إضراب هندسة الزقازيق.. وللحديث بقية

“هاتوا اخواتنا من الزنازين”، كان هذا الهتاف المفجر لإضراب طلاب هندسة الزقازيق يوم السبت الماضي 16 نوفمبر، والذي جاء على خلفية الدعوات الطلابية المستقلة، والمدعومة بعد ذلك من اتحاد هندسة الزقازيق، للإفراج عن الطلاب المعتقلين (محمد عبد الشكور وعمرو الجندي ومحمد سمير وبلال الكومي وعمرو حجاج)، والذين تم اعتقالهم على خلفية أعمال العنف والبلطجة التي اجتاحت جامعة الزقازيق، والدائرة منذ بداية العام الدراسي بين طلاب جماعة الإخوان المسلمين والطلاب المؤيدين للعسكر والمدعومين بتشكيلات مسلحة من البلطجية، ليتم اعتقال هؤلاء الطلاب الخمسة بناءاً على تقارير أمنية “بحتة” تم كتابتها بحق هؤلاء الطلاب كنوع من الردع لباقي الطلاب، المثير للدهشة أن من بين هؤلاء الطلاب المعتقلين ناشط شيوعي وهو الزميل (محمد عبد الشكور)، وآخر عضو بحزب الدستور وهو الزميل (بلال الكومي)، لكن ذلك لم يكن ذلك كافياً، لتمارس آلة الدولة القمعية الرسمية دورها هي الأخرى في التنكيل بالحركة الطلابية على اختلاف انتماءاتها السياسية، فتحت مزاعم إيقاف العنف، والواقع تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية، تمارس الدولة عنفها مدعومة بغطاء إعلامي كاذب وتفويض يحرق صاحبه في المقام الأول.
لقد ترددت أصداء الدعوات الطلابية المنادية بالوقوف صفاً واحداً في وجه عودة الممارسات القمعية، ليبدأ الإضراب يومه الأول برفض طلاب الفرقة الإعدادية والأولى دخول قاعات اللجان لأداء امتحانات “الميد ترم”، فيما تواترت الأنباء عن قرب اقتحام وشيك لقوات الأمن المركزي للحرم الجامعي لأول مرة في تاريخ جامعة الزقازيق، لم يكن ذلك سوى أول قطرة حبر تُسطر بها ملحمة الإضراب البطولي لطلاب هندسة الزقازيق.
اقتحام ثم انتفاضة طلابية
في يوم السبت 16 نوفمبر وعلى أنغام الهتافات الطلابية المنادية بالحرية للمعتقلين، ووقف اعتداءات البلطجية على طلاب كلية الهندسة، تساقطت القنابل المسيلة للدموع من قوات الداخلية، والتي أعلنت عندئذ عن اقتحامها للحرم الجامعي في محاولة لفض الإضراب السلمي لطلاب كلية الهندسة، على الجانب الآخر كان عميد كلية الهندسة يتحدث في إحدى القنوات الفضائية حول وجود مجموعات من طلاب الإخوان الذين قاموا بمنع الطلاب من تأدية الامتحانات، لم تكن تلك سوى محاولة “قذرة” لتشويه صورة الإضراب، ولم تجد صدى يُذكر بين طلاب الفرقة الثالثة والرابعة الذين أعلنوا عن دخولهم أيضا في إضراب عن تأدية الامتحانات.
كان الإحساس بالعار والمذلة عميقاً بين جموع الطلاب نتيجة اقتحام قوات الأمن للحرم الجامعي، لقد أدى الاقتحام إلى تساقط العديد من الطلاب والطالبات مصابين بحالات اختناق نتيجة الاستخدام المفرط للغاز المسيل للدموع، فيما جابت مدرعات وجنود الأمن المركزي شوارع الجامعة بحثاً عن أي طالب مشارك في الإضراب، بعد أن تم رش الطلاب المضربين بمادة مميزة تُسهل من اكتشافهم تمهيداً للقبض عليهم، وكانت مؤشرات الغضب تتصاعد بصورة كبيرة بين مختلف دفعات كلية الهندسة، لتتجلى في اليوم الثاني للإضراب الذي حقق نسبة تصل إلى 100%، فبينما كانت أبواب المباني مفتوحة على مصراعيها، كانت حشود الطلاب الغفيرة أمام مبنى مدني تجمعها قضية واحدة: كرامة الطالب الجامعي.
إضراب.. ثم إضراب.. ثم إضراب
بينما تم تشكيل اللجان الطلابية لحماية المباني، كانت المسيرات المتضامنة مع إضراب كلية هندسة الزقازيق تتدفق كالسيل المنهمر، كان الإحساس عميقاً وأنا أرى تلك الموجات الطلابية الهادرة من طلاب كليات (الطب – الصيدلة – التربية – التجارة – الحاسبات والمعلومات) معلنة عن تضامنها الكامل مع إضراب طلاب كلية الهندسة، بالإضافة إلى إعلان طلاب كلية العلوم عن دخولهم في إضراب تضامني، كانت روح الخامس والعشرين من يناير حاضرة، فبينما تقشعر الأبدان لمجرد رؤية ذلك الطوفان الطلابي، كانت كلية الهندسة تعلن عن عدم وجود موطيء قدم لأي طالب.
لقد تم فرض الكلمة الطلابية من عموم الطلاب باختلاف انتماءاتهم السياسية والحزبية، فيما كانتا إدارة كلية الهندسة ورئاسة الجامعة غارقتين في بحر الظلمات، تُحركهما في ذلك تعليمات وزارة الداخلية وعلى رأسها أمن الدولة.
في اليوم الثاني للإضراب كانت الأجواء الثورية حاضرة، كانت كلية الهندسة قد وقعت بالفعل تحت قبضة الطلاب الثائرين، وتم تمزيق بيان إدارة الكلية والذي جاء مشابهاً لخطاب المخلوع الأخير في مخاطبته للطلاب بإعلاء المصلحة العليا والعمل على تشكيل لجنة من أعضاء هيئة التدريس كمحاولة للإفراج عن الطلاب المعتقلين، عن أي مصلحة عليا تتحدث إدارة الكلية وقد دُنست أرض الجامعة بأقدام وزارة الداخلية عندما تم اقتحامها، بينما يقبع 5 طلاب خلف القضبان؟!
لقد دأبت وسائل الإعلام “المنحرفة” على تشويه وتزييف الحقائق، ولأن النغمة السائدة الآن هي الاتهام بالتبعية لجماعة الإخوان المسلمين أو لحلف دولة السيسي والتي تُعرف إعلاميا بـ “تسلم الأيادي”، فقد تم تصوير الإضراب على أنه من صنيعة طلاب الإخوان، فلم يكن هناك مفر من الدعوة لتنظيم مؤتمر صحفي صبيحة يوم السبت 24 نوفمبر وتحت رعاية اتحاد هندسة الزقازيق، ليتم من خلاله تقديم الصورة الحقيقة للإضراب الذي تم تشويهه في وسائل الإعلام، في الوقت الذي توالت فيه الهجمات المضادة على الحراك الثوري، بداية من التهديدات المستمرة الصادرة من أساتذة وأعضاء هيئة التدريس لطلاب الفرقة الإعدادية (حديثي الخبرة) بالرسوب في الامتحانات والتأكيد على عدم إعادتها مرة أخرى، وانتهاءا بقيام أساتذة مادة الميكانيكا، على غرار ما حدث في اليوم السابق في امتحان مادة الفيزياء، بمد فترة الامتحان لطلاب الفرقة الإعدادية ليكون مفتوحا طوال اليوم وهو ما يُعد تسريباً للامتحان، فيما لم يجد طلاب باقي الفرق الأخرى بُداً من تنظيم المسيرات الداعمة لإضراب طلاب الفرقة الإعدادية، ليقوم طلاب الفرقة الإعدادية على الفور وتحت تأثير هتافات زملائهم بالخارج بمغادرة قاعة اللجان والانضمام مرة أخرى للإضراب.
كانت الأجواء المحيطة بإضراب كلية الهندسة حذرة جداً، وتمتاز بالحساسية الشديدة تجاه أي فصيل سياسي أو حزبي، كان التخوف واضحاً في عيون أولئك الطلاب من تسيس الإضراب والخروج عن النقاط المحددة والتي من أجلها قام الإضراب، وعلى الرغم من الهتافات المنددة بسياسات وزارة الداخلية فإن ذلك لم يكن كافياً لتجذير المطالب ونقل الحراك الثوري لخارج أسوار الجامعة، كان من المفترض أن يتم تحديد العدو الأوحد لهذا الحراك الثوري وعليه تُبنى التكتيكات السليمة، كانت الإجابة واضحة وصريحة ولكن كان الخوف طاغياً، شاكماً الألسن عن قول الحقيقة.
إضراب هندسة الزقازيق.. ما العمل؟!
في عام 1930، وفي سياق حديثه عن الأزمة الثورية في أسبانيا، كتب تروتسكي معلقا على دور الطلاب قائلاً: “عندما ترفض البرجوازية بعناد أن تحل المشاكل الناجمة عن أزمة مجتمعها، أو عندما تكون البروليتاريا غير مستعدة للاضطلاع بهذه المهمة، غالبا ما يسعى الطلاب لحلها. وهذه الظاهرة لاحظناها أكثر من مرة في مسار الثورة الروسية الأولى 1905، وكنا دائماً نقيِّم عالياً مغزاها الدلالي، لأن نشاطاً طلابياً ثورياً كهذا، أو نصف ثوري، يعني أن المجتمع البرجوازي يجتاز أزمة عميقة. إن البرجوازية الصغيرة (المقصود هو الطلاب في هذه الحالة) التي تشعر بالقوة المدمرة تعتمل في صدور الجماهير، تحاول بطريقتها الخاصة أن تجد مخرجاً من المأزق الذي وصل إليه المجتمع وتدفع الأمور السياسية إلى الأمام”.
كغيرها من القطاعات المتلقية لأفيون وتعاليم السلطة الحاكمة، كان القطاع الطلابي أسير هذه المفاهيم البرجوازية والمُصدرة من جانب أولئك الذين تربعوا على كرسي السلطة، وكغيرها من الأنظمة الديكتاتورية مارس النظام المصري حرباً شعواء على الحراك الجماهيري المتصاعد في الشوارع، وعلى الحراك الطلابي المُنفجر في كثير من الجامعات المصرية، فتم إصدار قانون تنظيم التظاهر، ولكبح الجامعات سعى من كان عضواً فيما مضى بحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات لإصدار قانون الضبطية القضائية للحرس الجامعي، هكذا كانت الأجواء، مزيد من القمع يقابله المزيد من النضال.
إن ما شهده إضراب كلية هندسة الزقازيق يمثل نموذجاً يشبه في طياته والكثير من تفاصيله المعقدة والمتشابكة، تلك التجربة الثورية التي حدثت منذ ما يقرب من 142 عاماً في باريس، كوميونة باريس عام 1871، مع التأكيد على اختلاف الحراك عن الثورة، ووضع عاملي الزمن والنضج الثوري في محله الصحيح.
في كوميونة باريس تم إغلاق جميع الأبواب على هذا المجتمع الاشتراكي الوليد، وجرى بذلك منع أي محاولات لتصدير الثورة إلى عموم فرنسا، وفي نفس الوقت كان أعداء الثورة في فرساي يدبرون المكائد للقضاء على الثورة، والنتيجة مقتل أكثر من 20000 من سكان باريس، على نفس المنوال حذا إضراب كلية هندسة الزقازيق، ولم يلجأ الطلاب لاستخدام وسائل تصعيدية بحق إدارة الكلية ورئاسة الجامعة، أو ربط النضال الطلابي بنضالات العاملين ومحاولة توسيع رقعة النضال بما يُشكل ضربات استباقية في قلب الدولة العميقة. كانت الأوضاع على الأرض مرتبكة، وكان التنظيم الثوري القوي والقادر على قيادة دفة الإضراب غائباً.
شأنه شأن الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير، عانى إضراب هندسة الزقازيق من غياب البديل الثوري، القادر على طرح الرؤية الثورية، وفرض التكتيكات السليمة في أوقاتها، فيما كان اتحاد طلاب هندسة الزقازيق يسابق الزمن من أجل اللحاق بتطورات الإضراب!
إن أوضاع جامعة الزقازيق وتميزها كغيرها من الجامعات الحكومية بوجود طبقة عاملة تتمثل في عمال الجامعة، بالإضافة إلى أطباء وممرضي المستشفيات الجامعية، يجعلها بامتياز بيئة خصبة لتجذير تلك المطالب الطلابية وربطها بنضالات تلك القطاعات العمالية، هذا إذا أخذنا في الحسبان أن تحركات تلك القطاعات ما زالت أصداؤها تتردد في الأذهان حتى الآن منذ إضراب الأطباء الأخير، هذه القطاعات العمالية لم تجد من يخطب ودها على مطالب تمس في المقام الأول معاناتها المستمرة مع استغلال وقمع السلطة الحاكمة لها، إن المعضلة الرئيسية التي تواجه الحركة الطلابية هي كيفية الارتباط بالطبقة العاملة، ليس في المصانع فقط، بل في جميع الأماكن التي تضم قطاعات العمال المُستغلة، وبالطبع فإن هذه الحركة الطلابية ذات النزعة البرجوازية، والمشبعة بأمراض المجتمع الذي تكتنفه، ما كان لها أن تتخلص من أمراضها وتبدأ في محاولة تجذير مطالبها سوى بوجود منظمة سياسية ثورية تنغمس في الحركة الطلابية وتدعم مطالبها الديمقراطية، ولكن في نفس الوقت تربطها بالمصالح الطبقية الجذرية للطبقة العاملة.
وعلى الرغم من ذلك فقد ضرب إضراب كلية الهندسة بجامعة الزقازيق المثال الحي في كيفية مواجهة قمع وعنف وكذب وتدليس السلطة الحاكمة، وعلى الرغم من قرار تعليق الإضراب بدعوة من اتحاد كلية الهندسة، إلا أن الذاكرة ما زالت مُعتصرة بأحداث أسبوع طويل، كان للطلاب وحدهم دور البطولة فيه، وكانوا كذلك الضحية في استمراره.. وللحديث بقية.