سلسلة تاريخ الثورات:
ثورات أوروبا 1848 والربيع العربي

* تم نشر المقال لأول مرة في أبريل 2012 بمجلة "الاشتراكي" الشهرية البريطانية يصدرها حزب العمال الاشتراكي بالمملكة المتحدة.
في عام 1848 اجتاحت الثورات الشعبية ربوع القارة الأوروبية، ويمكننا اليوم في ضوء ما تعلمناه عن تلك الثورات أن نستلهم بعض الدروس التي تمكننا من فهم أكثر للثورات التي تجتاح الوطن العربي حاليا.
نظرا لاتساع رقعة ثورات المنطقة العربية واستمراريتها، يحاول المحللون السياسيون البحث عن أوجه التشابه بين هذه الثورات العربية الراهنة وتلك الثورات الأوروبية في 1848، وذلك حتى يتمكنوا من فهم بل وتوقع نتائج هذه الثورات على المدى البعيد.
مثلما حدث في العالم العربي بدءاً من عام 2011، انتشرت الثورة في أوروبا عام 1848 من مدينة إلى أخرى عبر القارة، مطيحة بالأنظمة الحاكمة في تلك الفترة. فالثورة التي اندلعت في صقلية كانت تنذر بأخرى تختمر في باريس، وبالفعل لاذ ملك فرنسا بالفرار بعد ثلاثة أيام وتم الإعلان عن قيام الجمهورية، مما أطلق العنان لموجة عملاقة من الثورات التي اجتاحت سائر العواصم الأوروبية من برلين إلى فيينا وبودابست وميلان. حتى أن البابا قد اضطر للهرب عندما قاوم الثوار الحرس البابوي (والذي جرت العادة أن يكون أفراده من النمسا) وأعلنوا الجمهورية في روما. حدث كل ذلك خلال أربعة أشهر فحسب، في الربع الأول من عام 1848.
ثان أوجه التشابه بين موجتي 1848 و2011 الثوريتين، هو أن الثورات في الوطن العربي وفي أوروبا قامت بالأساس لإسقاط الأنظمة الاستبدادية، وتأسيس دول تحترم الحريات السياسية ويقوم عليها ممثلون منتخبون مباشرة من الشعب.
أما وجه التشابه الأخير، والأكثر أهمية، فهو أنه عندما اندلعت الثورات الأوروبية، لم يكن للمنظمات الاشتراكية أي تواجد حقيقي بين الطبقة العاملة، وهو الحال نفسه بشكل أبرز في البلاد العربية. فبالرغم من مرور كل تلك الأعوام، إلا أن المنظمات الاشتراكية لم تنجح في خلق جذور حقيقية بين العمال، حتى مع كثرة من يتبنون الأفكار الاشتراكية في العالم العربي، وبرغم وجود أحزاب شيوعية كبيرة في العراق وسوريا ومصر في الماضي، وبالرغم من أنه قد حكمت المنطقة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أنظمة تتبنى بعض الأفكار الاشتراكية. ولكن بسبب تبني الحكام مبادئ ستالينية في الحكم فقد تم الاستعانة بالرأسماليين ممن كان يُطلق عليهم (الرأسماليين التقدميين) لتدعيم حكمهم، وهو ما قلل من الدعم الشعبي لهذه الأنظمة، وبسقوطها تولدت فجوة سياسية كبيرة قامت تيارات الإسلام السياسي سريعاً بملئها.
لذا، وفي ظل اقتصار مكاسب الثورات العربية على إزاحة وجوه معروفة من رجال النظم القديمة، وغياب المكاسب الاجتماعية المباشرة عن هذه الثورات، يرى الكثير من المحللين أن هذه الثورات سوف تنتهي بعودة الأنظمة القديمة نفسها، وإن أتت برداء وواجهة مختلفين وهو ماحدث بالفعل في موجة الثورات الأوروبية في 1848.
في كثير من الأحيان يتم تصوير ما حدث في أوروبا على غير حقيقته. إلا أن تحليل ماركس، هو أن الطبقات الرأسمالية كانت تختبئ وراء الثورات، وعندما حانت الفرصة قفزت لتسيطر مباشرة على مراكز القوى، ولكن ما يستحق الذكر هو أن هذه الثورات السياسية كانت نقطة بداية لحرب طويلة من أجل تغيير جذري في المجتمع؛ فقد قام الفلاحون بمهاجمة الإقطاعيين واسترداد الأراضي منهم بالقوة، بل وعرف العمال معنى الإضراب، حيث خاضت قطاعات عديدة من الطبقة العاملة موجات هائلة من الإضرابات.
وفي تلك الحقبة ظهرت الحاجة إلى تجديد الوعي السياسي بين الجماهير، حتى أن باريس وحدها كان بها أكثر من مائتي نادي اجتماعي تتخطى عضويتها الـ70 ألف عضو في 1848. أما ألمانيا فقد كانت بها منظمات بلغت عضوية إحداها المليون ونصف المليون، وانتشرت الصحف الثورية وسط قاعدة كبيرة من القراء.
وقد أدى ذلك الفوران السياسي، والذي كان لا يزال تحت السطح، إلى تخوف القطاع الأكبر من الطبقة الرأسمالية الجديدة التي ظهرت بعد الثورة مباشرة، والتي استطاعت رموزها الوصول إلى قمم الحكومات التي قامت بعد الثورة.
وتجلت تخوفاتهم عندما يدور الحديث عن اجتياح الأعداد الكبيرة من الثوار لهم ومصادرة الملكيات الكبيرة التي بحوزتهم، حتى أنه وفي باريس قام البورجوازيون الجدد بالثورة في باريس، ولكنها انتهت نهايه مأساوية بمقتل 1500 شخص في الصراع وقتل 3000 آخرين في المعتقل، وهو ما أسماه ماركس بأول صراع طبقي كبير بين الطبقات الجديدة التي ظهرت بعد الثورة.
كان انطلاق الثورة المضادة في باريس بمثابة إشارة البدء للعديد من الثورات المضادة في كل مكان، تلك الردة الرجعية التي نجحت في إخماد الثورات الجماهيرية من أسفل بحلول نهاية العام 1849. وقد استنتج ماركس وإنجلز أنه لكي تستمر الثورة، فإن الطبقة الوحيدة التي تصلح لقيادة الثورة، والتي لها مصلحة في ذلك هي الطبقة العاملة ومن ورائها الفلاحون.
وبعد دراسة أعمق من جانب ماركس وإنجلز، توصلوا إلى أن الطبقة العاملة التي كانت موجودة في منتصف القرن التاسع عشر مازالت ضعيفة وغير مهيئه لتلعب هذا الدور القيادي في المجتمع، فالثورة الصناعية كانت لاتزال في مهدها، حتى باريس نفسها كانت تعتمد على الورش الصغيرة.
وهنا فحسب يكمن الفرق بين الثورات العربية والأوروبية، ففي مصر وحدها يقدر عدد الطبقة العاملة بالملايين، حتى أنه أكبر منشأة صناعية في المنطقة تقع في مدينة المحلة المصرية وهي مصنع المحلة للغزل والنسيج (شركة مصر للغزل والنسيج)، حتى الدول التي تقع على الخليج العربي شهدت تطورا رأسماليا في ثلاثينيات القرن الماضي، حتى أصبحت نسبة ساكني المدن فيها تضاهي دولا مثل الولايات المتحدة.
الجدل حول الملكية الفردية هو تعبير أطلقه ماركس، والذي يبدو قريبا من العقلية الثورية العربية، والدليل على ذلك أن الإضرابات العمالية في مصر وتونس والكويت أكبر وأعمق بكثير مما حدث في عام 1848، فعلى مدار 160 عاما تراكمت الأفكار حول الرأسمالية والرأسمالية العالمية، صحيح أنه وحتى الآن ماتزال الطبقات العمالة العربية بعيدة عن القيام بدورها القيادي، لكنها أكبر وأكثر تركيزا وتنظيما مما كانت عليه الطبقات العامل في أوروبا عام 1848، مما يعطي فرصة أكبر في استمرارية الثورة، وهو ما لن يحدث إلا على يد الطبقة العاملة المؤمنة بالأفكار الاشتراكية، والتي تستطيع جذب الكثير والكثير من المؤيدين.