بمناسبة احتفالية جيل السبعينات..
الطلبة واليسار والثورة
في فبراير الماضي، وأثناء انعقاد الاحتفالية التي دعا إليها مركز المحروسة بمناسبة ذكرى مرور ربع قرن بالتمام والكمال على حركة الطلاب في 1972، علق حمدين صباحي (الناصري الراديكالي، واحد قيادات حركة جيل السبعينات) على الاحتفالية قائلاً أنه يشعر وكأنه في مجلس للعزاء! وبالطبع فمن زاوية معينة للنظر يمكن أن يكون تعليق حمدين صباحي كامل الصحة والدقة: تراجعت الحركة الطلابية التي افرزها جيل السبعينات منذ سنوات طوال، وتراجعت أيضًا موجة المد في الصراع الطبقي التي كانت تلك الحركة هي أحد مقدماتها الأكثر أهمية، وتكسرت على صخرة هذا التراجع منظمات اليسار المصري التي قويت ونمت في ظل الحركة، وبالتالي لم يعد للاحتفالية من مغزى ألا “البكاء على الأطلال”. ولكن من زاوية أخرى للنظر يمكننا بسهولة أن نكشف – من خلال الاحتفالية ومن خلال الندوات وورش العمل والأوراق التي تلتها – أن احتفالية فبراير كان لها وظيفة أخرى: هي كانت محاولة من رموز معينة من قيادات يسار السبعينات لتجمع “القوى المبعثرة” من أجل العودة إلى السياسة؛ من أجل بناء “حزب شرعي ودستوري لكل دعاة الإصلاح والتحديث والنهضة في مصر”!!
ما أعمق الهوة التي تفصل بين قادة طلبة السبعينات قبل ربع قرن – عندما كان عدد كبير منهم من دعاة بناء أحزاب سرية ماركسية لينينية تناضل ضد السلطة بالوسائل الثورية – وبينهم هم أنفسهم الآن: المثقفون والمهنيون الذين تخرجوا من على مقاعد الدراسة منذ زمن طويل والذين أصبحوا من دعاة “الشرعية” و”الدستورية” و”الإصلاح”. ولفهم هذا التحول الكبير الذي أعترى القادة اليساريين لابد من الحفر قليلاً عند الجذور.
صعود الحركة الطلابية:
في عام 1930، وفي سياق حديثه عن الأزمة الثورية في أسبانيا، كتب تروتسكي معلقًا على دور الطلاب قائلاً: “عندما ترفض البرجوازية بعناد أن تحل المشاكل الناجمة عن أزمة مجتمعها أو عندما تكون البروليتاريا غير مستعدة للاضطلاع بهذه المهمة، غالبًا ما يتنطح الطلاب لحلها. وهذه الظاهرة لاحظناها أكثر من مرة في مسار الثورة الروسية الأولى 1905، وكنا دائمًا نقيم عاليًا مغزاها الدلالي لأن نشاطًا طلابيًا ثوريًا كهذا، أو نصف ثوري، يعني أن المجتمع البرجوازي يجتاز أزمة عميقة. أن البرجوازية الصغيرة (المقصود هو الطلاب في هذه الحالة) التي تشعر بالقوة المدمرة تعتمل في صدور الجماهير تحاول بطريقتها الخاصة، أن تجد مخرجًا من المأزق الذي وصل إليه المجتمع وتدفع الأمور السياسية إلى الأمام”.
أن هذه العبارة لتروتسكي تصلح كبداية لفهم الاشتعال المفاجئ – بعد طول صمت – للحركة الطلابية المصرية في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. فبالرغم من الفوارق الكبيرة في الأحوال بين أسبانيا في مطلع الثلاثينات ومصر في السنوات الأخيرة من الستينات، إلا أن انفجار حركة الطلاب كان له نفس المغزى: المجتمع البرجوازي يمر بأزمة عميقة، والطلبة – أحد فئات البرجوازية الصغيرة – يتنطحون لمحاولة حلها بطريقتهم الخاصة.
لقد كان الأمر يحتاج لهزيمة عسكرية مذلة – يونيو 1967 – حتى تتحول المشاعر الغامضة والمكبوتة لدى قطاعات محددة بأن السلطة البرجوازية – نظام عبد الناصر – فاسدة ومتعفنة وعلى حافة هاوية، إلى غضبة عارمة ذات طابع سياسي. ولقد فهمت سلطة البرجوازية ذاتها الآثار السلبية المتوقعة للهزيمة. فقد ذكر عبد المجيد فريد – أحد رجال عبد الناصر – أن عبد الناصر كان يردد في الأيام التالية للهزيمة: “إن استقرار الجبهة الداخلية لن يدون طويلاً، ولن تتحمل الناس الصدمة أكثر من ستة أشهر إلى تسعة”، ولذلك “فهو كان يسعى بجدية لأحداث تغيير شامل في الحكم قبل الانفجار الذي كان يحسب له ألف حساب”!
وبالفعل، أتي الانفجار في ويوم 11 فبراير 1968 على يد الطبقة العاملة في حلوان. إذ خرج ألاف من العمال في هذا اليوم إلى الشوارع احتجاجًا على الأحكام المخففة التي حكمت بها المحكمة العسكرية على ضباط سلاح الطيران المتهمين بالإهمال أثناء الحرب. وقد كانت مظاهرات العمال – التي قمعت قمعًا دمويًا – مجرد بداية لانعطاف إلى أعلى في الحركة السياسية في البلاد. فقد تسلم الطلاب الراية في الأيام التالية، وخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات عمت المدينتين الرئيسيتين – القاهرة والإسكندرية – وتلاقت مع مظاهرات العمال القادمين من الأحياء الصناعية.
كانت أحداث فبراير 68 هي المقدمة لحركة طلابية واسعة ونشيطة. استمرت، مع إعطاء الاعتبار لكل التبادلات والتقاطعات، على الأقل حتى مطلع عام 93. وقد اعتبرت هذه الحركة – عن حق – أحد أهم مراكز النشاط السياسي الجماهيري طوال هذه السنوات الخمس، هذا بالرغم من أن العمال كانوا هم أصحاب المبادرة الأولى في 68.
في هذه السنوات، كان الصوت السياسي للطلاب هو الصوت الأعلى. وبالرغم من أن حركة الطبقة المركزية في المجتمع – الطبقة العاملة الوحيدة القادرة على قيادة تغيير ثوري شامل – كانت بدأت في التصاعد وفي اتخاذ زخم جديد في عامي 71 والنصف الأول من 72، إلا أن صوتها السياسي كان لا يزال في مرحلة تشكل. لم يكن بوسع أحد أن يتجاهل النضال المصنعية الصغيرة المتصاعدة والتي هددت سلطة السادات، ولكن الذي تنطحوا للحديث في السياسة كانوا هم الطلاب أكثر من غيرهم.
وقد تنطح الطلاب للحديث في السياسة على طريقتهم الخاصة: نصف الثورية البرجوازية الصغيرة. بالتأكيد لم تكن حركة الطلاب في فبراير 68 حول أحكام الطيران وحدها. لقد لعبت الأحكام دور المفجر – لحركة “ديمقراطية” بالمعنى البرجوازي الصغير الثوري لهذه الكلمة. إذ تضمنت مطالب الطلاب – كما تبلورت في اعتصام هندسة القاهرة وفي مؤتمر صيدلة الإسكندرية – إطلاق حرية الرأي والصحافة، تكوين مجلس حر يمارس الحياة النيابية الحقة السليمة، وقف تدخل المباحث في حرية الأفراد، تحقيق الحرية في الجامعة… أما انتفاضة يناير 72 الطلابية التي حدثت بعد 4 سنوات من النشاط السياسي المتواصل في الجامعات – فقد انفجرت أثر خطاب ألقاه السادات في 13 يناير 72 شرح فيه أسباب عدم وفائه بالوعد الذي قطعه على نفسه بأن يكون عام 71 هو عام الحسم مع العدو الصهيوني، وقال أن السبب هو اندلاع الحرب الهندية الباكستانية التي جعلت الظرف الدولي غير موات لقيام حرب إقليمية أخر! وبالطبع كان المطلب كان المطلب الطلابي هو دخول الحرب، أي “حل” المسألة الوطنية حلاً عسكريًا حاسمًا.
الطلبة يصبحون ثوريين:
إذن فلقد كانت المظاهرات الطلابية لهذه المرحلة هي محاولة جريئة يقوم بها الجيل الأصغر والأكثر حيوية من ممثلي المنظور الديمقراطي الثوري البرجوازي الصغير لا يجاد مخرج من الأزمة السياسية العميقة التي تمر بها البلاد، ولحل المعضلات التي لم تطرح الطبقات الأخرى – خاصة الطبقة العاملة – نفسها بشكل سياسي لحلها. وبالطبع لم يكن من الممكن أن تتجاوز هذه الحركة افقها البرجوازي الصغير بشكل تلقائي، وعلى أساس من تجربتها السياسية الخاصة وحدها. لقد كان الأمر يحتاج بالتأكيد إلى قاعدة موضوعية هي التطور المتنامي للحركة العمالية التي يمكن أن تشد إلى أفقها الحركة الثورية ونصف الثورة للبرجوازية الصغيرة: هذه القاعدة كانت تتشكل بالفعل في تلك السنوات (68 – 73) وبدرجة أكبر في السنوات التي تلتها وحتى 77. كان الأمر يحتاج أيضًا إلى توفر الشرط الذاتي: وجود منظمة سياسية ثورية تنغمس في الحركة الطلابية وتدعم مطالبها الديمقراطية، ولكن في نفس الوقت تربطها بالمصالح الطبقية الجذرية للطبقة العاملة.
وترجع الجذور السياسية لمنظمات اليسار الثوري والستاليني – والتي نمت في سنوات السبعينات بدرجة أكبر من أي مرحلة سابقة أو لاحقة – إلى سنوات النصف الثاني من الستينات بعد حل الحزب الشيوعي المصري في 65. فقد تكونت في هذه السنوات الملامح الأولى والجنينية لثلاث قوى أساسية: الحزب الشيوعي المصري الذي تكون من اتحاد مجموعة من الحلقات الشيوعي المصري الذي تكون من اتحاد مجموعة من الحلقات السرية التي تشكلت في فترة ما بعد هزيمة 67 من أعضاء سابقين في الحزب المحلول وافقوا على الحل 65، ولكنهم عادوا فنقدوا موقفهم بعد فترة قصيرة، ويمثل هذا الحرب استمرار لمجمل التراث الستاليني الذي كان سائدًا في الحزب قبل حله؛ الحزب الشيوعي المصري: 8 يناير وهي المنظمة التي كونها عدد من أعضاء الحزب الشيوعي الذين رفضوا قرار الحل والذين كونوا على أثره مجموعة سميت مجموعة الاستمرار؛ حزب العمال الشيوعي المصري وهي المنظمة الأكثر جذرية بين القوى الثلاث، وقد تشكلت ملامحها الأولى في غضون نفس المرحلة تقريبًا.
شهدت هذه المنظمات الثلاث نموا كبيرًا في النصف الأول من السبعينات. وبالرغم من أن العمل المطلوب للتأريخ للحركة الشيوعية الثالثة (الحركة التي بدأت في النصف الثاني من الستينات) لم يبدأ بعد، إلا أن في مقدورنا الحديث بثقة عن أن جزءًا كبيرًا من هذا النمو – خاصة في 8 يناير والعمال – مسئول عنه النشاط السياسي في أوساط الحركة الطلابية المشتعلة آنذاك. ويذكر عدد من المنخرطين في الحركة الطلابية في هذه الأثناء أن النشاط السياسي المنظم لليسار قد بدا يأخذ طابعًا مكثفًا وناضجًا بالذات في عامي 72 و73 حينما بدأت مجموعة من العناصر الطلابية النشطة “في تطوير روابط تنظيمية مع المنظمات الماركسية الناشئة في البلاد”. (أحمد عبد الله، الطلبة والسياسية في مصر).
لقد كان للأفكار الثورية جاذبيتها وتأثيرها على أعداد واسعة من الطلبة الذين يناطحون برجوازية عاجزة ومهانة من الإمبريالية والصهيونية. وكان في مقدور اليسار الثوري – والستاليني في ثوبه الجديد المعارض للسادات – أن يقف على رأس حركة طلابية تعبر – بالوكالة عن طبقات المجتمع المستغلة الأخرى التي لم تتقدم لمقدمة المشهد السياسي بعد – عن السخط الذي يعتمل في أحشاء المجتمع. وحتى عندما أدى قرار دخول الحرب في أكتوبر 73 “إلى حالة من الارتباك السياسي لدى قيادات الطلاب”، فإن هذا لم يترك أثرًا فادحًا على وجود وتأثير اليسار الثوري في أوساط الطلاب، أو على وضعه بشكل عام. فقد اتضحت في غضون الشهور والسنوات القليلة اللاحقة المضامين الأساسية لسياسة السادات سواء فيما يتعلق بالمسألة الوطنية (الحرب ذريعة للتحالف مع الإمبريالية)، أو فيما يتعلق بمسألة أعادة هيكلة الرأسمالية (الانفتاح). الأهم من ذلك أن الصراع الطبقي أخذ منحنى متصاعدًا بعد هدوء قصير تلا حرب 73، وأن هذا المنحنى كان يتسم بتصاعد غير مسبوق على مدى ربع قرن لدور الطبقة العاملة النضالي. وهو ما عنى أن منظمات اليسار – التي لم تفتنها بشكل لا علاج منه الحركة الطلابية – استطاعت أن تجد لها جذورًا عمالية متفاوتة الحجم والتأثير.
أزمة اليسار الثوري:
كل شيء كان يسير على ما يرام إذن حتى بدايات النصف الثاني من السبعينات. ولكن مع مقدم السنوات الأخيرة في السبعينات – بالذات بعد 77 – بدأت منظمات اليسار الثوري (والحزب الشيوعي الستاليني أيضًا) تواجه أزمات حداة ومتتابعة: انشقاقات متوالية من الحزب الشيوعي أكثرها أهمية وتأثيرًا هو انشقاق حزب الشعب الاشتراكي في النصف الثاني من الثمانينات الذي سحب جزءًا مؤثرًا من العضوية؛ خلافات داخلية حادة داخل منظمة 8 يناير أدت تفككها النهائي في منتصف الثمانينات؛ أزمات داخلية وخروج كبير للعضوية أفقدا حزب العمال تأثيره السياسي وحيويته؛ اندثار تكوينات أقل تأثيرًا من أهمها عصبة التروتسكيين.
لم تكن أزمة اليسار – الثوري بالذات – خلال سنوات الثمانينات وليدة الصدفة، وإنما وليدة الظروف الموضوعية. لا يعني هذا أبدًا أننا نرى أن الانهيارات والتفكك كانا حتميين، وإنما يعني ببساطة أننا نرى أن الظروف التي خلقت وضعًا مأزومًا كانت خارج يد المنظمات الماركسية؛ ولكن – هذه نقطة حاسمة – مسئولية هذه المنظمات كانت تكمن في طبيعتها السياسية وفي أدواتها وأساليبها للتعامل مع ظروف موضوعية ضاغطة، وهذا أمر كان – بدون شك – في يد هذه المنظمات.
لقد مثلت 77 نقطة انعطاف هامة في تطور الصراع الطبقي في مصر. في بداية هذا العام انفجرت انتفاضة جماهيرية واسعة النطاق كانت هي الحدث الجماهيري الأكبر والأكثر أهمية على مدى السنوات التسع من التصاعد في الصراع الطبقي بدءًا من أحداث 68. ولقد كانت لهذه الانتفاضة – التي استمرت يومين – أثار بعيدة المدة على التوازن الطبقي. من ناحية أولى وضعت الانتفاضة – التي أخافت البرجوازية خوفًا حقيقيًا – العصا في عجلة برنامج الإصلاح والتحرير الاقتصادي الذي كان السادات ينتوي تطبيقه بغرض إعادة هيكلة الرأسمالية المصرية وتشديد الاستغلال. ولكن من ناحية ثانية أدى نجاح البرجوازية في قمع الانتفاضة إلى تشتيت وأضعاف الحركة العمالية وحركة اليسار: أغلقت الصحافة اليسارية، وزج في السجن بعدد كبير من اليساريين والقادة العماليين.. الخ الأهم من ذلك أن النضالات الاقتصادية للعمال تراجعت بشدة بعد 77: لم تسجل المصادر ألا حدثًا واحد بين 77 و81! (بالطبع الرقم الحقيقي أكبر من ذلك، ولكن ضآلة الرقم المسجل تعد في حد ذاتها مؤشر على تراجع كبير).
ذروة 77 تبعها تراجع وسكون؛ ومع التراجع – وبمرور السنوات – بدا يتكشف لعدد متزايد ممن انضموا للمنظمات الماركسية في موجة المد السابقة أن وسائل النضال المتبعة لم تعد تأتي بالثمرة المعهودة. لقد اتسعت الهوة بين حركة اليسار الثوري وبين الجماهير: في أوساط الطلاب لم يعد اليسار قادرًا على تحريك مظاهرات الشوارع الضخمة كتلك التي قادها في العهد السابق، وفي أوساط العمال أصبح الحفاظ على القاعدة الصغيرة التي تم خلقها قبل سنوات أمرًا صعبًا وشاقًا.
لم يكن هذا الظرف الموضوعي من خلق اليسار بل كان نتاج انعطاف حاد في موازين القوى الطبقية. وكقانون عام فإن سنوات الجذر والتراجع، ومراحل ما بعد الهزائم الكبرى، تمثل امتحانًا قاسيًا لكل وأي حركة ثورية: فأما أن تشتد قامتها ويصلب عودها، أو تنهار تحت وطأة الضغوط الموضوعية. وبالطبع لا يطبق هذا القانون في فراغ: فإمكانيات اجتياز الامتحان لا تتحدد بمدى الصلابة الأخلاقية المجردة للثوريين، وإنما بمدى امتزاج الصلابة والوضوح المبدئيين مع المرونة التكتيكية.
وفي حالة المنظمات الماركسية المصرية (ومع أعطاء الاعتبار لكل الحذر المطلوب بسبب من عدم وجود تاريخ للحركة) يمكننا أن نقول أن افتتان بعضها بالحركة الطلابية وميلها للغرق في حدودها الضيقة، وإن عدم أحداثها القطيعة الثورية الكاملة – حتى في المنظمات الأكثر جذرية – مع الأرث الستاليني في السياسة (طبيعة الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا، مسألة الجبهة الشعبية.. الخ)، وإن الميل المأوي ضد اللينيني لسياستها (المنظمة تقدم خطأ سياسيًا جاهزًا لجماهير ستسير ورائه بمجرد ظهوره)، وإن إتباعها لطرق ستالينية في التنظيم (أما فقدان كامل الحيوية النقاش السياسي الداخلي، أو ميل فيدرالي يسمح بكافة التلاوين) – يمكننا أن نقول أن كل هذا ساهم في خلق حالة من الفوضى المزمنة في مواجهة ظرف موضوعي جديد وقاسي.
كان من السهل في ظل ظروف كهذه ليس فقط ظهور اتجاهات سياسية يمينية داخل منظمات اليسار وداخل عناصره المفككة (هذا في الحقيقة ميل ينشأ حتميًا داخل الحركة الثورية حال مقابلتها لمأزق تراجع في الصراع الطبقي)، وإنما هيمنة هذه التيارات على حركة اليسار بفصائله المختلفة. وأنه لأمر مدهش حقًا أن نتابع كيف تحولت اللفظية الثورية والتشدد البرجوازي الصغير في منظمات اليسار الثوري إلى يمينيه مكتملة الملامح في غضون سنوات قلائل، وكيف أصبح ثوريون محترفون سابقون يمرون على تاريخهم السابق “باستيكة”، وكيف ظهر نقد اللينينية، والجمود العقائدي، والدكاكين السرية كموضة في أوساط اليساريين الذين بات غذاؤهم النظري يقوم على أفكار مثل المجتمع المدني، والتنوير، والعقلانية، بدلاً من أفكار الثورة، وديكتاتورية البروليتاريان والحزب اللينيني.
من هم أعضاء المنظمات الماركسية الذين أصابهم هذا الوباء؟ هم أساسًا أولئك الطلبة الذين تنطحوا لحل معضلات سياسية عجزت الطبقات الاجتماعية الأساسية عن قيادة الطريق لحلها وقت ظهورها، هؤلاء كانوا هم الكتلة الأساسية من العضوية في منظمات اليسار في السبعينات. وليس في هذا أي شيء خاطئ أو غير طبيعي في المراحل الأولى لنمو اليسار الثوري. ولكن الخاطئ والكارثي حقًا هو ألا تستطيع تلك المنظمات – خاصة في مراحل الأزمة والتراجع – أن تحافظ على خطها العمالي الثوري، وعل تماسكها السياسي. في هذه الحالة تدفع المنظمة تمن تشوشها وتذبذبها، وفقدانها لأي موقف صلب ولأي مرونة تكتيكية، عن طريق هيمنة الميول اليمينية لطلاب أصبحوا ثوريين في منظمة تفتقر لقاعدة عمالية واسعة، على مجمل الحياة السياسية للتنظيم.
أي حزب للسبعينيين؟
يتسم الطلاب الذين انتموا للمنظمات الثورية – والذين أصبحوا بعد سنوات قلائل كتاب وصحفيين ومهنيين – بالتأرجح بين أقصى الجنوح ناحية الثورية اللفظية والطفولة اليسارية، وبين الخضوع الكامل للبرجوازية ومنظورها السياسي والطبقي. ولهذا بالضبط كانوا يحتاجون إلى منظمات قوية ومتماسكة ومرنة وذات منظور عمالي، تضبط حركتهم وتحارب تردداتهم وتوظفهم لصالح المشروع الثوري. ولكن هذا ما كانت تفتقر إليه منظمات اليسار في مرحلة الأزمة والتراجع. ولذلك فقد هيمن تردد هؤلاء على المنظمات؛ وأصبحت القاعدة – في مرحلة التفكك – هي الدعوات المعلنة من جانب عدد من القادة والعناصر المؤثرة لنقد التاريخ القديم وللبحث عن تصورات “جديدة” و”عملية”.
وكالعادة دائمًا كانت المبادرات إلى اليمين – وغالبًا ما كانت تبدأ في القمة – تنطلق من اعتبار المرحلة السابقة مرحلة “جمود عقائدي” أو مرحلة “صبيانية”. وكان الثوريين السابقون يبحثون عن جسر يعبرون عليه إلى البرجوازية، ليس فقط فيمنا يتعلق بحياتهم الشخصية – الوظائف ونمط الحياة.. الخ – وإنما أيضًا فيما يتعلق بالأيديولوجية التي يتبنونها. وهنا انتعشت في أوساط الطلبة الثوريين السابقين أيديولوجيات “التنوير” و”المجتمع المدني” وغيرها. أما من رفضوا هذه السياسة وهذا التراجع – وهم بالتأكيد لم يكونوا أقلية – فقد وجدوا أنفسهم في معظمهم في حالة تخبط وفقدان ثقة بعد تفكك المنظمات وانعطاف جزء هام من “القادة” و”النجوم” ناحية البرجوازية.
وتظهر مبادرة قادة ومخططي احتفالية جيل السبعينات في هذا السياق كواحدة من التلاوين السياسية والأيديولوجية للانعطاف ناحية البرجوازية. بدأت المبادرة “بشكل بريء” كدعوة لاحتفالية تجمع كل من شاركوا في الحركة الطلابية في السبعينات ليحيوا الود القديم وليتذكروا أحداث التاريخ المنقضي منذ ربع قرن. ولكن سرعان ما ظهر أن هناك حالة سياسية سائدة في أوساط – على الأقل – جزء من القادة اليساريين السابقين. فمن بين هؤلاء القادة ظهرت عناصر رفعت صوتها ملحة بضرورة العودة إلى السياسة، وبضرورة الشروع في بناء حزب سياسي مستقل عن الأحزاب الموجودة. ومن بين هؤلاء القادة أيضًا ظهرت عناصر تعارض هذه الدعوة وتدافع عن صيغة المجتمع المدني (المنظمات الأهلية..) كأفضل صيغة للعمل العام كما أثبتت التجربة في مصر والعالم!
وقد يكون لهذا التناقض الشكلي والجزئي بين من يخشون أن تحرق السياسة الحزبية أصابعهم وبين من تغويهم فكرة الحزب وتدفعهم إلى المناداة بإلحاح بتحقيقها، قدر من الأهمية لأنه يعطينا فكرة عن التفاوت والتناقض داخل قادة السبعينات الذين نبذوا السياسة الثورية. ولكن أهمية هذا التناقض تتضاءل وتتراجع إلى الوراء إزاء حجم الاتفاق الاستراتيجي بين هؤلاء القادة: يتفق الفرقاء على منظور سياسي مضمونه الأساسي هو الشرعية (في مقابل السرية)، والإصلاح (في مقابل الثورة). إزاء اتفاق بهذا الحجم حول الأهداف إلا يبدو الاختلاف على الوسائل ضئيلاً وغير ذي شأن.
وبالتقليب في الأوراق التي أصدرها أنصار الحزب للدفاع عن فكرتهم ومشروعهم يمكننا أن نكون فكرة عن المدى الذي وصلت إليه أصلاحيتهم المفلسة. ففي نداء موجه “للمشاركة في بناء حزب سياسي لقوى المستقبل في بلادنا” يجيب هؤلاء عن السؤال حول أفكار هذا الحزب المبتغي كالتالي: “نحن ضد أن تخلق كوكبة من الحكماء هذه الأفكار ثم تطلقها على الآخرين، وإنما نحن مع صهر كل الأفكار ثم تطلقها على الآخرين، وإنما نحن مع صهر كل الأفكار الموجودة بالفعل في رءوس الآلاف من المهتمين في بوتقة واحدة حتى يتسنى لنا الوصول على أفضل صيغة ممكنة”!! وراء هذه الخزعبلات الديمقراطية يكمن انعدام أصيل لكل سياسة وكل مبدئية. أي انتقائية تلك التي تجعل مشروع حزب يقوم على تجميع وصهر آلاف الأفكار في بوتقة واحدة؟ إن هذه الفكرة – إذا صح إعطاؤها هذه التسمية – هي الإفلاس بعينه. وإذا كان كتاب هذا النداء على قدر أكبر من الاستقامة مع أنفسهم ومع جمهورهم لقالوا: “نحن لا نمتلك بديلاً سياسيًا لنستقطب حوله، لكننا بالرغم من ذلك نريد بناء حزب سياسي”!!
على أن أنصار الحزب يقدمون شيئًَا ما أكثر تفصيلية في ورقة أخرى عنوانها “نحو حزب شرعي دستوري لكل دعاة الإصلاح والتحديث والنهضة في مصر” (وقع عليها فريد زهران وأحمد عبد الرحمن ومجدي عبد الحميد وحسنين كشك وأحمد بهاء الدين شعبان). ومن العنوان ذاته نستطيع أن نكتشف – بدون عناء – أي حزب يريد هؤلاء أنشاؤه. ولكن لننظر في النص نفسه. يقو السبعينيون من أنصار الحزب أنهم يريدون بناء حزب يكون “معارضًا لسياسات الحكومة ومختلفًا معها… لأن الحكومة هي المسئول – على الأقل والأول والرئيسي – عن أغلب ما يعانيه الوطن من أزمات باعتبارها البيت المسئول عن السياسات والنظم التي تقف كسبب وراء هذه الأزمات”. ولكنهم يستدركون فيقولون “أننا لا نستطيع أن نسعى لبناء حركة سياسية للصدام مع الحكومة وكأن ذلك وعلى طول الخط هدف في حد ذاته.. (وذلك لأن) الموقف من الحكومة سلبًا أو إيجابا ينبع أصلاً من رؤيتنا المستقلة للمستقبل.. وهذه الرؤى وما يترتب عليها من مبادرات ونشاطات هي ما تشكل في مجموعها فعل إيجابي قد يصطدم أو يتفق مع الحكومة في هذه السياسة أو تلك”.
هذا عن الإطار العام للحزب، أما عن رؤيته المستقلة فتتضمن الأتي: الدفاع عن الديمقراطي كهدف وليس كوسيلة؛ النضال ضد التمييز الجنسي والديني؛ النضال ضد الدولة الدينية والدفاع عن فصل الدين عن الدولة؛ العداء للدوائر الاستعمارية الذي لا يتماس مع الرفض العنصري الساذج للغرب؛ تحقيق نهضة ثقافية سياسية اقتصادية اجتماعية شاملة؛ الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؛ الانحياز العام والمبدئي للعدل الاجتماعي ورفض محاولات تحميل الفقراء عبء الأزمة الاقتصادية والدفاع عن مبدأ تكافؤ الفرص.
تبقي في مشروع الحزب السبعيني نقطة واحدة أساسية، وهي قواه الطبقية. يقول “القادة” في ورقتهم التفصيلية أنهم يسعون وبوضوح إلى “بناء حركة سياسية واسعة وقادرة على استيعاب تيارات مختلفة لأنها ببساطة حركة تلقي على عاتقها التصدي لمجموعة من التحديات والمهام التي تخص الأغلبية الساحقة من الشعب المصري بطبقاته وفئاته المختلفة، الأمر الذي يفسر منطقيًا أهمية أن تتسع حركتنا لتيارات مختلفة في إطار ما نتبناه جميعًا من مبادئ وتوجهات عامة. ولذلك فالحركة لابد أن تتسع لكل دعاة الإصلاح الشامل أو “الجذري” من أي فرق “ثورية”، وتتسع أيضًا لدعاة الإصلاح التدريجي أو الجزئي من أي فرق إصلاحية”.
هكذا يكتمل مشروع السبعينيين المصرون على بناء حزب سياسي. وقد علق عدد من الكتاب السياسيين من الستالينيين والثوريين السابقين (كصلاح عيسى ومحمد السيد سعيد) على هذا المشروع بأنه ليس فيه أي شيء جديد مختلف عن منظور وبرامج القوى الحزبية الموجودة بالفعل (التجمع والناصري بالذات). وهم في ذلك بالطبع محقون. فالمشروع السبعيني يحتوي على نفس الابتذال الإصلاحي لليسار الشرعي الهامشي والمبتذل للبرجوازية: المعارضة المتوازنة (أي المعارضة الانتقائية والمخلوقة كصمام أمان وديكور ديمقراطي برجوازي)؛ العلمانية والتنوير (أي النضال في صف الدولة ضد الحركة الإسلامية تحت الإدعاء الكاذب الدفاع عن قيم الحرية والتنوير)؛ التنمية المستقلة (أي التنمية الرأسمالية غير المسحوقة أما الرأسمالية العالمية)؛ التحالف الوطني الشامل (أي تمييع الصراع الطبقي ولعب دور توفيقي كاذب وهامشي).. الخ.
المشروع السبعيني – كما يرى الكتاب الذين أشرنا إليهم قبل قليل – ليس في مضمونه بالتأكيد أي جديد. الشيء الوحيد فيه أنه ولد مبتذلاً ومشوها، ولم يحتج إلى أي نضوج أو تجريب حتى يظهر مضمونه المفلس والبرجوازي. وليس في هذا أي شيء عجيب: فلماذا يحتاج المشروع إلى تجريب وإنضاج حتى تظهر سماته الطبقية إذا ما كانت سنوات اختماره الطويلة – سنوات هزيمة اليسار الثوري – قد سمحت لقياداته ببلورة كامل عجزهم وإفلاسهم في صورة نظريات المجتمع المدني والتنوير. كل ما قام به هذا المشروع هو إضافة بعض توابل الابتذال المقتبسة من تراث التجمع قبل إضفاء الصفة الحزبية – كإعلان شرعية لا أكثر – على ما هو موجود بالفعل.
هنا نستطيع أن نفهم لماذا قلنا أن الاختلاف بين الحزبيين وغير الحزبيين في أوساط قادة السبعينات الذين نبذوا السياسة الثورة هو اختلاف في معسكر واحد. فالحزبيون يختلفون عن غير الحزبيين فقط في أنهم وضعوا المنظور السياسي والفكري الانتهازي المشترك (بالطبع مع بعض التلاوين الإضافية) في القالب الحزبي. أما عن دوافعهم للقيام بهذه الخطوة – بالرغم من أن سياساتهم موجودة بالفعل في أحزاب شرعية ترحب باستيعاب مد انتهازي جديد – فهي ببساطة تكمن في البحث عن دور على خريطة السياسة البرجوازية المصرية. لا يرضى المثقفون والمهنيون من جيل السبعينات الذين انعطفوا ناحية البرجوازية بوضع هامشي في أحزاب تسيطر عليها بيروقراطية سياسة متعفنة سيطرة تامة. هم لا يقبلون أقل من وضع قيادة حزب جديد، حتى لو كان هذا الحزب لا يختلف سياسيًا في شيء عن القوى الموجودة.
معارك المستقبل:
لم يكن من المحتم أن تؤدي أزمة اليسار الثوري التي خلقتها الظروف الموضوعية إلى كل ما حدث. فلو أن العناصر القيادية الثورية التي تريد مواصلة النضال في منظمات هذا اليسار – خاصة في حزب العمال الذي كان أكثر وضوحًا وتماسكًا وثورية من الناحية السياسية – اتبعت أساليب أخرى في مقاومة الانحراف إلى اليمين، وفي تطوير مواقفها وحركتها السياسية، لكان من الممكن إيجاد مقاومة أكثر حزمًا للتيارات اليمينية (سواء بالبقاء في المنظمات أو الخروج بكتلة منها). ولكن المهم أم ما حدث أدى إلى خلق حالة من فقدان الثقة والتشوش في أوساط عدد كبير من العناصر الثورية المخلصة الوسيطة والقاعدية التي دفع بجزء منها إلى الخروج من حلبة السياسية الثورية (عدد كبير من هؤلاء حضر الاحتفالية من باب الفرجة بينما حضرتها عناصر ثورية لتفهم بسرعة إلى أي مدى وصل اليمينيون).
وبالطبع فإن الحديث عن المعارك والنضالات السياسية بعد حدوثها أسهل بكثير من خوضها بكل مصاعبها ومنعطفاتها. ولذلك فنحن نرى أن قضيتنا الأساسية اليوم – وبالعلاقة مع خبرة اليسار الثوري في مصر – هي في التعلم من هذه الخبرة ونقدها نقدًا ثوريًا (وهو أمر لم يكد يبدأ بعد)؛ وهي أيضًا في النضال ضد التيار اليميني الذي ولد أبان أزمة اليسار الثوري في الثمانينات والذي انتعش بعدها وأصبح فكرًا شرعيًا متداولاً في أوساط واسعة. هذه هي المهام التي علينا القيام بها. وعلينا أن نكثف قوانا لأدائها.