواصلات، ونزلوا إلى الشارع في مظاهرات تطالب بسقوط الحرية في 28 مارس. واشتركت قوات الحرس الوطني وهيئة التحرير في المظاهرات. وقام جنود البوليس الحربي بارتداء ملابس مدنية وشاركوا في المظاهرات.
وعلى الجانب الآخر، اجتمع مجلس نقابة الصحفيين في 25 مارس واتخذ قرارات طالب فيها بإلغاء الأحكام العرفية فورا وزوال الآثار المترتبة عليها والإفراج عن المعتقلين. وفي نفس اليوم، عقد المحامون جمعية عمومية غير عادية وأدانوا تنكيل ضباط البوليس بزملائهم. واتخذوا قرارا بالإضراب في 28 مارس احتجاجا على الاعتداء على المسجونين والمعتقلين. وفي نفس اليوم أيضا، عقد طلاب جامعة القاهرة مؤتمرا أعلنوا فيه تشكيل جبهة الاتحاد الوطني من الطلبة المنتمين إلى الوفد والشيوعيين والحزب الاشتراكي والإخوان، وطالبوا بإلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين وإلغاء مجلس قيادة الثورة فورا وتشكيل حكومة ائتلافية تجري انتخابات.
وفي مواجهة حركة عمال النقل، قامت حركة عمالية مضادة تطالب بالديمقراطية وعودة الجيش إلى الثكنات. فقد سارت مظاهرات مؤيدة للديمقراطية في شبرا، ضمت عمال شبرا الخيمة. وقامت مظاهرات من عمال شركات الأسمنت والحرير في حلوان تأييدا لمحمد نجيب. ورفض عمال الترام دعوة نقابة عمال النقل للإضراب، وهو ما أدى بمجموعات من المتظاهرين، بينهم عناصر بوليسية وعمالية، إلى إيقاف حركة الترام بالقوة. وعندما فوجئت العديد من النقابات المؤيدة للديمقراطية ببيان إذاعي يدرج أسماءها ضمن النقابات المؤيدة لـ”استمرار الثورة” أرسلت بيانات تكذيب واستنكار لما نسب إليها. وأصدرت الجمعيات العمومية لجميع نقابات عمال الإسكندرية قرارات بحل مجلس قيادة الثورة وإلغاء الأحكام العرفية. وأصدرت نقابات عمال مصر مجتمعة بيانا رفعته إلى رئيس الجمهورية بتأييد قرارات 25 مارس. ووقع على هذا البيان عشرات النقابات في القاهرة والإسكندرية.
غير أن عاملين ساعدا على حسم المعركة لصالح الحركة المضادة للديمقراطية. كان أولهما أن القوى المطالبة بالديمقراطية داخل الجيش وخارجه لم تكن منظمة. بل أن محمد نجيب كان يراهن فقط على شعبيته ولم يسع إلى الترتيب مع أجنحة الجيش المؤيدة للديمقراطية – وهي كانت الأقلية بطبيعة الحال. من ناحية أخرى، كانت خطوات الجناح الآخر بقيادة عبد الناصر على درجة كبيرة من التنظيم. السبب الثاني هو انضمام ضباط الصف الثاني للتوجه الرافض لعودة الجيش للثكنات. فقام الرائد مجدى حسنين بالانحياز التام إلى حركة الاعتصام بقيادة الطحاوي وحرك عمال مديرية التحرير التي كان يديرها إلى القاهرة تأييدا لجناح عبد الناصر. وقام أحمد أنور مدير البوليس الحربي، الذي كان له دور أساسي في التنكيل بالمعارضة، بتدبير حادث الاعتداء على الدكتور السنهوري، رئيس الجمعية العمومية لمجلس الدولة أثناء انعقاد الجمعية، لإجبار مجلس الدولة على إصدار بيان تأييد للثورة.
ونجح هذا الفريق في الدفع لتعميم الإضراب العام في جميع أنحاء البلاد سواء بالمناورة أو الترهيب. وهنا حسمت المعركة لصالح معسكر عبد الناصر. وفي 29 مارس اجتمع مجلس قيادة الثورة وقرر إرجاء قرارات 5 و25 مارس. وفي 15 أبريل، اجتمع المجلس مرة أخرى واتخذ إجراءات لتصفية القوى المضادة تضمنت محاسبة المسئولين عن الفساد السياسي في العهود السابقة، وحرمان بعضهم من الحقوق السياسية، وتطهير الصحافة. وفي نفس اليوم حل مجلس قيادة الثورة مجلس نقابة الصحفيين والمحامين وقرر حرمان كل من تولى الوزارة في الفترة من 6 فبراير 1943 إلى 23 يوليو 1952 من العمل السياسي، وهو القرار الذي شمل قيادة الوفديين والسعديين والأحرار الدستوريين.
ثم توجه النظام إلى الإخوان في أعقاب حادث المنشية في 26 أكتوبر 1954، حينما قام أحد أعضاء الجماعة بإطلاق النار على عبد الناصر، الذي لم يصب، لكنه استغل الحادث للقضاء على قوة الإخوان حيث عقدت محكمة الشعب التي قررت سجن 861 عضوا وإعدام ستة على رأسهم القيادي البارز بالجماعة عبد القادر عودة. وظل نجيب رئيسا للجمهورية بلا سلطات فعلية حتى نوفمبر 1954 حتى تولى عبد الناصر السلطة رسميا.
وكان التحدي الأخير أمام النظام الجديد هو بقاء الاحتلال. فتم توقيع اتفاقية الجلاء في يوليو من نفس العام، التي رغم شروطها المجحفة كانت خطوة مهمة. حيث أنهت وجود القوات البريطانية في مصر. وبعد ذلك بعامين، وبناء على الانتصار الذي حققه نظام يوليو في القضاء على المعارضة، صدر دستور 1956 الذي رسّخ نظام الحزب الواحد وجعل الاستفتاء أساس شرعية الحاكم وأعطى لرئيس الجمهورية صلاحيات فاقت كثيرا الصلاحيات التي كانت معطاه للملك.