ما هو التطرف اليساري؟

منذ عدة أسابيع امتلأت الصحف ومواقع الأخبار الإليكترونية باتهامات لحركة الاشتراكيين الثوريين بالتطرف اليساري أو الطفولة اليسارية، وكان على رأس هذه الحملة يساريون بارزون، من أمثال رفعت السعيد من حزب التجمع، أو قوميون ممن انضووا مؤخراً تحت جناح السلطة كالمناضل النقابي السابق والوزير الحالي عدو العمال كمال أبو عيطة.
وبينما لم تتكلف الحركة عناء الرد على هذه الاتهامات نظراً للمواقف شديدة اليمينية والانتهازية التي يتخذها من يطلقون هذه الاتهامات، إلا أنه في الحقيقة هناك تاريخياً دوماً خطر كبير على الحركات والمنظمات الثورية من تزايد ميول التطرف اليساري أو الطفولة اليسارية خاصة في أوقات التراجع أو الجذر الثوري. وهذا بالتأكيد مختلف عما يقصده اليمينيون والانتهازيون؛ فبالبنسبة لهم أي أفكار أو تكتيكات ثورية، مهما كانت متناسبة مع حال الصراع الطبقي، تعني تطرفاً وطفولة يسارية.
لعل أهم ما يميز الميول المتطرفة هو الالتزام الحرفي بكتابات روّاد الماركسية، والتعامل معها كدوجما بغض النظر عن مواتاة اللحظة والمرحلة التاريخية، وكذلك الإهمال الشديد للتكتيكات المختلفة (لاسيما تكتيكات البناء في مراحل الردة والثورة المضادة) وإحلال الأهداف الاستراتيجية النهائية وشعاراتها محل التكتيكات المختلفة المتناسبة مع طبيعه المرحلة.
ولكن يظل السؤال؛ من أين تنبع جذور هذه الميول المتطرفة والتي يقع في حبائلها كثيرٌ من الثوريين المخلصين؟ ولماذا تحديداً تظهر هذه الميول في أوقات الردة والتراجع الثوري؟
للإجابة على السؤالين، بإمكاننا النظر في التجارب التاريخية للثورات العظمى. يمكننا بشكل عام ملاحظة أن هناك دوماً ميول يسارية متطرفة في كل التنظيمات الثورية أثناء الثورات العظمى، وفي حالات الصعود وتقدم الثورة تظل هذه الميول محكومة بالضغط الجماهيري العارم وبالمزاج الثوري السائد والذي يُحجم من نموها بالقدر التي تنغرس فيه التنظيمات الثورية في أوساط النضالات الجماهيرية والعمالية المختلفة أثناء الثورة.
تبدأ المشكلة في التأزم، وتزداد الميول اليسارية المتطرفة، بعد انهيار الحركة الثورية بشكل مباشر وخاصه بعد هزيمتها المرحلية أو النهائية حيث:
“يترك القمع العنيف للثورة المضادة بصمة قوية في عقول كل المشاركين فيها، بالأخص أولئك الذين أُبعدوا عن منازلهم أو أُرسلوا إلى المنفى. ولذلك حتى أولئك الناس ذوي الشخصيات الثابتة يفقدون عقولهم لفترات قصيرة أو طويلة؛ فلا يستطيعون مواكبة سير الأحداث ولا يتقبلون حقيقة أن التاريخ قد غيّر مجراه، وبالتالي يتوجهون لأن يحيكوا المؤامرات التي تنال من القضية والتي لا تخدم إلا أنفسهم”.
(الاقتباس من كارل ماركس في وصفه لحال الثوريين بعد هزيمة الثورة الألمانية في 1848).
في الحقيقة أن موجات الجذر الشديدة للثورة وصعود الثورة المضادة تترك بصمتها بالفعل حتى على أكثر الكوادر الثورية صلابةً وتماسكاً، ويمكننا تفهّم الدوافع النفسية للأقلية الثورية في إنكار الهزيمة، فبعدما تُسحق الثورة أو تتراجع بشكل كبير ماذا قد يكون أكثر إرضاءاً للنفس ودفعاً للاكتئاب من طرح الإعداد لانتفاضة أو ثورة جديدة مثلاً كمهمة فورية وملحة؟
عملياً تدفع الفترة الرهيبة التي تلي هزيمة الثورة أو تراجعها الكثير من الثوريين إلى العمل الدعائي المجرد، بالأخص مع تراجع فرص النشاط العملي على الأرض، وهكذا من الممكن أن تتطور لدى بعض الثوار نزعة متطرفة قولاً وفكراً بعد تقلص مسئولياتهم العملية والتنظيمية بسبب الظروف الموضوعية.
وهكذا يبدأ الثوريون في الدخول في حلقة سلبية مفرغة، فعندما يفقد الثوريون تأييد الطبقة العاملة وينعزلون عنها تحت تأثير الهزائم المتلاحقة للثورة، توفر العزلة بذلك تربة خصبة يترعرع فيها التطرف اليساري. وكلما ازداد الثوار انعزالاً، كلما قلت الفرص الحقيقية لتصحيح تكتيكاتهم بواسطة الطبقة العاملة أثناء النضالات الجزئية، وتزداد بالتالي الشعارات المتطرفة جاذبيةً وبريقاً. فحينما يغيب الجمهور عن تلقي ما يقوله الثوريون، ما الذي يمكن أن يمنع الثوريين من تبني أكثر الشعارات الثورية تطرفاً وبريقاً؟ وبالتوالي تزيد هذه الشعارات المتطرفة والبعيدة عن الأوضاع الحقيقية للصراع الطبقى وموازين القوى من ابتعاد الجماهير والعمال عن الثوريين لندور بذلك في نفس الحلقة السلبية المفرغة.
وللأهمية القصوى للحالة النفسية والمزاجية للجماهير فقد أولاها الثوري الروسي فلاديمير لينين قدراً لا بأس من اهتمامه خاصةً بعد هزيمة ثورة 1905 الروسية، فنجده يكتب:
التشاؤم، انعدام المقاومة وضعف العزيمة، ومناشدة “الروح”، كل تلك العناصر تشكل معاً أيديولوجيا حتمية في عصر ينقلب فيه النظام القديم برمته رأساً على عقب. وحينما تكون الجماهير، التي نشأت في ظل هذا النظام القديم الذي غرس فيها مبادئه وعاداته وتقاليده ومعتقداته، لا ترى، ولا تستطيع أن ترى، ماهية النظام الجديد الذي “يتشكل”، وماهية القوى الاجتماعية التي “تشكله” وكيف، ماهية القوى الاجتماعية القادرة على إحراز النصر والتحرر من مظاهر المعاناة الحادة، تلك سمة عصر الاضطرابات الثورية.
و لذا للتغلب على الميول المتطرفة في هذا الوقت المضطرب، لابد لأي حركة أو حزب ثوري أن يتعلم كيف يخوض مرحلة التراجع مع الجماهير، وأن يكون في قلب قواعدها المتقدمة في الوعي، دون أن يذوب بينها، لكن أيضاً دون أن ينفصل عنها.
إن فترات التراجع هي الفترات التي تتمرس فيها الكوادر الماركسية الراسخة وتصبح فيها أكثر صلابة. هذا التمرس والرسوخ، وهذه الصلابة، لا يمكن اكتسابهم من الفراغ بمعزل عن النضال العملي والموقعي في أوقات الجزر الثوري، حتى برغم ضيق حدود النضال في هذه الفترات، والذي تكتسب فيه مجرد وقفة احتجاجية أو مظاهرة صغيرة أهمية فائقة وتقدم للثوريين خبرات ودروس بلا حدود. ولنا هنا درسٌ تعلمه الكثير من المناضلين من فترة العمل الصعبة والمريرة والمليئة بالمخاطر في عهد مبارك، فباستثناءات نادرة كانت الكوادر التى تربت في ظل هذه الظروف الصعبة قبل الثورة بشكل عام أكثر رسوخاً وتمرساً من تلك التي لم تعاني من نفس الظروف بعد الثورة. وها قد جاءت الفرصة الآن لإعداد جيل جديد من الكوادر الثورية الصلبة في ظل عصر السيسي وثورته المضادة، خاصةً مع ازدياد الأوقات المتاحة للتثقيف والتقوية النظرية في كل مناحي الاشتراكية الثورية.
إن علينا الآن في فترة الركود والردة والتفكك أن نعمل ببطء ولكن بانتظام وثبات، أن نتقدم خطوة بخطوة، وأن نكسب بوصة تلو الأخرى وكادر ثورى تلو الآخر وأن نحافظ على المبادئ الاشتراكية الثورية، ولكن علينا أيضاً أن نطور الشعارات والتكتيكات الاشتراكية الثورية لتتناسب مع طبيعة المعركة التي نخوضها ومزاج الطبقه العاملة، ولتكن معركتنا ضد ميول التطرف اليسارية هى معركة ضد التشاؤم والإحباط ومعركة ضد نفاذ الصبر ومعركة ضد ضيق الأفق والتصلب.
وفي النهاية لا أجد أفضل من اقتباس كلمات لينين الموجهة لرفاقه البلاشفة في ظل سطوة الحكم القيصري بعد هزيمة ثورة 1905 كتعبير عما يجب علينا فعله. إن على الثوريين:
أن يقوموا بواجبهم مهما كان شاقاً وبطيئاً ورتيباً.. ومن أجل أن نفي بالالتزام تجاه البروليتاريا، كان علينا أن نعاون بكل صبر وأن نعيد تعليم أولئك الذين انجذبوا للاشتراكية الديمقراطية أيام الحرية، أولئك الذين انجذبوا لقوة ووضوح شعاراتنا وروحها الثورية، بل أيضاً هؤلاء الذين يفتقرون إلى القدرة على احتمال النضال اليومي في ظل حكم الثورة المضادة. بعض من تلك العناصر انخرطت بالفعل في الأنشطة البروليتارية واستوعبت الرؤية الماركسية، لكن الآخرين يتذكرون فقط قليلاً من الشعارات دون أي فهم حقيقي لمعناها، كل ما يستطيعون فعله هو ترديد بعض العبارات القديمة فيما لم يستطيعوا تكييف التكتيكيات الاشتراكية الديمقراطية الثورية وفقاً للأوضاع المتغيرة.