في “عبري عين شمس”.. لا تزال الثورة عورة

قضية واحدة تفتح الملف المسكوت عنه، كحجر يلقى في مياه سممها العفن.
قضية الفساد في قسم اللغة العبرية بكلية الآداب جامعة عين شمس ليست حالة شاذة أو طارئة، بل هي جزء من حالة عامة مستعصية وصل إليها التعليم في مصر.
امتلأت الصحف والفضائيات بتغطيات ومتابعات تتعلق بملف الفساد بقسم اللغة العبرية، والذي يتلخص باختصار في قيام عدد من الأساتذة والمعيدين بارتكاب مخالفات تتمثل في إعطاء دروس خصوصية، وبيع امتحانات وتزوير نتائج، مقابل مبالغ مالية وهدايا عينية، كذلك قيام بعضهم بالتحرش بالطالبات باللفظ والفعل، وابتزازهن مقابل الامتحان أو النتيجة. والتفاصيل كثيرة ومزرية بل ومثيرة للاشمئزاز.
لقد وصلت المسألة إلى ما يمكن وصفه بدون مبالغة بالنشاط الإجرامي المنظم، بداية بالتكالب على أهم المواد وأكثر الدفعات عدداً، وتكتيكات الترهيب والترغيب التي يتبعها الأساتذة خلال المحاضرة، مع الاستعانة بعملاء (بالمعنى الحرفي) من الطلاب والخريجين لاستقطاب الطلاب، والتركيز على الطلبة الأثرياء، أما غير الأثرياء فيجمعون المبالغ المطلوب لأحد زملائهم فيذهب للدرس وهو عبارة عن جلستين سريعتين يسرب خلالهما الأستاذ الامتحان.
تطور الأمر عند أحدهم للمشاركة من الباطن في أحد المكتبات بمنطقة منشية الصدر، لتنظم له نشاطه بشكل أوسع، وتقوم في الوقت نفسه بدور بلطجي الأستاذ، حيث قامت بعد فتح القضية بتهديد كل المشاركين فيها وقامت بالفعل بتخريب سيارة الشاهدة الأساسية داخل حرم الجامعة!
الطلاب.. البطل الحقيقي
هذه المخالفات ترتكب منذ ما لا يقل عن 15سنة، على مرأى ومسمع من الجميع ولكن ما الجديد؟.. الجديد أن عدداً من الطلاب تشجعوا واشتكوا وبحثوا عن أدلة تدعم موقفهم، وكان الضغط الإعلامي هو الوسيلة التي أدت لاتخاذ إجراءات جدية ضد الأساتذة الثلاثة، بوقفهم عن الكُنترول ثم وقفهم عن التدريس بعد فتح التحقيق في النيابة العامة، لتقوم الدنيا ولا تقعد ضد الطلبة المتجرأين ومن دعمهم من الأساتذة، واتهامهم بتشويه ثوب الجامعة الناصع.
ولكن.. لماذا؟ لماذا يقفون هذا الموقف من طلبة وأساتذة يقاومون الفساد؟ ويصل الأمر بآخرين بالدفاع المستميت عن الفاسدين؟
وقبل ذلك.. كيف وصل الفساد إلى هذه الدرجة من التوحش والرسوخ؟
الواقع أن “الفساد الأخلاقي” للبعض لا يمكن أن يفرز تلك الحالة التي وصفناها، والتي تتطابق أو تزيد في أقسام أخرى، وفي كليات أخرى، مثل كليات الطب والصيدلة مثلاً. ولكن “فساد المنظومة” هو القادر على أن يفرز هذا الفساد وأكثر، والأهم أن يرعاه ويحميه.
هدم منظم
كان من نتائج حرب 1967 أن تصدع المجتمع المصري، وجاء نظام السادات بمباركة الأمريكان ليقوم بهدم المشروع الناصري هدماً منظماً، وتبعه مبارك في مسيرة الهدم واستبدال المشروع الناصر على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وإحلاله ببنية مشوهة وعشوائية ومتداعية من منبتها.
وكانت الجامعة، كجزء من كل، من ضحيا تلك العملية، فأصبح الطالب يرغب في التخرج بأي شكل، وبعدما أصبح القطاع العام والحكومي عاجز عن استيعاب الخريجين، أصبح الحل هو اللحاق بقطار الانفتاح أو السفر إلى بلاد البترول، التي سبقها إليه الأساتذة. وبدأت صياغة عقد جديد في التعليم الجامعي، لا تختلف في طبيعتها عن الدكان، فالطالب يسعى للحصول على القدر المتاح “على قد فلوسه”، من أستاذ يسعى للحصول من الطالب على أقصى ما يستطيع، بدءاً من الكتاب باهظ الثمن ورديء الشكل والمضمون، مروراً بالدروس، وانتهاءاً بالتزوير السافر. ولا مجال للحديث عن أي معايير أكاديمية أو محتوى علمي أو اكتساب مهارات أو.. أو…
اللي مامعهوش.. مايلزموش
وبعد أن نهش مبارك وعصابته لحم البلاد حياً، جاء الدور على العظام الباقية التي يتكئ عليها: “التعليم” و”الصحة” أو ما تبقى منهم. يخرج وزير التعليم العالي في نهاية 2006 بمشروع لإعادة هيكلة التعليم العالي وبالأصح خصخصته، فيصبح الأستاذ مرهوناً في كل عام دراسي بأهواء ومصالح مجلس الأمناء المكون من رجال أعمال، أما عن الطلبة فـ “اللي مامعهوش.. مايلزموش”.
وإن لم يكن النظام بالجرأة التي تمكنه من الشروع المباشر في التطبيق إلا أنه مرر مشروع إعادة هيكلة الجامعة تحت اسم مشروع الاعتماد والجودة برعاية وتمويل الأمريكان، ليصبح الشغل الشاغل لكل جامعة هو التهافت على إرضاء لجان الجودة بأي شكل، وتهافت الأساتذة على اللحاق بالركب والحصول على ما تطاله أيديهم من “الفتة الأمريكاني”.
تكتمل أضلاع المنظومة بالقبضة الأمنية، فتم إدخال حرس الجامعة للحرم في 1979، ليحكم كل شيء ويربي أجيال من المخبرين في اتحادات الطلبة، والذين يتم تعيينهم تلقائياً، بعضهم في سلك التدريس، والباقي في الهيكل الإداري وخاصة رعاية الشباب، ليفرخوا المزيد والمزيد من المخبرين، الذين لا يزالوا يخدمون بتفاني برغم من خروج الحرس رسمياً في 2010.
ولم تكن سيطرة الحرس قاصرة على قمع النشاط السياسي بل تتدخل في تعيينات المعيدين والإداريين، وحتى في المحتوى العلمي للمناهج والرسائل العلمية، وهو ما استمر بإيد خفية حتى بعد الثورة (وليس بالمصادفة إن اثنين من بين المتهمين في القضية المذكورة تربوا وترعرعوا في حجر الأمن).
إيش تعمل الثورة؟
بالرغم من أن الجامعة المصرية كانت بؤرة الحركة الثورية في 1946، و1968، ثم في 1972، إلا أنها فقدت دورها بفعل ما ذكرناه، وبالرغم من خروج مظاهرات الانتفاضة 2000، وغزو العراق 2003، ثم انخراط الشباب في ثورة يناير، لم تؤثر الثورة كثيراً في ذلك المعبد الكهنوتي المسمى “جامعة”، وجامعة عين شمس على وجه الخصوص.
فالزلزال الذي أطاح بمبارك، لم يقم سوى بصدمة مؤقتة، جعلت بعض ذئاب النظام في الجامعة تتحول إلى فئران وتهرب إلى الخارج، بينما كانت جلود بعضهم من “التخن” لدرجة التشبث بمقاعدهم لآخر لحظة، وبعد انتزاع قانون الانتخاب المعيب، رشح بعضهم نفسه بمنتهى “التناحة”. فعلى سبيل المثال يفوز سامي عبدالعزيز بعمادة كلية إعلام القاهرة، بعد أن نظم الطلاب الثوار ضده أطول اعتصام في تاريخ الحركة الطلابية!
في الوقت نفسه يخرج الصف الثاني من صبيان النظام، ليحتل الصفوف الأولى للإدارة، التي كان يحجبها عنهم منافسيهم الأقوى. وتقوم القيادات الجديدة بفرز جيل جديد من الصبيان يعاونهم ويخلفهم بعد عمر طويل، ويقوم طلاب أمن الدولة والحزب الوطني بركوب الموجة وادعاء الثورية (ليست صدفة أن يسارع الاتحاد الرسمي بإصدار بيان يدافع عن الفاسدين ويدين أصحاب الشكوى في قسم عبري بآداب عين شمس).
وتظل الجامعة مقسمة إلى قطاعات: هيئة تدريس (أساتذة وهيئة معاونة)، وجهاز إداري، وعمال (معظمهم مؤقتين) وأخيراً طلبة، هم السواد الأعظم، الذين لا يد لهم في تقرير مصيرهم. ولعل السبب الأساسي في نجاح عملية التطهير في قسم عبري هو وقوف بعض الأساتذة مع الطلاب الثائرين، كاسرين الحاجز العتيد الذي يقدسه البعض. وبالتأكيد لن تدخل الثورة الجامعة إلا بكسر بقية الحوادث بين كل القطاعات المناضلة بين أسوارها.
* محمد حسني: مدرس مساعد بقسم اللغة العبرية – كلية الآداب، جامعة عين شمس