بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

خبرات ثورية

سلسلة تاريخ الثورات:

ثورات 1989

نُشر هذا المقال لأول مرة فى 12 نوفمبر 2009، بجريدة العامل الاشتراكى الإلكترونية الامريكية، تصدرها منظمة الاشتراكيين الأمميين بالولايات المتحدة.. ألان ماس يروي قصة المد الثوري الذي اجتاح أوروبا الشرقية في عام 1989.. عن سقوط حائط برلين.

كان سقوط حائط برلين قبل 20 عاماً موجة عارمة من موجات الثورة التي أسقطت الحكومات في نصف أوروبا الشرقي، مع نهاية عام 1989. النظم المستبدة التي كانت تُرى في موقع السيطرة التامة على الشعوب – دول “الأخ الأكبر” البوليسية الشهيرة – راحت تتهاوى بسرعة رهيبة، واحدة تلو الأخرى، عندما خرجت لها الجماهير الغفيرة تطالب بالديمقراطية والعدالة.

كانت الثورات ضد نظم الكتلة الشرقية إحقاقاً لمبدأ هام من مبادئ الاشتراكية: أن لأغلبية الطبقة العاملة في المجتمع القدرة على هزيمة أعتى النظم الحاكمة استبداداً وقمعاً.

لكن ليس هذا هو ما يفكر فيه الناس عندما يعودون بتفكيرهم إلى عام 1989. فالنتيجة التي قدمها لهم الإعلام الغربي والمؤسسة السياسية الغربية هي أن سقوط حائط برلين رمز لفشل الاشتراكية وتفوق الرأسمالية. صور الجماهير من ألمانيا الشرقية وهم يهرولون فوق الحائط أو يكسرون أجزاء منه ترتبط في أذهان أغلب الناس بفكرة أن هؤلاء الناس كانوا في لهفة للهروب من نظام يقول عن نفسه إنه نظام شيوعي.

المدافعون عن الرأسمالية يحتفون عادة بهذا التفسير ويكرسون له. وهناك الكثير من اليسار تكوّن لديهم نفس الانطباع، لكن برد فعل عكسي. فهم يعتقدون أن الثورات ضد النظم في الكتلة الشرقية مدعاة لليأس، وأنها خطوة إلى الوراء، ربما كانت برعاية السي آي أيه، من مجتمعات – بغض النظر عن كمّ ما بها من عيوب – رفضت الرأسمالية على الأقل.

الرأيان بينهما نقطة مشتركة، هي الاعتقاد الخاطئ بأن ما كان في أوروبا الشرقية هو اشتراكية. على النقيض، فإن تلك المجتمعات – مثل الاتحاد السوفيتي بعد صعود جوزيف ستالين، وكانت نظم الكتلة الشرقية تدور في فلكه – كانت تعاني من حكم الأقلية، وكانت تجربة الأغلبية العاملة ليست تجربة حرية وديمقراطية، بل استغلال واضطهاد وتغريب عن أي نوع من أنواع التمكين الاجتماعي أو السياسي.

عندما تنزع الكلمات الرنانة التي كان حُكام الكتلة الشرقية يصفون بها أنفسهم، فلن ترى إلا نُظم تعكس الصفات الأساسية للرأسمالية كما نعرفها من الولايات المتحدة الأمريكية – إذ تُتاح لأقلية صغيرة سيطرة استباقية على ما يحدث في المجتمع، يسيطرون على الموارد المستخدمة ويحددون من يحوز على النصيب الأكبر من الامتيازات والسلطة.

كان بين دول أوروبا الشرقية والرأسمالية الغربية شيء آخر مشترك، وهو الطبقة العاملة التي تحركها تجربة الاستغلال والاضطهاد، مما دفعها للتنظيم والمقاومة. تاريخ النضال والثورات الغني للكتلة الشرقية بدأ بتشكيل الدول التابعة للاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية، واستمر حتى ثورات 1989.

عندما انفجر السد وانهار، تسارعت وتيرة الثورة. في بداية عام 1989 كانت هناك ست بلدان في الكتلة الشرقية متحالفة مع الاتحاد السوفيتي، وهي ألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا، بالإضافة إلى يوغوسلافيا وألبانيا على الأطراف، وإن كانت الأخيرتان تعتبران بدورهما وراء الستار الحديدي.

مع انتهاء عام 1989، أصبح الحُكام الستالينيون خارج دائرة السلطة في جميع الدول التابعة الست. وبعد عام، لم يعد لألمانيا الشرقية وجود، إذ اتحدت بألمانيا الغربية من جديد. وبعد عام آخر، بدأ الاتحاد السوفيتي نفسه في السقوط، متحولاً في نهاية المطاف إلى 15 دولة منفصلة، وبدأت يوغوسلافيا السابقة في الانهيار.

من ثم تعتبر ثورات 1989 نقطة تحول في التاريخ. فهي لم تنتج الاشتراكية – في كل الحالات كان النظام الجديد خطوة نحو شكل مختلف من أشكال الرأسمالية. لكن النضال الشرس من الأسفل الذي أدى أخيراً إلى سقوط النظم الديكتاتورية في أوروبا الشرقية، ما زال حتى يومنا هذا مصدر إلهام.

ولقد كانت ثورات 1989 متجذرة في أزمة اقتصادية انتشرت في شتى أنحاء الكتلة الشرقية ما إن توسع النظام الستاليني متجاوزاً نقطة معينة من النمو.

في الاتحاد السوفيتي نفسه، كان معدل النمو السنوي يتباطئ عقداً بعد عقد، من متوسط سنوي بلغ 5.8 في المائة أثناء الخمسينيات، إلى 3.7 في المائة خلال السبعينيات، ثم 1 في المائة لا أكثر في الثمانينيات. أوروبا الشرقية – التي سارت نظمها على نفس خطى الاتحاد السوفيتي – أحست بنفس الأزمة. وفي الوقت نفسه أدى غضب واغتراب الطبقة العاملة وخنق الحركة الثقافية إلى تهيئة الأوضاع للانفجار.

بحلول الثمانينيات، أدركت بعض قطاعات البيروقراطية السوفيتية أن ثمة حاجة لشكل ما من أشكال الإصلاح. ميخائيل جورباتشوف – الذي أصبح زعيماً للحزب الشيوعي في أواسط الثمانينيات – أطلق برنامج إعادة الهيكلة الاقتصادية المعروف باسم “البيروسترويكا”. واستكمالاً للأجندة الاقتصادية، بادر جورباتشوف بعملية إصلاح سياسي عُرفت بـ “الجلاسنوست”، أي “الشفافية”.

ما إن بدأ الغطاء ينزاح قليلاً على يد البيروقراطية، أدى الغليان في مجتمعات الكتلة الشرقية إلى فتحه أكثر وأكثر.

في روسيا نفسها اندلعت نزاعات قومية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي التي زعموا أنها اشتراكية – في واقع الأمر كانت أمماً مضطهدة محبوسة داخل الإمبراطورية السوفيتية. بدأت الحركات تتشكل، من جمهوريات البلطيق – لاتفيا وليتوانيا وأستونيا – إلى جمهوريات القوقاز – جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، وفي شتى أنحاء أسيا الوسطى.

وفي أوروبا الشرقية التابعة للاتحاد السوفيتي، كان نشاط المعارضة أجرأ وأقوى. في المجر على سبيل المثال، تجمع 10 آلاف شخص في مارس 1988 في مظاهرة غير قانونية للمطالبة بـ “الديمقراطية وحرية التعبير وحرية الصحافة”. وكانت استعراضاً مذهلاً لقوة المعارضين. وكما قال راديكالي من ألمانيا الشرقية فيما بعد متذكراً تلك الحالة: “ظهر إحساس بأنه لابد من أن تتغير الأحوال”.

لكن ما زالت السرعة والقوة التي انفجرت بها الأوضاع بنهاية عام 1989 عصيّة على التصور. حتى مع زيادة حجم المظاهرات أكثر وأكثر، ومع دخول دولة وراء الأخرى في أزمة سياسية، لم يدرك أحد – ولا حتى من يناضلون من أجل التغيير – كم كانوا قريبين من صناعة التاريخ.

التحولات الأولى في عام 1989 جاءت من بولندا. ما حدث هناك يبدو الآن متواضعاً مقارنة بما حدث في الدول الأخرى بعد ذلك، لكن أحداث بولندا كانت أشبه بالزلزال وقت وقوعها: كان النظام البولندي قد قام قبل 8 سنوات بسحق حركة التضامن النقابية المستقلة وقمع المعارضة بكافة أطيافها، وبدأ يدعو قيادات حركة التضامن – الذين بدأوا في الخروج من السجون أو من مخابئهم – إلى التفاوض على اقتسام محتمل للسلطة.

عندما سُمح لحركة التضامن بالمشاركة في الانتخابات، تفوقت على الحزب الستاليني الحاكم. رغم أن مرشحي التضامن لم يُسمح لهم إلا بالترشح على ثلث مقاعد مجلس النواب، فقد ربحوا الدعم الكافي لتشكيل حكومة. وتم انتخاب رئيس تحرير جريدة التضامن رئيساً للوزراء، وتمت إزاحة الستالينيين من “قيادة السلطة السياسية في بولندا” للمرة الأولى.

ثم جاء الدور على المجر. النظام هناك الذي تشجع لما رأه من جورباتشوف والحلفاء في الاتحاد السوفيتي، مد يده إلى المعارضين أملاً في احتواء حالة الغضب بإصلاحات قليلة. لكن سرعان ما سقط النظام القديم تحت جحافل المطالبين بالديمقراطية.

من الإصلاحات التي تمت فتح الحدود بين المجر والنمسا، وهو أول مُسمار يتم دقه في نعش “الستار الحديدي” الذي فصل الكتلة الشرقية عن الغرب. ساعد هذا على نشر حمّى الثورة إلى ألمانيا الشرقية، الدولة الأقوى اقتصادياً من بين الدول التابعة للاتحاد السوفيتي. وراح الآلاف من أبناء ألمانيا الشرقية يقضون “أجازاتهم” في المجر، ومنها يعبرون إلى الغرب.

نظام ألمانيا الشرقية الذي كان يقوده إريش كونيكر المتشدد، حاول احتواء الأزمة، لكن الضغوط بدأت في إحداث تصدعات. تمت إزاحة هونيكر عن منصبه، وحل محله “الإصلاحي” إيجون كرينز. زار كرينز جورباتشوف في موسكو بنهاية شهر أكتوبر، حيث قال جورباتشوف إنه لن يدعم استخدام القوة لمحاولة وقف تدفق اللاجئين من الشرق.

وفي مطلع نوفمبر بدأ المتظاهرون يتجمعون عند جدار برلين، رمز الانقسام الكريه بين الشرق والغرب بعد الحرب العالمية الثانية. تم إطلاق النار على المئات من أبناء ألمانيا الشرقية فيما كانوا يحاولون الهرب عبر الجدار، على مدار السنوات الثلاثين التي انقضت منذ إنشائه.

وفي 9 نوفمبر، مع تزايد عدد المظاهرات عند الجدار وزيادة جرأتها، تراجع النظام. قررت القيادة أنه بدلاً من السفر في مسار طويل عبر تشيكوسلوفاكيا والمجر والنمسا إلى ألمانيا الغربية، فسوف يُسمح لأبناء ألمانيا الشرقية بعبور الحائط من نقاط حدودية في برلين. وأعلن مسؤول محلي عن القرار قبل أوانه، فتجمع الناس عند الحائط، فتركهم الحراس المذهولين يمرون.

ما إن حدث الصدع الأول، بدأ أبناء ألمانيا الشرقية يُسقطون أجزاء من الحائط بأيديهم، ووقفت السلطة بلا حيلة لا يمكنها منعهم. وخلال عام، انهار الجدار الذي قسّم ألمانيا لمدة أربعين عاماً، واتحد الشرق والغرب من جديد، لكن تحت حكومة ألمانيا الغربية بقيادة الشخصية المحافظة، المستشار هيلموت كول.

أول دول أوروبا الشرقية التي خرجت عن السرب فرضت نمطاً سياسياً جديداً. كما قال أنطوني أرنوفى في مقال لدورية “إنترناشيونال سوشياليست ريفيو”: “عندما أحسوا بأن القمع وحده لن يحتوي الأزمة، خرج البيروقراطيون الستالينيون بقرار: إما أن يُسقطهم الناس أو يهربون. في النهاية، حدث الأمرين. تحت ضغط المظاهرات والإضرابات والاحتجاجات، تهاوت النُظم واحداً وراء الآخر”.

وجاء الدور على تشيكوسلوفاكيا. قبل عشرين عاماً دخلت الدبابات الروسية إلى براج لسحق انتفاضة الطلبة والعمال. الآن، أواسط نوفمبر 1989، أحس ما لا يقل عن 200 ألف شخص بالثقة الكافية للتظاهر مطالبين بالديمقراطية. وخلال أيام وصل عدد المتظاهرين إلى 800 ألف، وفي 27 نوفمبر خرج ملايين الناس من أعمالهم في إضراب شمل جميع أنحاء البلاد، لمدة ساعتين.

هنا أيضاً شغل معارضو الماضي مسرح الأحداث. بدأ عام 1989 على فاكلوف هافيل سجيناً للنظام، وكان معروفاً لبعض الناس على المستوى الدولي بصفته ناشطاً وكاتب مسرحي. بنهاية العام أصبح رئيس تشيكوسلوفاكيا في أول نظام بعد سقوط الستالينية.

وكانت ذروة ثورات 1989 هي ثورة رومانيا، التي كانت تزرح تحت حُكم نيكولاي تشاوشيسكو البغيض، وزوجته إيلينا الشبيهة بماري أنطوانيت.

كما حدث في دول أخرى، كانت الخطوات الأولى نحو قلب النظام القديم خطوات صغيرة. عندما حاولت الشرطة السرية في أواسط ديسمبر القبض على المعارض البارز لازلو توكيس بمدينة تيميسوارا، تجمع المئات في درع بشري حول بيته. بدأت الشرطة في محاولة تفريقهم، لكن انضم إلى المتظاهرين المئات غيرهم.

تحول النظام إلى طريقته المجربة المعروفة. فتح الجنود ورجال المباحث النار على مسيرة من عشرات الآلاف في تيميسوارا يوم 17 ديسمبر. لكن على النقيض مما كان يحدث في الماضي، استمرت المظاهرات، وبعد يومين تحولت إلى إضراب عام. توقفت مصانع تيميسوارا تماماً، وانضم عدد كبير من سكان المدينة إلى المسيرات الجماهيرية.

انتشرت الإضرابات والمظاهرات في شتى أنحاء رومانيا، ووصلت إلى العاصمة بوخارست حيث حاول النظام تنظيم مسيرة مؤيدة للحكومة، ففرقتها هتافات “يسقط شاوشيسكو!”. ومن جديد صدرت الأوامر للجنود ورجال الشرطة بإطلاق النار، لكن نقطة التحول حانت.

وصفت فيوريكا بوتناريو – الطالبة التي كانت تعمل في مصنع ساعات في بوخارست – ما حدث بعد ذلك:

ذهبت للعمل، فوجدت أن المصنع في إضراب. هرعت إلى مبنى اللجنة المركزية ورحت أهتف “يسقط شاوشيسكو! الموت للجزار”.

سرعان ما تصدى الجنود ورجال الشرطة للمتظاهرين… أضافت فيوريكا:

لم نعرف إن كانوا سيطلقون النار أم لا، لكن كنا جاهزين لمواجهة الرصاص. رأيت الجنود متجهمين. تقدم الجميع من الدبابات، وبدأ الناس يهتفون: الجيش معنا، الجيش معنا” بعد أن كان الشعار “الجيش معهم”.

بدأوا في إطلاق النار في الهواء ليوضحوا لنا أنهم لن يطلقوا النار علينا. تجمع الناس على الدبابات وعانقوا الجنود. كنت قريبة للغاية من مدرعة. قال الجنود: “لقد اعتقلنا قائدنا”. وأظهروه لنا. ثم قالوا: “سنعتقل شاوشيسكو”.

تم اعتقال الديكتاتور، وأُعدم هو وزوجته يوم الكريسماس.

الكثير مما حدث في عام 1989 يُقدم تحت اسم قيادات سياسية من النظام القديم ومن المعارضة الجديدة على حد سواء. لكن القوة الحقيقية في ثورات أوروبا الشرقية كانت قوة الشعوب، التي تحركت وخرجت لتناضل من أجل التغيير.

سواء كنا نتحدث عن هدم حائط برلين الذي حدث بشكل تلقائي عفوي، أو الإضراب العام في تشيكوسلوفاكيا أو حرب الشوارع في رومانيا، فإن نقطة التحول في تلك الدول واحدة وراء الأخرى، كانت حركة الجماهير، حركة أبناء الشعب.

ما زالت صور مظاهرات عام 1989 – سواء في روسيا أو أوروبا الشرقية – مصدراً للإلهام. يظهر منها بالمعنى الحرفي للكلمة بحر متلاطم من الإنسانية، أكبر من أي مظاهرات أو احتجاجات في المدن الغربية، على الأقل حتى تلك النقطة من التاريخ.. جماهير رهيبة محتشدة في ميادين كبرى، كانت معروفة لنا في الغرب قبل ذلك بأنها مراكز تجمع مظاهرات عيد العمال التي يحشدها النظام، يوم تخرج مواكب يحفها الجنود من الشرطة والجيش.

كان الإحساس بفتح أبواب الاحتمالات مذهلا. كما يذكر اشتراكي من ألمانيا الشرقية عن الأيام التالية لسقوط حائط برلين: “في الشهور الأولى بعد الثورة، بدا أن الجميع تغيروا. وقعنا جميعاً تحت تأثير فكرة أننا قادرين على تغيير كل شيء. أصبح الناس أكثر ثقة بأنفسهم. وبدأ المواطن البسيط يتحدث في المظاهرات والاجتماعات”.

لكن وإن كانت الجماهير قادرة على بدء الثورة، فهي ليس لديها التنظيم أو القدرات السياسية اللازمة لتحديد مسارها.

تم إسقاط رؤساء النظم المكروهين، مثل هونيكر وشاوشيسكو، وتخلت الأحزاب الستالينية التي كانت تحكم عن احتكارها للسلطة. لكن حتى في أعقاب المسيرات الحاشدة والإضرابات العامة، ظلت أجزاء كبيرة من النظم الحاكمة في مكانها تحت عباءة النظام الجديد. كما كتب أرنوفى: “في الواقع، راح نفس المدراء يديرون نفس المنشآت في اليوم التالي، ونفس ضباط الشرطة وقوات الأمن استمروا في أعمالهم، وأصبح النظام الشيوعي نظام الديمقراطية أو السوق الحرة أو الإصلاح”.

أما المعارضين السابقين الذين تسلطت عليهم الأضواء فجأة، فقد أصبح لديهم سلطات ضخمة. لكن أغلبهم تخلوا عن ماضيهم الثوري – إن وُجد من الأساس – وراحوا يعزفون لحن السوق الحرة الذي يبشر به الغرب.

في بولندا على سبيل المثال، كان رد ليش فاليسا – القيادي المعروف لحركة التضامن منذ انتفاضة 1980 و1981 – على موجة من الإضرابات صاحبت وصول الحركة إلى السلطة في عام 1989، بأن دعى إلى تجميد الإضراب لستة أشهر “على الأقل” من أجل تعزيز التحالف بين أصحاب السلطة الجدد و”الجناح الإصلاحي للنظام”. حكومة حركة التضامن الجديدة أشرفت على فرض إجراءات نيوليبرالية غاشمة، وُصفت بأنها “العلاج بالصدمة”، وضعت حداً للتحكم في أسعار العديد من السلع الغذائية والاستهلاكية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بنسب بلغت 500 في المائة.

وفي تشيكوسلوفاكيا رحب فاكلاف هافيل بالإضراب العام الذي شل حركة النظام القديم في نهاية نوفمبر، لكنه بعد ذلك قال إن الإضراب أدى دوره، وأن المعارضة بحاجة إلى الانخراط في أنشطة “بناءة”.

ما حدث بعد ثورات 1989 هو الانحراف عن الطريق السليم. الانتفاضة الجماهيرية التي خرجت من الأسفل أسقطت أحد أشكال الرأسمالية – حيث السيطرة لبيروقراطية الدولة – لتحل محلها رأسمالية السوق الحرة على النموذج الغربي.

ولقد رحب أغلب المضطهدين سابقاً ممن وصلوا إلى السلطة بعد الثورات بهذا التغيير. الكثير منهم تأثروا قبل عشرات السنين بنضال الستينيات وصعود اليسار الجديد في أوروبا الغربية. لكن الفترة المحافظة التي تلت ذلك الصعود كانت هي ما شكّل وجدان وتفكير هؤلاء – إذ لم يروا بديلاً للنظام الستاليني سوى رأسمالية السوق الحرة. كان هذا من التناقضات المحبطة لتلك الفترة؛ أن تسمع الرجال والنساء الذين دخلوا المعتقل السياسي بسبب دفاعهم عن النقابات العمالية يشيدون بشخصية مثل مارجريت تاتشر، من وحوش سحق النقابات.

ولقد تحطمت التوقعات والآمال في أن تأتي سوق الرأسمالية الحرة بالرفاهية والحرية. وزاد تدهور مستوى المعيشة في بلدان مثل بولندا وغيرها.

لكن المعاناة التي تعرض لها الناس في ظل السوق الحرة في السنوات التالية يجب ألا ينسينا ما أنجزته ثورات أوروبا الشرقية. فقد سقط نظام ديكتاتوري بدا حصيناً ضد أي شكل من أشكال الاحتجاج، في نصف قارة، خلال فترة لم تزد عن شهور.

لقد أفسحت الثورات المجال أمام إعادة اكتشاف الاشتراكية الحقيقية، غير الملوثة بجرائم الستالينية. هذا مكسب نتطلع إليه الآن، مكسب يضع إنقاذ الطبقة العاملة – بأيدي الطبقة العاملة – في قلب مشروع خلق عالم جديد.