بوابة الاشتراكي

إعلام من أجل الثورة

تعاليم المهاتما وتناقضات الكفاح السلمي

ليس لغاندي كتب أو مؤلفات نستطيع أن نتناول تاريخه من خلالها. لكن يكفي القول إن ما يزيد عن ثلاثة آلاف كتاب كتب عنه، وإن حركة التحرر الوطني في الهند منذ أوائل القرن العشرين ارتبطت باسمه، وإن آمال قوى وطنية في ساحات سياسية واسعة تتجمع حول استراتيجية التغيير من خلال المقاومة السلمية التي انتهجها غاندي. يقول عنه رفيق دربه نهرو: “كان هذا الصوت الجديد مختلفا عن غيره.. كان هادئا ورزينا، ولكنه يطغى على أصوات الغوغاء. كان صوت العمل لا صوت القول”.

ولد المهاتما غاندي (موهنداس كارمشندا) في 2 أكتوبر 1869 في مدينة بورباندار (وهي ميناء صغير شمال بومباي). كانت عائلته محافظة ولها باع في العمل السياسي، لكنها أيضا كانت عائلة ذات وضعية اجتماعية متميزة. يقول حفيده راجموهار عنه: “نعم عندما وُلد كانت عائلته تحتل مكانا مرموقا في بورباندار، وكان والده وزيرا لدى الأمير الذي يحكم المدينة، وبالإضافة إلى ذلك كانت عشيرة غاندي تنتمي إلى طبقة سامية هي طبقة التجار (البانيا)”.

عاش غاندي طفولة عادية وتزوج في سن الثانية عشر حسب التقاليد السائدة. وله من زواجه هذا أربعة أبناء. ثم عزم على السفر إلى إنجلترا لدراسة الحقوق. وبالرغم من معارضة أهله، إلا أنه سافر عام 1882 وأخذ يتعلم القانون ويفسر النصوص بطريقة تناسب عقلية شعبه وتتوحد مع دينه. وفي إنجلترا عُرف غاندي بأنه النباتي الوحيد بين زملائه. فالاعتماد على المأكولات النباتية موروث ثقافي في الهند تحول لدى غاندي إلى قناعة وإيمان، فانشأ ناديا نباتيا صار له أمينا للسر.

عاد غاندي إلى الهند عام 1891 بعد أن نال شهادة المحاماة. وقنع بكتابة العرائض والمذكرات، فلم يربح كثيرا من هذا العمل. وفي 1893 استدعى عدد من التجار الهنود في جنوب أفريقيا غاندي للدفاع عنهم كمحامي. وبعد أن أدى مهمته قرر أن يقيم هناك للدفاع عن حقوق كافة الهنود أمام المحاكم الإنجليزية. وخلال الإثنى وعشرين سنة التي قضاها غاندي في جنوب أفريقيا (1893-1915)، أنشأ عصبة لنقل الجرحى، كما أنشأ مستشفى ورأس وحدة من وحدات الصليب الأحمر.

وفي الحقيقة كانت الفترة التي قضاها غاندي في جنوب أفريقيا من أهم مراحل تطوره الفكري والسياسي. ففي هذه الأثناء تكون نهج غاندي وأسلوبه في العمل الذي تبلور في نسيج اجتماعي يعاني من الاستعمار والعنصرية معا. وفي ساعات فراغه كان يقرأ كثيرا في الأدب والسياسة، وتأثر كثيرا، بل كان شغوفا، بأفكار وآراء الروائي الروسي تولستوي حول نبذ العنف وعدم مواجهة الشر بالشر. يظهر ذلك جليا في رسالة تولستوي لغاندي عام 1910، التي يقول فيها: “كل إنسان عاقل يعرف أن ممارسة العنف لا تتوافق مع المحبة بوصفها قاعدة الحياة الأساسية، وأن المرء ما إن يقر العنف في حالات بعينها حتى يعترف بقصور شريعة المحبة وينكرها”. لم يكن تولستوي وحده، بل أيضا الكاتب الامريكي ديفيد ثورو، صاحب فكرة العصيان المدني، الذي ترك أثرا فكريا وسياسيا لدى غاندي، علاوة على الروحانيات التي تداعب خيال الهنود والتي تركت بصمتها الواضحة في تشكيل وجدان غاندي.

وفي الغربة، لم ينس غاندي هموم وطنه الهند. إذ وهب مجهوده للدفاع عن حقوق أبناء الجالية الهندية. وخلال اختلاطه بهم كان هدفه تخليصهم من عقد الخوف والنقص. وفي سبيل ذلك حارب قانون كان يحرم الهنود من التصويت، وأنشا صحيفة “الرأي الهندي” التي دعا عبرها لفلسفة التغيير السلمي ونبذ العنف، وقام بتأسيس حزب المؤتمر الهندي ليدافع عبره عن حقوق العمال الهنود في جنوب أفريقيا.

الحلقة المفقودة
أما في الهند، فلم تكن الأوضاع أحسن حالا من جنوب أفريقيا. فقد كان المجتمع الهندي تحت السيطرة الاقتصادية والسياسية للإمبريالية البريطانية. ولم يكن الشعب الهندي متجانسا. فكما في كافة البلدان المستعمرة، كان المجتمع يعاني إنقسام طبقي صارخ يعمقه الاستعمار؛ فانقسم المجتمع إلى أغلبية ساحقة مدقعة الفقر ترزخ تحت نير الاستعمار، وأقلية شديدة الضآلة من أصحاب المصالح المنتفعين من التواجد الاستعماري الإنجليزي والمتحالفين معه بدرجة أو بأخرى.

ومن جانب آخر، فإن الشعب الهندي متعدد ومتنوع الأعراق والأديان. ومن خلال المرجعية العرقية والدينية، انعكست في الحركة الوطنية الهندية الكثير من الأنماط والتيارات السياسية. وكان من أهم هذه التيارات “الجمعية المركزية الوطنية المحمدية” التي كانت – كغيرها من الجمعيات السياسية – تعتمد في عضويتها على الطبقة العليا والشرائح العليا من الطبقة الوسطى. وكانت تعبر عن آراء فريق كبير من أصحاب الرأي في السياسة الإسلامية، وتعتمد في عملها السياسي على الضغط على الحكومة لإجبارها على الإعتراف بمطالب المسلمين ومصالحهم الخاصة.

كذلك تواجدت أيضا “حركة الخلافة” التي تم تأسيسها عقب سقوط نظام الخلافة في تركيا على يد كمال أتاتورك. انتهجت تلك الحركة طريق الكفاح المسلح، وعملت على تجنيد وتسليح الكثير من الشباب للقتال ضد الاحتلال الإنجليزي، واتخذت من الأراضي الأفغانية منطلقا لها. وعلى أثر ذلك هاجر 18 ألف شاب مسلم إلى أفغانستان على أمل أن تبدأ حملتهم من هناك، معتمدين على مساعدة الحكومة الأفغانية. لكنها خذلتهم وأعادتهم بالقوة وقتلت منهم الكثيرين.

وبعيدا عن الحركات الإسلامية، نشأت حركات هندوسية عديدة كحركة “آريا سماج” التي أسسها أحد أشهر الوجوه السياسية الهندية في ذلك الوقت وهو “دباندا سوامي”. وكان هدف الحركة هو التعبئة الهندوسية نقمة على النفوذ الأجنبي ومن أجل طرد الأقوام الدخيلة من شبه القارة الهندية بمن فيهم المسلمين والمسيحيين!

ولا يحتاج الأمر كثير من التدقيق كي نلاحظ ما هو مشترك بين الحركات الإسلامية والهندوسية على حد سواء –بالرغم من اختلافهم والصراع السياسي بينهم. كان الطابع المشترك بين تلك الحركات هو التوجه السياسي لكل منهم الى الطائفة التي ينتمي لها ويدعي تمثيلها، واهتمامه بالمصالح الخاصة لطائفته، بل وتغليبها على المصالح والأهداف القومية التي تجمع كل الهنود من مسلمين وهندوسيين، الخ.

وبالإضافة إلى تلك الحركات، ولد عدد من الحركات الإصلاحية الأخرى التي لم تتبن منطق ثوري في معالجة معضلات الوضع الهندي، ولم تكن تؤمن بقوة وقدرة الجماهير على انتزاع حقوقها من الاستعمار البريطاني. وكانت مثل هذه الحركات تأمل أن تتمتع الهند بالحكم الذاتي، كما كان الحال في كندا أو أستراليا، حتى وإن ظلت تحت مظلة الإمبراطورية البريطانية، وأن تتوفر لها المجالس النيابية الديمقراطية، وأن تحتل الهند مكانا بين الأمم بتزويدها بالثقافة الغربية واندماجها الاقتصادي والسياسي والثقافي بالدول الأوروبية المتقدمة.

وعلى أي حال، كانت الخريطة السياسية للهند قبل عودة غاندي تفتقر إلى القوة السياسية الحقيقية التي تسعى في في أوساط الشعب الهندي لتعبئته وتوحيد صفوفه على قضية الاستقلال الوطني على أساس التآلف بين المسلمين والهندوس بصرف النظر عن الانتماءات الدينية أو العرقية. وهذا بالذات ما عكف غاندي على تحقيقه: إيجاد الحلقة المفقودة في الساحة السياسية الهندية.

ساتياجراها
عاد غاندي إلى الهند في عام 1915، ولعب دورا كبيرا في الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين في وطنه. ففي عام 1917 تزعم كفاح طبقة المستأجرين البؤساء الذين ذاقوا الظلم على أيدي أصحاب المزارع الأوروبيين في مقاطعة بهار. وانتقل غاندي للمعارضة المباشرة للسياسة البريطانية بين عامي 18-1922، وطالب خلال ذلك باستقلال الهند. وفي 1922 قاد حركة عصيان مدني صعّدت من الغضب الشعبي، وتصاعدت في بعض الأماكن إلى اشتباكات عنيفة بين الهنود والقوات الإنجليزية، وسرعان ما تم القبض عليه ليحكم عليه بالسجن مدة ست سنوات، ثم أفرج عنه في 1924 نظرا لظروفه الصحية.

وخلال مشواره السياسي، حاول غاندي قدر الإمكان التزام خطته في المقاومة السلمية. وكانت كلمة السر التي أطلقها ليلخص بها مضمون استراتيجيته السياسية هي: “اللاعنف”. يعلق نهرو على ذلك قائلا إن.. “العمل المسلح لا يناسب حالة الهند، لأن الشعب الهندي كان أعزل ولم يكن يعرف كيف يستخدم السلاح. أضف إلى ذلك أن الاشتباك المسلح مع دولة كبيرة كبريطانيا لا يكفل النصر؛ فالتمرد المسلح يناسب الجيوش ولا يناسب الشعب الأعزل المواجه للقوات المدججة بالسلاح، ولجوء الشعب لمثل هذه الأعمال أمر سخيف يحط من معنوياته لأنه لا يؤثر على حكومة قوية ومنظمة، وإن كان يرعب بعض الأفراد فقط”. وقد أكد غاندي نفسه على نفس المعاني، وترجم تلك الأفكار إلى خطوات عملية في الواقع.

تمثلت أولى خطوات تطبيق المقاومة السلمية (ساتياجراها) في قصة مسيرة الملح. فحينما حرّمت بريطانيا على الهند استخراج الملح، قام غاندي بنفسه باستخراجه من مياه البحر، وحرّض الشعب الهندي على ذلك. وتعود قصة مسيرة الملح إلى أوائل عام 1930، حينما أعلن غاندي أنه سيقود مسيرة تمثل أول عصيان مدني، باصطحاب جماعة من مؤيديه للعمل على إلغاء قانون الملح الذي رفع ضريبة إنتاجه لصالح التجار الإنجليز.

ولما أهملت الحكومة كل مساعي غاندي لإلغاء القانون، قرر في 12 مارس 1930 القيام بهذه المسيرة التي قطع فيها مع رفاقه مسافة قدرها 300 كم سيرا على الأقدام على مدى بضعة أسابيع متواصلة لم يستريحوا فيها إلا يوم الإثنين من كل أسبوع، من أجل هدف محدد وهو إعدام الملح المستورد. وسرعان ما انتشر خبر المسيرة في أرجاء الهند، وتلقت الدعوة استجابة واسعة من الهنود الذين صمموا على مقاطعة الملح الإنجليزي واستخراج الملح من البحر، وفي المقابل عوقب غاندي بالسجن لمدة عام كامل.

وبالنسبة لغاندي، كانت المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الإنجليزية، وفي المقابل تشجيع المنتجات وبالتالي الصناعات الوطنية الهندية، تعد أحد أهم وسائل المقاومة السلمية التي كان يدعو اليها من خلال عمله كزعيم لحزب المؤتمر المؤتمر الهندي. وعلى هذا النحو بدأت واستمرت نداءات غاندي للمقاطعة وإحياء صناعات هندية قديمة تم تدميرها على يد المستعمر: صناعة الغزل والنسيج مثالا. فقد كان المواطن الهندي يفضل شراء منسوجات لانكشير الإنجليزية الأكثر جودة على شراء المنسوجات المصنعة محليا، فأطلق غاندي دعوته للعودة إلى المغزل اليدوي الهندي.

ولم يقتصر مفهوم المقاطعة عند الهنود على الجانب الاقتصادي فقط، بل اتسع هذا المفهوم وترسخ لديهم ليشمل مقاطعة الموظفين لوظائفهم لدى الجهات البريطانية، ومقاطعة الطلاب لمدارسهم الإنجليزية، وكذلك مقاطعة المحامين للمحاكم التي كانت تسير وفق القوانين التي تسنها بريطانيا العظمى.

والحقيقة أن نقطة القوة في سياسة غاندي كانت عدم التفاته إلى التمايزات الدينية أو العرقية بين الهنود، كما كانت تفعل معظم القوى السياسية الهندية التي تغذت على مثل هذه الانقسامات، بل كانت إسهاماته أكيدة في توجيه معركة كافة الهنود، بشكل سلمي فقط، ضد عدوهم المشترك، الاستعمار البريطاني، وما يستلزم ذلك من تعبئة سياسية واسعة النطاق للشعب الهندي مسلمين وهندوس ومسيحيين.

لكن كذلك لابد أن نضيف أن حزب المؤتمر الهندي، التنظيم السياسي الذي جسّد رؤية غاندي، وكذلك غاندي نفسه، اعتمدوا على قسم من أغنياء البرجوازية الهندية (مسلمون وهندوس) لتمويل الحزب، وهو ما عنى أن الحزب كان أسيرا لحدود رؤية البرجوازية لعملية التغيير والمقاومة. من هنا فإن أحد جوانب سياسة اللاعنف كان، كما سنرى لاحقا، التهادن الطبقي بين الطبقات المتصارعة في المجتمع الهندي.

وإلى جانب ذلك، فإن البرجوازية الهندية انجذبت إلى “ساتياجراها” غاندي لأنها أنسب لمنظورها لمواجهة الاستعمار. فالبرجوازية الهندية كانت تكره العنف لأنه يهدد مصالحها ويخلق توترا تعود نتائجه سلبا على عمليات التجارة والأعمال الرائجة التي يمارسونها. وهي كانت تفضل الوسائل السلمية لأنها أقل خطرا وكلفة. من هنا فقد كان لغاندي – برغم شطحاته من وجهة نظرهم – نفوذه الواسع على البرجوازية الهندية المعارضة للاستعمار. وكان هو نفسه يحافظ على علاقته بهم من خلال مراعاة مصالحهم في خططه للنضال السياسي.

الاستقلال
في أغسطس 1947 رحل الإنجليز عن الهند. وبعد ذلك بأشهر قليلة، تحديدا في 30 يناير 1948، مات غاندي، ليس لأسباب طبيعية بل بسبب إطلاق شاب هندوسي متعصب النار عليه.

طوال حياته السياسية، ظل غاندي متمسكا بقواعد اللاعنف والمقاومة السلمية الصافية. لم يكن يقبل استخدام السلاح لفرض رغبات الشعب بالقوة مثلما انتهجت المقاومة الفيتنامية ونجحت في دحر الإمبريالية الأقوي في العالم: الولايات المتحدة، وكما استطاعت الجبهة الشعبية في الجزائر طرد الاستعمار الفرنسي، بل وكما كان يحدث في الهند نفسها. فعلى سبيل المثال عند فصل إقليم البنجاب، أطلق الإنجليز النار علي جمهور أعزل فثار ضدهم وقتل خمسة من الإنجليز وأحرق مبانيهم، وكان رد الفعل هذا بمثابة تهديد ودرس قاس للمعتدين الإنجليز.

في المقابل كان غاندي يكرر دائما:”لو أن العين بالعين صارت، لأمسى العالم كله ضريرا”. ولكن برغم هذا فإن غاندي اندفع إلي المشاركة في تأييد زعماء الهندوس للإنجليز في الحرب العالمية الأولى! كان رأي غاندي على النحو التالي: “إننا إذا ما اشتركنا في الحرب لنصرة الحلفاء، فإننا نكون قد حاربنا للدفاع عن قضيتنا”. وقد جمع غاندي المتطوعين للحكومة البريطانية للاشتراك في الحرب مع الحلفاء. وقد مُنح غاندي وساما لأجل ذلك! وهذا ما يكشف أحد أهم تناقضات سياسات غاندي: فحين قرر الزعماء الأغنياء للهندوس إلقاء سياسة اللاعنف في سلة المهملات والانضمام إلى المجهود الحربي للحلفاء، أيدهم غاندي وسار وراءهم!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كان هذا النوع من النضال السلمي هو بالفعل الذي أوجع الإنجليز وأجبرهم على الخروج من الهند؟ في الحساب النهائي للتجربة الهندية، التي كان غاندي أبرز ملهميها على الإطلاق، لا يستطيع أحد أن ينكر الفعالية النسبية، في بعض المراحل، للمقاطعة الاقتصادية كأحد أساليب النضال. فقد كان لهذا الأسلوب أثر في تكبيد المحتل خسائر مادية واقتصادية وإضعافه كمغتصب يمارس سلطته المزيفة على الهنود من خلال إجبارهم على دفع الضرائب وفصله للأقاليم بعد إعلان الأحكام العرفية. لكننا في الحقيقة لا يمكننا فهم وتحليل التجربة الهندية بشكل دقيق إذا نظرنا إلى شبه الجزيرة الهندية بمعزل عن الظرف العالمي آنذاك.

فالحقيقة أن توازن الأوضاع السياسية والعسكرية بالنسبة للإمبراطورية البريطانية كانت قد طرأت عليه تغيرات كبرى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد كانت بريطانيا مرغمة على الانسحاب من مستعمراتها في الشرق الأوسط والأدنى. صحيح أن الإنجليز خرجوا منتصرين من الحرب. لكن الحرب على مدى خمس سنوات على أكثر من جبهة – من جانب ضد النازيين والفاشيين، ومن جانب آخر ضد حركات التحرر في المستعمرات – قد أنهكت الإمبراطورية كثيرا وكبدتها خسائر فادحة. هكذا كانت قضية الانسحاب من المستعمرات ومنح الدول حريتها تقرر في ساحات الحرب العالمية الثانية وكانت مرتبطة بنتائجها، وليست قرارا حرا للدول المنفردة. أما الحرب فقد فرضت إعادة ترسيم الحدود وخريطة عالمية جديدة. فقد أُجبرت الدول الاستعمارية القديمة الكبرى على العودة إلى حدودها، وتفككت الإمبراطوريات القديمة لترثها قوتين إمبرياليتين متنافستين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

بعد الحرب شاخ الأسد وصار أضعف من أن يسيطر على مستعمراته القديمة. لكنه أيضا حاول الحفاظ على قدر ما من السيطرة الاقتصادية والسياسية بعد انسحابه. هكذا استمرت السيطرة الإنجليزية على قناة السويس في مصر بعد جلاء القوات وحتى عام 1956. وهكذا أيضا عمدت بريطانيا إلى مخالفة القانون الذي أقرته عام 1935، والذي ينص على انشاء اتحاد يضم جميع المقاطعات الهندية، قبيل انسحابها الكامل من الهند، ثم تقسيم البلد إلى ثلاث مناطق: هندوستان وباكستان الشرقية وباكستان الغربية، مما أدى إلى ميلاد مشكلة إقليم كشمير الكائن على الحدود ما بين الهند وباكستان كأحد تداعيات هذا الانقسام، وهي المشكلة التي لازالت تمثل أحد محاور التنافس، وأحيانا الصراع، بين الجارتين، الهند وباكستان، إلى اليوم.

اللاعنف في الميزان
كثير من السياسيين يتغنون كثيرا بالنضال السلمي المدني الذي روج له غاندي ضد الاحتلال البريطاني. وهم يعتبرون التجربة الهندية نموذجا يجب حذوه والاقتداء به لما حققه النضال السلمي من نتائج تمثلت في انسحاب بريطانيا واعلان استقلال الهند. كما أنهم يؤكدون أن النضال السلمي أقل كلفة من الكفاح المسلح أو الثورة الشعبية. ودائما ما يلفت هؤلاء السياسيين النظر لتجارب بلدان عديدة حققت انجازات لشعوبها دون أن يتم إطلاق رصاصة واحدة أو يحدث أي اصطدام مع العدو، سواء كان احتلالا اجنبيا أو حكما ديكتاتوريا.

لكن هذه التصورات تضعنا أمام بعض التساؤلات التي تفرض نفسها بقوة في مجال مناقشة استراتيجيات التصدي والمقاومة للقوى الاستعمارية في عصر هيمنة الإمبريالية الأمريكية وحليفتها الصهيونية، وذلك بالذات في منطقة الشرق الأوسط.

الحقيقة أن سياسة “الضغط السلمي والنضال اللا عنفي” سياسة مستهلكة وغير قابلة للتطبيق عمليا في مواجهة القوى الاستعمارية. فعندما نتحدث مثلا عن تحرير الشعب الفلسطيني، الذي يواجه احتلال إستيطاني مدجج بسلاح أمريكي وموجه لتنفيذ مشروع صهيوني/إمبريالي مصمم على انجازه، ويواجه كذلك أنظمة عربية متواطئة مع الإمبريالية والصهيونية، في مثل هذه الحالة تبدو المقاومة السلمية وكأنها وهم مثالي لا أكثر.

المثير أن غاندي كانت له رؤية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. إذ كان يرى أن كلا من الفلسطينيين والإسرائيليين ضحيتان تاريخيتان: الفلسطينيون ضحايا للاستعمار الأوروبي، والإسرائيليون ضحايا للعنصرية الأوروبية. وقد ترجم حفيد غاندي (آرون غاندي) آراء جده في هذا الشان واستخلص بعض الاستنتاجات “ليلهم بها” الشعب الفلسطيني. فخلال زيارته لفلسطين عام 2004، أوصى آرون الشعب الفلسطيني بالمقاومة السلمية وأنه لا يجوز الرد على الدمار والخراب بمثله، أو كما صرح قائلا : “إنه البديل الأكثر أمنا والأكثر حكمة. لم يحقق العنف شيئا. لا يملك الفلسطينيون القدرة والطاقة لمساواة أسلحة الدمار الشامل المتوفرة لدى إسرائيل، لذا فإن ما يفعلونه هو الانتحار”! ثم أضاف آرون أن العمليات الهجومية دائما ما تضعف تحمس المجتمع الدولي والمدني وتعاطفهما تجاه الفلسطينيين. (جدير بالذكر هنا أن آرون غاندي كان يرأس أحد مراكز الأمم المتحدة في أمريكا للترويج للسلام، مستلهما افكار جده! وقد مورست ضده تدخلات صهيونية وتم عزله من منصبه دون الرجوع إليه ولو حتى إكراما “للمقاومة السلمية”!)

نلاحظ هنا الشبه الكبير بين نصائح آرون غاندي للفلسطينيين ونصائح نهرو للهنود. كلاهما يرى في المقاومة المسلحة وهما! هذا بينما الواقع يشهد أن المقاومة المسلحة للاستعمار، حتى في الهند، لعبت دورا أساسيا في إجلاء الاستعمار، ليس لأنه هزمته عسكريا، ولكن لأنها جعلت كلفة وجوده أكثر من طاقته.

والحقيقة أن تناقضات سياسة غاندي اللاعنفية تظهر بأوضح ما يكون في مجال استراتيجية النضال ضد الاستغلال الطبقي الداخلي. يقول غاندي عن الفقر “الفقر هو أسوأ شكل من أشكال العنف”. ورغم ذلك فإنه يرفض الرد على هذا العنف بأي عنف، ويقترح شكل المواجهة السلمية للحد من الفقر ولإرساء نوع من العدالة الاجتماعية، بأن يسمح للغني أن يأخذ من أمواله القدر الذي يحتاجه، ثم يكون دوره بالنسبة للقدر المتبقي هو دور الوصي على حق الجماعة.

ولكن كيف يتحقق هذا الحل عمليا من دون وقوع صدام طبقي؟ لم يتطرق المهاتما لهذه المسألة! فقط هو ناشد الهنود بالتوحد هندوس ومسلمين لمواجهة الاستعمار سلميا، وناشدهم كذلك أن يتكيفوا مع الوضع الاجتماعي السائد وأن يقللوا من حاجاتهم ومتطلباتهم بقدر الامكان لأن “الأوضاع تتطلب مثل هذا السلوك”!

الأمر إذاً أننا لا يمكن أن نستهين باستراتيجية غاندي أو نغفل تأثيرها تماما، خاصة في مجال مواجهة الاستعمار. لكن علينا كذلك ألا ننسى حدودها الطبقية وارتباطها بمصالح قطاع من أغنياء الهنود. والأهم من ذلك أن هذه السياسة لعبت دورا في ميلاد دولة جديدة لم يختف فيها الفقر والجوع والمرض؛ دولة أعطت شعبها الاستقلال السياسي، لكنها لم تعطه المساواة الاجتماعية، ولا هي حتى حافظت على تعاليم المهاتما المثالية، فالفقر والظلم والاضطهاد – أقسى أشكال العنف – ولّدوا عنفا سار كثيرا في اتجاهات خاطئة وغير منظمة.

وتبقى الهند، بلد هائل كبير، في انتظار حركة مناضلة تبني حلمها بالمستقبل على الكفاح الحي للجماهير الكادحة المؤمنة بأن مستقبلا أفضل للهنود يعتمد على إزاحة طبقة المترفين الذين وضع غاندي يوما يده في أيديهم في مسعى لتحرير شبه القارة من الاستعمار البريطاني.